{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدات الأعزاء في حلقة جديدة من حلقات البناء العلمي،
وكما لا أنسى أن أرحب باسمي واسمكم بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري.
أهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- لهم
التوفيق والعلم النَّافِع.
{توقفنا في الدَّرس الماضي عند بَابِ الْإِحْرَامِ وَمَا يَحْرُمُ فِيهِ، وفي هذا
الدَّرس -بإذن الله- نقرأ من قول المؤلف -رحمه الله: (بَابُ حُرْمَةِ مَكَّةَ
وَالْمَدينَةِ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: لـمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى
رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ
اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ
الْفِيلَ، وسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَم تُحَلَّ
لأَحَدٍ كَانَ قَبْلي وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا
لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُها وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا
وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُها إِلَّا لِمُنْشِدٍ وَمنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ
بِخَيرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ»فَقَالَ
الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي
قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:«إِلَّا الْإِذْخِرَ»، فَقَامَ أَبُو شاهٍ -رجلٌ منْ أَهْلِ الْيَمَنِ-
فَقَالَ اكْتُبُوا لي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اكْتُبُوا لأَبي شاهٍ» قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ
لِلأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هَذِهِ
الْخُطْبَةُ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ زَيدِ بنِ عَاصِمٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ
مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ
إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا ومُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا
دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ
لمسلمٍ.
وَعَنْ عَليٍّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَين عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ».
وَعَنْ عَامرِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ سَعْداً جَاءَ رَاكِباً إِلَى قَصرِهِ بالعَقِيقِ
فَوَجَدَ عَبْدَاً يَقْطَعُ شَجَرَاً -أَو يَخْبِطُهُ- فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ
سَعْدٌ جَاءَ أَهْلُ العَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلامِهِم -أَو
عَلَيْهِم مَا أَخَذَ مِنْ غُلامِهِم- فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئاً
نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَى أَنْ
يَرُدَّ عَلَيْهِم. رَوَاهُمَا مُسلم. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدِيثَ سَعْدٍ،
وَزَادَ: وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُم ثَمنَهُ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين، أمَّا
بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (بَابُ حُرْمَةِ مَكَّةَ وَالْمَدينَةِ).
المراد بالحرمة: يعني: تحريم بعض التَّصرفات التي تجوز وتحل في مواطن أخرى، ومن ذلك
ما يتعلق بالصيد، وما يتعلق بأخذ الأعشاب والحشائش، ونحوها.
ومكَّة بلد الله الحرام الذي ابتدأ بناؤه إبراهيمُ -عليه السلام- في الكعبة المشرفة
التي بناها، وحدود مكة هي حدود الحرم، وقد كان أنبياء الله وأتباعهم يقومون بتجديد
حدود الحرم وأعلامه من أجل أن يُفرَّق بين الحلِّ والحرم، وأمَّا المدينة فإنها
مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ﴾ [التوبة:120]، فسمَّاها
"المدينة" في عدد من المواطن، وهي التي عاش فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقد جاء فيها التَّحريم كما سيأتي.
وقد أورد المؤلف في هذا الباب عددًا من الأحاديث، أولها: حديث أبي هريرة -رضي الله
عنه- قال: (لـمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مَكَّةَ)، وكان هذا في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان.
قا: (قَامَ فِي النَّاسِ)، أي: قام خطيبًا يخطب في الناس.
قال: (فَحَمِدَ اللهَ)، يعني: ذكر صفاته الجميلة.
قال: (وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، يعني كرَّر ذكر الثناء والمدح عليه -جل وعلا.
ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ»، وكان ذلك لمَّا أبرهة
أراد أن يهدم الكعبة بدعوى أن الناس يُقدِّسونها أكثر من البيت الذي بناه وأراد أن
يصرف العرب إليه، فتوجَّه إلى مكة ومعه الأفيال العظيمة يريد أن يَهدم الكعبة،
فأرسل الله -عزَّ وجلَّ- عليه الطير الأبابيل فأهلكته وأهلكت مَن معه، ولذا حَبَسَ
ربُّ العزَّة والجلال عن مكة الفيلَ، ولكن الله -سبحانه وتعالى- مكَّن لرسوله -صلى
الله عليه وسلم- أن يدخل مكَّة، وأن يُبعد عنها مظاهر الشرك، وذلك لأنهم لمَّا سعوا
إلى إرساء التوحيد في جوانب هذا البيت، وصرف عبادة غير الله من الأوثان والأصنام؛
مكَّنهم الله -عزَّ وجلَّ- من ذلك، ولذا قال: «وسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ»، أي: أنهم في فتح مكَّة تمكَّنوا من دخولها ومن الاستيلاء عليها.
قال: «وَإِنَّهَا لَم تُحَلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلي»، أي: هي باقية على حرمتها
وتحريم الحرمات وتعظيمها منذ الزمان الأول، وهذا التحريم مستمر.
قال: «وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ»، في يوم فتح مكَّة.
قال: «وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي»، وبالتالي ماذا يترتب على هذا من
الأحكام؟
يترتب عليه تشديد حرمة الدماء، والأعراض، حرمة الحقوق والأموال.
ثم قال مفسِّرًا ومُفرِّعًا على تحريم مكة: «فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُه»، فلا يجوز
صيد الصيد في الحرم، ولا يجوز أن يُنفَّر، بحيث يُحرَّك ويُقلق من مكانه، فهذا كله
من الممنوعات.
قال: «وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَ»، أي: لا يُقطَع الشَّوك حال كونه رطبًا؛ بل يجب
إبقاؤه وعدم التَّعرض له.
قال: «وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُها إِلَّا لِمُنْشِدٍ»، يعني: لا يجوز لأحد أن يأخذ
اللُّقطة والأموال الساقطة فيها، سواء كانت نقودًا، أو أي نوع من أنواع المال إلا
إذا كان الشخص يريد أن يستمر في إنشادها وتعريف الناس بها.
والمراد بالمنشد: مَن رفع صوتَه سائلًا عن ربِّ تلك الساقطة.
قال: «وَمنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ»، يعني: أولياء القتيل.
قال: «فَهُوَ بِخَيرِ النَّظَرَيْنِ»،يعني: بحسب ما يرون، إمَّا أن يأخذوا
الدِّيَة، وهذا معنى قوله: «إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ»، يعني:
يُقتَل القاتل.
وفي هذا دلالة على أنَّ الواجب على القاتل أحد أمرين: إمَّا الدِّيَة، وإمَّا القتل
والقصاص، كما هو مذهب الشافعي وأحمد.
وعند مالك وأبي حنيفة: أنَّ موجب القتل العمد العدوان هو القصاص فقط.
ماذا يترتب على ذلك؟
لو أنَّ أولياء الدم قالوا: نحن نتنازل عن القصاص مقابل دفع الدية:
فعند أحمد والشافعي أنه يلزمهم الدِّيَة.
وعند مالك وأبي حنيفة: لا يلزمهم إلا باختيارهم، إمَّا أن تعفوا مجَّانًا، أو أنهم
غير ملزمين بدفع الدِّيَة.
إذن في هذا:
1. تحريم صيد مكَّة.
2. تحريم أخذ الحشائش وقطع الأشجار الرطبة في مكة.
3. كذلك الأموال الساقطة من أهلها لا يمتلكها ملتقطها، وإنما يجب عليه أن
يُعرِّفها.
قال: (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ يعني: يا رسول
استثنِ لنا نباتًا يُقال له: "الإذخر" يعرفه أهل مكَّة.
قال: (فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَ)، نبات الإذخر هذا
خاصِّيَّته أنه شديد قوي، وبالتالي لا يتخلخل الماء من وسطه، ولذلك يضعونه على
البيوت، يسقفونها به من أجل إذا جاء المطر لا يخر على بيوتهم، وهكذا يقومون بوضعه
على القبور من أجل ألا تدخلها المياه فينخفض بسبب دخول المياه فيها، وجعل التراب
ينضغط.
وفي بعض الرويات (وقينن)، والمراد به أهل الصاغة، لأنه الإذخر من خاصيته أنه إذا
أُحرق استمر وطالت مدة إحراقه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ»، في
هذا دلالة على أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قد يستثني، وبالتالي يجوز تأخير
البيان عن وقت الخطاب؛ لأنَّ الاستثناء هذا بيان، واستُدل به على أنَّ الاستثناء
الذي يكون في المجلس يُعتبر استثناءً صحيحًا، ولا يلزم أن يكون الاستثناء متَّصلًا
بالمستثنى منه ما دام الاستثناء في المجلس كما هو رأي طائفة خلافًا لجماهير أهل
العلم.
وقد استدلَّ بعض أهل العلم بذلك على أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد؛
لأنَّ العباس لما سأله الإذخر أجابه ولم ينتظر الوحي في ذلك.
قال: (فَقَامَ أَبُو شاهٍ -رجلٌ منْ أَهْلِ الْيَمَنِ- فَقَالَ اكْتُبُوا لي يَا
رَسُولَ اللهِ)، أي: اكتبوا لي هذه الخطبة وهذا الحديث الذي ذكرتموه قبل قليل، وفيه
جواز كتابة أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبُوا لأَبي شاهٍ».
ثم أورد المؤلف من حديث عَبدِ اللهِ بنِ زَيدِ بنِ عَاصِمٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ-
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
حَرَّمَ مَكَّةَ»، أي: عظَّم حرمتها، ومنع من اصطياد صيدها، ومن أخذ حشيشها
وأشواكها، والتقاط لقطتها.
قال: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَ»، أي: دعا لهم
بالبركة في أرزاقهم وأمورهم، فدعا الله بأن يُرقوا.
قال: «وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ،
وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا ومُدِّهَ»، يعني دعا لهم بالبركة في تجارتهم، في
بيعهم ومشتراهم.
والمُدّ: ملءُ الكفَّين المعتدلتين.
والصَّاع: أربعة أمداد.
قال: «بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ».
وفي حديث عليّ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَين عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ»:
عير: جبل من جبال المدينة.
وثور: جبل من جبال المدينة، وجبل ثور خلف جبل أُحد، جبل صغير على شكل الثور، فهذا
يدلك على أن جبل أحد داخل منطقة التحريم، وهذا فيه ذكر جهتين من جهات التحريم، وأهل
العلم الآن يعرفون حدود حرم المدينة، ومن خاصية المدينة أنه مستقيم، خلافًا لحرم
مكة فهو له ميلات كثيرة.
قال: (وَعَنْ عَامرِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ سَعْداً جَاءَ رَاكِباً إِلَى قَصرِهِ
بالعَقِيقِ)، العقيق: وادٍ بجوار المدينة، خاصيته أن فيه حجارة تشبه الحجارة
الكريمة، وفيها لمعان، وفيها بياض؛ ولذا يسمون كل وادٍ يشتمل على مثل ذلك بهذا
الاسم "وادي العقيق".
ومن هنا نجد أن عددًا من المناطق توجد فيها مثل هذه الأودية تسمى بمثل هذا الاسم
"وادي العقيق".
قال: عن سعد: (فَوَجَدَ عَبْدَاً يَقْطَعُ شَجَرَاً -أَو يَخْبِطُهُ)، الخبط: أن
يضرب الشجرة من أن أجل أن يتساقط ورقها الأخضر.
قال: (فَسَلَبَهُ)، يعني أنَّ سعد بن أبي وقاص أخذ ما لدى هذا العبد من سلاح ومن
أموال ظاهرة.
قال: (فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَ أَهْلُ العَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ
عَلَى غُلامِهِم -أَو عَلَيْهِم مَا أَخَذَ مِنْ غُلامِهِم)، أي يرد عليهم ما سلبه
من العبد من الأموال الظاهرة، حديده، أو ثيابه الظاهرة، ونحو ذلك.
فقال سعد: (فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئاً نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: أعطانيه زيادة عن حقي.
قال: (وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِم)، يستفاد من هذا تحريم قطع الشجر في المدينة،
وفيه ن مَن قطع شجرًا يُمكن أخذ سَلَبِهِ.
قال: (وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُم ثَمنَهُ)، يعني ثمن هذا العبد،
فكأنه قد أخذ هذا العبد.
{قال -رحمه الله: ( بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ
عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَن أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابرِ بنِ عبدِ
اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ،
فَقُلْتُ: أَنا مُحَمَّدُ بنُ عَليِّ بنِ حُسَيْنٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى
رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّيَ الْأَسْفَلَ، ثُمَّ
وَضَعَ كَفَّهُ بَينَ ثَدْيَيَّ، وَأَنا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ:
مَرْحَباً بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ؟ فَسَأَلْتُهُ -وَهُوَ
أَعْمَى- وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ فِي سَاجَةٍ مُتَلَحِّفَاً بِهَا
كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِها،
وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الـمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا، فَقلتُ: أَخْبِرنِي
عَن حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ بِيَدِهِ
فَعَقَدَ تِسْعَاً، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي
العَاشِرَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجٌّ،
فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَر ٌكَثِيْرٌ كُلُّهم يَلْتَمِسُ أَن يَأْتَمَّ بِرَسُولِ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيعْملَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا
مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَولَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ
مُحَمَّدَ بنَ أَبي بَكْرٍ، فَأرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَيفَ أَصْنعُ؟ قَالَ: «اغْتَسِلِي واسْتَثْفِري بِثَوْبٍ وأَحْرِمِي»،
فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ
رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ،
نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وماشٍ، وَعَن يَمِينِهِ
مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَن يسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ،
وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَينَ أَظْهُرِنَا وَعَلِيهِ
يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ
عَمِلْنَا بِهِ. فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ
وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيْكَ لَكَ»، وأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ
بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِم
شَيْئاً مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
تَلْبِيَتَهُ.
قَالَ جَابرٌ: لَسْنا نَنْوي إِلَّا الْحَجِّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى
إِذا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثاً وَمَشَى
أَرْبَعَاً، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
فَقَرَأَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى﴾ [البقرة:125]
فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَينَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبي يَقُولُ: -وَلَا
أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
كَانَ يقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ﴿قُلْ يَا أَيهَا
الْكَافِرُونَ﴾ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ من
الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: ﴿إِنَّ الصَّفَا
والمَرْوَةَ مِنِ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة:158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ
بِهِ»، فَبَدَأَ بالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتقْبلَ
الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ
عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا
-ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذا انْصَبَّتْ
قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذا صَعِدْنا مَشَى حَتَّى أَتَى
الْمَرْوَةِ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذا
كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ: «لَو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ
أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُها عُمْرَةً، فَمَنْ
كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» فَقَامَ
سُرَاقَةُ بنُ مَالكِ بنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِعَامِنَا هَذَا
أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي
الْحَجِّ -مَرَّتَيْنِ- لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ».
وَقَدِمَ عَلِيٌّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِمَّنْ
حَلَّ، وَلَبِسَتْ ثِيَاباً صَبِيْغَاً واكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا،
فَقَالَتْ: إِنَّ أَبي أَمَرَنِي بِهَذَا، قَالَ: -فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُول
بِالعراقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُحَرِّشَاً عَلَى فَاطِمَةَ للَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِياً لِرَسُولِ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي
أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، مَاذَا قُلْتَ حِينَ
فَرَضْتَ الْحَجَّ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أُهِلَّ بِهِ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ
فَلَا تَحِلَّ»، قَالَ: وَكَانَ جمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلَيٌّ
مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُم وَقَصَّرُوا إِلَّا
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَىً فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ،
وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى بِهَا
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ
قَلِيلاً، حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ
لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا
تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا إِنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، كَمَا
كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ
ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ
بالقَصْواءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ:
«إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هَذَا،
فِي شَهْرِكُم هَذَا، فِي بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ
مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيْعَةَ
بنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ،
وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلُ رِبَاً أَضَعُ [رِبَانَا]
رِبَا عَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا
اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ،
واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُم عَلَيْهِنَّ: أَنْ لَا
يُوطِئْنَ فِي فُرُشِكُم أَحَدَاً تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ
فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرِّحٍ- وَلَهُنَّ عَلَيْكُم رِزْقُهُنَّ،
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا لَنْ تَضِلُّوا
بَعْدَهُ- إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ- كِتابَ اللهِ، وَأَنْتُم تُسْأَلُونَ عَنِّي،
فَمَا أَنْتُم قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ،
وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بإصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُها إِلَى
السَّمَاءِ، وَيَنْكُتُها إِلَى النَّاسِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ
اشْهَدْ»- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ،
ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلم يُصَلِّ بَينَهُمَا شَيْئاً، ثُمَّ رَكِبَ
رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ
بَطْنَ نَاقَتِهِ -الْقَصْوَاءِ- إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ المـُشَاةِ
بَينَ يَدَيْهِ واسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ
الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً، حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَأَرْدَفَ
أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَقَدْ شَنَقَ للقَصْواءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ
رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِيْنَةَ
السَّكِيْنَةَ» وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَال أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً
حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بهَا الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلم يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا
شَيْئاً، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى
طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ -حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ- بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ
يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى أَسْفَرَ جِدَّاً فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ،
وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بنَ عَبَّاسٍ -وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ
وَسِيْمَاً- فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِيْنَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ،
فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِ الآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ مِنَ الشِّقِ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ
الْفَضْلِ فَصَرَفَ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِ الآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ
مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي
تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ
الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ -يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا-
مِثْلِ حَصَا الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادي ثُمَّ انْصَرفَ إِلَى
الـمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثاً وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى
عَلِيَّاً -رَضِيَ الله عَنْهُ- فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ،
ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ
فَأَكْلا مِنْ لَحْمِهَا وشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكَبَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ
الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمٍ، فَقَالَ:
«انزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى
سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعكُمْ» فَنَاوَلُوهُ دَلْواً فَشَرِبَ مِنْهُ. رَوَاهُ
مُسلمٌ)}.
قول المؤلف -رحمه الله تعالى: ( بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ).
ما هي الطريقة المشروعة لأداء نسك الحج؟
الطريقة تؤخذ من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته، وقد قال -صلى الله عليه
وسلم: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
وقد أورد المؤلف حديث جعفر بن محمد الباقر وهو من أهل البيت النبوي عن أبيه محمد بن
علي، قال: (دَخَلْنَا عَلَى جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم)، فيه
رواية أهل البيت عن الصحابة، وفيه تقدير أهل البيت لصحابة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ولم يأخذوا منهم الأحاديث والعلم إلا وهم يُقدِّرونهم ويعرفون منزلتهم.
وجابر بن عبد الله من علماء الصحابة، وقد هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان
سِنُّهُ قرابة العشر، ولذلك حفظ شيئًا كثيرًا من أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم.
لما دخل محمد بن علي على جابر دخل مع مجموعة، فبدأ جابر -رضي الله عنه- يسألهم
واحدًا واحدًا من أنتم؟ لأن جابرًا كان كفيفًا لا يُبصر.
قال: (فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ)، فيه أنه يحسن بالإنسان أن يسأل عمن يقابله ولا
يعرفه ليعطيه حقه من التقدير والإكرام.
قال: (حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنا مُحَمَّدُ بنُ عَليِّ بنِ حُسَيْنٍ،
فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي)، أي: حرك يده إلى رأسه.
قال: (فَنَزَعَ زِرِّيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّيَ الْأَسْفَلَ)، وكانوا
يستعملون زرارين.
قال: (ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَينَ ثَدْيَيَّ)، أي: بين ثديي محمد بن علي بن الحسين.
قال: (وَأَنا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ)، أي: لم يكبُر بعد.
فَقَالَ جابر: (مَرْحَباً بِكَ يَا ابْنَ أَخِي)، كلمة "يا ابن أخي" إمَّا أنها
تُطلق من الرجل الكبير للصغير مطلقًا، أو لوجود نسبٍ بينهما، أو أنَّ هذا في ترجيح
لقول بعض الرواة أنَّ الأنصار من بني إسماعيل، وهذا أحد الأقوال، مع أنَّ المشهور
أنهم قحطانيون.
فقال: (مَرْحَباً بِكَ يَا ابْنَ أَخِي)، فيه مشروعية الترحيب وخصوصًا بطلبة العلم.
قال: (سَلْ عَمَّا شِئْتَ؟)، أي: ما هي مسألتك التي أشكلت عليك وتريد أن تسألني
فيها؟
قال: (فَسَأَلْتُهُ -وَهُوَ أَعْمَى)، أي: سأله سؤالًا بعد سؤال.
قال: (وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ فِي سَاجَةٍ)، أي قاك جابر بن عبد الله.
والساجة: نوع من أنواع الثياب.
قال: (مُتَلَحِّفَاً بِهَ)، أي: أنه قد لفَّها على بدنه، وفيه جواز الصلاة في ثوب
واحد، وبعض الفقهاء منع منه، وجابر الآن يريد أن يُبيِّن لهم جواز الصلاة في الثوب
الواحد.
قال: (فَقَامَ فِي سَاجَةٍ مُتَلَحِّفَاً بِهَ)، أي: قد لفَّ جميع أجزائه بها.
قال: (كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ
صِغَرِها، وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ)، يعني: عنده رداء يغطي بدنه، لكنه لم
يستعمله في تلك الصلاة؛ لأنه موجود على المشجب، وهذا المشجب هو الأعواد التي كانوا
يعلقون عليها الثياب بعد الغسيل ونحوه.
قال: (فَصَلَّى بِنَ)، صلَّى بهم في ثوب واحدٍ؛ ليبين لهم جواز ذلك.
قال: (فَقلتُ: أَخْبِرنِي عَن حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، أي: قال محمد بن علي بن الحسن أخبرني عن حجة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم.
وفيه: سؤال رواية الأخبار، وأنَّه ينبغي للنَّاس عند جلوسهم أن يسألوا عن وقائع
النَّبي -صلَّى الله عليه وسلم- وأحواله، وصفاته، وأخلاقه.
قال: (فَقَالَ بِيَدِهِ- فَعَقَدَ تِسْعَ)، يعني: عقد الأصابع تسعة.
فَقَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَثَ تِسْعَ
سِنِينَ لم يَحُجَّ)، يعني: بعد الهجرة النبوية.
الشافعية استدلوا بهذا على أنَّ الأوامر ليست على الفورية.
والجمهور يقولون: الثمان سنوات الأولى قبل فتح مكَّة، والسنة التاسعة فيها سبب وهو
أن مكة كانت لازالت فيها مظاهر شركية، وفيها طواف العراة، فأراد النَّبي -تبارك
وتعالى- ألا يحج إلا في سنة وقد صفَت مكَّة.
قال: (ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي العَاشِرَةِ)، أي: في السنة العاشرة صاح
الصائح للناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيحج، فحينئذٍ تسامع الناس بهذا الخبر،
فجاء الناس من المناطق البعيدة يريدون أن يشاركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في
الحج ليقتدوا به، وليسيروا على طريقته.
قال: (فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَر ٌكَثِيْرٌ كُلُّهم يَلْتَمِسُ أَن يَأْتَمَّ)،
أي: يقتدي بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَيعْملَ مِثْلَ عَمَلِهِ)، يعني: في الحج.
قال جابر: (فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ)، يعني: خرجوا من
مكة.
و"ذا الحليفة" وادٍ وهو الميقات، وكان في الزمان الأول يبعد قرابة عشرة كيلًا،
واليوم اتصل البنيان، وأحاطت بنيان المدينة بهذا الوادي.
قال: (فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ فَولَدَتْ أَسْمَاءُ
بِنْتُ عُمَيْسٍ)، أسماء بنت عميس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب، فلما تُوفي جعفر في
مؤته وانتهت عدتها تزوجها أبو بكر الصديق، فجاءت منه بمُحَمَّدَ بنَ أَبي بَكْرٍ،
فلما توفي أبو بكر الصديق تزوجت بعده علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
فالمقصود: أن أسماء ولدت في الميقات في "ذي الحليفة" محمد بن أبي بكر.
قال: (فَأرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيفَ
أَصْنعُ؟)، الآن هي نفاس، والدم ينزل منها، تترك الحج؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اغْتَسِلِي»، أي: للتهيَّأ للإحرام، وفي هذا
دلالة على استحباب الاغتسال قبل الإحرام.
لماذا لم نَقُل بالوجوب مع أنه فعل أمر؟
نقول: الأمر هنا جاء لدفع توهم عدم انتفاع الجنب والنفساء بالاغتسال، فحينئذٍ نصرفه
عن الوجوب إلى الاستحباب.
قال: «اغْتَسِلِي، واسْتَثْفِري بِثَوْبٍ وأَحْرِمِي»، أي: توقي واجعلي حافظة لئلا
ينتقل الدم إلى بقية بدنك.
قوله: «وأَحْرِمِي»، فيه صحة إحرام النفساء، وإحرام الحائض، وقاس بعض العلماء عليها
السكران، والجمهور على عدم صحَّة إحرامه.
قال: (فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ)،
فهو صلى الظهر في المدينة، وصلى العصر في ذي الحليفة.
قوله (في المسجد)، أي: في المكان الذي بني بعد ذلك، وهذا في وادي ذي الحليفة، وذلك
أنَّ المواقيت أودية.
قال: (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ)، ناقته.
قال: (حَتَّى إِذا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ) أي: المكان
المرتفع.
قال: (نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وماشٍ)، حجَّ مع
النبي -صلى الله عليه وسلم- أناس كثير، وفيه مشروعية الرُّفقة في الأسفار، وخصوصًا
في الحج.
قال: (وَعَن يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ)، فهناك ناس أمامه، وناس يمينه، وناس عن
يساره، وناس عن خلفه -صلى الله عليه وسلم.
قال: (وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَينَ أَظْهُرِنَا
وَعَلِيهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ)، أي: تفسيره.
قال: (وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ)، أي: أَيُّ فِعْلٍ يَفعله من
المناسك اقتدوا به.
وكان مما عمله أنَّ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ، أي: بإفراد الله للعبادة.
فكان يقول في الإهلال -والمراد: رفع الصوت بالتلبية: «لَبَّيْكَ»، أي: إجابة لك بعد
إجابة.
قوله: «اللَّهُمَّ»، أي: يا الله.
قوله: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ»، أي: تلبيتي ونسكي لك وحدك، لا أريد
به أحدًا غيرك، فلا أريد به الدنيا، ولا أريد به الرفعة ولا السُّمعة، ولا علو
المنزلة.
قال: «إِنَّ الْحَمْدَ»، الحمد هو: الوصف الجميل.
قوله: «وَالنِّعْمَةَ لَكَ»، أي: كل نعمة تصل إلينا فهي منك يا رب العزة والجلال.
قوله: «وَالْمُلْكَ لَا شَرِيْكَ لَكَ»، أي: ملك الكون كله لك يا ربي.
وهذه هي تلبية التوحيد، بينما الصحابة -رضوان الله عليهم- بدؤوا يلبون بتلبيات
أخرى.
قال: (وأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ)، فكانت لهم تلبيات أخرى
تؤدي نفس المعنى.
قال: (فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِم
شَيْئاً مِنْهُ)، أي: لم ينتقضهم ولم يرد عليهم تلبيتهم، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلْبِيَتَهُ.
قَالَ جَابرٌ: لما خرجنا لم يكن في مقصدنا ولا يف نيتنا إلا الحج إفرادًا، فهم في
نيَّتهم ينون الإفراد بالحج.
قال: (لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ)، ولا ننوي العمرة.
قال: (حَتَّى إِذا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ)، أي: مع النَّبي -صلى الله عليه
وسلم.
قال: (فاسْتَلَمَ الرُّكْنَ) في بداية الطَّواف، وهو الركن الأسود.
قال: (فَرَمَلَ ثَلَاث)، أي: أسرع في مشيه، وظاهر هذا أنه في جميع الشَّوط، فرمل
من أول الشَّوط إلى نهايته.
قال: (وَمَشَى أَرْبَعَ)، لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم -عليه السلام-
وقرأ أمام أصحابه: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى﴾
[البقرة:125].
قال: (فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَينَ الْبَيْتِ)، اقتداءً بهذه الآية
﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى﴾
يقول محمد بن علي: "أخبرني أبي علي بن الحسين" وهو تابعي وليس صحابيًّا، ولذلك فإن
أحاديثه مرسلة- فهذه الجزئية من الحديث مرسلة.
قال: (فَكَانَ أَبي يَقُولُ: -وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَن النَّبِيِّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ﴿قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ﴾ و﴿قُلْ يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ﴾).
نعود إلى حديث جابر، قال: (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ)، يثعني لما انتهى من صلاة
ركعتين رجع إلى الركن الأسود، وفي هذا دلالة على أنَّ تقبيل الحجر الأسود ليس من
شرطه أن يكون في طواف؛ بل هو عبادة مستقلة ليست مرتبطة بالطواف، وإن كان في الطواف
يُستحب في بداية الشوط، وفي نهاية كل شوط أن يُقبِّل الإنسان الحجر الأسود.
قال: (ثُمَّ خَرَجَ من الْبَابِ إِلَى الصَّفَ)، كان المسعى في الزمان الأول خارج
المسجد، كان هناك بيوتًا بين الطواف وبين المسعى، حتى جاء العهد السعودجي فأعاد
بناء البيت الحرام ورتَّبه، فأزال البيوت الموجودة بين المسعى والمطاف، ولذلك لا
يوجد اليوم خروج من المسجد.
قال هنا: (ثُمَّ خَرَجَ من الْبَابِ إِلَى الصَّفَ)، الصفا: جبيل صغير في طرف جبل
أبي قبيس -لسان صغير.
قال: (فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: ﴿إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنِ
شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة:158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»)، يعني: بالصفا.
وفي راية النسائي «ابدؤو» على جهة الأمر، وبالتالي لابد أن يكون السَّعي مُبتدئًا
بالصفا، ويُكمل سعيه عند المروة.
وجمهور أهل العلم على أنَّه لابد من النية في الطواف وفي السعي، خلافًا لما ورد عن
الإمام أبي حنيفة.
قال: (فَبَدَأَ بالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ)، يعني: من فوق
البيوت؛ لأنَّ كان هناك بيوت بين المطاف والمسعى.
قال: (فَاسْتقْبلَ الْقِبْلَةَ)، أي: من فوق الصفا.
قال: (فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرهُ)، وحَّد الله أي قال: لا إله إلا الله. كبَّره،
أي قال: الله أكبر.
قال: (وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»)، فيه إثبات
التوحيد لله.
قوله: «لَهُ الْمُلكُ وَلَهُ الْحَمْدُ»، أي: وحده هو المتصرف بالملك التام، والحمد
الكامل.
قوله: «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَهُ،
أَنْجَزَ وَعْدَهُ»، حينما وعد المؤمنين بالنصر والتَّمكين، ورفعة الشأن، وعلو
الدرجة، والتَّمكين في الدنيا.
قوله: «وَنَصَرَ عَبْدَهُ»، خرج صلى الله عليه وسلم شريدًا طريدًا من مكة، ثم بعد
ذلك انتصر على أهل مكة.
قوله: «وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، أي: القبائل المجتمعة التي جاءت لقتال
النبي -صلى الله عليه وسلم- هزمهم.
قال: (ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ)، يعني: لما فرغ من كلمة التوحيد دعا، ثم قالها مرة
أخرى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ...»، ثم دعا، ثم قالها
مرة أخرى.
هل دعا ثالثة؟
قال الشافعي: نعم.
وقال الجمهور: لا.
ودليل الجمهور: أنه قال: (ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ) والدعاء بعد الثالثة ليس بين
ألفاظ التهليل.
قال: (ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ)، يعني: ذهب إلى جهة المروة، نزل من جبل
الصفا إلى المروة.
الصفا: الصخرة الملساء الكبيرة.
والمروة: الجبل الذي فيه حجارة صغيرة، وتكون كأمثال الأحجار الكريمة.
قال: (حَتَّى إِذا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي)، كان الوادي يأتي من
طرف مكة فيدخل في المسعى، ويترك المروة على يمينه والصفا على يساره، وهو أقرب إلى
الصفا، فهذا مجرى الوادي، ويضع جبل أبي قبيص على يساره، والمطاف على يمينه حتى يذهب
إلى جهة جياد، ثم يذهب إلى المسيل هناك، فهذا المكان في الوادي يستحب الإسراع فيه
-مجرى الوادي؛ لأنَّه قال: (حَتَّى إِذا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي
سَعَى)، أي: أسرع في المشي، وهذا خاص للرجال، وبالاتفاق فإنه يُستحب السعي حينئذٍ،
واليوم وضعوا علامات خضراء من أجل أن تُبيِّن موطن السعي؛ لأنَّ الوادي تمَّ تصريفه
في الأسفل وتهيئته، لئلا يؤثر على الطائفين والسَّاعين.
قال: (حَتَّى إِذا صَعِدْن)، أي: خرجنا من الوادي.
قال: (مَشَى)، أي: مشى وترك السعي.
قال: (حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةِ)، وهو لسان من جبل قيقعان -كما تقدم.
قال: (فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَ)، أي: من التوحيد
ومن دعاء الله -جل وعلا.
قال: (حَتَّى إِذا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ)، معناه أنَّ ذهابه من
الصفا إلى المروة شوط، وعوده شوط آخر، فهو طاف سبعة أشواط، فكانت البداية من الصفا
والنهاية عند المرو، وهذا محل اتفاق.
فقال -صلى الله عليه وسلم: «لَو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا
اسْتَدْبَرْتُ»، أي: لو كنت لازلت أريد أن أدخل في النسك «لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ»،
أي: لم آتي معي بما أريد ذبحه من الهدي من الإبل.
قال: «وَجَعَلْتُها عُمْرَةً»، أي: لكان حجي تمتعًا، وبالتالي أعتمر، فإذا فرغت من
العمرة قصَّرتُ ثم تحللت، فإذا جاء الحج عدتُّ إلى لباس الإحرام مرة أخرى أريد
الحج.
ثم قال لأصحابه: «فَمَنْ كَانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ»، أي:
ليقلب نسكه من الإراد إلى التَّمتع.
قال: «وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً»، فيكون هذا الطواف والسعي للعمرة، ثم يتحلل ويجعل
هناك طوافًا وسعيًا آخرًا للحج.
قال: (فَقَامَ سُرَاقَةُ بنُ مَالكِ بنِ جُعْشُمٍ)، وهو صاحب حديث الهجرة.
فَقَالَ سراقة: (يَا رَسُولَ اللهِ أَلِعَامِنَ)، أي: قَلَبَ النُّسُك مِن الإفراد
إلى التمتع هذا خاص بهذه السنة أو للأبد؟
قال: (فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَابِعَهُ
وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ
-مَرَّتَيْنِ- لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ»)، أي: أنَّ هذا الأمر مستمر لأبد الأبد.
جاء في حديث أبي ذر أنَّ ذلك كان خاصًّا بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف
نجمع؟
نقول: هذا الحديث يدل على مشروعية قلب النُّسك من الإفراد إلى التَّمتع، وحديث أبي
ذر هذا خاص في الوجوب، كان قلب النُّسك من الإفراد إلى التمتع واجبًا على الصحابة
بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن مَن بعدهم ليس بواجب، وإنما هو جائز لهم،
وبذلك نجمع بين الأحاديث.
وهذا هو أصح الأقوال في المسألة، وهو مذهب أحمد: أنه يجوز قلب النُّسُك من الإفراد
إلى التَّمتع.
والجمهور يقولون: لا يجوز ذلك.
والظاهريون يقولون: يجب.
فكان القول بالجواز أوسط هذه الأقوال.
أسأل الله -جل وعلا- أن يرزق الجميع علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ولعلنا -إن شاء
الله- أن نكمل شرح هذا الحديث في يومٍ آخر، بارك الله فيك، ووفقك لكل خير، وكذلك
إخوتي ممن يرتب هذا اللقاء، وجميع المشاهدين، أسعدكم الله دنيا وآخرة، هذا والله
أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{مستمتعين الحقيقة بشرحكم وبتعليقكم فضيلة لشيخ، لكن لا يسعنا في الختام إلا أن
نشكركم على ما أجدتم وأفدتم به معالي الشيخ.
ولا ننس أن نشكركم أنتم أيُّها المشاهدون على حُسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن
نلقاكم في الحلقة القادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.