الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ عبدالله بن حسن الحارثي

إحصائية السلسلة

19293 15
الدرس الخامس عشر

الآجرومية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم أيها المشاهدون المباركون في هذه الحلقة الختاميَّة للمراجعة لمتن الآجرومية للإمام محمد بن آجروم -رحمه الله تعالى- يصطحبنا بهذا فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن الحارثي، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ حياكم الله يا شيخ}.
أهلًا وسهلًا ومرحبًا، حياكم الله.
{الله يبارك فيك، شيخنا المبارك بعد ما أكرمنا الله المولى -تبارك وتعالى- بإنهاء متن الآجرومية، نبدأ بسؤال استفتاحي: ما الذي دعا النحاة إلى وضع قواعد النحو؟}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وبعد، في بداية هذه الحلقة أولًا نشكر الله -تبارك وتعالى- الذي هيأ مثل هذه اللقاءات ويسرها -عز وجل- بحوله وقوته وفضله، وكما بدأنا بشكره ختمنا بشكره، وكذلك الشكر موصول لـ (جمعية هداة) الخيرية لتعليم العلوم الشرعية على هذه الاستضافة، والحرص في طلب العلم ونشره بين المسلمين، وأيضًا كونهم يقصدون شيئًا من العلوم العربية، هو كالإشارة والتنبيه على أنَّ طالب العلم لا بد من أن يبدأ بشيء من هذه العلوم التي تنبني على غيرها من العلوم، فهذا لا شك أنه مقصد شريف، انتقال البرامج إلى هذه النوعية التي أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلها في موازين حسناتهم، وأن يثقل بها موازينهم، وأن يجعلها مُباركة، ووقفًا وعلمًا وذخرًا لنا ولهم بحوله وقوته، وكذلك أشكر جميع الإخوة هذه الجمعية المباركة، وما لمسته منه من طيب خلق وحسن تعامل واحتفاء؛ أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجزيهم عنا خير الجزاء وأن يرفع أقدارهم في الدارين.
بالنسبة لسؤالك -حفظك الله- وهو: ما الذي دعا علماء النحو أن يضعوا هذه القواعد رحمهم الله تعالى؟
فالجواب نقول: إنَّ العربي في أصله كان يتكلم هذه القواعد سليقةً، بمعنى أنه شيء كالمركوز في فطرته لا يخرج عنه، ولا يستطيع أن يتكلَّف النطق بغير هذه القواعد، وإن لم يكن عنده وعي بأن هذا خبر "كان" وأنَّ هذا منصوب وأن هذا مرفوع وأن هذا مجرور؛ هو كان معزولًا في تهامة وإما في أعالي الجبال في الحجاز وإما في غيرها، فكان التلفظ بهذه الألفاظ وهذه التراكيب سليقة لا يتكلفونها، مثل ما نحن نتنفس الآن النفس دون أن تتكلف في جذبه وإخراجه من الجسد، هم كانوا يتكلمون هذه اللغة سليقةً ويتناقلونها، فبالتالي لم يكن العربي يخطئ أصلًا، فإن أخطأ فهذا شاذٌّ قليل جدًّا، إذا رفعَ كلمة منصوبة أو نصب كلمة مجرورة، فإن وقع هذا فهو على سبيل الخطأ الذي يكون نادرًا جدًّا، وسبب ذلك: هو عدم تلوث السمع بما يغير في ضبط اللسان، لأنَّ السمع هو الذي يؤثر في تغير اللسان من جهة النطق باللغة أيا كانت عربية أو غيره.
لو أردنا أن نمثل لهذا بمثال: لو كان عندنا مجموعة من الأشخاص يعيشون في قرية من القرى، وهذه القرية معزولة تمامًا عن العالم الخارجي، لا يحتكون بغيرهم، ولا يرد أي وارد مما هو من غير جنسهم أو لا يتكلم بلغتهم، هل يُتصوَّر أن يأتينا شخص تتلفظ لفظة إنجليزية مثلا في هذه البيئة المنعزلة التي لم تسمع بهذه اللغة في حياتها؟! لم تسمع بها ولم تخالط أحدًا، ولم ينقل لها عن طريق التلفاز ولا عن طريق الجوالات؛ هل يمكن أن تتصور أنه يأتي شخص ويتكلم كلمة إنجليزية تامة في مثل هذه البيئة؟!
الجواب: لا، كذلك العربي لما كان معزولًا في تهامة أو في أعالي الجبال أو في غيرها، لم يكن هناك مؤثر يؤثر في سمعه الذي بدوره يؤثر في لسانه، فبقوا على هذا مدة من الزمن، ثم كان لقريش -كما لا يخفى- رحلات واحتكاك بالأمم الأخرى، من جهة أنهم كانوا يقصدون البيت، أو يتاجرون في رحلة الشتاء والصيف، فكانت قريش عندها شيئًا من هذا الاحتكاك بالأمم الأخرى، وقريش حافظت على هذا اللسان لكونها كانت لها ثلاثة أسواق مشهورة في أيام الجاهلية -مجاز وعكاظ وغيرها من الأسواق- وكان يقدم إليهم في المواسم الحج وقبل الحج بفترة من الزمن في هذه المواسم فيجتمعون، فيصطحب أصحاب القبيلة معهم من الشعراء والفصحاء والبلغاء أحسن وأفضل ما يجدون عندهم مما يمكن أن يلقي شيئًا من الكلام أو الشعر في تلك المحافل، فكانت قريش تحضر هذه المجالس تحكِّم هذه اللقاءات، فمع تكرار هذه المجالس وهذه اللقاءات وهذه الاحتفالات -إن صح التعبير بهذا المصطلح- كان لهم مع هذا التكرار ذوقٌ مرتفع جدًّا حصل مع كثرة هذا التكرار سماع الفصحاء والبلغاء لدرجة أنهم لا يمكن أن يباريهم أحد في مثل هذا، في القوة والتنوع في العبارة والجزالة في الألفاظ إلى غير ذلك، وربما الشاعر هذا الذي جاء من بعيد قد يقول قصيدة ولا يعود إلى هذا المكان في حياته أبدًا، تحفظ قصيدته أو تكتب بطريقة ما لجودتها ونحو ذلك، وكانت العرب لها هذه الاجتماعات ولها هذه اللقاءات التي يتبارون فيها الشعر، ويتحدثون فيما بينهم بهذه اللغة.
ثم جاء الإسلام وقد بلغت قريش هذه المرتبة العالية من العربية، فلما وصلوا إلى هذا الحد الذي لا يمكن أن يتجاوزه غيرهم، جاء القرآن فتحداهم، فوجدوا أنَّ هناك كلام يفوق ما كان يتكلمون به هم، فهم وصلوا إلى هذه المرحلة العالية، فإذا بالقرآن يأتي ويفوقهم، فأدركوا أن هذا ليس بكلام بشر، وحاولوا يطعنوا فيه بأنه كاهن أو ساحر أو شاعر أو كذا، ولَمَّا أرسلوا الوليد بن المغيرة للنبي ﷺ ليستمع منه القرآن، قال: "والله أنا أعرف الشعراء وسمعته، ووالله ليس هذا بقول شاعر، وأعرف الكهان وهذا ليس بقول كاهن"، فهم أقروا بهذا الأمر.
فجاء الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ففتحت البلدان وتوسَّعت الفتوحات، فاختلط العرب بغيرهم، وسبب ذلك الاختلاط أنهم لما آمنوا بالله ورسوله ﷺ كان من واجبات الدين عليهم الذهاب إلى مكة والذهاب إلى المدينة وزيارة المشاعر؛ ونتج عن ذلك احتكاكهم في الأسواق، والتزاوج فيما بينهم والمصاهرة؛ فأصبح العربي الذي وصل إلى هذه المرحلة من الفصاحة والبلاغة يريد أن يتنزَّل في خطابه لذلك الأعجمي، والأعجمي يريد أن يرتقي بأسلوبه ليقارب العربي، فأصبح هذا التنزُّل من العربي في إيصال الخطاب بصورة سهلة إلى ذلك الأعجمي، والأعجمي يريد أن ينازع العربي، وأن يرتقي في إحداث تغيير في لسانه؛ هذا التنازل من العربي وتلك المحاولة من الأعجمي في الأخذِ عن العربي أوجبَت عدم ضبط أواخر الكلمات، بمعنى أنه يهمه أن يقول لفظة بغض النظر عن حركات هذه اللفظة، المهم أنه ينطق هذه الكلمة ليفهم منه الآخر ما مقصوده، دون مراعاة الفروق التي تكون خصوصًا في أواخر الكلمات التي تنبني عليها المعاني، حتى قيل: إن العربي كان يعزل ابنه عن الضيف إذا نزل به وكان غريبًا أو بعيدًا؛ لأجل أن لا يخالط الصغار فيفسد لسانهم، بل كانوا يرسلون أبناءهم إلى البوادي، ومنهم النبي ﷺ لَمَّا وُلِدَ أُرسِل إلى ديار بني سعد، كل ذلك من أجل الصِّحة البدنية؛ لأنَّ مكة كانت مكانًا لاجتماع الناس والأوبئة وإلى آخره؛ فلأجل هذا الأمر ولأجل أن يبقى هذا اللسان محافظًا على سليقته التي خلقه الله وأوجب له الله -تبارك وتعالى- عليها ومما اكتسبه من هذه البيئة.
فلما حصل هذا الاحتكاك والمصاهرة والمزاوجة في المساجد وفي الأسواق وفي الاجتماعات، بدأ يظهر هذا اللحن الذي هو النُّطق الخاطئ في أواخر الكلمات، ورصد لذلك العلماء والنحاة مجموعةً من المواقف التي تدل على أنه فعلًا بدأ يدب الخطأ والعيب في اللسان العربي.
فمن ذلك قالوا: إنَّ أحد الخلفاء -أظن عبد الملك بن مروان أو غيره- دخل عليه أحد الأشراف من العرب، فسأله: من خَتَنُكَ؟ لاحظ الآن النون مضمومة، فقوله: مَن ختَنُكَ؟ يعني من هو صهرك؟ من هو أبو زوجتك؟ هذا الشريف العربي فهم فهمًا آخر، يظن أنه يقول: مَن خَتَنَكَ؟ الختان الذي هو من السنة وهو التطهير، فقال: فلان اليهودي، رجل هو الذي قام بختني، فاستعجب الخليفة! فقال: أنا أقول: مَن خَتَنُكَ؟ من هو أبو صهرك؟ يعني أنت مصاهر اليهود أو كذا؟! فنُبِّه بعد ذلك أن هذه اللفظة "ختَنُك" إن حرّكت النون في آخرها بحركة مغايرة لحركة الضم اختلف المعنى تمامًا، مَن خَتَنُكَ، ومن خَتَنَكَ؟
"خَتَنُكَ" هذا اسم، يعني: من هو صهرك؟
وإذا قال: "مَن خَتَنَكَ؟" هذا فعل ماض.
فعدم التفريق في أواخر الكلمات أوجب الخطأ في فهم المعنى.
ومما رُصِدَ من الأحوال تلك: أن عمر -رضي الله عنه- مرَّ على مجموعة من الصغار يرمون بالسهام أو بالنبل، فقال: لِمَا لا تخطئون في رميكم؟ قالوا: "إنَّا قوم متعلمين"، وهذا خطأ ولحن، المفترض أن يقولوا: "إنا قوم متعلمون"، يعني: "متعلمون" وصف لـ "قوم"، و"قوم" مرفوعة، والوصف ينبغي أن يُطابق الموصوف.
فقال عمر: خطؤكم في كلامكم أشد عليَّ من خطئكم في رميكم؛ فأدرك عمر أن هناك خطأ.
أيضا كان له والٍ، هو أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فكتبَ أبو موسى له كتابًا، فأخطأ، وكتب: "من أبو موسى" والمفترض أن يقول: "من أبي موسى"؛ فلما وصل الكتاب إلى عمر قلبه وكتب عليه: "قلِّد كاتبك سوطًا" يعني: اجلده جلدة؛ لأنه أخطأ!
وكذلك أبو الأسود الدؤلي لَما دخل على ابنته وهي جالسة مستلقية وتنظر للسماء، قالت: "يا أبتي ما أحسنُ السماء!" بالضم، فقال: نجومها. قالت: "ما أردت هذا"، يعني: أنا ما أردت أن أسألك عن أي شيء حسن في السماء؛ وإنما أردت أن أتعجب، فقال: قولي: "ما أحسنَ السماءَ"، فأدرك أبو الأسود الدؤلي أنَّ هذا خطأ.
وقالوا: إن أول لحن ظهر عند العرب في البادية: أن المتكلم قال: "هذه عصاتي"، ما عندنا هناك شيء اسمه تاء، وإنما المفترض أن يقول: "هذه عصاي".
ولَما سمع أيضًا عمر القارئ يقرأ: "أن الله بريء من المشركين ورسولِه" فكأنه عطف "الرسول" على "المشركين" فكأن الله بريء من المشركين وبريء من الرسول، فقال: "قد برئت ممن بريء الله منه" أو نحو ذلك.
المهم أنه بدأت تُرصد هذه المواقف والأحوال التي فشت، حتى عند الفصحاء ظهر شيء من هذا الخطأ في أواخر الكلمات؛ فأدرك العلماء أن هناك خطرٌ بدأ يهدد اللسان العربي وبالتالي سيجعلهم يخطئون في فهم القرآن، وفي سنة النبي ﷺ فكان لا بد من جمع شيءٍ من القواعد، وهكذا كل علم ينشأ شيئًا يسيرًا، ثم يهيئ الله له مَن يتممه، فقيل: كان أبو الأسود الدؤلي هو أول مَن قام بهذا العمل، هل هو بإرشاد من علي بن أبي طالب أو من عمر بن الخطاب أو من عبد الله بن عباس؟ هذه روايات محتملة وذُكرت في مثل هذا السياق، عند من كتب في أصول النحو ونحو ذلك، لكن الذي يعنينا أنها تكاد تتفق الروايات على أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع هذا العلم، إما بإشارة من علي أو بغيره من الخلفاء أو من الصحابة -رضي الله عنهم.
وقيل مما ذُكر: أن عليًّا كتب له كتابًا أو رقعة وقال: "الكلام اسم وفعل وحرف"، وقال: "اُنْحُ هذا النحو"، يعني اتجه نحو هذا الاتجاه وقيِّد واجمع واكتب، ففعل أبو الأسود الدؤلي ذلك الأمر، واجتمع شيء من الأحكام المتعلقة بالنحو، ثم علماء البصرة تلقفوا هذا العلم وأجادوه وكتبوا فيه القواعد، وهذا مما يقارب مائة سنة، ثم انتقل هذا العلم بعد ذلك إلى أهل الكوفة، وكانوا مشتغلين بالأخبار والروايات والقصص والأشعار ونحو ذلك، وكانوا مشتغلين بالصرف أكثر من النحو، ثم انتقل بعض علماء البصرة إلى الكوفة فبدأ يأخذ علماء الكوفة عن أولئك العلماء من البصرة، فظهر هناك مذهبٌ جديد الذي هو المذهب الكوفي، وهناك مسائل خلافية بين المذهبين.
المهم أنهم أدركوا أن هذا اللسان بدأ يفسد؛ فلا بد من ضبط هذه القواعد لأجل أن يعود الذي فسدَ لسانه إلى ما كان عليه العربي أو يقترب منه بضبط هذا، فإذا ضُبطت أصبح يحاكي ذلك العربي في نطقه؛ بل إذا أخطأ يعرف أنه أخطأ، وبالتالي يستدرك الخطأ ونحو ذلك، فانتشر بعد ذلك علم النحو، ثم انتقل الأمر إلى المدرسة البغدادية فجُمع بين البصريين الكوفيين وأُقيمت المناظرات، وبدأ يكتب التأليف، وكل شخص يريد أن يظهر بأحسن مظهر في تأليفه وفي جودة بحثه وهكذا، ثم انتشر في العالم الإسلامي من بغداد، ثم انتقل إلى مصر وظهر ابن هشام وابن مالك وغيرهم من العلماء -رحمهم الله تعالى.
فإذا المقصود: أن ضبط أواخر الكلمات هو الذي ينبني عليه تغير المعاني، فلذلك حرصوا على أن تُضبط القواعد التي تضبط الأواخر، طيب ما هو الذي يضبط هذا الآخر؟
هي قضية العوامل، والعوامل جمع عامل، وهو الذي يقتضي أن يكون آخر الكلمة على وجه مخصوص، فهناك عامل يرفع، وهناك عامل ينصب، وهناك عمل يجر، فنظرية العامل هي من أهم القضايا في باب النحو، ولذلك قيَّد العلماء هذه القواعد ووصلت إلينا -كما نرى ولله الحمد- وهو علم استوى ونضج، وهيأ الله -عز وجل- من يقوم به، فنحن نحتاج أن نتعلَّم هذا العلم، لأجل أن نفهم القرآن، وأن نفهم كلام النبي ﷺ، ونفهم كلام أهل العلم في التفسير ونحو ذلك، تجد أنهم كثيرًا ما يذكرون شيئًا من المسائل النحوية التي تنبني عليها المعاني، فالشخص إذا لم يكن ملمًّا بالخلاف النحوي ولم يكن عارفًا بهذه المعاني التي تنشأ من هذا الخلاف: سيبقى يعرف شيئًا محدودًا من الألفاظ التي يعرفها عامة الناس، ولذلك تجد كثيرًا من الطلاب يتجاوز كتب التفسير التي فيها شيء من الإعراب، يرى أنها معضلة وأنها ثقيلة على نفسه، بينما لو تلذَّذَ بالإعراب هو وعرف أوجه الخلاف، والمعنى المحتمل بناء على هذه القراءة وتلك القراءة؛ سيعلم أن القضية هي مبنية على ذوق، وعلى معانٍ عظيمة لا تُدرَك إلا بمن تعلم هذا العلم.
فهذه جملة ما يمكن قوله في هذا، وللكلام تفصيل في كتب أصول النحو وغير ذلك ممن كتب فيه.
{يا شيخ، يُذكر أن أول من ألَّف في النحو هو: سيبويه. أليس كذلك؟}.
هو تأخر في وفاته -رحمه الله تعالى- وإنما سبقه غيره، سيبويه بصري من علماء البصرة، والكسائي -وهو قرين له- كان من علماء الكوفة، فهناك من سبقه وهو الخليل بن أحمد وغيره، وقد كتبوا في علوم النحو ونحو ذلك، لكن كتاب سيبويه طبعًا هو من أشهر الكتب التي قررت هذا العلم، وكتاب "سيبويه" يسمونه القرآن النحوي، وهو يعني جهود شيخه الخليل وطلابه، فأخذ ما عندهم ونظَّم هذا العلم وكتبه ودوَّنه في هذا الكتاب العظيم المبارك، وله شروح منها شرح السيرافي -رحمه الله تعالى- وهو من أعظم شروحه، وهكذا..
ثم بدأ بعد ذلك الاختصار، ونظم هذا العلم، والاقتصار على شيء منه، فهناك من كتب في معاني الحروف، وهناك من نظمه، وهناك من اهتمَّ بالعوامل، وغيرها مما يدور في فلك هذه العلوم للعلماء -رحمهم الله تعالى.
{شيخنا، ما هو التصور العام لكتاب الآجرومية؟}.
نقول: الآجروميَّة هي مقدمة صغيرة في علم النحو، وقسَّمها المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: مقدمة، ضمّن هذه المقدمة الكلام عند النُّحاة، ما هو الكلام، وما هي أقسام هذا الكلام، وما هي علامات هذه الأقسام، وكيف أفرق بينها؛ فهو لم ينص على جميع ما يمكن أن تكون علامة، وإنما هو ذكر جملة منها لأجل أن تقدِّم ناظرها خطوة في هذا العلم، ثم إذا قوِيَ الباعث عنده في تعلم هذا العلم زاد منه بحسب ما ييسره الله - تبارك وتعالى.
ثم عقد بابًا يتكلم عن الإعراب -وهو ما زال في المقدمة- فتكلم أقسام الإعراب، تعريف الإعراب، ما هي علامات الإعراب، متى أعرف أن هذا التغير هو كذا، ما هي علامته.
القسم الثاني: تكلم عن المرفوعات، وهي سبعة في اللغة العربية -بحسب ما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى.
القسم الثالث: تكلم عن باب المنصوبات، وكما أشرنا سلفا: أن المنصوب هو ما يحدثه العامل في آخر الكلمة، وعلامته الفتحة أو ما ناب عنها.
وكذلك المرفوع: هو ما يحدثه العامل في آخر الكلمة، وعلامته الضم أو ناب عنها.
القسم الرابع: ختم بالمجرورات.
فذكر سبع مرفوعات، وذكر خمسة عشر منصوبًا، ثم ذكر ثلاث مخفوضات، وهي: الخفض بالحرف، والحفظ بالإضافة، والخفض بالتبعيَّة -كما ختمنا في حلقتنا السابقة.
{لماذا بدأ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بالكلام، وما هو الكلام لغة واصطلاحًا؟}.
بدأ بالكلام -رَحِمَهُ اللهُ- لأن الكلام هو الذي يحصل به التخاطب فيما بين الناس، وهذه من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن جعل ما يبنيه الإنسان في نفسه عن طريق الكلام، لو كان عن طريق الإشارة لَثقُلَ وشقَّ على الناس شيئًا كثيرًا، فأنت كلما تحتاج شيئًا أشرتَ إشارة، ثم إن هذه الإشارة قد يُفهَم منها خلاف المقصود من هذا المشير، فيكون فيه شيء من الصعوبة، أو أنت لو في شيء نفسك ولا تستطيع أن تشير! أو هذا الذي ما عنده يد كيف يشير لك حتى تفهم!
فمن رحمة الله أن جعل هذه اللغة طريقًا لتفاهم الناس فيما بينهم.
والكلام هنا مقصود به: هو ما يحصل به التخاطب.
وفي اللغة: هو كل ما يحصل به فائدة، سواء كانت هذه الفائدة ملفوظةً، أو مكتوبةً، أو بإشارةٍ، أو بغيرها مما يُمكن أن يُفيد.
وعند النُّحاة فقالوا: نعم، وإن كان هذا كلامٌ في اللغة يُفيد بالإشارة والكتابة، ولكن نحن نشترط أربعة شروط متى ما توافرت أصبح هذا يُسمَّى كلامًا عند النحاة:
- أن يكون لفظًا.
- أن يكون مركبًا.
- أن يكون مفيدًا.
- أن يكون بالوضع العربي.
{ما معنى كون الكلام لفظًا؟}.
اللفظ: هو الصوت الخارج من الفم المشتمل على بعض الحروف الهجائية.
بمعنى: لو جاءنا نحوي وفقيه، واحد كتب لزوجته: "أنتِ طالق"، وقلنا للنحوي احكم على هذا؟ هل هذا كلامٌ عندك أيها النحوي؟
قال: هذا ليس بكلام.
وإذا قلنا احكم أنت أيها الفقيه؟
قال: هذا كلام.
وقال النحوي: لأن عندي يشترط أن يكون الكلام ملفوظًا.
لو قلنا: هل يُفيد؟
لقال: نعم، يفيد هو، لكنه ليس بكلام عندي في الاصطلاح أنا أيها النحو.
أمَّا الفقيه فإنه يعتبر هذا كلامًا؛ لأنَّ الكلام: هو كل ما أفاد، سواء مكتوبًا، أو ملفوظًا، أو بإشارةٍ، أو بنحو ذلك.
إذًا؛ الكلام لا بد من أن يكون ملفوظًا، ولا بد أن يكون مركبًا، ومعنى مركب: أي مركب من كلمتين فأكثر، والمقصود بتركيب الكلمتين: أن تكون الكلمتان مركبتين على وجه الإسناد، بمعنى لو جاءنا شخص وقال: "محمد بكر" نقول: هذا ليس بكلام عندنا نحن النحاة، لو قال: هو مركب من كلمتين! فنقول: نعم مركب من كلمتين، لكن لا بد أن تكون هذه الكلمة مع الأخرى على وجه الإسناد، يعني تأتي بكلمة لتحكم بها على كلمة أخرى، لتسند إليها ولتحكم بها، أما مجرد أن تلفظ بلفظتين دون أن يكون بينهما اتصال أو نسبة؛ فهذا لا يسمى كلامًا.
نقول: "محمد المسافر" هذا عند النحاة كلام.
طيب لو جاءنا واحد وقال: "القلم الجوال"، فنقول: هذا ليس بكلام عند النحاة.
لكن لو قال: "القلم مفيد، الكتاب نافع"، نقول: هذا عند النحاة كلام مفيد.
إذًا؛ لا بد أن يكون بين هاتين الكلمتين إسناد -وهو اتصال حكم نسبة- بينهما، أما مجرد أن يأتي إنسانٌ بكلام ويقول إنه مركب؛ نقول: هذا لفظ نعم، لكنه أن يسمى كلامًا عند النحاة فلا.
وقلنا: إن التركيب ثلاثة أنواع:
- إمَّا تركيبًا إسناديًّا.
- أو تركيبًا مزجيًّا.
- أو تركيبًا إضافيًّا.
- وهناك نوع رابع وهو: التركيب الوصفي.
فلو جاءنا رجل وقال: "الرجل الصالح" هذا تركيب وصفي، فأنت وصفت الرجل بأنه صالح لكن الكلام لم يتم إلى الآن، إذًا هذا ليس هو مقصود المؤلف بالكلام المركب.
طيب لو جاء واحد وقال: "غلام زيد" نقول: هذا صح مكون من كلمتين لكنهما هنا مركب إضافي، هذا لا يصلح معناه أن يكون كلامًا في باب النحو.
أما "بعلبك، حضر موت" هذا تركيب مزجي، فهذا لا يسمى كلامًا.
طيب ماذا تقصدون بالكلام؟
نقول: الكلام الذي فيه إسناد، يعني نسبة شيء إلى آخر، مثل: "زيد مسافر، الله ربنا، محمد رسول الله"، فأسندنا الرسالة إلى محمد، حكمنا بها على محمد ﷺ، إذًا هذا هو الكلام الذي مقصوده بأن يكون مركبًا، سواء كان هذا التركيب ملفوظًا به من كلمتين أو من كلمة وهناك كلمة أخرى مقدرة، لو جاءنا شخص وقال: "من جاءكم؟" فأجاب المجيب وقال: "زيد"، فيأتي النحوي ويقول: هذا كلام. كيف يكون كلامًا وأنت قلت إن الكلام يتكون من كلمتين؟
نقول: هناك كلام مقدر محذوف مفهوم من السؤال، يعني: "جاء زيد".
إذًا إما أن يكون مركبًا تركيبًا حقيقيًّا من كلمتين فأكثر، وإما أن يكون مركبًا تركيبًا تقديريًّا، لكن بشرط أن يسبقه كلام حتى يفهم منه هذا التقدير.
أما لو جاءنا واحد ما أحد سأل، وقال: "قلم"؛ فنقول: هذا ليس بكلام، لكن لو جاء واحد سأله وقال: ماذا عندك؟ قال: "عندي قلم" أو اقتصر على كلمة "قلم"؛ ففهمنا أنه يخفي شيئًا من خلال السؤال.
إذًا لا بد أن يكون التركيب بهذه الصورة، سواء كان جملة اسمية أو جملة فعلية، مثل: "يقوم زيد، زيد قام".
{شيخنا -أحسن الله إليكم- ما هي أقسام الكلام؟}.
أقسام الكلام هو ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنها ثلاثة، وهي: الاسم والفعل والحرف.
ولهم دليلان في مثل هذه القضية:
أولًا: التتبع والاستقراء، نعم علماء النحو تتبعوا كلام العرب في خطبهم وفي أشعاره وفي بواديهم وفيما يتخاطبون به فيما بينهم، فوجدوا أنه لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة -الاسم والفعل والحرف.
ثانيًا: أن هناك قسمة عقلية، الكلمة:
- إما تدل على معنى في نفسها، فبمجرد إطلاقها يفهم معنى.
- وإما أن تدل على معنى في غيرها، يعني هي في ذاتها إذا أُطلقت لا يفهم معنى.
فإذا قلت: "قلم" انصرف الذهن إلى هذه الآلة التي تكتب، وإذا قلت: "يشرب" انصرف الذهن إلى أخذ الماء وإدخاله في الجوف مثلًا.
وقالوا: إن دلت على معنى في نفسها:
* فإما أن تقترن بزمن.
* أو لا تقترن بزمن.
فإن لم تقترن بالزمن: فهذا الاسم، مثل: "محمد".
وإن اقترنت بزمن: فهذا الفعل، تقول: "متى كتبتَ؟" تقول: "قبل شهر، قبل سنة".
- وإما أن تدل على معنى في غيرها، يعني هي بذاتها لا يفهم منها معنى، إلا إذا ضممتها إلى غيرها، فكلمة "من لها معاني كثيرة، تقول: "خرجت من المسجد" يعني: ابتداء خروجي من المسجد.
ومنه قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِم﴾، هنا "من" بمعنى السببية، أي: بسبب خطيئاتهم.
تقول مثلًا: "أكلتُ من الفاكهة" هنا "من" بمعنى بعض، أي: بعض الفاكهة.
فـ "من" هذه إذا جردتها من دون أن تدخلها في سياق لا تدل على معنى في نفسها هي، وإنما لا بد من ضمها لغيرها، فلذلك قالوا: هذا هو الحرف، بخلاف الاسم فإنه يدل على معنى مجرد، مباشرة تفهم من معنى، والفعل يُفهم معنى، أما "من" وغيرها من الحروف فإنها لا يفهم منها شيء إلا إذا ضممتها إلى غيرها.
إذًا؛ إن دلَّت على معنى من غير زمن: فهي الاسم.
وإن دلت على معنى مع زمن -وهو الماضي والحاضر والمستقبل- فهذا هو الفعل.
{ما هو الظاهر والمبهم والمضمر؟}.
الظاهر: هو الذي ما لا يمنع النطق به مانع، بمعنى: أنه هو ما يدل على المقصود مباشرة.
إذا قلت لك مثلًا: "جاء زيد" فـ "زيد" هذا اسم ظاهر.
إذا قلت مثلًا: "أكرمتُه" فالهاء هنا ضمير، بمعنى أنك لا تفهم منه يفهم من لفظ الظاهر الذي هو "زيد"، إلا بسبق كلام عليه، تقول: "زيد جاءني وأكرمته"، فأنت بدل أن تعبر بـ "زيد" مرة أخرى أتيت بالضمير.
الضمير: هو ما يدل على متكلم "أنا" أو مخاطب "أنت" أو غائب "هو".
وأما المبهم: فهو الذي لا يتعين به المقصود إلا بقرينة تجمع معه، لما أقول: "أنا"؛ هل أحتاج أن أشير إليَّ بإشارة؟ لا، فهذا ضمير متكلم.
وكذلك لو قلتُ: "أكرمتُكَ" بدون أن أُشير؛ فمعلومٌ أني "أكرمتُ معاذًا" فالكاف دلَّت عليه، وكذلك لو قلتُ: "هندٌ أكرمتُها"، الهاء دلت على "هند" المُكرَمة.
لكن لو كنتُ جالسًا مع مجموعة من الأشخاص وقلتُ: "أكرمتُ" دون أن أشير إليه؛ فأنت لا تستطيع هنا أن تفهم مَن هو هذا المُكرَم، لأن اسم الإشارة وإن كان معرفةً لكنه لابدَّ من ضمِّ أمر آخر إليه حتى يُفهَم المقصود منه، وهي الإشارة، فتقول: "أكرمتُ هذا".
لو جاءنا واحد واستخدم الاسم الموصول وقال: "أكرمتُ الذي"، نقول: "الذي" مَن؟ الذي جاءك؟ الذي زارك؟ الذي تعلمتَ معه؟ الذي حجَّ معك؟ ما ندري!
فهذا الاسم الموصول لابد أن تأتي معه بجملة صلة حتى يُفهَم منها المعنى.
إذًا؛ الاسم المبهم: هو الذي لا يُفهَم المراد منه بمجرده، بل لابد من قريةٍ أخرى تضم معه ليُعرف المقصود، إما إشارة، وإما صلة، أو نحو ذلك مما يُفهم منه.
{هل يُمكن أن نستعرض علامات الاسم إجمالًا؟}.
علامات الاسم التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- هي أربعة، وهي:
الأولى: الخفض، وهو الكسرة لتي تكون في آخر الاسم، أو ما ينوب عنها مثل الياء.
الثانية: الألف واللام.
الثالثة: التنوين.
الرابعة: دخول حروف الخفض على هذه الكلمة.
هذه أربعة، وأوصلها بعضهم إلى ثلاثين علامة، لكن هذه أشهر العلامات التي ذكرها -رَحِمَهُ اللهُ.
وهذه العلامات لا تصح أن تدخل على الأفعال، ولا تدخل على الحروف كذلك، إذًا هذه أشهر العلامات اللي ذكرها -رحمه الله تعالى.
{إلى كم ينقسم الفعل؟}.
قلنا: الفعل عندنا ثلاثة أقسام:
- إما ماض.
- وإما مضارع.
- وإما أمر.
الماضي: هو الحدث الذي حصل قبل زمن التكلم.
والمضارع: هو الحدث الذي يحصل أثناء زمن التكلم، أو الذي سيحصل في المستقبل بقرينة تنقله إلى المستقبل.
وفعل الأمر: هو الحدث الذي يراد إيجاده بعد زمن التكلم.
أما الذي يحصل أثناء الإخبار فهذا هو المضارع، وأما إذا كان قد مضى فهذا يسمى بالفعل الماضي.
وقلنا إن الأزمنة ثلاثة أيضًا حتى يتضح الأمر: ماض، وحاضر، ومستقبل، فالأزمنة مثل الوعاء والأفعال مثل الماء.
{شيخنا أحسن الله إليكم، لماذا سمي المضارع مضارعا؟}.
المضارع سُمي مضارعًا: لأنه يضارع الاسم، يعني هناك شبهًا بينه وبين الاسم، بمعنى: كما أننا نغير الاسم من الرفع إلى النصب إلى جر، فعندنا فعل مضارع ينتقل من كونه مرفوعًا إلى كونه منصوبًا إلى كونه مجزومًا، فهذا المضارعة معناها المشابهة، بمعنى أنه تطرأ عليه معاني جديدة كما تطرأ المعاني على الاسم.
لَمَّا نقول: "جاءَ خالدٌ"، "خالد" هنا فاعل، وفي قولك: "أكرمت خالدًا" أصبح "خالد" مفعول به، وفي قولك: "سلمت على خالدٍ" أصبح "خالد" اسم مجرور، فـ "خالد" لو تلاحظ مرة جاء فاعلًا، ومرة جاء مفعولًا به، ومرة جاء اسمًا مجرورًا؛ فنقول كذلك عندنا الفعل المضارع لما يأتي تغير معانيه بحسب حركة آخره، فمثلا في المثال المشهور الذي يذكره النحاة "لا تأكلْ السمكَ وتشربْ اللبن"، وضبطت بأن يقال: "لا تأكلْ السمكَ وتشربَ اللبن"، وقيل: "لا تأكلْ السمكَ وتشربُ اللبن"، فلاحظ مرة جاء الفعل الثاني مجزومًا، ومرة جاء مفتوحًا، ومرة جاء مرفوعًا.
فإذا قلت: "لا تأكلْ السمكَ وتشربْ اللبنَ"، يعني: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، فأنت منهي عن الجميع.
أما لو قلت: "لا تأكلْ السمكَ وتشربَ اللبنَ" فأنت منهي عن أكل السمك، ولك أن تشرب اللبن، فهذا إذا فتحنا الفعل الآخر -يعني نصبناه- فلا تجمع بينهما، لكن لو قصرت على اللبن لصحَّ ذلك.
وإذا قلت لك: "لا تأكلْ السمكَ وتشربُ اللبنَ" يعني: لا تأكل السمك لوحده واشرب اللبن.
فهذه المعاني اختلفت من حركة هذا المضارع، مرة مجزوم ومرة منصوب ومرة مرفوع، فهنا تولدت معاني جديدة لولا هذا التغيُّر لَما حصل هذا المعنى، كما أن المعاني التي تولَّدت من اسم "خالد" مرة فاعل ومرة مفعول ومرة مجرور بسبب حركة الأواخر؛ فكذلك الفعل المضارع فتشابه من هذه الناحية وسمي مضارعًا.
وقيل: إن المضارع سمى مضارعًا لأنه يشبه اسم الفاعل، لو قلت لك مثلًا: "قائم" و"يكتب" لو جئنا نوازن بين "قائم" وهذا اسم وبينه وبين الفعل المضارع؛ سنجد أن الحرف الأول من "قائم" متحرك، والحرف الأول من "يكتب" متحرك، فاتفق الحرف الأول من "قائم" مع الحرف الأول من الفعل المضارع.
أما الحرف الثاني في "قائم" ساكن، والحرف الثاني "يكْتب" ساكن، وأما الحرف الثالث في "قائِم" فمتحرك، وكذلك في "يكتُب" متحرك.
فلما تشابها في الحركات والسكنات سُمي مضارعًا، لأنه يشبه اسم الفاعل، إذًا هو إما لأنه يتغير آخره وتختلف المعاني كما تختلف الأسماء، وإما لأن هذا الأمر يتفق فيه مع اسم الفاعل في تغير حركاته، أو تقابل حركاته مع الحركات السكنات مع السكنات.
{هنا يا شيخ قد ينقدح سؤال في ذهن المشاهد؛ كيف أفرق بين الفعل الأمر والمضارع الماضي؟}.
نقول: هناك علامات ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- وهي:
- إذا كان هذا فعلًا ماضيًا فمن أخص علاماته وأبرزها: هو لحاق تاء التأنيث الساكنة به، وكذلك تاء الفاعل، هات أي فعل ماضي "قام، قعد، استخرج، استغفر، اجتمع" وصل بها تاء التأنيث، فإن قبلت تاء التأنيث في آخره فاعلم أن هذا فعل ماض، ولذلك استُدل على أن "ليس" فعل ماض لأنه يقبل تاء التأنيث في آخره، فتقول: "ليست هند قائمة"، وكذلك "نعمَ"، فتقول: "فبها ونعمت".
فالمقصود: أن إلحاق تاء التأنيث بآخره إن قبله؛ فهذا هو الفعل الماضي.
وأمَّا المضارع فذكر له علامتين -رحمه الله تعالى- وهي: دخول السين سوف.
ومن أنفع علامات المضارع: دخول "لم" عليه، وهذا ما نص عليه ابن هشام، هل تقول: "لم حفظ، لم نام"؟ لا، لكن المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكرَ علامتين من باب التسهيل، وهي: السين وسوف، مثل: "سيحفظ، سوف يحفظ"، فإذا قبل السين وسوف بشرط أن تكون زائدة آتية أو سابقة لحروف المضارعة، لأن المضارع لا بد أن يكون في أوله "الهمزة أو النون أو الياء أو التاء" فأي مضارع لا يخلو من أن يكون في أوله إحدى هذه الحروف الأربعة، فإذا قلنا: السين سوف؛ فلا بد أن تكون متقدمة على الهمزة هنا، أو على النون، أو على الياء، أو التاء، تقول: "سأذهب، سنحفظ، سيكتب، سوف تكتب هي"، إذًا المضارع يُعرف بـ "السين وسوف"، وقلنا "لم" من العلامات المميزة له أيضًا.
أما الأمر ففيه علامتان، متى وجدت استُدلَّ به على أمريته:
- كونه يفيد الطلب، وهذا الذي يفيد الطلب لو وصلنا به ياء المؤنثة المخاطبة التي وُجِّه إليها الخطاب قَبِل هذه الياء، تقول مثلا: "اكتب" هل هو فعل ماضي أو مضارع؟
نقول ننظر:
هل هو يفيد الطلب؟ الجواب: نعم.
هل يقبل يا المؤنث المخاطبة فنقول: "اكتبي". الجواب: نعم.
إذًا؛ إذا دلَّ على الطلب وقَبِل ياء المؤنث للمخاطبة؛ فهذا هو الفعل فعل الأمر.
لماذا نقول هذا الكلام؟
لأنَّ هناك أفعال تقبل ياء المؤنث للمخاطبة، ولكن لا تدل على الأمر، مثل: "تكتبين"، هذه هي الياء التي قبل النون هي ياء المؤنث المخاطبة، لكنها لا تفيد الأمر.
فلو دلَّ على الأمر لكنه لا يقبل المخاطبة، مثلًا: "صه، مه" أو نحو ذلك، فـ "صه" تقال للذكر والأنثى، وللجماعة والشخص الواحد، وكذلك "مه" فتقول: "مه يا زيد، مه يا رجال"، ما تستطيع أن تقول: "مهي، صهي".
إذًا، إذا دلَّ على الطلب ولم يقبل الياء: فلا يكون فعل أمر.
إذا قبل الياء ولم يدل على الطلب: فليس بفعل الأمر؛ بل لا بد أن يدل على الطلب ولو أدخلنا عليه في المخاطبة لقبلها.
هذا هو التفريق بين هذه الأفعال الثلاثة.
{أحسن الله إليكم، شيخنا ما هو تعريف الإعراب وما أهميته؟}.
الإعراب لغة: هو التغيير والتحسين والبيان، تقول: "أعربَ الرجل عمَّا في نفسه"، يعني: أبانَ وأظهر.
والإعراب يُظهر المعاني، فهذه المناسبة بين المعنى اللغوي ومعنى الاصطلاحي.
ومن معانيه: الجمال أيضا، أو الحسن، تقول: "هذه جارية عروب" أي: حسناء.
فالمقصود: أن الإعراب له معنى في اللغة وله معنى الاصطلاح، والذي يعنينا هو المعنى الاصطلاحي وهو تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلية عليه لفظًا أو تقديرًا.
وقولنا: "تغيير أواخر الكلم" أي: اختلاف أحوال أواخر الكلم.
طيب ما هو سبب هذا الاختلاف الذي يطرأ على آخر الكلمة؟
الجواب: اختلاف العوامل، إذًا هناك عوامل تؤثر في هذه الكلمات، فإذا أثرت هذه العوامل في الآخر أحدثَ ذلك معاني جديدة، لولا هذه الحركات في الآخر لَما ظهرت هذه المعاني.
إذا قلت لك: "أكرم زيد محمد" ما غيرت الدال من "محمد" ولا من "زيد"، أنت الآن لا تدري من هو المكرِم ولا من هو المكرَم، أما إذا قلت: "أكرم زيدٌ محمدًا" دل على أن "زيد" هو الفاعل وأن "محمدًا" هو المفعول به، إذًا هذه فائدة الإعراب، وهي إظهار المعاني.
ثم هذا الإعراب له أقسام:
- إما تقديري: فيقدَّر إما للتعذُّر، وإما للثِّقل، وإما للمناسبة.
- وإما إعراب محلي.
- وإما إعراب ملفوظ به ظاهر يدركه المعرِب وغير معرب، والعربي وغير العربي.
{ممكن يا شيخ نذكر أقسام الإعراب وما هي علاماته الأصلية والفرعية؟}.
الإعراب -كما مر معنا- هو: التغيير الذي يطرأ على أواخر الكلمات، هذا التغير لا يخلُ من واحد من أربعة أقسام، إما أن يكون التغير رفعًا، أو نصبًا، أو خفضًا، أو جزمًا.
والرفع: هو تغير مخصوص يحدثه العامل في آخر الكلمة، علامته الضمة أو ما ناب عنها.
وأما النصب: فهو تغير مخصوص يحدثه العامل في آخر الكلمة، علامته الفتحة أو ما ناب عنها.
وأما الجر: فهو تغير مخصوص في حديث العامل في آخر الكلمة، علامته الكسرة أو ما ناب عنها.
والجزم: تغير مخصوص يحدثه العامل في آخر الكلمة، علامته السكون أو ما ناب عنه.
فهذه أقسام الإعراب الأربعة، تشترك الأسماء والأفعال من ذلك في الرفع والنصب، فنقول: اسم مرفوع وفعل مرفوع، واسم منصوب وفعل منصوب.
ثم تنفرد الأسماء بالجر، وتنفرد الأفعال بالجزم.
وقلنا الفلسفة في ذلك: أن الفعل ثقيل ويدل دلالتين: يدل على الزمن ويدل على الحدث، فلمَّا كان ثقيلًا بهذه الكيفية أعطوه الخفيف -وهو السكون الذي هو الجزم-، ولما كان الاسم خفيفًا يدل على شيء واحد قالوا: نعطيه الثقيل وهو الجر.
ثم هذا الإعراب له علامات، لما نقول: هذه الكلمة مرفوعة -والرفع هذا أحد أقسام الإعراب- له علامات أصلية وله علامات فرعية، وكذلك النصب له علامات أصلية وله علامات فرعية، وكذلك الجر له علامات أصلية وله علامات فرعية، وكذلك الجزم له علامات أصلية وله علامات فرعية.
والأصل في ذلك: الحركات، الضمة أصل في الرفع، والفتحة أصل في النصب، والكسرة أصل في الجر، والسكون أصل في الجزم.
ثم إذا لم نجد أن هذه العلامات صالحة لأن تكون هي علامة للرفع؛ فلابد أن ينوب عنها غيرها، وفي الغالب ينوب حرف عن حركة، وقد تنوب حركة عن حركة كما في جمع المؤنث السالم فنابت الكسرة عن الفتحة، وكما في الاسم الممنوع من الصرف فقد نابت الفتحة عن الكسرة.
إذا عندنا هناك علامات أصلية: الضمة، والفتحة، والكسرة، والسكون، وهناك ما ينوب عنها.
فإذا لم يصح أن تقول: "مرفوع وعلامة رفعه الضمة" وهو مرفوع؛ فلا بد من أن تقول: "مرفوعا وعلامة رفعه الألف، أو مرفوع وعلامة رفعه الواو"، إذا لم يصح أن تقول: "منصوبا وعلامة نصبه الفتحة" فلا بد أن تأتي بغيرها فتقول: "منصوب وعلامة نصبه الألف، منصوب وعلامة نصبه الياء"، وإذا لم يصح أن تقول: "مجرور وعلامة جره الكسرة"، فلا بد أن تقول: "مجرور وعلامة جره الياء"، وإذا لم تستطع أن تقول: "مجزوم وعلامة جزمه السكون"؛ فلابد أن تنيب عن السكون غيرها، فتقول: "مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، أو مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة"، كما سبق تفصيله.
{أحسن الله إليكم، شيخنا ملاحظ أن المؤلف قد أعاد الحديث عن علامات الإعراب في نهاية الباب، ما وجه ذلك؟}.
نعم أحسنت، هذا ليدل على أهمية هذا الباب، وأن ما يأتي من أبواب في المنصوبات والمرفوعات والمجرورات كلها مبنية على هذا الباب، فإذا نصَّ فيما بعد على المرفوعات وأنت لا تعرف ما هو الرفع وما هي علاماته؛ كيف ستعرف أن هذا من المرفوعات؟! وإذا أنت لم تعرف النصب وما هي علاماته وما هي العلامة الأصلية والفرعية فيه؛ فكيف تعرف المنصوبات التي سيتكلم عنها؟! وأنت إذا لم تعرف الجر، وما هي العلامات الأصلية وما ينوب عنها؛ فكيف أنت ستعرف الجر؟! فكان المناسب أن يعقد هذا الباب تفصيلًا ثم يعيده إجمالًا، فنحن نلاحظ أنه ذكر علامات الإعراب الأربعة -التي هي الضمة والفتحة والكسر والسكون- ثم ذكر ما ينوب عنها تحت كل قسم، ثم أعاد ولخصها بطريقة أخرى فقال: (اَلْمُعْرَبَاتُ قِسْمَانِ قِسْمٌ يُعْرَبُ بِالْحَرَكَاتِ، وَقِسْمٌ يُعْرَبُ بِالْحُرُوِفِِِ)، ثم قال: (فَاَلَّذِي يُعْرَبُ بِالْحَرَكَاتِ...)، وكذا وكذا، وأخرج عن ذلك كذا وكذا...، من باب إعادة هذه المعلومة لتوثيقها ولتتمكن في نفس المعرب، لأن كل ما يأتي بعد ذلك من أبواب -بل كل ما يأتي معك في أبواب النحو في الكتب الكبيرة والصغيرة والمختصرة والمطولة والمنظومة المنثورة- لا بد فيه من هذا الباب؛ فلذلك أكَّد عليه -رحمه الله تعالى- بذكره، حتى أنه قيل في الألفية لو أراد الإنسان أن يحفظها؛ فإنه لو أراد أن يقتصر على شيء منها فليقتصر على الباب الأول "أقسام الكلام وباب الإعراب والبناء" لأهميته لِمَا ينبني عليه بعد ذلك من أبواب، فهذا أصل وأساس لا يمكن الاستغناء عنه، لو جئت لشخص تدرسه المخفوض وهو لم يسبق له دراسة باب الإعراب وعلامات الإعراب لن يفهمه، هذا مثل الذي تريد أن تفهمه معادلة عويصة في الرياضيات وهو لا يعرف جدول الضرب ولا يعرف الجمع والطرح، كيف يمكن ذلك؟! ما يمكن، وإن فهم سيفهم فهمًا الجزئية، وإن جاءنا واحد في المئة أو واحد في المليون نابغة وفاهم مباشرة بدون يدرس هذا؛ فهذا شيء شاذ مستثنى، لكن الأصل أنه يدرس الطرح والضرب والجمع والقسمة، ثم الجذر التربيعي، إلى غير ذلك حتى يفهم المعادلات الكبيرة وهكذا.
{أحسن الله إليكم، شيخنا نلاحظ القسم الأول من الكتاب يتكلم عن الكلام وأقسام وعلاماته وكذلك الإعراب، فما هو القسم الثاني من الكتاب؟}.
قلنا تكلم في القسم الثاني عن المرفوعات في اللغة، بمعنى المرفوعات التي قد عرفت علاماتها أنها بالضمة أو بالألف أو بالواو، سيأتي معك قواعد تتعلق بهذه القضية وهي الرفع، فقال لك: أنا سأحصر لك المرفوعات في سبعة، فأي مرفوع يأتيك اعلم أن له صلة بعلامة الإعراب، فإذا جاءك مرفوع من هذه السبعة لا بد أن يكون هذا المرفوع الذي نصصتُ عليه تفصيلًا إما أن يكون مرفوعًا بالضمة، وإما أن يكون مرفوعًا بالألف، وإما أن يكون مرفوعًا بالواو، فهو بعد أن ذكر التفصيل ذكر الأبواب التي يمكن أن تدخل تحت ذلك التقسيم، وهي القسم الأول من أقسام الإعراب وهي الرفع.
ثم ثنَّى بعد ذلك بالمنصوبات، وذكر أنها خمسة عشر، وليبين لك أن هذه المنصوبات الخمسة عشر إن عرفتها تفصيلًا فهذا مبني على معرفتك بالعلامة الأصلية وهي الفتحة ثم ما ينوب عنها، فأي شيء من المنصوبات يأتيك فاعلم أنه مقرر عندك في الباب الأول.
ثم تكلم عن المجرورات، وكذلك الحال في هذا الباب أنه نصَّ على مجرورات معينة، متى ما وجدتَّ هذه الكلمات مجرورة فاعلم أن لها صلة بباب الإعراب في معرفة العلامة الأصلية فيها وما ينوب عنها، فقسَّم هذا التقسيم -رحمه الله تعالى- وهذا من حسن التأليف.
{أحسن الله إليكم، شيخنا قد يرد سؤال: ما هو الرفع والنصب؟}.
أشرنا إليه قبل قليل وقلنا: الرفع هو نوع من أنواع الإعراب، وهو تغير مخصوص علامته الضمة أو ما ناب عنها، فلما نقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197].
الكلمة الأولى من "الحج" هي مرفوعة، هذا الرفع هو تغير مخصوص أحدثه عامل من العوامل أوجب أن يكون آخر الكلمة هذه مرفوعة، إذًا الرفع هو تغير، والنصب هو تغير، والجر هو تغير، والجزم هو تغير؛ هذا التغير جاء بسبب عوامل هي التي اقتضت أن تكون أواخر الكلمات على هذه الأحوال من الإعراب التي ذكرتها لك.
{ما الذي يختص به الاسم والفعل من أنواع الإعراب؟}.
قلنا: الاسم يختص بالجر، والفعل يختص بالجزم، ويشتركان في الرفع والنصب.
مثل: "لن أُكرمَ زيدًا"، "أُكرمَ" فعل مضارع منصوب لأنه دخلت عليه "لن"، و "زيدًا" منصوب لأنه مفعول به، إذًا الفعل المضارع والمفعول به اشتركا في النصب.
تقول: "يقومُ زيدٌ بواجبه"، فـ "يقوم" فعل مضارع مرفوع، و "زيدٌ" فاعل مرفوع.
إذًا؛ اشترك الفعل المضارع والاسم في أن كلًّا منهما يُرفَع ويُنصَب.
ثم يختص الجزم بالأفعال، مثل: "لم يحفظْ"، ما تقول: "لم زيد"! لأن الجزم خاص بالأفعال.
إذًا؛ تنفرد الأفعال بالجزم، وتنفرد الأسماء بالجر.
{نريد أن نتطرق إلى الجموع، ونذكر أنواعها إجمالًا}.
عندنا: جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السَّالم، وجمع التَّكسير.
والمقصود بجمع التكسير: هو الجمع الذي تغيرت فيه صورة المفرد بعد الجمع، مثل: "كتاب" أربعة أحرف -الكاف والتاء والألف والباء- لما نجمعه نجد أن تكسَّر -أي تغيَّرت صورته- فنقول: "كُتُب" هذا التغيُّر إما أن يكون بحركة، أو بزيادة حرف، وإما نقص حرف، وإما بنقصٍ وحركة، فله ست صور مشهور.
فلما نقول: "كتاب" حركة الكاف هي الكسرة وعندنا ألف موجودة، لما نجمعها نقول: "كُتُب" حذفنا الألف، وغيرنا حركة الكاف من كونها مكسورة في "كِتاب" إلى كونها مضمومة، والتاء في "كِتَاب" المفرد كانت مفتوحة، فهنا لما جمعناها قلنا: "كُتُب" فضممنا الكاف والتاء مع أنها كانت مكسورة ومفتوحة في "كِتَاب". فهذا هذا هو جمع التكسير، هو ما يدل على أكثر من اثنين بتغيُّر صورة مفرده بعد الجمع.
أمَّا جمع المؤنث السالم فهو ما جمع بألف وتاء، يعني يُؤتى بمفرد ويضاف له الألف والتاء، فهذه الألف والتاء إذا أضيفت أفادت الجمع، فهذا يسمى جمع مؤنث سالم.
لكن لو جاءنا اسم فيه ألف وتاء فهذا لا يدل على أنه جمع، يعني مثلا كلمة "عرفات" هذا موضع معروف في مكة وهو مكان واحد، طيب هذا فيه ألف وتاء، لكن هذه الألف والتاء لم تفده جمعًا، وإنما هذا يصبح ملحقًا بجمع المؤنث السالم، وليس هذه الحقيقة موضع الحديث عنه.
جمع المذكر السَّالم: ما دلَّ على أكثر من اثنين بزيادة الواو ونون في آخره وأغنى عن متعاطفات، ولو دل على اثنين فهذا المثنى، لكن إذا دل على أكثر من اثنين "محمد ومحمد ومحمد" فنقول: "محمدون"، فبدل أن تعيد "محمد" ثلاث أو أربع مرات؛ نقول: يغنيك عن ذلك زيادة الواو والنون في حالة الرفع "جاء المحمدون"، وتقول: "أكرمت المحمديين". هذه أنواع الجموع الثلاثة: جمع التكسير، وجمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم.
{أحسن الله إليكم، شيخنا إذا أردنا أن نذكر الأسماء الخمسة}.
الأسماء الخمسة هذه ذكرها -رحمه الله تعالى- في باب الإعراب، وهي مما يكون فيها الإعراب نيابيًّا، يعني العلامات التي تدل على أنها مرفوعة أو أنها منصوبة أو أنها مجرورة فرعية، يعني لا ترفع بالضمة، ولا تنصب بالفتحة ولا تجر بالكسرة ولا تجزم بالسكون، لأنها فرع عن غيرها، فبالتالي لها علامات فرعية.
والأسماء الخمسة هي: (أبوك، أخوك، حموك، فوك، ذو)، و "ذو" هذه تضيفها لأي شيء، مثل: "ذو مال، ذو علم، ذو فضل".
وهي ترفع بالواو، تقول: "جاء ذو علم"، وتنصب الألف، تقول: "أكرمت ذا علم"، وتجر بالكسرة، تقول: "سلمت على ذي علم".
ولها شروط ذكرناها فيما مضي من الدروس.
{يا شيخ طيب لو كانت الأسماء الخمسة مجموعة مع جمع تكسير كيف يكون إعرابها؟}.
نقول: جمع التكسير سنعرفه بالحركات الأصلية، وهي الضمة أو الفتحة أو الكسر، وأما الأسماء الخمسة فهذه ستعرب إما بالواو رفعًا، وإما بالألف نصبًا، وإما بالياء جرًّا، مثلا لو قلت لك: "جاءَ الطلابُ"، سنقول: "جاء" فعل ماض، "الطلابُ" فاعل مرفوع.
ونقول: "جاء أبوك"، سنقول: "جاء" فعل ماض مبني على الفتح، "أبوك" فاعل مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء من الأسماء الخمسة.
إذًا؛ العلامة الإعرابية لجمع التكسير هي الحركات -وهي الضمة هنا- وأما الأسماء الخمسة هي الواو؛ لأنها نائبة عن الضمة.
{أسأل الله أن يفتح عليكم شيخنا، وأن يبارك فيكم ويرضى عنكم، إن شاء الله أنه يكفي بالقلادة ما أحاط بالعنق، وإن شاء الله نكون قد ألممنا بأغلب مباحث هذا الكتاب المبارك.
في ختام هذه الحلقة وفي ختام هذه السلسلة المباركة نريد منكم شيخنا وصية توصونها طلاب العلم إجمالًا، وخصوصًا لطلاب النحو ودارسي النحو والعربية}.
طبعا سبقت الإشارة مما ذُكر وهي في بيان أهمية العربية، وسبب الأهمية -بلا شك- أن القرآن عربي، وأن نبينا ﷺ عربي، إذا كان الأمر كذلك فإن هذا يحتم على طالب العلم الناظر في النصوص الشرعية أن يفقه شيئًا من تلك القواعد التي توصله لفهم كتاب الله -تبارك وتعالى-، فإن لم تكن عنده الآلة التي بها يفهم هذه النصوص فإنه سيخطئ، وسيفتي بغير علم، وسيضل -والعياذ بالله- ربما غيره بسبب هذا الأمر، ولذلك قال البخاري وغيره من أهل العلم فيمن ضل في علم الكلام، قال: "أهلكتهم العجمة"، وهناك مؤلفات كُتبت وهناك رسالة علمية كتبت في حاجة العلوم الشرعية للغة العربية، حريٌّ بالطالب أن ينظر إليها، نسيت مؤلفها الآن لكن عنوان الرسالة "حاجة العلوم الشرعية إلى علوم العربية" وعلى رأسها النحو بلا منازع، النحو هو الأساس، ولذلك لا يمكن للطالب أن يدرس علم البلاغة ولا أن يفهمه إلا بأن يتقدَّم رتبة فوق الآجروميَّة في فهم علم البلاغة، لا بد أن يتقدم، ولذلك كان بعض العلماء يسأل طلابه إذا اجتمعوا على شيء من كتب الأصول، فيقول: هل فيكم من درس "القطر"؟ فيقولون: لا، فيقول: الذي لم يدرس "القطر" لا يجلس معنا، لأنه لن يفهم، وسيصطدم بالخلاف والنصوص والعمق والدقة في مثل هذه الأمور.
فالمقصود: إذا فقه الإنسان أن نصوص الكتاب والسنة عربية وأنها تقتضي فهم القواعد التي توصل إلى فهمها، فإن هذا يحثه على أن يستعين بالله -تبارك وتعالى- وأن يطلب هذا العلم من مظانه، وكما ذكرنا أنه يتدرج في هذا العلم، ولا شك أن الآجرومية هي من يعني أولى درجات السلم في هذا الباب، وقد يختار البعض غيرها، إما نظمًا وإما "ملحة الحريري" رحمه الله تعالى في الإعراب، كل هذا يمكن، وهي للمبتدئين، ويرشَّح هذا الكتاب وخصوصًا إذا كان منثورًا، لأن النظم أحيانا يكون له ظروف معينة قد لا يُفهم المقصود إلا بضمه مع البيت الثاني، وقد يطوي الكلام في النظم، لكن لما يكون هذا منثورًا ويستمع له -والحمد لله ما شاء الله- كثيرة ومتوافرة جدًّا، ثم ينتقل بعد ذلك إلى "قطر الندى"، ثم يتدرَّج في ذلك إلى ما هو أكبر منه.
لكن المقصود أن علوم العربية -بلا شك- سواء كانت في البلاغة أو في النحو أو في الصرف، أو كذلك في المفردات، والنظر في الشعر وكلام العرب؛ لا شك أنه يورث الإنسان قوة في النظر، وحدة في الذِّهن، بحيث إنه يتمكن مما هو دونها من العلوم في السَّهالة واللطف، ولذلك يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى- فيما معنى كلامه في الموافقات: "من كان متمكِّنًا في العربية كان متمكِّنًا في علم الشريعة، ومن كان متوسطًا كان متوسطًا، ومن كان ضعيفًا كان ضعيفًا في العلوم العربية".
هذا ما يمكن قوله حول هذه الجزئية، والإنسان لا بد أن يجتهد حتى يصل إلى الرتبة التي بها يمكنه فهم النصوص.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وفتح الله لكم، وزادكم من فضله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، قد أكرمنا المولى -تبارك وتعالى- بإتمام هذا الشرح المبارك مع فضيلتكم، نسأل الله -تبارك وتعالى- بأن يجعل هذه المجالس كلها شاهدة لنا لا علينا، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله- في لقاءات أخرى وفي كتب أخرى بإذن الله تعالى، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