الدرس الحادي عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3605 24
الدرس الحادي عشر

المحرر في الحديث (3)

بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكمُ ورحمةُ اللهِ وبرَكَاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بكم معالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا بكم وسهلًا في هذه الحلقة}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المُشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقني وإيَّاهم عِلمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيَّة خالصة، كما أسأله -جلَّ وعَلا- فهمًا لكتابه ولسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.

{شرعنا في الحلقة الماضية في كتاب الجهاد والسِّيَر، ولعنا نقرأ من عند قول المؤلف -رحمه الله: (وَعَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَمَا أَنا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِيني وشِمالي، فَإِذا أَنا بِغُلامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهما -تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَينَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا- فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَراهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالاَ: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ»، وَكَانَا: مُعَاذَ بنَ عَفْرَاءَ ومُعَاذَ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟» فَانْطَلقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: وَهَلْ فَوقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَومُهُ أَو رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ)
}.
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمُرسلين، أمَّا بعد:
هذه ثلاثة أحاديث تتعلق بغزوة بدر، وغزوة بدر كان لها سبب، أَلا وهُو:
لمَّا كان المسلمون بمكة وأرادوا الهجرة إلى المدينة قام المُشركون، أي: أهل مكة بأخذ أموالهم، واستولوا عليها، حتى قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- لِصُهيب مثلًا: «بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ» ؛ لأنَّه أعطاهم ماله في مُقابل أن يُهاجر.
فلمَّا مرَّت قافلة مِن قَوافل قُريش أرادَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أن يَسترجع الأموال التي أخذتها قريش من خلال أَخْذ ما في هذه القافلة؛ فخرج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا من أصحابه، ليس معهم سلاح كثير، ومعهم فَرَسَان ومعهم سلاح يَسير، فسمع قائد القافلة أبو سفيان بخروج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فعمل أمرين:
أولهما: ترك الطريق المعتاد وذهب إلى جوار السَّاحل.
ثايهما: أرسَلَ رجلًا لِيُنذر قبيلة قريش بما فعل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فجاء وقد جدع أنف ناقته، وشقَّ ثيابه أمامهم، وصاح: يا غوثاه يا غوثاه!
ثُمَّ أخبرهم وطلب منهم أن يذهبوا لمقاتلة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فانتدب لها قرابة الألف رجل من قريش، بمقدار ثلاثة أضعاف أعداد المسلمين، فالتقوا في مكان بدر، وهو يبعد عن المدينة قُرابة المائة كيلًا، واصطفوا هناك، وكان منها ما كان مِن المعركة التي ذُكر منها جزء في هذه الأحاديث.
وعلى الرغم مِن أنَّ عَدد المُشركين وعُددهم وسلاحهم ومراكبهم أضعاف ما لدى المُسلمين إِلَّا أنَّ اللهَ -جَلَّ وعَلا- جعل النَّصر لأهل الإسلام، وقد سأل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ربَّه قبل المعركة أن يَنصره على أعدائه وأن يُمكِّنه منهم فكان النَّصر في لحظاتٍ قليلةٍ.
هذه الأحاديث الثَّلاثة تتكلم على شيءٍ ممَّا وقع في غزوة بدر، عبد الرحمن بن عوف من قبيلة قريش من بني زُهرَة، قال: (بَيْنَمَا أَنا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ)؛ لأنَّهم كانوا في القتل يُصفُّون، فيجعلون صفًّا واحدًا، أو صفوفًا مُتعدِّدة، وفيه مشروعيَّة تنظيم الجيش عند قتال العدو.
قال: (بَيْنَمَا أَنا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِيني وشِمالي)، فيه مَشروعية أن يتفقَّد الإنسان مَن حوله في هذه المعارك.
قال: (فَإِذا أَنا بِغُلامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهما -تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَينَ أَضْلَعَ مِنْهُمَ)، أي: أقوى، نسبة إلى ضلع التي هي عظام الصدر.
قال: (فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَ)، أي: حرَّكني وجعلني ألتفت إليه ليسألني.
قوله: (فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟)، أي: ماذا تُريد مِنه؟
قال: (قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّ)، قيل: السَّواد هو البدن، وقيل: هو الظِّل.
وفي هذا تمني قتل الكافر المستمر على عداوته للإسلام وأهل الإسلام، الذي ليس له عهد ولا أمان، وفي هذا مصالح:
منها: ما يعود إليه بحيث يتوقف وِزْرُه.
ومنها :ما يعود إلى النَّاسِ بحيث لا يُمنعون مِن الدُّخول في دِين الله -جلَّ وعَلا.

