الدرس التاسع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3608 24
الدرس التاسع

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرَحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أُرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جَلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مُباركًا.
{فرغنا في الحلقة الماضية من كتاب النَّذرِ من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
وفي هذه الحلقة -بإذن الله- نبدأ من كتاب الجهاد والسِّيَر.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
عَن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَذَكَرَ عَن ابْنِ الْمُبَاركِ أَنَّهُ قَالَ: فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُم وَأَنْفُسِكُمْ وأَلْسِنَتِكُم». رَوَاهُ أَحْمدُ والدَّارَمِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادهُ عَلَى رَسْمِ مُسْلمٍ)
}.
الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين، أمَّا بعد:
فقد ذكر المؤلف هُنا كتاب الجهاد والسِّيَر، والجهاد مَأخوذٌ مِنَ الجَهد الذي هو بذل الوسع والطَّاقة، وأغلب مَا يُطلق عليه: القتال.
وقد يُراد بالجهاد: كل بذل جهدٍ في سبيل الله -عزَّ وَجَلَّ- لنشر الحق وبيانه، وللوقوف في سبيل الباطل، وعدم انتشاره.
المراد بالسِّيَر: جمع سيرة، وهي الطريقة التي يُسار عليها، والمراد هنا: طريقة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- في سيرته مع غير المسلمين في الجهاد.
ثُمَّ أوردَ المؤلف حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهذا الحديث يَدُلُّ على مَشروعية الغزو، وأنَّه مِنَ الأعمالِ الصَّالحة التي يُؤجر العَبد عليها.
وللعلماء في تفسير هذا الحديث ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: أنَّ هذا الحديث خاص بعهد النبوة، كما ذكر المؤلف عن ابن المبارك هنا.
المنهج الثَّاني: أنَّ هذا الخبر عامٌّ في جميع الأزمان، لكنَّه خاصٌّ في الجهاد الذي يكون بالقتال.
المنهج الثَّالث: أنَّ المراد بقوله: «وَلَمْ يَغْزُ» كل مُناصرة لدين الله -جَلَّ وعَلا- فيدخل في ذلك الدَّعوة إلى الله، ويدخل في ذلك نُصح الخلق، وأَمْرهم بالمعروف، ونَهيهم عَن المُنكر.
وقد يُفسرون هذا الخبر بالحديث الذي رواه أنس -رضي الله عنه- حينما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُم وَأَنْفُسِكُمْ وأَلْسِنَتِكُم» ، فَأَمَرَه بالجهادِ بالمال، وذلك بأن يُبذل المال في سُبل الخيرات، وفي الدَّعوة إلى الله، وفي صدِّ أهل الباطل عَن نَشرِ باطلهم.
وهكذا من أنواع الجهاد: الجهاد باللسان، ويكون: بالدعوة، والنصيحة، والإرشاد، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر؛ وبالتالي يكون هذا الخبر مُفسِّرًا للحديث الذي قبله.
ومن ثَمَّ يُعلم أنَّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ الذي وَرَدَت النُّصوص بفضل أصحابه لا يَقتصر على القِتَالِ فقط.
{(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ؟ فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: «هَل لَكَ أَحَدٌ بِاليَمَنِ؟» قَالَ: أَبَوايَ: قَالَ: «أَذِنَا لَكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ -مِنْ رِوَايَةِ دَرَّاجٍ-، وَقَدِ اخْتَلفُوا فِي تَوْثِيقِهِ)
}.
ذكر المؤلف هنا حديث عبد الله بن عمرو عندما (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ؟ فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»)، في هذا الخبر أنواع مِنَ الفَوائدِ الفِقهيَّة، منها:
- أنَّ الجهاد يكون للإمام، وأنَّه لا يَجوز لأفرادِ النَّاس أن يذهبوا إلى الجِهاد بدون أن يكون معهم إمام له سمعٌ وطاعةٌ، وله ولايةٌ، وله تمكُّنٌ مِن الأرضِ، وعندما يجتمع مجموعة ويجعلون واحدًا مِنهم قَائدًا لهم، لا يكون ذلك إِمَامًا بالميزانِ الشَّرعي، وحسب المصطلحات الواردة في الشَّرع، وذلك لأنَّ الإمامَ يكون عنده مِنَ الخِبرةِ والتنظيم، ويكون عنده من الاطلاع على أحوال العدو وأخبارهم ما يكون سببًا مِن أسباب انتصار هؤلاء المؤمنين الذين يُجاهدون في سبيل الله، ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- «وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى» ، ولذلك لابدَّ للنَّاس مِن إمامٍ مِن أَجلِ أن تُحيا هذه الفريضة الإسلامية.
- وفي هذا الخبر لما قال: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، فيه استئذان الأبوين في الجهاد الذي يكون من فُروض الكفايات.
- قوله: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»، فيه دلالة على أنَّ اسم الجهاد لا يَقتصر على القتال كما يَظنه بعضهم، فقد أطلق النبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- هذه الكلمة على عَددٍ من الأعمال الصَّالحة التي يؤديها النَّاس بأموالهم أو أنفسهم، أو ألسنتهم.
وذكر المؤلف بعده حديث أبي سعيد الخدري بحديث مِن رِواية درَّاج بن أبي السَّمح بن سمعان، وهذا قد تكلم فيه كثير من أهل العلم، فقد ضَعَّفَه الإمام أحمد والنَّسائي، وجماعة مِن أَهلِ العِلم، ولذلك فأكثر أهل الحديث يُضعِّفونَ هذا الخبر.
قال: (أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: «هَل لَكَ أَحَدٌ بِاليَمَنِ؟» قَالَ: أَبَوايَ: قَالَ: «أَذِنَا لَكَ؟»)، يعني: بالهجرة. قَالَ: لَا، قَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَ»
{(وَعَنْ قَيْسِ بنِ أَبي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُم بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِم الْقَتْلُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَ لَهُم بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: «أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ ظَهْرَانَي الْمُشْرِكِيْنَ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللِه وَلِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مُرْسلًا، وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ البُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ)}.
قيس بن حازم تابعي، وليس مِنَ الصَّحابة، وقد جاء إلى المدينة وهم يَقبرون النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، ولذا فهو مِنَ المُخضرمين الذين أدركوا الإسلام والجاهلية.
وهذا الحديث رواه بعضهم من حديث قيس بن حازم عن جَرير، (أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- بعثَ)، فيكون حينئذٍ حديثًا مُتَّصلًا، بينما رواه آخرون من حديث قيس بن حازم (أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- بعثَ سريَّة)، فيكون مرسلًا؛ لأنَّ قيس بن حازم ليس مِن الصَّحابة.
وبالتالي رَجَّحَ كثيرٌ مِن أَهلِ العِلم الرِّواية المرسلة كما ذكره المؤلف عن البخاري والدارقطني -رحمهما الله تعالى.
قال: (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ)، السَّرية: قطعة الجيش، وقيل لها ذلك؛ لأنها تمشي بالليل وتختبئ، بخلاف الجيش فإنه يكون ظَاهرًا مَعلومًا.
قوله: (إِلَى خَثْعَمَ)، خثعم: قبيلة من قبائل العرب، لازال بعض أفرادها موجودًا.
قال: (فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُم بِالسُّجُودِ)، أي: أنهم سجدوا ليُظهروا أنَّهم مِن أهلِ الإسلام.
قال: (فَأَسْرَعَ فِيهِم الْقَتْلُ)، أي: قُتل منهم جماعة مِن أَجل أنهم لم يثقوا في سجودهم هذا؛ هل هو لله -جلَّ وعَلا؟ وهل هو دليل على إسلامهم أو لا؟
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَ لَهُم بِنِصْفِ الْعَقْلِ)، يعني: أَمَرَ أن يُعطوا الدِّية.
وَقَالَ: «أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ ظَهْرَانَي الْمُشْرِكِيْنَ»، فيه دليل لتحريم البقاء في ديار غَيرِ المسلمين.
والذين يُقيمون في دِيَارِ غَيرِ المُسلمين على أربعة أصناف:
- صنفٌ عاجزٌ عن الهجرة ولا يستطيعها، فهؤلاء لا يؤاخذون، ولا يَلْحَقُهم شَيء مِنَ الحَرَج.
- وصنفٌ قادرٌ على إظهارِ شَعَائرِ الله، وقادر على الالتزام بأحكام شريعة الإسلام الظاهرة؛ فجماهير أهل العلم على أنَّهم لا يجبُ عليهم الهجرة.
- وصنف قادرٌ على الهجرة، وغير قادر على إظهار شعائر الإسلام، فهذا يجب عليه أن يُهاجر.
- وصنف إنَّما ذَهَبَ لحاجة عارضة من سفارة أو علاج، أو نحو ذلك، يريد أن يَقْضِي حاجته فيعود.
وهذه الأحوال مذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلً﴾ [النساء:97-98]، فاستثنى هؤلاء الضعفاء.
وفي أول الآية قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾، فهذه إشارة إلى الصِّنفِ الذي لم يُظهر شعائر الإسلام، وفيه دليلٌ على أنَّ مَن أَظهَرَ شَعَائِر الإسلام فلم يَظلم نفسه، وبالتالي لا يدخل في هذه الآية.
{(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبي عَاصِمٍ: «الشَّهَادَةُ تُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ، وَالْغَرَقُ يُكَفِّرُ ذَلِكَ كُلَّهُ» وَفِي رُوَاتِهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ)}.
قوله: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ»، يعني: الشهادة.
قوله: «يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ»، يعني: مِنَ الذُّنوبِ والمعَاصي؛ لأنَّه بَذَلَ نفسه، وَبَذَلَ وقته في سبيل الله -جلَّ وعَلا.
قال: «إِلَّا الدَّيْنَ»، فالدَّين حَقٌ مِن حُقوق الآدميين، ويبقى حتى يتمَّ أداء له، أو إبراء من صاحب الدين.
وقال كثير من أهل العلم: إنَّ الدَّيْنَ يشمل جميع حقوق الآدميين كالنَّفَقَاتِ، وكذلك قيَم المتلفات، ونحو ذلك، فإنَّها لابد أن يُقتص فيها يوم القيامة، ومثله الاعتداء على المسلمين في بَدنٍ أو في غيره من أنواع الحقوق.
وأمَّا الرِّواية التي أشار إليها المؤلف بقوله: «الشَّهَادَةُ تُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ، وَالْغَرَقُ يُكَفِّرُ ذَلِكَ كُلَّهُ»، فهذا لم يثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- بل هو ضعيف جدًّا لا يتقوى بغيره، ففيه رجلٌ يُقال له عبد العزيز بن يحيى مجهول الحال، وبالتالي لا يُقوى بروايته.
{(وَعَن الْبَراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لـمَّا نَزَلَتْ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ﴾ [النساء:95] دَعَا رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا، فَجَاءَهُ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (لـمَّا نَزَلَتْ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ﴾ [النساء:95])، لم يَنْزل مَعَهَا في أَوَّلِ أَمر ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾.
قوله: (دَعَا رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا، فَجَاءَهُ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَ)، فكانوا يكتوبون الآيات القرآنية على الكتف، فجميع الآيات القرآنية كانت تُكتب في عهد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، والجمع إنما هو جمع لما كان مَكتوبًا في هذه الوسائل المتنوعة، فجُمعَت ووُضعَت في مُصحفٍ واحدٍ، وقد كانوا يحفظون القُرآن، ويحفظون نسقه وترتيبه.
قال: (فَكَتَبَهَ)، أي: كتب الآية.
قال: (وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ)، جاء ابن أم مكتوم يَشْتكِي أنَّه أعمى ولا يستطيع القتال والجهاد وهو يريد المرتبة العليا.
قال: ( فَنَزَلَتْ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾)، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الأَعْمَى لا يَجِبُ عليه القِتال، وَكُلُّ مَن كَانَ يُماثل الأعمى في حَاله ولا يَستطيع قِتالًا؛ فإنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- قد أَسْقَط عنه الجهاد، ولم يَجعل مَنزلته قَاصرة، وفي هذا دلالة على أنَّ مَن أَرَادَ العمل الصَّالح وَرَغِبَ فيه وبذل أسبابه، لكنَّه عَجَزَ عن الإتيان به لأمر خارجٍ عنه؛ فإنَّه لا تُنْقَص درجته، بل يُكتب له أَجْر ذَلكَ العمل.

{قال المؤلف: (وَعَن ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَنِي الـمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الماءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى سَبْيَهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَ: وحَدَّثَنِي هَذَا الحَدِيثَ عبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قول ابن عون: ( كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ)، المراد به: الدَّعوة إلى الإسلام، هل هي واجبة أو ليست بواجبة؟.
أولًا: لابد أن يُبحَث في الأمر الذي من أجله شُرع القتال:
فقال طائفة: إنَّه من أجل الكف، وهذا قول ضعيف؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- أقرَّ أهل الكتاب في ديار الإسلام ممن يُسمون أهل الذِّمة؛ ولأنَّه -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- كان يأمر بترك قتال النِّساء والصِّبيان والرُّهبان وَمَنْ مَاثلهم مع أنَّهم كُفَّار.
وقال طائفة: إنَّ المعنى في ذلك هو قتالهم لأهل الإسلام، وقد يستدلون بما ورد في النُّصوص أنَّه عَلَّق القِتَال بمثل ذلك.
وقال طائفة: إنَّ الجِهَاد مَشروعٌ لإزالة القُوة البَّاطلة التي تمنعُ النَّاس مِنَ الدُّخولِ في دين الإسلام، وتصدهم عنه.
قال: (فَكَتَبَ إِلَيَّ)، يعني: أن نافعًا -رحمه الله- كتب إلى ابن عون (إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ)، أي: لما كان الناس يجهلون دين الإسلام، ولا يعرفونه.
ثُمَّ قال نافع: (قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَنِي الـمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ)، أي: وهم غير منتبهين وغافلين.
قال: (وأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الماءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى سَبْيَهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ). قال نافع: (وحَدَّثَنِي هَذَا الحَدِيثَ عبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ).
{(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- إِذا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، أُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيْدًا، وَإِذا لَقِيْتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، ثُمَّ ادْعُهُم إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِم إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُم إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا للمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِم مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأخْبِرْهُم أَنَّهُم يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِيْنَ: يَجْرِي عَلَيْهِم حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ والفَيءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُم أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، فَإِنْ هُمْ أَبَوا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَل ْلَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ ولَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُم إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُم وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُم عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهم أَمْ لَ» قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ- هَذَا أَو نَحوهُ. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قوله هنا: (قال بريدة:كانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- إِذا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوى اللهِ)، الجيش ظاهر، والسريَّة خفية، والجيش الأصل، والسرية جزء منه.
وفي هذا:
- أنَّ أَمْرَ الجهادِ إلى الإمامِ وليس لأفراد النَّاس.
- وأنَّ الإمام يختار مَن يكون صَالحًا للولاية، ومِن ذلك إِمرَة الجيش.
- الوصاية بتقوى الله -جلَّ وعَلا- بحيث يُؤمر النَّاس أن يتقوا الله -جلَّ وعَلا.
- دلالةٌ على التزام الجيش -وخصوصًا قادته- بأوامر الله -عزَّ وَجَلَّ- وبشرعه؛ لأنَّ هذا من أسباب رضا الله، ومن أسباب انتصار أهل الإسلام، ولذا قال: (أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوى اللهِ).
قوله: (وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمينَ خَيْرً)، فيه وصية أمير الجيش والولاة في الأقاليم على أن يُحسنوا إلى النَّاس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، بما لا يكون فيه سَلب حقوق آخرين.
ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِسْمِ اللهِ»، يعني: مُستعينين بالله -جلَّ وعَلا- فإنَّ النَّصر إِنَّما يكون مِنَ الله، ولا يمكن أن يَسْتَجلِبَ الإنسانُ خيرًا إِلَّا إِذَا كان ذلك مِن عِندِ رَبِّ العِزَّة والجلال.
وقوله: «فِي سَبِيلِ اللهِ»، أي: مخلصين في نيَّاتكم، تريدون بذلك إعلاء كلمة الله.
قال: «قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ»، وهذا دليلٌ لِمَن يَرَى أنَّ العِلَّة هي الكفر.
ثم قال: «أُغْزُوا وَلَا تَغُلُّو»، يعني: لا تأخذوا من المغنم شيئًا لم يؤذن لكم فيه، فالغلول: هو الخيانة في أخذ الأموال من المغانم.
قال: «وَلَا تَغْدِرُو»، أي: لا تخونوا في العهود التي تعقدونهاعلى أنفسكم.
قال: «وَلَا تَمْثُلُو»، يعني: لا تقوموا بتقطيع أعدائكم بعد قتالكم لهم.
قال: «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيْدً»، أي: صغيرًا في السِّنِّ، وذلك لأن مثله لا يُقاتِل.
قال: «وَإِذا لَقِيْتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ»، أي: قبل أن تقاتلهم تدعوهم إلى ثلاث خصال، وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ القتال ليس هو المقصود من الجهاد، وإنما المراد به مَعانٍ وأهدافٌ أسمى من ذلك، ومن ذلك أن يقع السِلم بين النَّاس، وأن يَأمَن بعضهم مِن بعض، وأن لا يُصدى النَّاس عن الاستجابة لدعوة الحق.
قال: «فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم»، أي: إحدى هذه الخصال الثلاث إذا أجابوك فيها فكفَّ عنهم.
قال: «ثُمَّ ادْعُهُم إِلَى الْإِسْلَامِ»، وذلك بأن يدخلوا في دين الله -جلَّ وعَلا.
قال: «فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم»، يعني: اقبل مِنهم ظَاهر حالهم وَكُفَّ عَنْهُم.
قال: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِم إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرينَ»، ليكونوا مع المسلمين في بلدانهم.
قال: «وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُم إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ»، أي: الهجرة.
قال: «فَلَهُمْ مَا للمُهَاجِرِينَ»، يعني: لهم ما للمهاجرين مما يُعطَون من مالٍ ومما يُراعى من أحولهم ويُقام على ما يخدمهم.
قال: «وَعَلَيْهِم مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ»، من جهة نُصرة إخوانهم والجهاد في سبيل الله، وإطعام الضيف، ونحو ذلك.
قال: «فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَ»، يعني: إن رفضوا أن ينتقلوا من ديارهم لديار المهاجرين.
قال: «فَأخْبِرْهُم أَنَّهُم يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِيْنَ»، يعني: كالبادية الذين لا يَستقرون في مكان، ويسكنون في الصحراء يتنقلون فيها.
قال: «يَجْرِي عَلَيْهِم حُكْمُ اللهِ»، أي: شريعته وقضاؤه.
قال: «الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ والفَيءِ شَيْءٌ»؛ لأنهم لم يأتوا في ديار المهاجرين
قال: «إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ»، فيكون لهم نصيب الأسهم التي تكون للمقاتلين في الجهاد.
قال: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْ»، أي: لم يُطيعوك في الدخول في دين الإسلام.
قال: «فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ»، بحيث يُعطون مالًا لأهل الإسلام. وفيه دلالة لمذهب الإمام مالك في أن الجزية لا تقتصر على أهل الكتاب والمجوس، فإن الجمهور يقولون: لا يقرُّ في ديار الإسلام إلا مجوسي أو كتابي، والإمام مالك يقول: إنه يُقرُّ في ديار الإسلام وتؤخذ الجزية من كل كافرٍ مهما كانت ديانته. وحديث الباب يدل لمذهب الإمام مالك -رحمه الله تعالى.
قال: «فَإِنْ هُم أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، فَإِنْ هُمْ أَبَوا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ»، أي: اطلب من ربِّ العزة والجلال أن يُعينك، وأن يكون معك، وأن يقويك، وأن ينصرك؛ وقاتلهم.
قال: «وَإِذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ»، يعني: أرادوا أن يكون هناك صُلح بينك وبينهم، وطلبوا منك أن تجعل لهم ذِمَّة الله وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ.
قال: «فَلَا تَجْعَل ْلَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ ولَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُم إِنْ تُخْفِرُو»، أي: إن يكن منكم نقض لهذا العهد والميثاق، ثم قال: «فَإِنَّكُم إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُم وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ».
ثم قال: «وَإِذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُم عَلَى حُكْمِ اللهِ»، هذا فيه دلالة على أنَّ حكم الله في المسائل واحد، وأنَّ المُصيب فيها واحد، فمن أصاب حُكم الله فهو المصيب، ومَن أخطأ حُكم الله فهو المخطئ، وبذلك قال الجماهير خلافًا للأشاعرة الذين يقولون: إنَّ حُكْمَ الله تابع لاجتهادات المجتهدين، وهو قول خاطئ يَرده هذ الحديث، وأحاديث وآيات أخر.
قال: «فَلَا تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهم أَمْ لَ».
{(وَعَنْ كَعْبِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ إِذا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرهَا.
وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: «الحَرْبُ خَدْعَةٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَ)
}.
حديث كعب بن مالك هو حديث توبته المشهور بعد غزوة تبوك، قال: (أَنَّهُ كَانَ إِذا أَرَادَ غَزْوَةً)، أي: إذا أراد أن يغزو مكانًا من الأمكنة.
قال: (وَرَّى بِغَيْرهَ)، أي: أظهر للناس أنه سيغزو بلدًا آخرًا غير البلد الذي يَقصده، والمراد من ذلك: أَلَّا يتمكن الأعداء مِنَ التَّجهُّزِ له، وهذا فيه بيان أنَّ الإنسانَ ينبغي له أن يُخطِّطَ لأموره، وأن يفعل من الأسباب ما يُؤدي إلى نجاحه، وأنه قد يُظهر ما لا يُبطنه بما لا يكون فيه كاذبًا، فإنه قال: (وَرَّى بِغَيْرهَ)، ولم يقل: "تحدَّثَ، أو تكلَّم بأنه يريد أن يغزو غيرها"،
ورَّى: كأنه ألقى الشيء وراء ظهره، وبالتالي فيه جواز التورية، وفيه أنه ينبغي أن تكون الغزوات إلى الإمام، وهو الذي يُقررها.
ثُمَّ أَورَدَ المؤلف حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قال: «الحَرْبُ خَدْعَةٌ»، والحرب يعني: القتال.
خَدْعَةٌ: يعني: إنَّها أمور تنتهي بخفاء واحدٍ، وينقضي أمرها بخَدعةٍ واحدةٍ.
بخلاف كلمة "خُدعَة" فإنَّ المراد بها: الأمر المستمر الذي لا يَنقضي، وهو مأخوذٌ من "الخِداع".
{(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، يَنْتَظِرُ حَتَّى إِذا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهِم، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ، تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ»، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِم». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ.
وَعَنْ قَيْسِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ.
وَعَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- بِمثْلِ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَ)
}.
قوله: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، يَنْتَظِرُ)، أي: لا يُقاتلهم من أول النهار، بل ينتظر حتى تزول الشمس، وذلك لأن المسلمين حينئذٍ ينتظرون ويدعون، فيكون هذا من أسباب انتصارهم.
قال: (حَتَّى إِذا مَالَتِ الشَّمْسُ)، يعني: مع الزوال -الظهر.
قال: (قَامَ فِيهِم)، أي: خطب في أصحابه المقاتلين، وفيه مشروعية الخطبة الحماسيَّة، ومشروعيَّة تعليم المقاتلين لأحكام القتال والجهاد.
فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ»، فيه أنَّ الشَّرع لا يتطلع إلى القتال، ويرغب أن ينتشر دين الله بالسِّلم.
قال: «وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ»، أي: أن يُعافيكم من القتال.
قال: «فَإِذا لَقِيْتُمُوْهُمْ»، أي: لقيتم العدو.
قال: «فَاصْبِرُو»، فيه مشروعية الصبر عند القتال.
قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ، تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ»، فيه فضيلة القتال والمقاتلين، ولكنهم لا يتمنونه ابتداءً -كما تقدم.
وفي الحديث: مشروعية دعاء رب العزة والجلال قبل القتال.
قال -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِم»، فيه أنَّ النَّصر ليس بسبب قوة أو عتادٍ أو تخطيط، وإنما هو مِنحة مِن رَبِّ العِزَّةِ والجلال، وإن كانت هذه الأسباب يؤمر بها شرعًا، فيؤمر بإعداد القوة، وبالتخطيط والترتيب، لكن النصر ليس قائمًا عليها، إنما هي من بذل الأسباب.
ثُمَّ أَورَدَ المؤلف مِن حَديث قَيْسِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ)، يعني: يكرهون رفع الصوت عند القتال؛ لأنَّ هذا يُشعر بأنهم قد فشلوا، وقد اضطربوا وأنَّ قُلوبهم خائفة، بخلاف صمت الإنسان، فإنَّه دليلٌ على ثباته وقوته.
وهناك ألفظ يستخدمها الصَّحابة فيما بينهم مِن أَجل أن يعرف بعضهم بعضًا فلا يقتل بعضهم بعضًا الآخر، فمرة يقولون: "يا منصور" ومرة يقولون: "إياك نعبد وإياك نستعين" من أجل أن يعرف بعضهم بعضًا.

بارك الله فيك، ووفقك الله للخير، وجزاك الله خيرًا، كما أسأله -جلَّ وعَلا- لإخواني المشاهدين الكرام التوفيق لكل خير، وأن يجعلهم ممن رزق العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ.
{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم.
وهذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك