{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي
الشيخ}.
اللهُ يحيِّيكَ، وأهلًا وسهلًا، وأرحبُ بِكَ وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام،
وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{في الحلقةِ الماضية ابتدأنا بباب بيع أصول والثمار من كتاب "المحرر" لابن عبد
الهادي.
وفي هذه الحلقة بإذن الله نبتدئ من حديث أنس بن مالك-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال:
(وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-نهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الحَبِّ
حَتَّى يَشْتَدَّ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ، وَقَال: «لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا منْ
حَدِيثِ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ» وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيحٌ
عَلَى شَرْطِ مُسْلمٍ وَلم يُخَرِّجَاهُ)}.
الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل المرسلين، أمَّا بعد:
فتقدَّمَ معنا أنَّ الشَّريعة نهت عن بيعِ الثِّمارِ قبل أن يبدو صلاحها، وبدوِّ
الصَّلاح في التَّمر أن يتلوَّن التَّمر، فيكون صاحب لونٍ إمَّا أحمر أو أصفر، فمتى
تلوَّنت فيحنئذٍ يُقال: "بدا صلاحها".
ولا يُشترط أن يبدو الصَّلاح في جميع ثمرة النَّخلة الواحدة؛ بل إذا بدا الصَّلاح
في تمرةٍ واحدةٍ أو في رُطبةٍ واحدةٍ عُدَّ الجميع قد بدا صلاحه، وبالتَّالي جاز
بيعه.
وبدوِّ الصَّلاح في التَّمر واضح، ولكن في بقيَّة السِّلع الأخرى مثل العنب، متى
يُعدُّ قد بدا صلاحه وبالتالي يجوز بيعه؟
للعلماء في ذلك قولان مشهوران:
القول الأول: إنَّه باللَّون، فمتى تلوَّن فحينئذٍ يُعدُّ قد بدا صلاحه.
القول الثَّاني: إنَّ بدوَّ الصَّلاح بتمُّوهه، أي: بدخول الماء فيه بحيث يُشاهد
أثر الماء عليه من الخارج.
وأصحاب القول الأوَّل استدلُّوا بهذا الخبر الذي ذكره المؤلف عن أنس: (أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى
يَسْوَدَّ)، فقالوا: هذا دليل على أنَّ خروج اللون هو علامة بدوِّ الصَّلاح.
وفي الحبِّ قال: (وَعَنْ بَيْعِ الحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ)، ولكن هذا الخبر قد رواه
حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بينما بقيَّة أصحاب حميد
يروون هذا الخبر في التَّمر لا في العنب، من أمثلة ذلك الإمام مالك، وهشيم، وعبد
الله بن المبارك، وجماعات، ولذلك حَكَمَ كثيرٌ من أهل العلم بأنَّ هذه الرواية
وَهْمٌ من حمَّاد، وحمَّاد وإن كان ثقة إِلَّا أنَّ له أوهامًا؛ ولذا تكلم أهل
العلم فيه، فيقولون: حماد بن سلمة بن درهم، وحماد بن زيد بن دينار -أو العكس- فحماد
بن زيد روى له الشيخان، وهو ثقة ثقة، أمَّا حمَّاد بن سلمة فهو أقل منه، قالوا: ذاك
دينار وهذا درهم! وكلاهما مَقبول الرِّواية ما لم توجد المخالفة في روايته.
{قال: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَو بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ
أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
تقدَّم معنا أنَّه يجوز بيع الثِّمار بعد بدوِّ الصَّلاح، فإذا بدا الصَّلاح يُترك
الثِّمر على الشَّجر حتى يطيب للأكل، فلو قُدِّر أنَّ إنسانًا اشترى ثمرًا بعد
بدوِّ الصلاح، فجاءت جائحة فاتلفت الثِّمار قبل التَّمكُّن من أكل تلك الثِّمار،
فما الحكم حينئذٍ؟
ومن أمثلة الجوائح: ما لو جاء جرادٌ يأكل الثِّمار، وما لو جاء بَرَدٌ يُتلِفُ
الثِّمار. فحينئذٍ ما الحكم؟
نقول: إنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بوضع الجوائح، والمراد
بذلك: أنَّ البائع هو الذي يتحمَّل، قال: «لَو بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرً»، يعني:
لو بعتَ له.
قال: «فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ»، أي: تقدير إلهي سماوي اجتاح الثِّمار.
قال: «فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئً»، أعِد إليه المال الذي
أخذته منه.
قال: «بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ»، لم يستفد من هذا المال شيئًا،
ولم يكن له أيُّ أثرٍ ولا ثمرة فيه، وفي هذا وضع الأمر بوضع الجوائح.
هل الجوائح مُختصَّة بالثِّمار؟ أو هي تشمل جميع ما يُمكن أن يرد عليه جائحة؟
من أمثلة ذلك مثلًا: في باب العَقار، لو أنَّه استأجر منه بيتًا ليتمكَّن من
تأجيره، هو يعلم أنَّ الفرد لن يستأجر عمارة أو فندقًا إِلَّا إذا كان يُريد أن
يَستفيد منها بتأجيرها لا بسكناها، فلو قُدِّرَ أنَّه استأجر هذه العمارة سنةً على
أن يُؤجرها، فليس من المعقول أن يسكن في جميعها، إذن هو يريد أن يُؤجرها، فحصل في
تلك السَّنة أنَّ البلد أصبح مَوبوءًا فمُنِعَ النَّاس من السَّفر إليه، أو أنَّه
فُرض عليه حصارٌ اقتصاديٌّ عالميٌّ وبالتَّالي لم يتمكَّن أحد من المجيء إليه؛ فهذا
المستأجر الذي كان يُريد أن يؤجر المكان غُرفةً غُرفةً وقع عليه جائحة اجتاحت ماله؛
فحينئذٍ نقول:
يا أيُّها المالك عليك أن تُعيد مال المستأجر إليه؛ لأنَّه ما استفاد، ولن يتمكن من
الاستفادة، كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَ تَأْخُذُ
مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ».
{قال -رحمه الله: (بَابُ السَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَالرَّهْنِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ،
السَّنَةَ والسَّنَتَينِ، فَقَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي
كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، مُتَّفقٌ عَلَيْهِ،
وَهَذَا لفظُ مُسْلمٍ، وَفِي لَفظِ البُخَارِيِّ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ»)}.
قول المؤلف -رحمه الله: (بَابُ السَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَالرَّهْنِ).
المراد بالسَّلم: عقد على موصوف في الذِّمة مُؤجَّل يُسلَّم ثمنه في الحال.
كأن أقول لك: خذ هذه الألف ريال على أن تُسلمني عشرة صاع من البر بعد ستَّة أشهر.
فهنا: السلَّم مسلَّم في الحال، والمبيع المثمَن موصوف وليس معيَّنًا -عشرة آصع-
ولابد أنه يُحدد نوعه، فهذا هو السَّلم.
والمراد بالقرض: أخذُ مالٍ وردُّ بَدَلِه، بخلاف العارية: أخذ مال وردُّه بنفسه،
هُنا يأخذ مالًا ويردُّ بدله.
وأمَّا الرَّهن: فهو تَوثقة للدِّيونِ بوضع عَين، بحيث إذا لم يتمكَّن المدين من
السَّداد استُوفيَ الحق من تلك العين.
ذكر المؤلف أولًا حديث ابن عباس-رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الْمَدِينَةَ)، يوم الهجرة في السَّنةِ الأولى.
قال: (وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ)، المراد بالثِّمار: ما ينتج عن الأشجار.
قال: (السَّنَةَ والسَّنَتَينِ)، بحيث يُسلِّمون لهم الثَّمن في الحال.
لماذا يُسلفون في الثِّمار؟
لأنَّ صاحب الزِّراعة محتاج إلى مالٍ من أجلِ أن يقوم بزراعته، فيقوم ببيع ثمار
بثمنٍ حاضر ويُسدِّد من ثمر البستان.
فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي ثَمرٍ»، وفي
لفظ «تَمْرٍ»، بحيث يُقدِّم الثَّمن ويؤجل المثمَن -التمر أو الثِّمار.
قال: «فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ»، لابدَّ من ذكر مِقدار الكيل، أو الوزن،
ولابد أن يُذكر الأجل، أي: متى سيستوفي الحق منه؟
فهذه بعض الشُّروط في السلم. والجمهور على أنَّه لابد من التَّسليم في الحال.
وفي السلم لا يصح أن تُسلم ثمرة شجرة بعينها، وإنما تُسلم مَوصوفًا في الذِّمَّة.
فقوله هنا: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمرٍ»، كأنَّ ظاهره إنَّه في التَّمر خاصَّة، وفي
لفظٍ قال: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ»، فيكون عامًّا.
{قال: (وَعَنْ مُحمَّدِ بنِ أَبي مُجَالدٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو بُرْدَةَ
وَعبدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ إِلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبْزَى وَعبدِ اللهِ بنِ
أَبي أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُمَا عَنِ السَّلَفِ؟ فَقَالَا: كُنَّا نُصِيبُ
الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ
يَأْتِيْنَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، قَالَ: قُلْتُ: أَكَانَ لَهُم
زَرْعٌ أَوْ لمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالَا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُم عَنْ
ذَلِكَ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا
أَدَّى اللهُ عَنهُ، وَمنْ أَخذهَا يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ»)}.
ذكر المؤلف هنا حديث محمد بن أبي مجالد، قال: (أَرْسَلَنِي أَبُو بُرْدَةَ)، وهو
ابن أبي موسى الأشعري.
قوله: (وَعبدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ إِلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبْزَى وَعبدِ اللهِ
بنِ أَبي أَوْفَى)، وهم من الصَّحابة.
قال: (فَسَأَلْتُهُمَا عَنِ السَّلَفِ؟)، السَّلف: هذا اسم من أسماء السَّلم،
و"السَّلم" على لغة أهل نجد. و"السلف" على لغة أهل الحجاز، واللغة تُنسَب غالبًا
إلى هذين الإقليمين، وما ذاك إلا لتشاركهما، وتداخل بعضهما في بعضٍ.
قال: (فَقَالَ)، يعني: عبد الرحمن وعبد الله (كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ
رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَكَانَ يَأْتِيْنَا أَنْبَاطٌ
مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ)، الأنباط: قوم وقبيلة معرفتهم بالعربية ضعيفة.
قال: «فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمَّى»، فكأنهم يُعطونهم من المغانم التي يُصيبونها في مُقابل حنطة وشعير وزبيب
تُسلَّم بعدَ مدَّة، فهذا سلَم.
فقال السائل محمد بن أبي مجالد: (قُلْتُ: أَكَانَ لَهُم زَرْعٌ أَوْ لمْ يَكُنْ
لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالَا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُم عَنْ ذَلِكَ)، نحن نشترط عليهم
مقدارًا مُعيَّنًا من الحنطة من أيِّ مكان، إن سلموه لنا قبلناه.
وفي هذا دلالة على أنَّه لا يجوز في السَّلم أن يُعيَّنَ الشيءَ المُسلَم فيه، بل
لابدَّ أن يكون مَوصوفًا في الذِّمَّة.
ثُمَّ ذكر حديث أبي هريرة في القرض، ومثله في السَّلم، قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ
النَّاسِ»، أي: مَن طلب من النَّاس أن يُعطوه قرضًا أو سلمًا، وكان في نيَّته أن
يُسدِّدَ ذلك القرض أو الدَّين «أَدَّى اللهُ عَنهُ»، وما ذاك إلا لصلاح نيَّته.
قال: «وَمنْ أَخذهَا يُرِيدُ إِتْلافَهَ»، أي: يريد أن ياكله بنفسه فقد دعا عليه
النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «أَتْلَفَهُ اللهُ».
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ سَعيدِ بنِ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَـيْتُ
الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبدَ اللهِ بنَ سَلامٍ فَقَالَ: أَلا تَجِيءُ فَأُطْعِمَكَ
سَوِيقًا وَتَمرًا؟ ثُمَّ إِنَّكَ بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ: إِذا كَانَ لَكَ
عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ، أَو حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ
حِمْلَ قَتٍّ، فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا. رَوَاهَا البُخَارِيُّ)}.
قوله: (وَعَنْ سَعيدِ بنِ أَبي بُرْدَةَ)، هو ابن أبي موسة -كما تقدَّم.
قال: (أَتَـيْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبدَ اللهِ بنَ سَلامٍ)، وهو من الصَّحابة
-رضوان الله عليه.
فَقَالَ عبد الله بن سلم لأبي بردة: (أَلا تَجِيءُ)، أي: ألا تزورني.
قال: (فَأُطْعِمَكَ سَوِيقًا وَتَمرًا؟)، فيه الدَّعوة للضيافة.
قال: (ثُمَّ إِنَّكَ بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ)، أي: كثُر تعامل الناس
بالرِّبا، أراد أن يُحذِّره من كثيرٍ من تعاملاتهم.
ثُمَّ قال: (إِذا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ)، يعني: لك دين على شخص فأهدى إليك
فلا تقبل هديَّته؛ لأنَّ هذه الهدية ربا.
قال: (فَأَهْدَى إِلَيْكَ وَلَوْ حِمْلَ تِبْنٍ، أَو حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ
قَتٍّ)، القتّ: طعام البهائم من أنواع الخُضَر.
قال: (فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبً)؛ لأنَّه حينئذٍ في الحقيقة زاد في قرضه،
كأنَّه أعطاه مائةً؛ فردَّ له مائة وهذه الهدية المذكورة، وفي هذا تحريم أن يُهدي
المقترض للمُقرض، إِلَّا أن تكون بينهما عادةٌ سابقةٌ.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى
أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ
لمسْلمٍ)}.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-اشْتَرَى مِنْ
يَهُودِيٍّ)، فيه جواز التَّعامل مع أهل الكتاب.
وفي الحديث السَّابق، قوله: (فَكَانَ يَأْتِيْنَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ
الشَّامِ)، فيه جواز التَّعامل مع هؤلاء.
قال: (اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ)، فيه الثِّقَة في الكتابيِّ
إذا كان محلَّ ثقة حتى في الطَّعام.
قوله: (وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ)، فيه جواز وضع الرَّهن على الدِّيون
والقُروض، وفيه جواز صنع الأدرع من الحديد.
{قال: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ
مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونًا،
وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيشْرَبُ النَّفَقَةُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: «الظَّهْرُ»، المراد به: الحيوانات التي يُمكن ركوبها كالإبل.
قوله: «يُرْكَبُ»، أي: يجوز للمرء أن يركبها بشرط أن يقوم بنفقتها، فهي تحتاج إلى
مأكل وإلى أَعلاف وإلى مياه؛ فنجيز له الانتفاع بالرِّكوب في مُقابلِ وجوبِ
النَّفقة عليه.
قال: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ»، أي: مُقابل نفقته إِذا كَانَ مَرْهُونًا.
قال: «وَلَبَنُ الدَّرِّ»، يعني: الحيونات التي فيها لبن إذا تمَّ رَهْنُهَا وأصبحت
عند الدَّائن -الذي هو المرتهن- فحينئذٍ يجوز له أن يَشرب من لبنها بشرط أن يُنفق
عليها، ولذا قال: «وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ
مَرْهُونً».
قال: «وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيشْرَبُ النَّفَقَةُ». رواه البخاري.
{قال: (وَعَنْ سَعيدِ بن الـمُسَيَّبِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَغْلَقُ
الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيهِ غُرْمُهُ».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ -وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ- وَالْحَاكِمُ،
وَصَحَّحَ اتِّصَالَهُ ابْنُ عبدِ الْبَرِّ وَغَيرُهُ، وَالْمَحْفُوظُ إرْسَالُهُ،
كَذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيرُهُ)}.
قوله: (وَعَنْ سَعيدِ بن الـمُسَيَّبِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ)، هكذا رواية الأكثر، وبعضهم رواه عن سعيد بن المسيب أنَّ النَّبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال....؛ فيكون مُرسلًا لم يُذكر فيه اسم الصَّحابي.
وبعضهم قال: ذكر الصَّحابي هذه زيادة ثقة، فتكون مقبولة.
قوله: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ»، أي: لا ينقطع مِلكُ الرَّهن من
الرَّاهن -أي: المالك له سابقًا- الَّذِي رَهَنَهُ.
قال: «لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيهِ غُرْمُهُ»، يعني: لو قُدِّرَ أنَّ العين المرهونة
تلفت فهي على مِلك المالك الذي هو الرَّاهن، ولو كان له غلَّة فإننا نأخذ هذه
الغلَّة ونجعلها مع أصلِها، فتكون جزءًا من الرَّهن.
فهذا هو المراد بهذا الخبر، وهنا مسألة مُتعلقة بهذا، وهي: أنَّه لو اشترطَ فقال
له: إذا لم أقم بالسَّدادِ بعد شهرين فإنَّ هذا الرَّهن يكونُ مِلكًا لك!
ذهب جماهير أهل العلم في هذه المسألة إلى أنَّه لا يصحُّ ذلك، واستدلوا عليه بهذا
الخبر: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ».
وذهب طائفة إلى أنَّه ما دام رضيَ بذلك وقبِلَ واشترطه على نفسه فإنَّه يصح هذا.
ومن أمثلة هذه المسألة: رجلٌ ذهب إلى محطَّة البنزين، فلمَّا امتلأ صندوق الوقود
بالبنزين بحثَ عن مالٍ فلم يجد، فأعطى ساعته لصاحب المحطَّة، فالآن أصبحت الساعة
رهنًا، وقال: أنا سآتيك به إلى العصر من الغدِ، فإذا لم آتيك به إلى العصر
فالسَّاعةُ مِلكَ لك.
فهل يصح مثل هذا أو لا يصح؟
الجمهور لم يُصححوه، واستدلوا عليه بهذا الحديث: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ»، أي: لا
نُقفل الطريق بين الرهن ومالكه. «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي
رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيهِ غُرْمُهُ».
والآخرون قالوا: ينتقل الملك السَّاعة ونحوها.
وقالوا: الحديث فيما يشترط ولم يرضَ في انتقال الملك في الرَّهن، وبالتَّالي أجازوا
مثل ذلك، وقالوا: إنَّه ليس من باب العقدين في عقدٍ واحدٍ لاستقلال كل واحدٍ منهما
بزمنٍ مُغاير للزمن المتعلق بغيره.
{قال -رحمه الله: (بَابُ الْحَوَالَةِ والضَّمَانِ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ
عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
المراد بالْحَوَالَةِ: نقلُ حقٍّ ماليٍّ ثابتٍ من ذمَّةٍ إلى ذمَّةٍ أخرى.
مثال ذلك: لي عليك دين ألف ريال، ولك دين على زيد، فتقول: اذهب إلى زيدٍ واستوفِ
حقكَ منه. فهذا يُقال له: الْحَوَالَةِ.
والمراد بالضَّمان: فهو توثقة الحقوق بذمِّة تلتزم بدفع الحق، فهو ضمُّ ذمَّةٍ إلى
ذمَّةٍ، بحيث إذا جاء الأجل جاز له مُطالبة الضَّامن بما ضمن.
وقد أورد المؤلف هنا حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «مَطْلُ الْغَنِيِّ
ظُلْمٌ»، أي: امتناع الغني من دفع الحقوق الواجبة عليه، والمطل من الغني ظلم، وهو
نوع من أنواع المعاصي، وهو أمرٌ محرَّم، وأمَّا مطل الفقير فهو ليس بظلم؛ لأنَّه
عاجزٌ عن السَّداد، وقد قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا ۚ﴾ [البقرة:286]، وقال سبحانه: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ
إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[البقرة:280].
لماذا كان مطل الغني ظلمًا؟
لأنَّه منع صاحب الحق من الانتفاع بماله.
قال: «وَإِذا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ»، أي: إذا طُلِبَ من أحدكم أن ينتقل دَينه إلى
شخصٍ آخر غير المَدين، وكان ذلك الشَّخص الآخر مليًّا فليتبع، أي: يجب عليه أن
ينتقل بدينه لذمَّة الآخر.
والجمهور يقولون: هذا على الاستحباب.
وأحمد يقول: هذا على الوجوب.
وقوله: «عَلَى مَلِيٍّ»، المراد به ثلاثة أنواع من الملاءة:
الأول: ملاءة اليد: بأن يكون عنده مال يتمكَّن من السَّداد.
الثاني: ملاءة اللسان، بحيث لا يكون مراوغًا، ولا مماطلًا.
الثالث: أن يكون مليئًا ببدنه، والمراد بذلك أن يتمكَّن من إحضاره عند القضاء متى
ما طُلِبَ منه ذلك.
فأمَّا إذا لم يكن مليئًا بإحدى هذه الصفات فإنَّه حينئذٍ لا يلزمه أن يتبع في
الدين، وأن يتحوَّل إليه.
وفي هذا دلالة على أنَّ الدَّائن لا يُشترط رضاه في الحوالة، متى ما كان المَدين أو
المُحوَّل إليه صالحًا، وهذا هو مذهب أحمد وطائفة.
والجمهور يقولون: لا يلزمه أن يتبع إلا إذا كان برضاه.
ولكن اشتراط الرِّضا لم يرد في الأحاديث، وبالتَّالي قول أحمد أرجح في هذه المسألة.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ،
قَالَ: تُوُفِّي رَجُلٌ مِنَّا فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ
أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُلْنَا:
تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَخَطَا خُطَىً ثُمَّ قَالَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قُلْنَا:
دِينَارَانِ، فَانْصَرفَ فَتَحَمَّلَهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ
أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَليَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَوْفَى اللهُ حَقَّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا
الْمَيِّتُ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعدَ ذَلِكَ
بِيَوْمٍ: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟» فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْس، قَالَ:
فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: قَدْ قَضَيتُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«الْآنَ بَرَّدَتَّ عَلَيْهِ جِلْدَهُ». رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمدُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
الِاحْتِجَاجِ بِابْنِ عَقيلٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ
الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ)}.
لفظ الحديث «الْآنَ بَرَّدَتَّ عَلَيْهِ جِلْدَهُ».
عبد الله بن محمد بن عقيل اختلف أهل الحديث في توثيقه وتضعيفه، والأظهر من أقوال
أهل العلم أنَّه ضعيف في الرِّواية، وبالتَّالي فما انفرد به فإنَّه لا يصح
التَّعويل عليه.
أورد حديث جابر فقال: (تُوُفِّي رَجُلٌ مِنَّا فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ
وَكَفَّنَّاهُ)، حنَّطناه: أي وضعنا عليه الحَنوط وهو الطِّيب، وفي هذا مَشروعيَّة
تغسيل الميت وتحنيطه وتكفينه.
قال: (ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟)، يسألونه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكانوا
يأتون بأفراد النَّاس ليُصلي عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فيُصلي النَّاس بصلاته، ليكون هذا من أسبابِ شفاعة الله للعبدِ ومغفرته له -كما
تقدم معنا في كتاب الجنائز.
فتقدَّم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فَخَطَا خُطَىً ثُمَّ قَالَ:
«أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟»)، فيه التَّشديد في أمور الدَّين، فيجب على الإنسان أن يُبادر
لقضاء الدَّين.
قوله: (قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرفَ)، انصرف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كأنَّه لم يُرِد أن يُصلي عليه.
فقال أبو قتادة: أنا أتحملها (فَتَحَمَّلَهَ)، فيه جواز ضمان الدَّين على ميِّت.
قوله: (فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَليَّ)، أي: أنا
أقوم بسدادهما.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَوْفَى اللهُ
حَقَّ الْغَرِيمِ»، يعني أنَّ هذا الغريم كان آيسًا من أن يُسدَّد دَينَه؛ لأنَّ
المَدين قد مات، وفيه أنَّ الورثة لا يتحمَّلون دَينَ مورِّثهم إذا لم يترك تركة،
أمَّا إذا تركَ تركة فإنَّ الدَّينَ مقدَّمٌ على الوصية والميراث.
قال: «وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟»، أي برئ من الدينارين.
قَالَ: (نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ)، فصلى عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وفي هذا التَّشديد في شانِ الدَّين، وأنَّه يجب على الإنسان أن يُبادر لسدد
الدِّيون عليه، سواء كانت ديونًا لمنافع عامَّة، أو كانت ديونًا لأشخاصٍ.
قوله: (ثُمَّ قَالَ بَعدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ)، يعني أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سأل أبا قتادة بعدها بيوم فقال: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟»،
يعني هل قمت بقضائهما أو لا؟
فَقَالَ: (إِنَّمَا مَاتَ أَمْس، قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ:
قَدْ قَضَيتُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْآنَ بَرَّدتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ») كأنَّه يُعَذَّبُ بذلك، وفي هذا جواز تحمل
الديون عن الأموات كما قال الجمهور خلافًا لبعض الحنفية.
{قال المؤلف -رحمه الله: (بَابُ الصُّلْحِ
عَنْ كَثيرِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ الْمُزنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ
بَينَ الْمُسْلِمينَ إِلَّا صُلْحَاً حَرَّمَ حَلَالاً أَو أَحَلَّ حَرَاماً،
والمُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطا حَرَّمَ حَلَالاً أَوْ أَحَلَّ
حَرَامَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَلم يُتَابَعْ عَلَى
تَصْحِيحِهِ، فَإِنَّ (كَثِير) تَكَلَّمَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ وضَعَّفُوهُ،
وَضَرَبَ الإِمَامُ أَحْمدُ عَلَى حَدِيثِهِ فِي ((الـمُسْنَدِ)) وَلَمْ يُحَدِّثْ
بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوَ هَذَا الحَدِيثِ مِنْ غَيرِ وَجْهٍ)}.
قول المؤلف: (بَابُ الصُّلْحِ)، والمراد بـ (الصُّلْحِ) الاتفاق على المُعَاوضة،
أي: عن الحقوق بغيرها. وهذا في غالب أحوال الصُّلْحِ.
وقد ثَبَتَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد رَغَّبَ في الصُّلْحِ وأمر به، وقد
ذهب إلى بني عَمْرِو بنِ عَوْفٍ من أجل أن يُصلح بينهم، وقد قال تعالى: ﴿لَّا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ ﴾؛ فَدَلَّ هذا على جواز الصلح
ومشروعيته.
وأورد المؤلف فيه حديث عَمْرِو بنِ عَوْفٍ الْمُزنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَينَ الْمُسْلِمينَ» وهذا يدل على أنَّ
الأصل في جميع أنواع الصُّلْحُ أن تكون على الحِلِّ والجواز.
ثُمَّ استثْنى فقال: «إِلَّا صُلْحَاً حَرَّمَ حَلَال»، فالصُّلْحُ الذي يُحرِّم
الحلال لا يجوز ولا يَصح، وقد وَرَدَ أنَّ رجُلاً استأجر عسيفًا فزنى بامرأته؛
فصالحه على أن يدفع له شيئًا من الشِّياه ووليدة، فلمَّا جاءوا إلى النَّبي صلى
الله عليه وسلم، قال: الصُّلْحُ باطلٌ وأَمَرَ بِرَدِّ الشِّياة ؛ فدلَّ هذا على
أنَّ قول «إِلَّا صُلْحَاً حَرَّمَ حَلَال» فيه دلالة إلى أنَّ هذا النوع غير
صحيح وغير جائز.
وفيه أنَّ الاستثناءَ من الإثبات نفي، فلمَّا قال: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَينَ
الْمُسْلِمينَ إِلَّا صُلْحَاً حَرَّمَ حَلَال» فهمنا منه أنَّ الصلح الذي حرَّم
حلالاً ليس بجائز، وهكذا الصلح الذي يُحِلُّ حرامًا ليس بجائز.
قال: «والمُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِمْ» فيه دليل لمذهب أحمد أنَّ الأصل في
الشُّروط الحِل والجواز والصِّحة، ولو كانت لمنفعة المُتَعَاقِد مَا لم يأت دليلٌ
يدلُّ على المنع مِن ذلكَ الشَّرط، وهذا معنى قوله: «إِلاَّ شَرْطا حَرَّمَ
حَلَالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامَ».
وقد أشار المؤلف الاختلاف في إسناد الحديث.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ
-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغرِزَ خَشَبَةً فِي
جِدَارِه». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُم عَنْهَا مُعْرِضِينَ،
وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَينَ أَكْتَافِكُم. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
أوردَ المؤلف هُنا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، وهو يتعلق بأحكامِ الجِوار، أَنَّ
النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغرِزَ
خَشَبَةً فِي جِدَارِه» وفي لفظٍ: «أَنْ يَغرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِه»، وفي هذا
بيان شيئ من أحكام الجوار، وأنَّ الجار متى كان ينتفع بشيء من مُلك جاره، وجارُهُ
لا يَتَضرَّر بذلك الانتفاع؛ فإنَّ الأصل وُجوب بَذل صاحبِ المِلك لمنفعة مِلكهِ ما
لم يكن عليه ضرر.
وظاهر الحديث يدل على أنَّه لابد من الاستئذان في ذلك الانتفاع؛ لأنَّه قال: «لَا
يمْنَعُ» ولو كان ينتفع بدون استئذان لما كان في النَّهي عَن المنع فَائدة.
قال: «أَنْ يَغرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِه»، أي: في جدار الجار.
(ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ)، وأَبُو هُرَيْرَةَ كان أمير المدينة، وكان له
ولاية في المدينة، فقال: (مَالِي أَرَاكُم عَنْهَا مُعْرِضِينَ)، أي: لماذا لا
تفعلون ذلك؟ ولماذا لا تقبلون لجيرانكم أن يضعوا أخشابهم على حوائطكم، ثُمَّ قال:
(وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَينَ أَكْتَافِكُم)، أي: أنَّه التزم بأن يُلزم
النَّاس ذلك ووضع أخشاب على الجِدَارِ.
جزاكم الله خيرًا يا شيخ.
بارك الله فيكم ووفقكم الله إلى الخير، وأسأله جَلَّ وَعَلا أن يجعلنا وإيَّاكُم
هُداةً مُهتدين، هذا والله أعلم وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه
أجمعين.
{وفي الختام نشكركم مَعالي الشَّيخ على ما تُقدمونه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم، هذه تحيَّة طيِّبة مِن فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدِّثكم عبد
الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نَستودعكم
الله الذي لا تَضيعُ ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.