قال: (فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لي مِثْلَهَ)، أي: الغلام الآخر غمزني، فحينئذٍ تقوَّى مَا لَدى عبد الرحمن بن عوف من عَزمٍ على القِتال، ولم يلتفت إلى تضعيف مَن حوله.
قال: (فَلَمْ أَنْشَبْ)، أي: لبثتث قليلًا.
قال: (أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ)، وهو أبو الحكم عمرو بن هشام، وكان من أَشَدِّ الرِّجال، وممن لديه قُوَّة.
قال: (يَجُولُ فِي النَّاسِ)، أي: يدور فيهم إمَّا يُحرِّضهم، وإمَّا يَذُود دونهم.
قال: (فَقُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي) فيه جواز الدلالة على المُشرك المُحارب.
قال: (فَابْتَدَراهُ بِسَيْفَيْهِمَ)، أي: بَادَرَاهُ وسارعا إليه حَتَّى قَتَلاهُ.
قال: (ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَأَخْبَرَاهُ)، فيه البِشارة بهلاك العدو الذي يُظنُّ بهلاكه صلاح الأحوال، وحُسنُ العاقبة.
فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟»، أي: مَن الذي قتله منكما أيها الغلامان؟.
قال: (قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ)؛ لأنَّهما قد اشتركا في قتله.
فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟»، ليرى الدَّم.
قال: (قَالاَ: لَ)، أي: لا زال الدَّم على السَّيفين، وفيه العمل بالقرائن؛ لأنَّ هذه قرينة فعمل بها وحكم بناءً عليها.
قال: (فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلاكُمَا قَتَلَهُ»)، أي: كلاكما اشترك في قتله.
ثم قال: «سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ»، أي: مَا عليه من سلاح وثياب ونحو ذلك لِمُعَاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ، كأنَّ الموت حصل بفعله.
قال: (وَكَانَا: مُعَاذَ بنَ عَفْرَاءَ ومُعَاذَ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ).
وفي حديث أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أرسل مَن يَسأل عن أبي جهل، فقال: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟»، وفي هذا مشروعية التَّجسُّسِ على العدو، وتفقُّد أحوالهم لتهيئة النفس لاستقبالهم ولقتالهم.

قال: (فَانْطَلقَ ابْنُ مَسْعُودٍ)، وهو عبد الله بن مسعود الهذلي.
قال: (فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ)، ابن مسعود كان بينه وبين أبي جهل وقفات لمَّا كانا في مكة، وكان يمنعه مِنَ الصَّدعِ بالدَّعوة إلى اللِه -جلَّ وعَلا- فابن مسعود وَجَدَ أَبَا جَهلٍ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، أي: مات، ولم تَعُد أَجزَاؤه وأعضاؤه تتحرك، وإن لم يكن قد مات حقيقة.

قال: (فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟)، أي: قال ابن مسعود لأبي جهل: أنت أبو جهل؟
قَالَ: (وَهَلْ فَوقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَومُهُ)، أي: قال أبو جهل لابن مسعود: فِعلُكَ هذا تفعله فوق رجلٍ قد قتله قومه؟! يعني: آذيتك حال قوَّتك، فليس من المُنَاسِب أن تُواجهني حالَ ضَعفي.
وفي حديث جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، (أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ)، جُبَيْرِ هذا ممن أُسِرَ يومَ بدرٍ.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فِي أُسَارَى بَدْرٍ وكان عددهم سبعين رجلًا، قال: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»، النَّتْنَى: يعني الأسرى، والمعنى: لتركتهم مِن أجله، وما ذاك إِلَّا أنَّ الْمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ كان له أفعال جميلة، وكان له حسنات كثيرة، وكان ممن يذود عن بعض المستضعفين من المسلمين، ولذلك استشعر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ذلك، وفيه ردُّ الجميل، وفيه الثَّناء على الكافر بما فيه، وفيه أنَّ الإمام له حَق المنِّ على الأسرى بدون مقابل، فإنّهَ هنا قد مَنَّ عليهم، وقال: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»، وفي هذا أيضًا مشروعية الشَّفاعة.

{قال -رحمه الله: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: بَعَثَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- سَرِيَّةً وَأَنا فِيهِم، قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهمْ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا- أَو أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله في هذا الحديث: (بَعَثَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- سَرِيَّةً)، السَّريَّة مَأخوذةٌ من الفعل "سَرَى"، والمراد به: السَّير ليلًا، والأصل في لفظة " السَّريَّة " أن تُطلق على المجموعة التي تنفرد من الجيش العام، أو ترسل فِرقة صغيرة بخلاف الغزوة وبخلاف الجيش.
قال ابن عمر: (بَعَثَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- سَرِيَّةً وَأَنا فِيهِم، قِبَلَ نَجْدٍ)، أي: جهة المرتفع مِنَ الأرضِ.
قال: (فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً)، فيه حِلُّ الغَنَائِم.
قال: (فَكَانَتْ سُهْمَانُهمْ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا- أَو أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرً)، السُّهمان: هي ما يُعطى كل أحدٍ منهم.
قال: (وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرً)، النَّفل: هو الأمر الزَّائد عَن الغَنيمة، وذلك أنه إذا كُلِّفت طائفة أو قسم من الجيش لأداء مهمة فإنهم حينئذٍ يُعطَونَ ما يُوازي ما بذلوه، وهنا أعطوه على بعيرٍ بعيرٍ.

{(وَعَنْ سَعيدٍ المقْبُريِّ، عَنْ يزِيدَ بنِ هُرْمُزَ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ بنُ عَامِرٍ الحَرُورِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ العَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ هَلْ يُقْسَمُ لَهُما؟ وَعَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ، وَعَنِ الْيَتِيمِ مَتى يَنْقَطِعُ عَنْهُ الْيُتْمُ؟ وَعَنْ ذَوي الْقُرْبَى: مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ لِيزِيدَ: اكْتُبْ إِلَيْهِ فَلولا أَنْ يَقعَ فِي أُحْمُوقَةٍ مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ، اكْتُبْ: إِنَّكَ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ يحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَل يُقْسَمُ لَهُمَا بِشَيْءٍ؟ وَإنَّهُ لَيْسَ لَهما شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُحْذَيَا، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ: وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمْ يَقْتُلْهُمْ، وَأَنَتَ فَلَا تَقْتُلْهُم إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ مِنْهُم، مَا عَلِمَ صَاحِبُ مُوسَى مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْيَتِيمِ مَتى يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ؟ وَإنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ، وكَتبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ وَإِنَّا زَعَمْنَا أَنَّا هُم فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَومُنَا. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
يزيد بن هرمز من التَّابعين، قال: (كَتَبَ نَجْدَةُ بنُ عَامِرٍ الحَرُورِيُّ) نجدة: مِن رؤوس الخوارج في ذلك الزمان، والحرورية: فرقة ينتسبون إليها.
قال: (كتبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنِ العَبْدِ وَالْمَرْأَةِ)، في هذا مَشروعيَّة تَوجيه سُؤال الفتوى بالكتابة، وأنَّه لا حرج في مثل ذلك متى مَا ميَّزنا مُراد الكاتب.
قال: (يَسْأَلُهُ عَنِ العَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ هَلْ يُقْسَمُ لَهُما؟)، فالعبد والمرأة لم يجب في حقهما القتال، ولا يتحقق بهما وجوب الكفاية، ولذلك لم يُعطيَا مِنَ الغَنيمة أَسهمًا محددة، ولكن يُفرض لهما من بيت المال ما يرى أنَّه يُوازي أعمالهم.
قال: (وَعَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ)، أي: إذا كان للعدو أولاد فهل نقتلهم أو لا نقتلهم؟
قال: (وَعَنِ الْيَتِيمِ مَتى يَنْقَطِعُ عَنْهُ الْيُتْمُ؟)، أي: متى يزول عنه هذا الحكم؟.
قال: (وَعَنْ ذَوي الْقُرْبَى: مَنْ هُمْ؟)، أي: الذين لهم نَصيب مِنَ المَغنَم وَنَصيبٌ مِنَ الفَيء، ليس نصيبهم في جميع أموال بيت المال، إنما في المغنم وفي الفيء.
فَقَالَ لِيزِيدَ: (اكْتُبْ إِلَيْهِ)، أي: قال ابن عباس ليزيد بن هرمز اكتب إلى نجدة الحروري.
قال: (فَلولا أَنْ يَقعَ فِي أُحْمُوقَةٍ)، يعني: أخشى أَلَّا أُبيِّنَ له العِلم فيقع في مسألة يترتب عليها عَواقب سيئة.
قال: (اكْتُبْ: إِنَّكَ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ يحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَل يُقْسَمُ لَهُمَا بِشَيْءٍ؟ وَإنَّهُ لَيْسَ لَهما شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُحْذَيَ)، يعني: يُعطَون بعطاء رضخ مِن بَيت المال، بدون أن يكون لهم سهم محدد.
قال: (وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ)، يعني: هل يُقتلون في المعركة والحرب؟
قال: (وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمْ يَقْتُلْهُمْ، وَأَنَتَ فَلَا تَقْتُلْهُم إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ مِنْهُم مَا عَلِمَ صَاحِبُ مُوسَى مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ)، الخضر صاحب موسى علم أنَّ ذلك الغلام لن يَدخل في دين الله -عز وجل- ولن يُؤمن، وبالتَّالي يقول: إذا علمتَ مِن وَلدٍ أنَّه لَن يُؤمن كما عَلِمَ الخضر مِن ذَلك الغُلام؛ فحينئذٍ لك أن تقلته.
والاستثناء هنا في قوله: (إِلَّ)، قيل: إنَّه استثناء الإثبات مِنَ النَّفي.
وهل هذا يكون على سبيل الاستحباب أو الندب أو الوجوب؟
الأظهر أنَّه على سَبيل الوُجُوب.

قال: (فَلَا تَقْتُلْهُم إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ مِنْهُم مَا عَلِمَ صَاحِبُ مُوسَى مِنَ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ)، فإذا لم نعلم وَجَبَ علينا أَن نَكفَّ عَن قَتْلهم.
قال: (وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْيَتِيمِ مَتى يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ؟ وَإنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ).
قال الإمام أبو حنيفة: إنَّ الغُلام لا يُحكم برشده لمجرد بُلوغه، بل لابد أن يكون عِنده رُشدٌ في التَّصرُّف.
والجمهور يقولون: الأصل أنَّ مَن بَلَغَ فَقد بَلَغ عَاقلًا.

قال: (وكَتبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ وَإِنَّا زَعَمْنَا أَنَّا هُم فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَومُنَ)، رواه مسلم.
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَو رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَ»)}.
- الغدوة: الذَّهاب في أولِ النَّهار.
- الرَّوحة: الذَّهاب في آَخِرِ النَّهار.
قال: «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَ»، يعني: القتال في سبيل الله خير من الدُّنيا وما فيها.

{(وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «إِذا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ والآخِرينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِه غَدْرَةُ فلَانِ بنِ فُلَانٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَ)}.
قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «إِذا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ والآخِرينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وذلك في العَرصات يوم الحشر.
قال: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ»، مِن أَجل أَن يُفضح بين النَّاس، فالغَادِر مَنْ غَدَرَ في أَمانةٍ أو نحو ذلك.
اللواء: هو العَلم والشِّعار.
قال: «فَقِيلَ: هَذِه غَدْرَةُ فلَانِ بنِ فُلَانٍ»، فيُسمَّى باسمه أمام النَّاس مِن أَجْلِ أَن يُفتضح في ذلك اليوم، وهذا الحديث متفق عليه.

{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ، ثُمَّ قَالَ للقَاعِدِ: «أَيُّكُم خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ، كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قوله هنا: (بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ) بنو لَحْيَانَ أسلموا ودخلوا في دين الله، فحينئذٍ طلب مِنهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مَن يُعاونه على القتال، فقال: «لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ» إذا كان في البيت رَجلان يَبقى واحد عند أهل البيت والثَّاني يخرج للقتال.
ثُمَّ قَالَ للقَاعِدِ: «أَيُّكُم»، "أيُّ": هنا أداة شرط، يعني إذا وُجد أحد منكم «خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ» أي: قام في أهله ورعى حوائجهم.
قال: «كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ»، الخارج: الذي ذهب إلى القتال، فيكون مَن خَلَفَه في أهله له مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ.

{(وَعَنْ أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِيْ سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ -فَتْحِ مَكَّةَ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُو». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَ)
}.
في حديث أبي موسى دلالة على تصحيح النِّيَّة، بحيث يُقاتل الإنسان ولا يريد إِلَّا إرضاء الله والأجر الأُخروي.
قال: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً)، أي: الدَّافع الذي دفعه للقتال هو شجاعته، وقوَّة بأسه، فهذا ليس في سبيل الله، ما خرج لله، خرج مِن أجل الشَّجاعة التي لديه.
قال: (وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً)، أي: الرجل يُقاتل من أجل قبيلته وقرابته وليس لله، فهذا ليس في سبيل الله.
قال: (وَيُقَاتِلُ رِيَاءً)، أي: يوجد آخرون يُقاتِلون على سبيل الرياء والسمعة وطلب ثناء الخلق
ثم قال: (أَيُّ ذَلِكَ فِيْ سَبِيلِ اللهِ؟)، أي: في هذه الأغراض السَّابقة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»، أي: قاتل ليكون دين الله وأوامر الله -عَزَّ وَجَلَّ- هي العُليا، فإنَّه يكون قد قاتل وجاهد جهادًا شرعيًّا.

ثم أورد حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: (قَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ -فَتْحِ مَكَّةَ)، وهذا كان في السَّنة الثَّامنة، فكان فتح مكة في رمضان مِنَ السَّنَةِ الثَّامنة.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «لَا هِجْرَةَ»، يعني: لا يُشرع للنَّاس أن يُهاجروا بعد أن سلَّمت مكَّة، وأصبحت دار إسلام، وأصبح أهلها من أهل الإسلام، فلا تُشرع الهجرة منها.
قال: «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، أي: مُجاهدةٌ للعَدو، وَمُجَاهدةٌ للنَّفسِ، ونيةٌ للتَّقَرب إلى الله -جلَّ وعَلا.
قال: «وَإِذا اسْتُنْفِرْتُم»، أي: إِذَا طَلَبَ مِنكُم صَاحِبُ الوِلاية أن تُقَاتِلوا العَدو وأن تنفروا إليهم، فإنَّه يجب حينئذٍ أن تنفروا إليهم.

{(وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ السَّعْدِيِّ -رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَالكِ بنِ حَسَلٍ: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا لَهُ: احْفَظْ رِحَالَنا، ثُمَّ تَدْخُلُ -وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ- فَقَضَى لَهُم حَاجَتَهُم، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ فَقَالَ: «حَاجَتُكَ؟» قَالَ: حَاجَتي تُحَدِّثُنِي أَنْقَضَتِ الْهِجْرَةُ؟ فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «حَاجَتُكَ خَيْرٌ مِنْ حَوَائِجِهِم، لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ)}.
قوله في هذا الحديث: (عن رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَالكِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ)، فيه مشروعية الرحلة لطلب العلم، وأخذ جواب الفتوى..
قال: (فَقَالُوا لَهُ)، أي: قالوا لهذا الرجل الذي من بني مالك (احْفَظْ رِحَالَن)، أي: لا تذهب معنا إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وابقَ عند الرِّحال
قوله: (ثُمَّ تَدْخُلُ)، يعني: بعد أن نعود إليك تدخل، وكان هذا الرجل من بني مالك هو أصغر القوم في سنِّه.
قال: (فَقَضَى لَهُم حَاجَتَهُم)، أي: أعطاهم كل ما يطلبونه.
ثُمَّ قَالُوا لَهُ: (ادْخُلْ، فَدَخَلَ فَقَالَ: «حَاجَتُكَ؟»)، لما عاد وجاء إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أدخله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وقال: أعطني حَاجَتُكَ.
قَالَ: (حَاجَتي تُحَدِّثُنِي أَنْقَضَتِ الْهِجْرَةُ؟)، أي: أنا أتيت لطلب العلم والأخذ بالحُكمِ الشَّرعي.
فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «حَاجَتُكَ خَيْرٌ مِنْ حَوَائِجِهِم، لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ»، هذا الحديث رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين الحديثين؟ في الحديث الأول قال: «لَا هِجْرَةَ» وهنا يقول: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ»؟
فنقول: حديث «لَا هِجْرَةَ» أي: من مكة؛ لأنَّها أصبحت دار إسلام،أمَّا الهجرة مِن غيرِ مَكة فلا بأس بها، ولا تدخل في هذا الخبر، ولذا قال: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ»، ونسب الراوي الحديث للإِمَامُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ.

{(وَعَنْ أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «فُكُّوا العَانِي- أَي: الْأَسِيْرَ- وأَطْعِمُوا الجائِعَ، وعُودُوا الْمَرِيضَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
في هذا الحديث: الترغيب في هذه الخصال، قال: «فُكُّوا العَانِي، أَي: الْأَسِيْرَ»، فَكُّه يكون بإطلاقه، سواء بالقوة أو بالمال.
قال: «وأَطْعِمُوا الجائِعَ»، أي: سُدُّوا جوعتَه، واملئوا بطنه.
قال: «وعُودُوا الْمَرِيضَ»، أي: زُورُوه مرَّةً بعد أُخرى بما لا يَضر به.

{(وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أَنَا وَالزُّبَيْرَ والمِقْدَادَ، فَقَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، مَعهَا كِتابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَ»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ قُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَو لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِها، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَإِذا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بنِ أَبي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، يُخْبِرهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَعْجَلْ عَليَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ -يَقُولُ: كُنْتُ حَلِيفًا- وَلم أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرينَ لَهُم بِهَا قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ يَعْني أَهَالِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِم أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِها قَرَابَتي، وَلم أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِيْنِي وَلَا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُم» فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم». فَأَنْزلَ اللهُ: ﴿يَا أَيهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّيْ وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيْلِ﴾. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
هذا الحديث حديث عظيم، وهو يتعلق بواقعة قبل فتح مكة، وذلك أنَّه في صُلْحِ الحديبية اتَّفق المسلمون بقيادة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مع المشركين، وكان مُقدَّمهم سهيل بن عمرو، وكان هذا بين فتح مكة وصُلح الحُديبية، وكان من بنود الصُّلح لمَّا عقدوه التالي:
- أنَّ مَن أراد أن يَدْخُلَ في حِلف النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- دَخَلَ؛ فدخلت خزاعة.
- وأنَّ مَن أَرَادَ أن يَدْخُلَ في حِلف قُريشٍ فَلَه ذلك؛ فَدَخَلَتْ بنو بكر.
فحصلت معركة بين بني خُزاعة وبني بَكر، فأمدَّت قريشٌ بَكْرًا بالسِّلاح وبعض الرِّجال، وهذا يُعتبر نقضٌ للعهدِ ولصلح الحُديبية، فبدأ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يُجيِّش المسلمين ويُهيِّئهم، وفي هذه الأثناء قام حاطب بن أبي بلتعة فكتب إلى أهل مكة كتابًا يُخبرهم بِقُدُوم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وهذا فيه مُعارضة للخطة التي كان يَعقدها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وأعطاها لامرأتين ستذهبان إلى مكة، إحداهما: يُقال لها سَارة، وهي التي جرى عليها الحديث.

جاء الوحي إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فأخبره بكتاب حاطب، وهنا يبتدئ الحديث، فعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أَنَا وَالزُّبَيْرَ والمِقْدَادَ، فَقَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً»)، الظعينة: هي المرأة، ظَعَنَ بمعنى: أقام وارتحل.
قال: (قال: «مَعهَا كِتابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَ»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَ)، أي: تُسرع حتى يسبق بعضها بعضًا.
قال: (حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ) فلمَّا وَصَلنا إِلى روضة خاخ فإذا نحن بالمرأة التي معها الكتاب.
قال: (قُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ)، فيه: إمساك الأسرى واستنطاقهم.
قوله: (فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَو لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ)، هُم يجزمون بأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أخبر أنَّ معها كتاب، وبالتالي يُصدقون بذلك.
قَالَ: (فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِه)، العقاص: ما يعملونه مِن الضَّفائر في الرَّأسِ، وأصل هذه الضَّفائر يُقال له: العقاص، ومعناه أنها أخفته في مكان خفي.

قال علي: (فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ)، أتوه بالكتاب، فما فتحوا وما تصرفوا فيه بشيء.
فلمَّا فتحوه عند النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَإِذا فِيهِ: (مِنْ حَاطِبِ بنِ أَبي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ)، يُخاطب أناسًا مشركين بمكة، ويُعلمهم أنَّ رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- سيغزو مكة، ويُعلمهم بأحوال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ومَن معه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟»، يعني: استدعاه وسأله: ما هذا الكتاب؟.
قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَعْجَلْ عَليَّ)، فيه جواز أن يُطلق هذا اللفظ وأنَّه لا حرج فيه حتى في مَقام النُّبوة، وإِلَّا لَأَنْكَرَ عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
قال: (إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ)، أي: تحالفت مع قريش فدخلت في القبيلة، وإِلَّا فأنا لستُ من قريش.
قال: (وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرينَ)، يعني: جميع الصَّحابة الذين خرجوا من مكة.
قال: (لَهُم بِهَا قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ يَعْني: أَهَالِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)، يعني: بقي لهم قرابات، وهذه القرابات ستكون بحماية أهليهم مِنَ الوِلدان والنِّساء، وإذا كان هناك أموال تحتاج إلى الترتيب والتهيئة فإنها تقوم بذلك.
قال: (فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ)، وهو وجود القرابة مِنَ النَّسَبِ فِيهِم.
قال: (أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِها قَرَابَتي)، يعني: يصير لي فضل عليهم، وبالتالي يحمون لي قرابتي لو جاءهم شيء.
قال: (وَلم أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِيْنِي وَلَا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُم»)، أي: صَدَقَكُم فيما ذكره من العذر، وفيه أنَّ الصدق مَنجاة، وأنَّ مَن دخل باب الصدق أنجاه الله -عز وجل.
فَقَالَ عُمَرُ: (يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ)، منافق؛ لأنَّه أفشى بأسرار المسلمين للعدو، وهذه خيانة عُظمى.
فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عن حاطب: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرً»، وهذه مَزيَّة عظيمة.
قال: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم»؛ لأنَّ شُهود هذه المعركة فيه أجرٌ عظيمٌ وثوابٌ جزيل.
قال: (فَأَنْزلَ اللهُ السُّورَةَ: ﴿يَا أَيهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّيْ وَعَدُوَكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيْلِ﴾)، وفي هذا النَّهي عن اتخاذ الأعداء أولياء.
وهذا حديث عظيم فيه فوائد كبيرة ومعانٍ عظيمة ينبغي بالإنسان أن يتفكر فيها.

أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم مِنَ الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يُصلح أحوال المسلمين، وأن يَرُدَّهُم إلى دينه القَويم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك