الدرس الأول

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5901 24
الدرس الأول

المحرر في الحديث (3)

بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مرحبًا بكم إخواني واخواتي المشاهدين الأعزاء في درس جديد من دروس البناء العلمي، وكما أرحب بمعالي الشيخ سعد بن ناصر الشثري.
أهلا بكم معالي الشيخ}.
حياكم الله، وأهلًا وسهلًا، وأرحب بك وأرحب بالمشاهدين، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يرزقهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونية خالصة.

{توقفنا في الفصول الماضية عند كتاب الحج.
قال المؤلف -رحمه الله: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعُمْرَةِ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيرٌ لَكَ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ -وَضَعَّفَهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم»، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَم، وَلَكِ أَجْرٌ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْهُ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَت امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللهَ عَلَى عِبادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنهُ؟ قَالَ: «نَعَم». وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعُنْهُ -رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ فَعَلَيهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهُ، وَلمْ يرفعْهُ إِلَّا يزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عَنْ شُعْبَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ, وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبي شَيبَةَ فِي «الـمُصَنَّفِ» شِبْهَ الْمَرْفُوع.
وَعنهُ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ المَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لمسلمٍ.
وَعَنْهُ -رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةَ؟» قَالَ: أَخٌ لي -أَو قَرِيبٌ لي- قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ، وَصحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ إِسْنَادَهُ، وَالْإِمَامُ أَحْمدُ وَقْفَهُ)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على نبيه الكريم، وَسَلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمراد بالحج في اللغة: القصد.
وفي اصطلاح الشرع: قصد مكة ومواطن المشاعر لأداء نسكٍ معيَّنٍ.
وقد تواترت النصوص ببيان أن الحج فريضة ومن الواجبات، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾ [آل عمران:97]، ومن هذا حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ» .
وقد جاء في الحديث الآخر في الصحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّو»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» .
وأجمع العلماء على وجوب الحج، على المستطيع بالشروط التي ستأتي.
وقد أورد المؤلف حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيه فضيلة الحج والعمرة، «الْعُمْرَةِ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَ»، أي: تكفر الذنوب التي تكون بين العمرتين.
وفي هذا مشروعية العمرة، وعظم الأجر المترتب عليها.
وفيه دلالة على مشروعية تكرار العمرة.
وبعض أهل العلم قال: لابد أن يكون بين العمرتين وقت، بعضهم قدَّره بسنة وهو مذهب الإمام مالك، حيث قال: "لا يعتمر الإنسان في السنة إلا مرة واحدة".
وبعضهم قدره بأربعة أشهر؛ لأنَّ ابن عباس كان يذهب إلى الطائف عمرته، فإذا طال شعره اعتمر من أجل أن يحلق.
وبعضهم قيده بالشهر؛ ولكن ليس هناك ضابط معروف واحدٌّ لما يتعلق بذلك.
وفي قوله: «وَالْحَجُّ المَبْرُورُ».
المراد بـ «المبرور»: ما كثر البر فيه.
ومن البر: الإخلاص لله -عز وجل- والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والسلامة من محظورات الإحرام من أفعال المعاصي والفسوق، وكذلك فعل الخيرات من صدقة وإحسان، ونحو ذلك.
قال: «وَالْحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»، أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُثيب من حجَّ حجًّا مبرورًا دخول الجنة.
وهنا مسألة من المسائل التي تتعلق بهذا الباب، وهي: هل العمرة واجبة، أو أن الوجوب فقط للحج؟
عند الإمام مالك -رحمه الله: أنَّ العمرة ليست بواجبة، وأنها من المستحبات، إلا أن يكون هناك نذر، أو هناك إفساد للعمرة لا تصح إلا بقضائها.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنَّ العمرة واجبة على الإنسان مرة واحدة.
واستدلوا على ذلك بعدد من الأدلة، كقول الله -جل وعلا: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196]، قالوا: لما وجب إتمامه دلَّ على وجوب أصله.
وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنه قد يجب إتمام الشيء ولم يجب أصل الفعل.
ووجوب العمرة ثبت بأدلة أخرى، منها ما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن الصُّبي بن مَعبد جاءه فقال: يا أمير المؤمنين إني وجدت الحج والعمرة واجبين في كتاب الله . فلم يُنكر عليه عمر ولا أحد من الصحابة.
ومن أدلة الجمهور على إيجاب العمرة: ما ورد في حديث عائشة أنها قالت: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ». فقوله: «عليهن»، هذه صيغة من صيغ الإيجاب.
قال: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»، فدل هذا على وجوب الحج والعمرة. وهو من أدلة الجمهور في هذا الباب.
وكان من أدلة الإمام مالك على عدم إيجاب العمرة: حديث جابر الذي ذكره المؤلف هاهنا، قال: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «لَ»، أي: إنها ليست من الواجبات.
قال: «وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيرٌ لَكَ». قال المؤلف: "رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ -وَضَعَّفَهُ" أي: رأى أنَّ إسناده ضعيف.
قال: "وراه وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا" أي: إنه من كلام جابر بن عبد الله -رضي الله عنه.
ولعل هذا هو الأرجح، ولذلك رجَّحه المؤلف فقال: "هو أصح".
ومن المسائل التي معنا في هذا الباب: هل يصح من الصبي أن يحج أو يعتمر؟
الصبي على نوعين:
- صبي مميز.
- صبي غير مميز.
فالصبي المميز: يُحرم بنفسه، ويعقل الحج والعمرة، وبالتالي يصح منه فعل النسك، وإن كان لا يُجزئ عن الواجب -كما سيأتي.
- وأما الصبي غير المميز؛ فهل يصح منه الحج والعمرة أو لا؟
قولان:
- قال الجمهور: نعم يصح.
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصح الحج من الصبي غير المميز.
وكان من أدلة الجمهور هذا الحديث: أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ" وهو مكان بقرب مكة.
فَقَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ؟»، يسألهم ليعرف أحوالهم.
قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم»، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا"، ما رفعت الصبي إلا وهو صغير لا يميز.
"فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟" أي: أيُكتَب لهذا حج إن قُدِّر له حج البيت؟
فقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم: «نَعَم، وَلَكِ أَجْرٌ» رواه مسلم.
لماذا كان لها الأجر؟
لأنها هي التي تسببت في كونه يحج.
ومن المسائل المتعلقة بهذا: مسألة الاستطاعة المشترطة لوجوب الحج؟
قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران:97].
- هل المراد الاستطاعة البدنية كما قال مالك؟
- هل المراد الاستطاعة المالية كما قال الشافعي وأحمد؟
- هل المراد مجموع الأمرين كما قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى؟
وكل واحد من هذه الأقوال له أدلة، ومن الأدلة الواردة في هذا الباب ما ذكره المؤلف هنا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ الْفَضْلُ" هو أخو عبد الله بن عباس -راوي الحديث.
قال:"كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-"، يعني: يركب معه على الناقة.
قال: "فَجَاءَت امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ" قبيلة من قبائل العرب.
قال: "فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ"، هل في هذا دلالة على أنَّ المرأة كانت كاشفة لوجهها؟
نقول: لا، ليس فيه دلالة؛ لأننا نعرف توجُّه المرأة ووجهة نظرها ولو كانت مغطية لوجهها، وبالتالي ليس في الحديث دلالة على هذا الحكم.
قال: "فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللهَ عَلَى عِبادِهِ فِي الْحَجِّ" في هذا دلالة على وجوب الحج.
قالت: "إِنَّ فَرِيضَةَ اللهَ عَلَى عِبادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ"، بسبب كبر سِنِّه.
قالت: "أَفَأَحُجُّ عَنهُ؟" قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «نَعَم»، فيه دلالة على جواز أن تحج المرأة عن الرجل.
قال: "وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ"، ليبيِّن أن هذا من أواخر أحكام النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأن حجة الوداع كانت قبل وفاته بأيام قليلة.
وأورد المؤلف أيضًا: "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ"، قبيلة ولازال لها بقايا.
قال: "جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ"، فيه جواز النذر، وإن كان الشرع يتطلع إلى أن يُقدِم العبادة على الطاعة بدون نذر، وفيه جواز نذر الحج.
قالت: "إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَ»"، فيه جواز النيابة في الحج عن العاجز ببدنه عن الحج، ومثل هذا الميِّت، وبعض أهل العلم اشترط استئذان الكبير العاجز إذا أراد أحد أن يحج عنه.
ثم ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثالاً ليبين الحال: قال: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟»، يعني: هل تقضي ما على أبيكِ من ديونٍ للناس؟
فالجواب: تقول إنها إذا أرادت البر والإحسان فعلت ذلك.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اقْضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».
ثم أورد المؤلف حديث ابن عباس: أنَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَيُّمَا صَبِيٍّ»، الصبي: يُطلق على المميز وغير المييز ما لم يبلغ.
قال: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ»، يعني: حال كونه صبيًّا.
قال: «ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ»، يعني: بلغ الحنث وأصبح بالغًا.
قال: «فَعَلَيهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى»، فيه دلالة على صحة حج الصبي، ولكنها لا تجزئ عن حجة الإسلام، ويجب عليه حجة أخرى بعد بلوغه.
قال: «وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيهِ حَجَّةٌ أُخْرَى»، كأنه رأى أن البدوي قاصر عن صاحب الحضر والمهاجر، ولذا حكم بأن حجَّته تجزئ، لكنها لا تكفي عن حجَّة الإسلام.
قال: « وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ»، يعني: حجَّ حال كونه رقيقًا.
قال: «فَعَلَيهِ حَجَّةٌ أُخْرَى»، فعلى ذلك الرقيق حجَّة أخرى.
لكن هذا اللفظ لم يثبت رفعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وإنما من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ولذا قال: "رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهُ، وَلمْ يرفعْهُ إِلَّا يزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عَنْ شُعْبَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبي شَيبَةَ فِي الـمُصَنَّفِ شِبْهَ الْمَرْفُوع".
ماذا قال ابن أبي شيبة؟
قال: "قال ابن عباس: احفظوا عني ولا تقولوا "لا قال ابن عباس": أيما صبي حجَّ..." إلى آخره.
فهذه اللفظة: "ولا تقولوا: قال ابن عباس" هل تفيد أن الخبر موقوف أو أنه مرفوع؟
هذا مما وقع فيه الاختلاف، ولذا قال: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبي شَيبَةَ فِي الـمُصَنَّفِ شِبْهَ الْمَرْفُوع".
وقد رواه جماعات على شعبة وأوقفوه، فقد رواه ابن أبي عد، وعبد الوهاب بن عطاء عن شعبة عن أبي ذبيان عن ابن عباس موقوفًا من كلام ابن عباس.
ولذا قال ابن خزيمة: "علمي أن الصحيح بلاشك وهو الموقوف"، أي: الذي من كلام الصحابة -رضوان الله عليهم.

{قال المصنف: (وَعنهُ)، يعني: عن ابن عباس.
قال: (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»)}.
الخلوة: أن يبقى الرجل مع مَن معه بحيث لا يتمكن الناس من رؤيتهم والاطلاع على أحوالهم.
والخلوة محرمة غير جائزة بأدلة كثيرة، ومنها هذا الحديث: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»، إذا كان معها ذو محرم انتفى حكم الخلوة.
وبعض أهل العلم قال: إن انتفاء الخلوة يشمل ما لو كان معها صبي أو كان معها امرأة أخرى.
قال: «وَلَا تُسَافِرِ المَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فيه منع المرأة من السفر إلا إذا كانت مع محارمها، وذاك أنَّ المرأة مع ما أعطاها الله -عزَّ وجلَّ- من صفات جليلة إلا أنها تحتاج إلى من يقوي عزمها، ولذا أمر الله -جل وعلا- المؤمنين بالتزام هذا الحكم وهو: ألا تسافر امرأة إلا مع محارمها.
قال: (فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتي خَرَجَتْ حَاجَّةً)، يعني: ذهبت للحج.
قال: (وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَ)، يعني: أنها ستذهب وحدها، ولن يكون معها محرم لانشغال الزوج بالغزو.
قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»، وفي هذا دليل على وجوب أن يكون المحرم مقارنًا للحاجَّة.
وقد اشترطت طائفة من أهل العلم في وجوب الحج ذلك، وذلك أن شروط الحج على أنواع:
النوع الأول: شرط إذا انتفى لم يصح الحج، ولا يقع أداءًا: وهو حج الكافر والمجنون، فالعقل والإسلام شرطان لهذا القسم.
النوع الثاني: شروط يترتب عليها عدم إجزاء الحج، ولكن الحج صحيح: ومن ذلك الحرية والبلوغ، فلو حج غير البالغ فحجَّه صحيح، لكنه لا يجزئ عن حجة الإسلام.
النوع الثالث: شروط للوجوب، بحيث لو انتفت وحجَّ الإنسان فإنه حينئذٍ يصح حجه، ولكنه آثم بسبب عدم التزامه، وهذان الشرطان هما:
- السبيل: وجود المال الذي يتمكن به من الحج.
- أن يكون مع المراة محرد من محارمها.
ثم أورد المؤلف من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةَ؟»، وفي هذا مشروعيَّة رفع الصوت بالتلبية؛ لأنه سُمِعَ.
وفيه تسمية مَن سُمِّيَ له النُّسك، فقال: (لبيك عن شُبرمة).
وهذا الحديث قد وقع اختلاف الرواة فيه:
فالجمهور والأكثرية: يرون أن هذا الحديث من كلام ابن عباس، وليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وردت رويات تدل على أن هذه الواقعة وقعت مع ابن عباس.
وبعضهم قال: يمكن أن تكون وقعت الواقعة مرتين، لكن هذا لا يثبت، ويبعد أن يكون هناك رجل اسمه "شبرمة" يأتي عليه زمان في عهد النبوة فيحج عنه غيره، ثم يأتي مثله رجل باسمه وبصفته فيقع له مثل ما وقع للرجل الأول:
فالمقصود: أن تكرار هذه الواقعة أمر مستبعد، وبالتالي لابد من الترجيح، فإما أن نقول: إنها وقعت في عهد النبوة، وإما أن نقول: إنها وقعت في عهد الصحابة.
والصواب: أنها وقعت في عهد ابن عباس، وليست في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ويبعد أن يكون هناك رجلان لهما نفس الاسم "شبرمة" مع غرابة هذا الاسم، أحدهما في زمن النبوة، والآخر في زمن ابن عباس.
قال: (لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ)، لبيك: يعني: أجيبك إجابة بعد إجابة.
فقال ابن عباس: "مَنْ شُبْرُمَةَ؟" هذا الذي تلبي عنه؟
قَالَ: "أَخٌ لي -أَو قَرِيبٌ لي- قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟»، أي: يا أيها الحاج الذي تريد أن تحج عن غيرك؛ هل حججت عن نفسك؟
قَالَ: لَا، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ».
أُخذ من هذا أنه لا يجوز للإنسان أن يتنوَّب عن غيره إلا إذا كان قد أدَّى الذي عليه من الواجب.
وهذا القول هو قول الجماهير، وخالفهم بعض الفقهاء كأبي حنيفة وغيره، وقول الجمهور أصوب لهذا الحديث، وهو حديث صحيح الإسناد، صححه جماعة من أهل العلم، منهم ابن الملقن وابن حجر، وغيرهم.
قال: (قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ، وَصحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ إِسْنَادَهُ، وَالْإِمَامُ أَحْمدُ وَقْفَهُ)، يعني أن الإمام أحمد يرى أن هذا الخبر موقوف على الصحابي وليس مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
وبالتالي يتبين لنا عدد من الأحكام المتعلقة بفرضية الحج ، وببعض الأنواع والخلافات الفقهية في عدد من مسائل هذا الباب.

{(بَابُ الْمَوَاقِيتِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ. مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
قوله: (بَابُ الْمَوَاقِيتِ).
الميقات: هو المكان المؤقت الذي وُضع علامة، أو الزمان.
ومواقيت الحج على نوعين:
- مواقيت زمانية: مذكورة في قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة:197]، وهي شهر: شوال وذو القعدة، وأيام من ذي الحجة.
قال: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197].
- مواقيت مكانية: لابد أن يحرم مريد النسك منها، ولا يجوز له تجاوزها، وهي عدد من المواقيت ذكرها المؤلف هنا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ.
ذو الحليفة: وادٍ بجوار المدينة، والآن دخل في مباني المدينة، وبعضهم يسميه "العقيق" لوجود حجارة تشبه الحجارة الكريمة، فسمي الوادي بهذا الاسم.
والميقات: هو الوادي، وليس موطن الشجرة، أو مكان إحرام النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة "ذو الحليفة" تدل على الوادي.
قال: (وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ)، أي: وقَّت لأهل الشام، وجعل ميقاتهم الجُحفة.
لماذا سميت بـ"الجحفة"؟
لأن هذه مدينة على البحر، أو وادٍ طرفه على البحر، كان فيها ميناء، فجحفه البحر وأخذه، وفيها وادٍ، وهي الآن بجوار مدينة رابغ.
ذو الحليفة يبعد مكة قرابة أربمائة كيلًا، والجحفة أظنها تبعد قرابة المائتين كيلًا.
قال: (وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ)، أي: وقَّت لأهل نجد قرن المنازل.
والمراد باهل نجد: مَن كان في شرق مكة والمدينة، وسميت بهذا؛ لأنها كانت مرتفعة، ومرة تُطلق "نجد" على هذه البلاد المعروفة، ومرة تطلق على "العراق"؛ لأن كلًا منهما مرتفع.
قال: (وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ)، قال بعضهم: "قرن المنازل" هذا وادٍ، يسمونه الآن "السيل الكبير"، والصواب أنَّ "قرن المنازل" وادٍ وليس بجبل، وهذا الوادي يستمر حتى يصل إلى وادي "محرم" الذي يوجد على "الهدا"، وهو أقرب المواقيت إلى مكة، فيصل إلى ستين كيلًا.
قال: (وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ)، المراد بأهل اليمن: الجنوب. وقد وقَّت لهم "يلملم" وهو وادٍ كبير، ينزل من شفا بني سفيان حتى يصب في البحر، وكان الناس في الزمان الأول يُحرمون عند جبل كبير، بعضهم يسميه "يلملم" ثم تركوا الجبال وقربوا، وفي العهد الأول جاء رجل اسمه سعد الدين الحارثي فبنى مدينة يُحرم منها الناس يسمونها "السعدية" نسبة لسعدٍ هذا.
ثم لما أنشأ الطريق الجديد وضعوا الميقات في منطقة يُقال لها "سعيا"؛ لأن الميقات الوادي، وبالتالي يوضع الإحرام من قبل الوادي، ويسيل الوادي حتى يصب في البحر في منطقة يقال لها: "المجاذمة".
ولم يذكر هنا العراق، وقد ورد في بعض الأحاديث تسمية "واد عرق"، وفي بعضها تسمية "ذرية" لهم، وهما منطقتان متجاورتان.
قال: «هُنَّ لَهُنَّ»، أي: من مرَّ بهذه المواقيت من أهل هذه البلدان أحرم منها.
قال: «وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ»، أي: لمن جاء من أهل المواقيت الأخرى على ميقات آخر أحرم منه.
بعض العلماء يقول: إذا أحرم من مقيات أقرب إلى مكة من مقياته الأصلي وجب عليه دم؛ ولكنه خلاف هذه اللفظة، فلو جاء المدني فأحرم من الجحف؛ قلنا: لا حرج عليك في ذلك لأنك قد مررت بميقات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ»
قال: «مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ»، استدل به على أنَّ مَن مرَّ بهذه المواقيت لا يلزمه الإحرام إلا إذا كان ينوي الحج والعمرة، أما إذا لم ينوِ النسك فلا يجب عليه الإحرام من هذه المواقيت.
قال: «وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ»، يعني: من كان منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت.
قال: «فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَ»، يعني: من حيث وُجدت عنده نية الحج والعمرة فيُحرم من هناك.
ومثل هذا مَن دخل المواقيت ولم يكن ناويًا للنُسك،: ثم استجدت له نية النسك فإنه يُحرم من المكان الذي وُجد فيه، وقد ورد أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أحرم من "الجعرانة" وذلك لأنه لم يكن ناويًا النسك حال المرور بالميقات وهو: "قرن المنازل"، فلما استجدت له نية الإحرام أحرم من هناك.
قال: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ»، أهل مكة هم الذين داخل حدود الحرم إذا أرادوا نسك الحج؛ فإنهم يحرمون من مكة.
ولكن بالنسبة للعمرة فإن الجماهير -ومنهم الأئمة الأربعة- يقولون: لابد من الذهاب إلى الحلِّ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يُعمِرَ عائشة أمرَ عبد الرحمن بن أبي بكر أن يرافقها، فأحرمت للعمرة من "التنعيم" مما يدل على أنه لا يجوز لها أن تحرم من مكة، فهذا تخصيص في العمرة؛ لأنه "أمر عبد الرحمن" والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب.

{سؤال في الحديث «الْعُمْرَة إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَ» هل الذنوب هنا للصغائر فقط أو للكبائر؟}.
هذا من مواطن الخلاف، والأظهر أن المراد بها الصغائر، وأن الكبائر لابد فيها من التوبة، ولذا ورد في الحديث الآخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الصَّلَاةُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» ، ومن ثَمَّ فالأظهر هو تكفير الصغائر وليس تكفير الكبائر.

{(عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ. فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَو جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى، فَساقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُم مَنْ لم يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُم أَهْدَى فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُم أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ هَدْيًَا فَلْيَصُم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»، فَطَافَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوافٍ مِنَ السَّبْعِ وَمَشى أَرْبَعَةَ أَطْوافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بالصَّفَا والـمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوافٍ، ثُمَّ لم يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ. وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أَهْدَى وسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)
}.
الحج يُؤدَّى على ثلاث صفات:
الصفة الأولى: أن يأتي الإنسان بحج وحده فقط. ويسمى إفراد
الصفة الثانية: أن يأتي الإنسان بعمرة، فإذا فرغ منها تحلل، ثم أتى بحج. وهذا يسمى تمتع.
الصفة الثالثة: أن يأتي الإنسان في النية بحج وعمرة في وقت واحد. ويقال له: القِران.
وجميع هذه الأنساك الثلاثة مشروعة وجائزة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أجاز للأمة فعلها.
أورد المؤلف حديث عَائِشَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ)، وهي السنة العاشرة من الهجرة.
قالت: (فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ)، عمرة فقط، وهذا هو المتمتع؛ لأنه سياتي بعمرة ثم يتحلل، ثم يأتي بحج.
قالت: (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ)، فهذا قارن.
قالت: (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجِّ)، بحج وحده، فهذا مفرد.
قالت: (وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ)، ظاهر هذه اللفظة أنَّ إهلاله كان بالإفراد، ولذلك رجَّح الإمام مالك -رحمه الله- الإفراد، بينما رجَّح الإمام أبو حنيفة القِرَان، ورجَّح الشافعي وأحمد التَّمتُّع.
قلت: (وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ)، وهو المتمتع، وحلَّ بإكمال عمرته، وأحرم مرَّة أخرى للحج.
قالت: (وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) هنا إفراد. قالت: (أَو جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّو)، أي: بقوا على إحرامهم.
قالت: (حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ) فرموا، ثمَّ حلقوا.
وأورد المؤلف من حديث ابن ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، عائشة تقول: (أفرد)، وابن عمر يقول (تمتع).
قال: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى)، النبي -صلى الله عليه وسلم- حج قارنًا، والقارن نسكه يشابه نسك المفرد، فلذلك قالت عائشة: إنه أفرد؛ لأنها حكمت بناء على ما رأته، بينما ابن عمر رأى أنه قد ساق الهدي وذبح الهدي، وعلم أنه جمع بين الحج والعمر، فظنَّ أنه تمتَّع، بينما هو لم يتمتَّع، بل بقيَ على إحرامه بعد عمرته، فكان قرانًا.
قال ابن عمر: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى)؛ لأن المتمتع يجب عليه الهدي، لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة:196].
قال: (فَساقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ)، ميقات أهل المدينة.
قال: (وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ،ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ)، كأنه قال: "لبيك عمرة وحجا"، وهذا صفة القِران.
قال: (وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُم مَنْ لم يُهْدِ)، بعضهم أتى معه بهدي، وبعضهم لم يأتِ معه بهدي.
قال: (فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُم أَهْدَى»، أي: من ساق الهدي معه، فليبقَ على إحرامه).
قال: «فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُم أَهْدَى»، أي: ليس معه هدي.
قال: «فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ»، ثم يقلب نسكه من القِران أو الإفراد إلى التَّمتُّع.
قال: «مَنْ كَانَ مِنْكُم أَهْدَى فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُم أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ»، يعني: يقلب نسكه إلى التَّمتُّع، فيأتي بعمرة كاملة، ثم يتحلل، ثم يهل بالحج.
قال: «وَلْيُهْدِ»؛ لأنه أصبح متمتِّعًا.
قال: «فَمَنْ لَمْ يَجِدِ هَدْيًا فَلْيَصُم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»، هذه سنَّة مَن وجب عليه الهدي ولم يستطع الهدي.
قال: (فَطَافَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ)، أول ما قدم مكة ابتدأ بالطواف بالبيت.
قال: (فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ)، أي: الركن اليماني.
قال: (ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوافٍ)، أي: أسرع في الخطى.
قال: (ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوافٍ مِنَ السَّبْعِ وَمَشى أَرْبَعَةَ أَطْوافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ)، هذه سنَّة الطواف.
قال: (ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بالصَّفَا والـمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوافٍ)، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر.
قال: (ثُمَّ لم يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ)، طاف وسعى ولم يُقصِّر، فبقي على إحرامه حتى يوم النحر -يوم العيد- فوقف في عرفة وأتى مزدلفة، فلما جاء يوم العيد رمى، ثم نحر هديه في يوم النحر، ثم حلق النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم.
قال: (وأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ)، أي: ذهب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة.
قال: (ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ)، حتى ما يتعلق بأمور النساء.
قال: (وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أَهْدَى وسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ)، مَن ساق الهدي حجَّ قارنً وبقي على إحرامه، ولم يتحلل إلا بعد أن ذبح هديه. وهذا الحديث متفق عليه.
وبهذا نعلم أنه يجوز قلب النُّسك من الإفراد إلى التَّمتع لمن لم يسق الهدي. هذا خلاصة ما في هذا الباب.
بارك الله فيك، ووفقك الله لكل خير.

{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما تفضلتم، وأشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن استماعكم وإنصاتكم، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة ، إلى ذلك الحين نستوعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك