الدرس الثالث عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3605 24
الدرس الثالث عشر

المحرر في الحديث (3)

بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، وأرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- لنا ولهم التَّوفيق لخيري الدُّنيا والآخرة، كما أسأله -جَلَّ وَعَلا- أن يرزق الجميع عِلمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيَّة خالصة.
{في الحلقة الماضية أنهينا كتاب "الجهاد والسير" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي، وفي هذه الحلقة -بإذن الله- نبدأ بكتاب "البيوع".
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (كِتَابُ الْبُيُوعِ:
عَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -عَامَ الْفَتْحِ- وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، والأَصْنَامِ» فَقِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، ويَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِم شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ باعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»)
}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ المُرسَلين، أمَّا بعد:
قال المؤلف: (كِتَابُ الْبُيُوعِ).
البيوع: جمع بيع، وهو تبادل السِّلَع بدفعها إلى مَن يشتريها بثمنها.
إذن البيع هو: مُبادلة مالٍ بمالٍ. ولا يلزم في البيع أن يكون بالنَّقد، فمرة تكون سلعة مقابل سلعة.
لماذا جمع المؤلف كلمة "البيوع"؟
باعتبار أنواع البيع.
أَورَدَ المؤلف في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنَّه (سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: عَامَ الْفَتْحِ)، وهو في السَّنة الثَّامنةِ للهجرةِ النَّبويةِ، وقد فُتحت مكة في شهر رمضان مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَة.
قال: (وَهُوَ بِمَكَّةَ)، يعني: أنَّ هذا الحديث قاله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعد فتح مكَّة في أثناء تواجده وإقامته بمكة.
قال: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ»، المراد بالتَّحريم هُنا: المنع الجازم مِنَ الشَّيء، بحيث يترتب الإثم على فِاعله، ويُستفاد مِن التَّحريم عدم صحَّة عقد البيع؛ لأنَّه لا يُمكن أن يُقال:إنَّ المحرَّم المنهي عنه صحيح، وإِلَّا لَأَدَّى ذلك إِلى جَعلِ النَّاس يتصارعون عليه، وقد قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ» ، أي: أنَّه مَردُودٌ عَلى صَاحِبه.

قال: «بَيْعَ الْخَمْرِ»، التَّحريم هنا للبيع، والبيع فعلٌ؛ لأنَّ الأحكام التكليفيَّة تتعلق بالأفعال، فنصَّ على البيع، مما يَدُلُّ على تَأْثيم فَاعِل ذلك، وعلى عدم صِحَّة عَقد بيع الخمر، وأنَّه لا يجوز استحلال الثَّمن الذي يُعطى في الخمر، وبالتَّالي مَن باعَ خمرًا بمال وجبَ عليه أن يتخلص مِن هذا المال في سُبُل الخيرِ؛ لأنَّ العَقْدَ باطلٌ، ولا يُعيده إلى مَن أخذ الخمر لِئلا يجمع له بين الخمر والثَّمن، وبالتَّالي يكون كأن قد جازاه بذلك.
والمراد بالخمر: كل ما كان مُذهبًا للعقل، بحيث يكون له نشوةٌ، ويشمل هذا خمور التَّمر والأعناب، وأي سلعة يُصنع منها الخمر.
وفي هذا تحريم وضع مَصانع للخمور، أو أسواق للخمور.
وفي هذا دلالة أيضًا على تَحريم بَيع السِّلَع التَّي تُستخدم في صِنَاعة الخُمور على مَن يَتَّخِذُها كذلك؛ فلا يجوز بيع العِنَبِ على مَصانِع الخُمور، ولا يجوز بيع أدوات تُستعمل في صناعة الخمور لمصانع الخمور.

ثم قال: «وَالْمَيْتَةِ»، المراد بالميتة: كل ما مات حتفَ أنفهِ بحيث لا يكون مذكَّى، وقد تقدَّم معنا أحكام الذَّكاة والتَّذكية والنَّحر والذَّبح فيما مضى.
وقوله هنا:«الْخَمْرِ»، مفردٌ، أو اسم جنس مُعرف بـ "ال" الاستغراقية فيفيد العموم.
و«الْمَيْتَةِ»، مفرد مُعرف بــ "ال" الاستغراقية فيفيد العموم، فجميع أنواع الميتات يحرم بيعها، وكذلك يحرم شراؤها، وهكذا يَحرم أخذ ثمنها، وعقد البيع فيها باطلٌ، إِلَّا ما استثناه الشَّرع ودلَّ على جوازِ تناوله، كمَيتةِ الأسماك والجراد.
وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوز بيع الميتة حتى ولو كان سيُنتفع بها إمَّا في إطعامها لبعض الحيونات التي تأكل الميتات، أو في استعمالها في أي نوع من أنواع الاستعمال.
ويشمل لفظ «الْمَيْتَةِ» كُلُّ جُزءٍ مِن أَجْزَائِها مِمَّا تَدخله الحياة، وبالتَّالي فإنَّ كَبِدَها وَقَلْبَها وَعَضَلاتِها وِعِظَامِها تدخل في هذا المَنع.

هل يدخل في ذلك الجلد؟
قال الحنابلة: يدخل لعموم هذا اللفظ؛ لأنَّ الجلد نوعٌ من أنواع الميتة، فيدخل في حكمه.
والجمهور يُخالفون الحنابلة في هذا لما ورد في حديث ابن عباس وحديث ميمونة أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرَّ بشاة ميتة فقال: «هَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَ» .
أمَّا بالنِّسبة لما لا تدخله الحياة فلا يدخل في هذا الخبر، ومن ذلك الصُّوف الذي يكون من وراء الجلد.
وقد اختلفوا في بعض الأشياء التي تكون مِن الميتة أو ممَّا يخرج منها، مثل: جنينها، ومثل: بيضها كما في الدجاج ونحوه، والجمهور يمنعون منه.
وهناك من رأى الجواز، ويقولون: لأنها لا تختلط، فأصبحت مُنفصلة، ولا تنتقل الرُّطوبة من الميتة إلى هذا البيض، فأجاز أخذ بيض الميتة وبيعه واستعماله.
قوله هنا: «وَالْخِنْزِيرِ»، مُفرد مُعرف بــ "ال" الاستغراقية فيفيد العموم، فجميع أنواع الخنازير حرام، ولا يجوز بيعها، وبيعها باطل بمقتضى هذا الخبر.
وهكذا في قوله:«والأَصْنَامِ»، قيل المراد به: ما يُعبَد من دون الله خاصَّة. وقيل: المراد به عموم التَّماثيل.
قوله: (فَقِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ)، شحم الميتة جُزءٌ مِن أَجزائِها، والمراد: هل تدخل شحوم الميتة تدخل في هذا الحكم؟
وسؤالهم؛ لأنَّهم رأوا أنَّه يُمكن الانتفاع بها في بعض أوجه الانتفاع، فَظَنُّوا أنَّ الانتفاع بها يدل على جواز بيعها، فقالوا:(فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ)، يعني: يُدهن بها أخشاب السَّفينة؛ لأنَّ السَّفينة يكون بين أخشابها فتحاتٌ يُمكن أن يدخل معها الماء، فيقومون بطلائها من أجل أَلَّا يَنْفذ الماء إلى داخلها فيكون سببًا في غَرَقِ السَّفينة.
قالوا: (وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ)، من أجل أن تُنظَّفَ، ومن أجل أن تبقى.
قال: (ويَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ)، أي: يضعونها في المصابيح، ثُمَّ يضعون فيها فتيلة فَيحرقونها مِن أَجل أَن يَبْقَى نُورها مُدة أطول.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَ»، يعني: لا يجوز بيع شحوم الميتة، «هُوَ حَرَامٌ»، يعني: البيع حرام، فيدل هذا على عدم صحة بيع شحوم الميتة، وأنَّ شحمَ الميتة نَجَس، ويدل أيضًا على أنَّ بيع شُحوم الميتة مِن الأمور المحرمة.
ومثل هذه الأشياء أيضًا: الدَّمِ المسفوح، فإنَّه قد ورد في النصوص المنع منه.
ثم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند ذلك مُبينا لأصحابه قاعدةً في هذا الباب: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ»، في هذا دعوة عليهم؛ لأنَّهم خالفوا أمر الله -عَزَّ وَجلَّ.
قال: «إِنَّ اللهَ لمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِم شُحُومَهَ»، أي: شحوم الميتة.
قال: «أَجْمَلُوهُ ثُمَّ باعُوهُ»، أي: قاموا بوضعه في النَّار، ثُمَّ بعد ذلك أصبح زيتًا، ثُمَّ باعوا الزيت فأكلوا ثمنه.
وفي هذا دلالة على قاعدة، وهي: أنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ حَرُمَ ثمنه.
وأخذ منه أيضًا: أنَّ مَا حَرُمَ بَيْعُه حَرُمَ شِرَاؤُه.
{قال -رحمه الله: (وَعنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قدْ أعْيًا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا لي وَضَرَبَهُ فَسَارَ سَيْرًا لم يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: «بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ؟» قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: «بِعْنِيهِ»، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ واشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ حُمْلانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ: «أَتُرَانِي ماكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ ودَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
قوله: (وَعنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، يعني: عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وكان في غَزوةٍ مَع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ)، أي: قَد رَكِبَ الجَمَلَ وكان مع الجيش، لكنَّ الجَمَلَ قَد تَعِب، وَلَحِقَبه شيء من الإعياءِ والإجهادِ بسبب الذِّهابِ والإيابِ مَع ضَعفِه في نفسه.
قال: (فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ)، أي: يَتْرُكَ الجَمَلَ.
قال:(فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ لأنَّه كان يتفقَّد الجيش، فكان جابر في مُؤخرةِ الجيش؛ لأنَّه لم يستطع أن يُسَايِر النَّاس، وذلك لِمَا أَصَابَ جَمَله مِنَ الإِعيَاءِ.
قال جابر: (فَدَعَا لي)، يعني:أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا لجابر ودعا لِجَمَلِه.
قال: (وَضَرَبَهُ)، أي: ضرب الجَمَلَ، فبارك الله في هذا الجَمَلَ فعافاه الله -عَزَّ وَجلَّ.
قال: (فَسَارَ سَيْرًا لم يَسِرْ مِثْلَهُ)، أي: أسرع وأصبح في مُقدمة القَوم.
فلما كان كذلك قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ؟»، الأوقية: وزن من أوزان الذَّهب، وفي بعض الألفاظ أنه بخمسِ أواقٍ.
قال: (قُلْتُ: لَ)، يعني: أنا لن أبيع جملي.
ثُمَّ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِعْنِيهِ»، لعله زاد حتى وصل إلى خمسِ أواقٍ.
قال جابر: (فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ)، هناك بحث عند الفقهاء؛ هل عقدُ البيعِ لابد فيه من التَّلَفظ بألفاظ البيع والشراء والقبول والإيجاب أو أنَّه ينعقد بكل فِعل يدل عليه؟
الحنابلة يقولون: إنَّه يَنْعَقِدُ بكل فِعْلٍ يَدُلُّ عَليه.
والشَّافعية يقولون: لا يَنْعَقِدُ إِلَّا باللفظِ وبِصيغة تدل على البيعِ والإيجابِ والقبولِ.
وهناك مَن فرَّق بين مَا كان ثمينًا فلابد فيه مِن لفظٍ، وما كان وضيعًا فلا يُحتاج إلى اللفظ.
والأظهر: أنَّ عَقْدَ البيع يَنْعَقِد بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عليه مِن فِعلٍ أو قولٍ، وانعقاد البيع بالفعلِ يُسميه الفقهاء: "بيعُ المُعَاطَاة".

قال: (فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ واستثنيتُ عَلَيْهِ حُمْلانَهُ إِلَى أَهْلِي)، يعني قلت: بشرط أن أظل راكبًا له وعليه حاجاتي إلى أن نصل إلى المدينة.
وقوله:(استثنيت)، أي: اشترطت.
وفي هذا دلالة لمذهب الحنابلة في جواز أن يَشترط أحد المتعاقدين نفعًا في العَين المباعة، والشُّروط التي في عقدِ البيعِ على أنواع:
 هناك شرط ما هو من مقتضى العقد، مثل: تسليم الثَّمن، فهذا ثابتٌ في البيعِ سواء شرطه أو لم يشرطه.
 وهناك شروط لنفع العقد، مثل: الرَّهن والتأجيل، فهذه جائزة بالاتفاق.
 شروط ما هو من مصلحة العاقد -ليس من مصلحة العقد ولا مِن مُقتضاه.
والجمهور يمنعون من هذه الشروط، والحنابلة يُجيزونها، واستدل الجمهور بحديث «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» ، ولكن هذا الحديث المراد به الشُّروط المُخَالِفة للشَّرعِ، والأظهر هُو صِحة الشُّروط.
وبعض الحنابلة -أو أكثرهم- استدلَّ بهذا الحديث على أنَّه لا يجوز إِلَّا شرط واحد في العقود، ولكن الحديث ليس فيه دلالة على ذلك، والأصل صحة الشُّروط، وقد قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامً» .
قال: (فَلَمَّا بَلغْتُ)، يعني: وصلنا إلى المدينة وأنزلنا حمولتنا.
قال: (أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ)، يعني: ذهب إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجَمَلِ.
قال: (فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ)، أي: أعطاني الثَّمَنَ الذي وَعَدَني به في ذلك.
قال: (ثُمَّ رَجَعْتُ)، أي: عُدتُّ إلى أهلي.
قال: (فَأَرْسلَ فِي أَثَرِي)، أي: أنَّه أَرْسَل رَسولًا يطلبه.
فَعَادَ إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَتُرَانِي»، أي: هل تظن «ماكَسْتُكَ»، أي: ساومتك في الثَّمن، ولم أُعطِكَ أكثر ثمنًا تتصوره لِآخُذَ جَمَلَكَ.
قال: «خُذْ جَمَلَكَ ودَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ»، في هذا حُسن خلق النَّبي وكرمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{(وَعَنْهُ قَالَ: أَعتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ فَبَاعَهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (أَعتَقَ رَجُلٌ)، المراد بالعتق: هو تحرير المملوك، فكان في الزَّمان الأول بعض بني آدم يُملكون بأن يؤخذوا أسرى في قتال ونحوه، ثُمَّ بعد ذلك يُوضعون مماليك، يتصرف فيها أسيادهم بالبيع والشراء، ويخدمون أسيادهم، والعتق عمل صالح، وهو من الأعمال التي يَعظم أَجرها، وقد قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ» ، والشَّريعةُ لا تتطلع إلى وجود المماليك، وإنَّما تتطلع إلى تحريرهم.
قال: (أَعتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ)، المراد به: أنَّه عَلَّقَ عِتقَه على وفاته، فإنَّ المماليك على أنواع:
 مملوكٌ قِن صِرف: هذا على أصل المِلك.
 المُدبَّر: وهو الذي عُلِّقَ عتقه على وفاة المالك.
وحكمه: إذا مات المالك فإنَّه يُعتق، ولكن يجوز له أن يرجع فيه على الصَّحيح، وذلك لأنَّ هذا بمثابة الوصية، ويجوز للمُوصي الرُّجوع في الوصية قبل الموت، وهذا أظهر قولي أهل العلم.
وهناك من قال: لا يحق له الرجوع، وحديث الباب دليلٌ على أنَّ له الحقَّ في الرُّجوع؛لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باع المدبَّر هنا.
 المُكاتب: وهو الذي يعقد عقدًا مع سيده ومالكه بحيث يسدد له مبلغًا على أقساط ونجوم معينة، فإذا قام بسدادها كاملة أصبح حرًّا.وفي هذا الحديث -كما يظهر: دليل على جواز بيع المدبَّر، وجواز الرجوع عن التدبير، وقد وقع فيه خلاف بين الصَّحابة فَمن بعدهم، والصواب جوازه كما قُرِّرَ في هذا الخبر.

{قال: (وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبي الزُّبير قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ؟ فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ نهَى عَنْ ثَمَنِ السِّنَّورِ وَالْكَلْبِ، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ -وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ)
}.
هذه الأحاديث تتكلم عن بيع الكلاب وما ذُكر معها، أولها حديث أبي مسعود الأنصاري عقبة بن عامر ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ)، النَّهي يقتضي التحريم، ويقتضي الفساد وعدم الصحَّة.
وقوله: (الكلب)، مُفرد مُعرف بــ "ال" الاستغراقية فيفيد العُموم -أي: جميع أنواع الكلاب.
والأصل في بيع الكلب تحريمه وعدم جواز أخذ ثمنه، وهذا الأصل في الجُملة متفقٌ عليه، إِلَّا أنهم اختلفوا في الكلاب المُعَلَّمة ككلاب الصيد، وكلاب الحراسة، ومَا مَاثَلها مِن أَنواعِ الكلابِ ككلاب الرَّعي، وكلاب الزِّراعة، أو مَا يُسمى في عصرنا بالكلاب البُوليسيَّة، فهذه هل يجوز بيعها أو لا؟
قال الجمهور بمنع البيع، واستدلوا عليه بحديث الباب، حيث نهى عَن ثمنِ الكلب ولم يُفرق.
وذهب المالكيَّة وبعض الحنفية إلى الجواز، واستدلوا عليه بورود الاستثناء مِن ثمنِ الكلب في عددٍ من الأحاديث، وإن كانت أحاديثه على أفرادها ضعيفة الإسناد، لكنَّها يُقوي بعضها بعضًا، ولذا فإنَّ الأظهر هُو قَول المالكيَّة في ذلك.

أمَّا بالنِّسبة لمهر البغي، فالمراد به: ما تُعطاه المرأة الزَّانية مِن أَجلِ الزِّنا، فهذا أمر محرَّم، والزِّنا كبيرةٌ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، ولا يجوز أن يُستعاض عنه بثمنٍ، ولو قُدِّر أنَّ امرأةً زنت بثمنٍ فإنَّه لا يَحِلُّ لها ذلك المال، وسمَّاه مَهرًا لوجود المُشابهة الصُّوريَّة بينه وبين مَهر النَّجاح، وإلا فليس بمهرٍ حقيقةً، وإِذَا تَابت البَغيُّ وَجَبَ عَليها التَّخلُّص مِنَ المالِ الذي أخذته في البِغَاءِ، مَا دَامت تعلم تحريم ذلك، ولا تُعيده إلى الزُّناة، وإنَّما تَصرفه في أَوجه الخير على الصَّحيح.

قوله: (وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ)، المراد به: الأجرة التي يُعطاها الكاهن. والكاهن: هو الذي يدَّعي أنَّه يعلم الغيب، ويعلم ما في الأوقات المُستقبلة، والكهانة كبيرة من كبائر الذنوب، وقد نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إتيان الكهَّان، فقال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والكٌهَّان يأخذون المال مِن النَّاس، فهذا المال الذي يأخذونه مَالٌ حرام، وسُحتٌ وخبيثٌ، وأَمْرٌ مُحَرَّمٌ لا يجوز لهم أن يأخذوه، ويجب عليهم التَّخلُّص منه في سُبُلِ الخير، وذلك على نية التَّخَلُّص مِنه لا على نية الأجر به؛ لأنَّ هذا مال خبيث، وقد جاء في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبً».
ومثل الكَاهِن مَن يدَّعي مَعرفة الأشياء الخفية بدون أن يكون عنده سبب شرعيٌّ أو سبب واقعي.
ومن أمثلة هذا: مَن يَقْرَأُ الفنجان، أو مَن يخطُّ في الأرض، أو مَن يدعي أنَّ النُّجوم تخبره، أوأنَّ الشَّياطين والجن تخبره، فهؤلاء كلهم لهم أحكام الكاهن، فكلهم عُرَّاف، ولا يجوز لهم أخذ المال على ذلك، ولا يجوز الذِّهاب إليهم، ولا يجوز دفع أجرةٍ لهم.
ثم أورد المؤلف من حديث أبي الزبير عن جابر عن ثمنِ الكلب، قال: (سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ)، المراد بالسنور: الهِرِر -القطط.
قوله: (فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ)، وهذا الحديث قد أخرجه افمام مسلم في صحيحه.
فأمَّا بالنسبة لمسألة بيع الكلاب فقد تقدم البحث فيها.
وأمَّا بيع السِّنَّوْرِ: فقد اختلف العلماء فيه، وقالوا: إنَّ هذا فهمٌ مِن جَابر، وإِلَّا فالنَّهِي إنَّما هُو عَن ثَمَنِ الكَلبِ فقط، وبعضهم منع لهذا الخبر، وللحديث الذي بعده (نهَى عَنْ ثَمَنِ السِّنَّورِ وَالْكَلْبِ)، ثم استثنى فقال (إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ)، وهذه اللفظة تكلم العلماءُ فيها، والأظهر أَنَّها ضَعيفة بمفردها، لكن لها شواهد تُقوِّيها وَتُوَصِّلها إلى درجة الحَسَن.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهَا؟ فَقَالَ: «أَلْقُوْهَا وَمَا حَوْلَهَا وكُلُوْهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَعِندَ أَبي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ وَأَحْمدَ وَالنَّسَائِيِّ: فِي سَمنٍ جامِدٍ. وَفِي هَذِه الزِّيَادَةِ نَظَرٌ)}.
قال المؤلف:(وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَ)، وهي زوجة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي من بني هلال.
قال: (أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ)، الفأرة نجسة ولا يجوز أكلها، ولا تدخلها الذَّكاة.
قال: (فِي سَمْنٍ)، السَّمن هنا قد يَصدق على الجامد أو على المائع، وظاهر قوله هنا أنَّها ماتت في السَّمنِ، فحينئذٍ إن كان السَّمنُ جامدًا فإننا نعمل فيها بما ورد في هذا الخبر «أَلْقُوْهَا وَمَا حَوْلَهَا وكُلُوْهُ»، يعني: كلوا البَقية، وفي هذا دلالة على أنَّ النَّجاسة لا تَنْتَشِر مِنَ الفَأرة في السَّمن.
وجاء في بعض الألفاظ (فِي سَمنٍ جامِدٍ)، هنا محل اتفاق أنَّالفأرة إذا وقعت في السَّمن الجامد فماتت فتُلقى وما حولها، ولكن الكلام في السَّمن المائع، والخلاف فيه مبنيٌ على هذه الرِّواية التي عند النَّسائي وأحمد (فِي سَمنٍ جامِدٍ)، فالجمهور يَرون أنَّها ضعيفة الإسناد، وأنَّها زيادة مخالفة، ولذا قال المؤلف:(وَفِي هَذِه الزِّيَادَةِ نَظَرٌ)، وذلك لأنَّ عبد الرحمن بن مهدي انفرد بذكرها، وأكثر الرُّواة يَروونه من حديث سُفيان بن عُيينة عن الزُّهري بدون هذه اللفظة، ولذلك قالوا:إنَّها لا تَثْبُت، وعلى فرض ثُبوتها؛ فإنَّ قوله:(أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ)، فهذا مِن كلام الصَّحابي، وليس مَرفوعًا إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال المؤلف: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوْهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ البُخَارِيُّ: هُوَ خَطَأٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَيرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ وَهْمٌ)}.
هذا الحديث رواه الصَّحابي الجليل أبو هريرة، ورواه عنه سعيدبن المسيب، ورواه عن سعيد ابن شهاب، وعن ابن شهاب معمر، ومعمر إمام من أئمة أهل الحديث، وكان يَروي الحديث في اليمن-في صنعاء- وكان في صنعاء عنده أصله فيُحدِّث منه، فلمَّا ذهب إلى العِراق في رحلة لم يكن أصله عنده، فكان يُحدِّث من حِفظه، فوقع في أوهام، منها هذا الخبر.
والصَّواب في هذا الخبر أنَّه مِن كلام سعيد، ولم يكن من كلام أبي هريرة، ولا مِن كلام النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعض أهل العلم قال: هو من حديث الزهري عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، وهو الحديث السَّابق الذي تكلمنا عنه قبل قليل.
ولذا فإنَّ الصواب: أنه لا يُفرَّق بين الجامد والمائع.
قال: «إِذا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوْهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ»، في هذا دلالة على نجاسة الفأرة، وفيه دلالة أيضًاعلى أنَّ ما حول الفأرة يجب إلقاؤه.
وأمَّا بالنسبة للتفريق بين الجامدِ والمائع فهذا التَّفريق لم يكن مُستندًا على أصل ثابت، والأحاديث المُفرِّقة فيها ضعف -كما أشار المؤلف إلى كلام أهل العلم في هذه اللفظة (وَقَالَ البُخَارِيُّ:هُوَ خَطَأٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَيرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ وَهْمٌ)
{قال المؤلف: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَا -أُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا- وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيٌّ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَاد فَقَالَ: لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوَهَبُ، وَلَا تُوَرَثُ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ. رَوَاهُ مَالكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَالْبَيْهَقِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: وَغَلَطَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَرَفَعَهُ، وَهُوَ وَهْمٌ لَا يَحِلُّ ذِكْرُهُ)
}.
قوله في هذا الخبر: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ)، هو عبد الملك بن جريج، وهو من علماء التَّابعين بالمدينة، وهو مُدلِّس، ولكنه صرَّح بالسَّماع، فقال: (أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ)، وهو محمد بن مسلم، وهو من علماء التَّابعين، وهو مُدلس ولكنه صرَّح بالسَّماع (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَ)، المراد بالسَّراري: الإماء اللاتي يَطأها أسيادها، ويُقال للواحدة: "السُّريَّة".
قال: (أُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَ)، من أنواع المماليك: أمهات الأولد، بأن يكون عند الرجل أَمَةً مملوكةً فيطأها، فَتَحمَل مِنَ السَّيد، فإذا وَضَعَت مَا فِيهِ خَلقُ إنسانٍ فَإِنَّها تَكون حينئذٍ أُم ولد وتُعتَق بموت السَّيد، ولا تَرِثَ مِنهُ شيئًا.
فجابر يقول: (كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَا -أُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا- وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيٌّ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسً)، في هذا استدلال بإقرار النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بالإقرار الإلهي في وقت الوحي.
والصواب: أنَّ أُمَّهات الأولاد يُنهى عن بيعهنَّ، وتبقى في مُلك سَيِّدها حتى وفاته، فتصبح حُرَّة بذلك.
ثم أورد حديث عمر، فقال: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَاد)، فيه دليل على عدم صحَّة بيع أمهات الأولاد.
قوله: ( فَقَالَ)، أي: قال عمر (لَا تُبَاعُ)، لا يجوز لسيدها أن يبيعها.
قال: (وَلَا تُوَهَبُ)، أي: لا يجوز له أن يعطيها هبةً ومِنحَةً.
قال: (وَلَا تُوَرَثُ)، بمعنى أنَّ أبناء السَّيد لا يرثونها.
قال: (يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا بَدَا لَهُ)، أي: ما رغب فيها.
قال: (فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ)، فهي حُرة حينئذٍ.
وهذا أثرٌ واردٌ عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبعضهم قد رواه مَرفوعًا إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن هذا لم يثبت، وبالتَّالي قال بعضهم: إنَّ أمهات الأولاد يجوز بيعهن، ولكن الصواب هو قول الجماهير هو عدم جواز بيع أمهات الأولاد.

لعلنا نقف على هذا، نسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يُوفقنا وإيَّاكم لكلِ خيرٍ، وأن يَجعلنا وإيَّاكُم مِن الهُداة المهتدين، كما نسأله سبحانه أن يُصلح أحوال الأمة، وأن يَردهم إلى دِينهم رَدًّا حميدًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{في الختام نشكركم معالي الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك