الدرس الأول
فضيلة الشيخ عبدالله بن حسن الحارثي
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتابَ والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، حياكم الله وبياكم، مرحبًا بطلاب العلم، نرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثالث، والذي نشرح فيه (المقدمة الآجرومية) للإمام محمد بن آجروم -رحمه الله تعالى-، يصحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ عبد الله بن حسن الحارثي.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ عبد الله}.
أهلاً وسهلاً ومرحبًا، حفظكم الله وبارك فيكم.
{الحمد لله على السلامة}
سلمكم الله، وبارك فيكم.
{قبل أن نبدأ، وددنا أن نأخذ مقدمة عن المؤلف -رحمه الله- وعن كتابه}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أولاً: نبدأ بشكر الله -تبارك وتعالى- الذي هيأ مثل هذا اللقاء، وهذه الدورة المباركة، التي أسأل الله -عز وجل- أن ينفع بها المتكلم والمستمع، ثم نُثني بالشكر كذلك لـ وفقهم الله -تبارك وتعالى- على هذا التنسيق، وعلى هذا البذل المشكور في نشر العلم إلى مستحقيه.
وبالنسبة لهذا الكتاب المبارك الذي بين أيدينا، هو مقدمة أساسية في علم النحو، لهذا المؤلف -رحمه الله تعالى- أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاني، المتوفى سنة سبعمائة وثمانية وعشرين -رحمه الله تعالى- وينسب لابن آجروم، ومعناه: الفقير الصوفي في لغة البربر -الشمال الأفريقي- وكان صالحًا ومُهتمًا بالقراءات، وقيل: إنه ألَّف هذه المقدمة وهو جالس تجاه الكعبة -رحمه الله تعالى-، وهذه المقدمة كتب الله -عز وجل- لها القبول، وإن كانت متأخرة في الزمان لكنها شريفة رتبة ومكانة، وقد كتب الله -عز وجل- لها القبول، وإن كانت سبقت بكتب كبيرة وسابقة لها، إلا أنَّها تعتبر خلاصة زبدتي هذا العلم، الذي هو أحد فروع علم العربية.
ولو جئنا نتصور الأجرومية بشكل مجمل، فهي تنقسم لأربعة أقسام:
مقدمة: ذكر فيها المؤلف -رحمه الله تعالى- الكلام، عَرَّفَ بالكلام، وأقسام الكلام، وذكر علامات كل قسم، أي: كيف يميز بين الأقسام الثلاثة التي سترد معنا -بإذن الله تبارك وتعالى-، ثم تكلم عن الإعراب، وهو أهم قضية في هذا الباب، وهو تغيير أواخر الكلم الذي تنبني عليه المعاني، ثم ذكر أقسام هذا الإعراب، ثم ذكر علامات كل قسم، والعلامات هي على قسمين: إمَّا أن تكون أصلية، وهي: "الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون"، وإمَّا أن تكون فرعية، أي: فرع عن هذه الحركات.
إذًا الأصل في الإعراب هو الحركات، ثم ينوب عنها غيرها، وإمَّا أن تنوب حركات، وإمَّا أن تنوب حروف عن هذه العلامات.
ثم القسم الثاني: تكلم فيه عن المرفوعات، وحصرها في سبعة، ثم تكلم عن المنصوبات، وحصرها في خمسة عشرة منصوبًا، ثم تكلم عن المجرورات، وحصرها في ثلاثة أقسام.
هذه جملة ما يمكن قوله حول تصور الكتاب، وسيأتي مع تفصيل -بإذن الله تبارك وتعالى.
{ابن آجروم -رحمه الله- بدأ كتابه بطريقة الكوفيين أليس كذلك؟}
بلى، هو على المذهب الكوفي -رحمه الله تعالى-، ولذلك ورد في ثنايا كلامه التعبير بالخفض، وغير ذلك مما يدل على أنه كوفي المذهب -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم.
نبدأ على بركة الله، قال -رحمه الله-: (اَلْكَلَامُ: هو اَللَّفْظُ اَلْمُرَكَّبُ، اَلْمُفِيدُ بِالْوَضْعِ)}.
بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بالبسملة كما هو مثبت عندي في النسخة، وهذا اقتداء بكتاب الله -تبارك وتعالى- حيث إنَّ القارئ أو التالي لكتاب الله تعالى، إذا فتح أول المصحف يجد البسملة مذكورة في بداية سورة الفاتحة. وأيضًا اقتداءً بالنبي ﷺ في مُراسلاته وكتاباته، حيث كان يبدؤها بـ بسم الله الرحمن الرحيم، وتبركًا بهذا الذكر الذي ورد فيه أحاديث لا تخلو من ضعف -كما قال أهل العلم-، وهي: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ»، أي: ذو شأن «لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَر» أو «أَقْطَعْ» أو «أَجْذَمُ»[1] على اختلاف الرواية في ذلك.
وأَيًّا كان الحال فإنَّ هذه البسملة، التي ابتدأ بها المؤلف -رحمه الله تعالى- مما يستعان ويتبرك بها.
ثم بدأ بالكلام، وهذه طريقة المؤلف -رحمه الله تعالى- وهناك طريقة أخرى عند أهل العلم في هذا، وهي أنهم يبدءون بالكلمة، ومن بدأ بالكلام فهو يقصد به الغرض من تركيب الكلمات، هو الكلام الذي يفهم به المعنى، ومن قدَّم الكلمة فهو يبدأ بالجزء قبل الكل، وابن هشام -رحمه الله تعالى- في "قطر الندى" مثلا بدأ بالكلمة، والكلام حول الكلمة ونحو ذلك؛ لأنَّ هذا جزء، والجزء يُبدأ به قبل الكل.
ومن نظر في أنَّ هذا الجزء مع غيره يُتَمِّمُ مَقصدًا، فمنهم من اعتبر المقصد والغاية من هذه الكلمات هو الكلام، فابتدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- كتابه بتعريف الكلام.
و (اَلْكَلَامُ) هذه الكلمة مثلثة الكاف، الكَلام، والكُلام، والكِلام، فالكِلام معناها: الجراح، والكُلام معناه: ما ارتفع وصلب من الأرض، وأمَّا (الْكَلَامُ) عند أهل اللغة فهو كُلُّ مَا أفاد، سواءً كان ملفوظًا أو غير ملفوظ، فإنه يسمى كلامًا، فالإشارة كلام، والكتابة كلام، والعقد بالأصابع كلام،
والنُّصُب التي توضع علامات على الطريق تسمى كلامًا، وكلها تدخل في جملة الكلام عند أهل اللغة، لكن أهل الاصطلاح -وهم النحاة- قيدوا هذا الكلام المطلق عند أهل اللغة بقيود، متى توفرت أُطلق عليه كلام عند النحاة، وهذا ما يسمى بالاصطلاح، وهو أن يتفق أهل فنٍّ مُعين على مفردات أو على ألفاظ، أو على اصطلاحات، متى أطلقت، أو متى ذكرت؛ عُرِفَ أنَّ هذا هو المقصود عند هذه الطائفة؛ لأنه قد يُوافقهم غيرهم في لفظ من الألفاظ، لكن هذا اللفظ يعرض عند هذا الاصطلاح بتعريف يخالف غيره عند من اصطلح على نفس الكلام أو على نفس اللفظة، لكنَّ له معنى آخر عند ذلك المصْطَلِح في فن آخر.
فهنا يقول: (هو اَللَّفْظُ اَلْمُرَكَّبُ، اَلْمُفِيدُ بِالْوَضْعِ) أي عند النحاة هو: (اللفظ) يعني: ما حوى أربعة قيود، واللفظ في اللغة هو الصوت، والمقصود به الملفوف. فاللفظ لغة هو الرمي، تقول: "لفظت الرَّحى الدقيق" أي: أَلقته، وتقول: "لَفِظَ البحر الحوت" أي: ألقاه.
وأمّا في اصطلاح: فاللفظ هو: "الصوت الخارج من الفم، المشتمل على بعض الحروف الهجائية". إذًا اللفظ لا بد أن يكون صوتًا خارجًا من الفم، مُشتملا على بعض الحروف الهجائية، ويخرج بذلك ما أفاد ولكنه ليس بلفظ، كالإشارة، فالإنسان إذا قيل له مثلا يشير له هكذا يعني: "تعال" لكنه لم يتلفظ، هذا كلام عند أهل اللغة، ولكنه ليس بكلام عند النحاة، وغيرها مما يدل على المقصود لكنه لا لفظ فيه، فهذا لا يسمى كلامًا عند النحويين، وإنما لابد أن يكون كلامًا.
لابد أن يكون مُشتملا على بعض الحروف، وهذا القيد يُخرج ما لو صَرَخَ الإنسان مثلاً، فإنَّ هذا لا يُسمى كلامًا، وإن كان هو صوت خارجًا من الفم، لكنه لا يشتمل على بعض الحروف الهجائية، فهذا يُستثنى من هذا القيد، وهو قولنا: صوت مشتملٌ على بعض الحروف الهجائية، كما سنعرف بها -بإذن الله - عند قوله: (وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى).
{اللفظ هو ما يخرج من الفم، سواء اشتمل على حروف أم لا؟}
نعم، هذا هو اللفظ، ثم هذا اللفظ إذا كان مُستعملا فإنَّه يقال له قول. يعني: لو أنَّ إنسانًا مثلا تلفظ بكلمة "دَيز" مقلوب "زيد" هذه تسمى: لفظًا، ولكنها ليست كلامًا؛ لأنها لا تفيد معنى، وهذا التفصيل لا يحتمل هذا المختصر، لكن المقصود باللفظ: هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية.
قوله: (اَلْمُرَكَّبُ) والمقصود بالمركب هنا هو: ضم كلمة إلى أخرى على وجه الإسناد؛ لأنَّ عندنا "المركب الوصفي"، وعندنا "المركب الإضافي"، وعندنا "المركب المزجي"، وعندنا "المركب الإسنادي"، فلمّا نقول مثلا: "غلام زيد" هذا مضاف، ومضاف إليه، وهذا لا يُسمى مُركبًا عند النُّحاة. لماذا؟ لأنَّ هذا التركيب فيه نقص من جهة تمام المعنى؛ لأنَّ "غلام زيد" أنت تحتاج أن تخبر عنه، والمستمع يتشوف إلى كلام يَتِمُّ به المعنى. نعم المضاف إلى من كان مركبًا من كلمتين، ولكن هذا التركيب لا يفيد معنى يحسن السكوت عليه، فذلك "التركيب المزجي" كقولك: بعلبك، وبعلبك هذه مدينة، وهي مزج بين "بعل، بك"، فهذا المزجي إن كان مركبًا من كلمتين لكنه ليس هو المركب عند النحاة.
عندنا "المركب الوصفي" أيضًا، إذا قلت لك: "الرجل الصالح" الرجل هذا اسم، ووصفته بالصلاح، لكن أنت ما زلت تحتاج إلى معنى يَتم به هذا اللفظ، فلمَّا تقول: "الرجل الصالح" هذا مركب من كلمتين، لكنه "تركيب وصفي"، وهذا التركيب الوصفي ليس هو مقصود المؤلف -رحمه الله تعالى-.
إذًا ما مقصود المؤلف؟
مقصود المؤلف: "التركيب الإسنادي"، يعني: معناها ضم كلمة إلى أخرى، بحيث تتكون من مبتدأ وخبرا، أو فعل وفاعل، أو جملة اسمية، أو جملة فعليه.
مثال: "زيد في الدار" أو "زيد مسافر" فـ "زيد" هي الكلمة الأولى، ومسافر هي الكلمة الثانية، فلمَّا أَسْنَدت السفر إلى "زيد"، وحكمت به على "زيد" فهنا تمَّ المعنى، فلو لاحظت وجدت أنَّه ليس تركيبًا إضافيًا، وليس تركيبًا مزجيَا، ولا تركيبًا وصفيًا، وإنما هو "تركيب إسنادي"، فأنت أسندت إليه، أو تُسند إليه فعلا فتقول مثلا: "زيد يحب النحو"، فأنت حكمت على "زيد" بكونه محبًا للنحو.
إذًا هذا هو المقصود بالتركيب في قوله: (الْمُرَكَّبْ) أي: من كلمتين فأكثر، لكن هذا التركيب يكون تركيبًا إسناديًا، بحيث تُضم كلمة إلى أخرى لتدل على المعنى المستقل بذاته.
وقوله: (المفيد) المقصود به فائدة يحسن السكوت عليها، وهذا يُخرج ما لو قال شخص مثلا: "إن جاء زيد"، فلو ينطبق عليها القيد؟
هل هو (لفظ)؟ نعم هو لفظ.
هل هو مركب من أكثر من كلمة؟ نعم، "إن جاء زيد" عبارة عن فعل وفاعل وحرف، ولكنه لم يُفد.
أمَّا قولك: "إن جاء زيد فسأكرمه"، فهنا تم المعنى، فقوله: (المفيد) لِيُخْرِجْ ما كان فيه القيدان الأولان، ولكنه خلا عن هذه الفائدة. إذًا لابد في قولك: (المفيد) أن تكون تلك الفائدة يحسن السكوت عليها، يتم بها المعنى، لا يصبح المستمع مُتشوفًا إلى كلام جديد، ومثاله في القرآن قول الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجً﴾ فهذه أكثر من جملة، ومع ذلك ما زال المستمع متشوفًا للفائدة، فلمَّا قال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ هنا تمَّ المعنى.
إذًا ليس كل لفظٍ -وإن كان مركبًا عربيًا إلى آخره- يُسمى كلامًا عند النُّحاة، بل لابد أن يكون لفظًا، ولابد أن يكون مُفيدًا، ولابد أن يكون مُركبًا التركيب الذي مَرَّ ذكره.
ثم قال: (بِالْوَضْعِ) وهنا خلاف في المقصود (بِالْوَضْعِ) قيل: بالوضع، أي بالوضع العربي، يعني: أن تكون هذه الألفاظ التي يُحكم عليها بأنها كلام عند النُّحاة، لابد أن تكون بالوضع العربي، يعني: العرب هي التي وضعت تلك الألفاظ، ويخرج بذلك ما يدل على كلام العرب ولكنه ليس من لفظه. فلو جئنا مثلا نستخدم فعلا ماضيًا من أفعال اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها، فهذا لا تجري عليه قواعد النحو، فما نقول مثلا: كذا مبني وعلامة بنائه كذا، أو مرفوع وعلامة رفعه الضمة، وإنما المقصود بالوضع: أي الوضع العربي، الذي وضعته العرب، وهذا مهم.
وقيل بالوضع: أي أن يكون المتكلم قاصدًا لذلك الكلام، يعني: قد يتكلم الإنسان كلامًا عربيًا مُفيدًا إلى آخره، لكنه لا نية له في إطلاق هذا اللفظ، كما لو قال "زيد" وهو نائم مثلا: "زوجتي طالق"، فهذا كلام، وخارج من فم، ومشتمل على بعض الحروف، ومركب، ومفيد، ولكنه لم يكن قاصدًا له، فهذا لا يُسمى كلامًا عند النُّحاة.
فإذًا، المقصود به إمَّا بالوضع العربي، أي: تجري عليه قواعد النحو، وإمَّا أن يكون المتكلم قاصدًا أن يضع ذلك الكلام. وإن لم يكن قاصدًا له ماذا يسمى؟ يسمى لفظًا أو يسمى كلامًا عند غير النُّحاة، وأما النُّحاة فلابد من هذه القضية.
هنا قضية مُهمة نريد أن نشير إليها، وهي في قوله: (اَلْمُرَكَّبُ) فالمركب حينما يكون مؤلفًا من كلمتين فأكثر تحقيقا، يعني: يُلفظ بأكثر من كلمة، إذا قلت لك: "زيد مسافر" هذا مُركب من كلمتين كما هو واضح. ولو سألتني أنت فقلت: "من جاءنا أو من زارنا؟" قلت لك: "زيد" فقط، أي: تلفظت بكلمة "زيد"، فهذا يسمى كلامًا، فإذا اعترض المعترض وقال: كيف تقول "زيد" كلام، وأنت قلت: لابد أن يكون مركبًا من كلمتين فأكثر! نقول: لأنَّ هناك محذوف مُقدر يُنْوَى ثُبوته، وهذا مفهوم من سؤال السائل. فلما قال: من جاءكم؟ قلت أنا: "زيد" يعني: "جاءنا زيد"، ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَ﴾ [الرعد:35]، يعني: وظلها دائم، فهذه الجملة: ﴿وظله﴾ ما يأتي معترض ويقول: هذا ليس بكلام، نقول: بل هو كلام؛ لأنَّ هناك محذوفًا مقدرًا فُهِمَ بما سبق.
لكن لو جاءنا شخص ابتدأ الكلام مثلا وقال: "زيد" هكذا دون أن يسأله أحد، أو دون أن ينبهه على قضية أو كذا، فقال: "زيد" أو قال مثلا: "قلم" أو "كتاب" دون أن يوجه له سؤال أو خطاب، نقول: هذا لا يسمى كلامًا؛ لأنه لا يمكن أن نقدر الشيء الذي به نستفيد من هذا اللفظ.
إذًا لابد أن يكون مركب من كلمتين أو أكثر، تحقيقًا يعني: مؤلفًا بهاتين الكلمتين، أو مُقدرًا ذلك اللفظ المحذوف، لكنه يُكَوِّن مع غيره كلمة أخرى يحصل بها الفائدة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ: اسم، وَفِعْلٌ، وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى)}.
أقسامه: يعني أقسام الكلام، وهي أجزاؤه التي يتركب منها، وهي ثلاثة أقسام عند العرب، والدليل على هذا التقسيم، قالوا: الاستقراء والتتبع. والاستقراء هو تتبع الجزئيات للوصول إلى نتيجة كلية، أي أنَّ علماء النحو لَمَّا تتبعوا كلام العرب في خطبهم وفي أشعارهم وفي مساجلاتهم وفي مجالسهم، وجدوا أنَّ هذا الكلام الذي يدور فيما بينهم لا يخرج عن ثلاثة أقسام. يعني: كما لو قلت مثلا لإمام مسجد: "استقرئ لي الناس الذين عندك في المسجد"، فذهب عند الأول أنت أين تعمل؟ قال: طبيب، ثم الثاني قال: طبيب، ثم الثالث قال: عسكري، ثم الرابع قال: طبيب، ثم مدرس، مدرس، طبيب، عسكري. وجد أن هؤلاء كلهم لا يخرجون عن كونهم إما طبيبًا أو عسكريًا أو مدرسًا. إذا هذا يسمى استقراء.
كذلك علماء النحو نظروا فوجدوا أنَّ كلام العرب لا يخرج عن هذه الثلاثة أقسام بالاستقراء والتتبع.
قالوا: عندهم دليل آخر وهو قسمة عقلية، قالوا: الكلمة الملفوظ بها عند العرب إمَّا أن تدل على معنى في نفسها، وإمَّا أن تدل على معنى في غيرها. تدل على معنى في نفسها، بحيث إذا أُطلق ذلك اللفظ فُهِمَ منه معنى، أي: بمجرد إطلاقه يفهم منه معنى. وإمَّا أن تدل هذه اللفظة على معنى في غيرها، يعني: لا يُفهم منها معنى إلا إذا ضممتها إلى غيرها. فقالوا: إن كانت الكلمة تدل على معنى في نفسها، فإمَّا أن تقترن بزمن، وإما ألا تقترن بالزمن، فإن لم تقترن بالزمن فهذا يسمى اسمًا.
إذا قلت لك: "زيد" ما تقول لي متى؟ القلم ما تقول لي متى؟ فإذا دلت على معنى من غير اقتران بزمن فهذا يسمى اسمًا، وإن دلَّت على معنى مثل: "حفظ" لكنه اقترن بزمن إمَّا ماضٍ أو حاضر أو في الاستقبال، قالوا: هذا يسمى فعلا.
قالوا: وإن دلت على معنى في غيرها فهي الحرف؛ لأنَّ كلمة "مِنْ" مثلا، هي حرف جر، وهذا لا يمكن أن تفهم معناه إلا إذا وضعته في جملة؛ لأنَّ له عِدَّة معان محتملة، فأنت إذا أطلقته، أو أطلقت فيه، أو قلت: "إلى" أو "عن" مثلا، هذه لها عدة معان لا تُفْهَم إلا إذا ضممتها إلى غيرها.
إذًا نعود فنقول: القسمة عندهم عقلية، إمَّا أن تكون الكلمة دالة على معنى في نفسها، أو معنى في غيرها: فإن دلت على معنى في نفسها، فإما أن تقترن بزمن فهي فعل، وإمَّا أن لا تقترن بزمن فهي الاسم، وإمَّا أن تدل على معنى في غيرها، فهذا هو الحرف.
إذًا دليلهم إمَّا تتبع الاستقراء، أو القسمة العقلية التي ذكرت.
قال: (اسم، وَفِعْلٌ، وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى) هنا قدَّم الاسم؛ لأنه أشرف من الفعل، وكذلك قدمه مالك -رحمه الله تعالى-، فقال: (كلامُنا لَفْـظٌ مفيدٌ كاسْـتَقِمْ، واسْـمٌ وفعلٌ ثُمَّ حرفٌ الْكَلِمْ) لماذا هو أشرف؟ قالوا: لأنه يمكن أن يستقل المتكلم بجملة فيها اسمان دون الحاجة إلى الفعل والحرف، فلو قلت لك مثلا: "زيد مسافر"، فـ "زيد" اسم، و "مسافر" اسم، إذًا نحن كونا جملة من غير الحاجة إلى فعل ولا حرف، وفي المقابل لا يمكن أن تُكَوِّنَ جملة بحرفين أو بحرف وفعل. أو بفعل وحده، بل لابد في كل جملة من وجود اسم، سواء كان هذا الاسم ظاهرًا أو كان ضميرًا مستترًا أو ظاهرًا، ولهذا قَدَّمَ -رحمه الله تعالى- الاسم؛ لأنه أعلى رتبة وأشرف؛ لإمكان تكوين جملة مُفيدة منه، دون الحاجة إلى الفعل والحرف.
ثم آخَّر الماتن "الفعل" عنه؛ لأنه أدنى منه رتبة، ويمكن أن تكون جملة بفعل واسم، فتقول مثلا: "زيد يحب العلم"، فلاحظ أنَّ "يحب" جاء معها اسم وهو "زيد" المتقدم، وكذلك فيها فاعل مستتر، وهو: "يحب" يعني: زيد.
وأمَّا الحرف فهو في اللغة: الطرف، أي يتأخر، ثم قيده بكونه: (حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى)؛ لأنَّ الحروف عندنا في العربية قسمان، حروف مبان، أي يتركب منها الكلام، الهمزة والراء والباء وإلى آخره، وهذا ليست هي مقصود المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
وإنما الحروف التي جاءت لمعنى، أي: التي إذا وردت وضُمَّتْ إلى غيرها؛ ظهر معنى جديدًا من خلال النطق بذلك الحرف، فأنت لو قلت مثلا: "خرجت من المسجد إلى الكلية"، فـ "مِنْ" حرف جر، أفادت معنى، وهو أنَّ ابتداء خروجه كان من المسجد إلى الكلية، ولكن لما تقول مثلا: "خرجت "ف" من المسجد إلى الكلية"، فحرف الفاء هذا وجوده في سياق الجملة لا قيمة له، لأنَّ هذا الحرف حرف مبنى، وبالتالي لابد أن يحذف، بينما "مِنْ" حرف جاء لمعنى، أي ليدل على معنى وهو الابتداء، فهذا مقصوده -رحمه الله تعالى-.
إذًا قلنا: الحروف تنقسم إلى معان ومبان، وحروف المباني هي مقصود المؤلف -رحمه الله تعالى-.
الأفعال -كما هو معلوم، وسيأتي تفصيلها- ثلاثة، إمَا ماض، وإما مضارع، وإمَّا أمر، وعند الأزمنة ثلاثة، وهذا لابد أن يفهم حتى يُفرق بين الأمرين، فعندنا أزمنة، وعندنا أفعال، فالأزمنة مثل: الوعاء، والأفعال مثل: الماء الذي يوضع في هذا الوعاء، فالزمان الماضي مثلا فيه: "كتب، وحفظ، وقرأ، وصام، وصلى، وحج"، فالزمن الماضي هذا تقع فيه الأفعال، فهو مثل الوعاء، وهذه الأفعال مثل الماء.
الزمن الحاضر الذي نحن فيه الآن، مثل: "يكتب، يشرح، يدرس، يعلق، ينتبه، يتكلم" فهذا زمن الحال تقع فيه أفعال كثيرة، فهو كالوعاء، وهذه الأفعال التي تقع فيه مثل الماء.
إذًا عندنا الأزمنة ثلاثة: الماضي والحال والاستقبال، والاستقبال يقع فيه: "قم، احفظ، اكتب، اشرح، ادرس، افهم، ونحو ذلك".
إذًا عندنا أزمنة ثلاثة: ماض وحال واستقبال، والأفعال ثلاثة: ماضٍ، ومضارع، وأمر، وكذلك الحروف ثلاثة: حرف مختص بالأسماء، وحرف مختص بالأفعال، وحرف مشترك بينهما، فمن المختص بالأسماء -كما سيأتي معنا- "مِنْ" هذا حرف جر، لا يدخل إلا على الأسماء، وعندنا حروف خاصة بالأفعال مثل: "لم" وهو لا يدخل إلا على الفعل المضارع. أو مثلا "أَنْ" أو غيره كما سيأتي معنا -بإذن الله تبارك وتعالى-.
وهناك حروف مُشتركة تدخل على الأسماء والأفعال، مثل كلمة: "هل"، "هل زيد عندكم؟"، "هل يقوم زيد بواجبه؟" نلاحظ أنَّ "هل" دخلت على الفعل، ودخلت مرة على الاسم، وهذا الذي هو مشترك لا يعمل فيما بعده، المشترك يؤثر من جهة المعنى، ولكنه لا يؤثر من جهة الإعراب واللفظ، وأمَّا المختص فهو أقوى، فلمَّا اخْتَصَّ أَثَّرَ، فحرف الجر "مِنْ" يُؤثر بالجر فيما بعده، ولم يُؤثر بالجزم فيما بعده، وهو الفعل المضارع، وأمَّا إذا كان مشتركًا بينهما؛ فإنه لا يُؤثر، وإنما يفيد معنى، ولكنه لا يؤثر من جهة الإعراب.
قال -رحمه الله-: (فَالِاسْمُ يُعْرَفُ: بالخفض، وَالتَّنْوِينِ، وَدُخُولِ اَلْأَلِفِ وَاللَّامِ.
وَحُرُوفِ اَلْخَفْضِ، وَهِيَ: مِنْ، وَإِلَى، وَعَنْ، وَعَلَى، وَفِي، وَرُبَّ، وَالْبَاءُ، وَالْكَافُ، وَاللَّامُ.
وَحُرُوفُ اَلْقَسَمِ، وَهِيَ: اَلْوَاوُ، وَالْبَاءُ، وَالتَّاءُ).
كأنَّ سؤلاً ورد عليه -رحمه الله تعالى- كأن قيل له: عرفنا أنَّ أقسام الكلام ثلاثة، اسم وفعل وحرف، فكيف أفرق بينهما؟
قال: (فَالِاسْمُ يُعْرَفُ: بالخفض، وَالتَّنْوِينِ، وَدُخُولِ اَلْأَلِفِ وَاللَّامِ) فهذه أربع علامات يُعرف بها الاسم، وهي في الحقيقة أكثر من ذلك، فمن العلماء من أوصلها إلى ثلاثين علامة، لكنه بدأ بالأسهل والمشهور والمتداول، فقال: (بالخفض) والخفض هو تعبير الكوفيين، ومعناه: الجر، والخفض -كما سيأتي إن شاء الله- تعريفه بشكل مفصل فيما يتعلق بأقسام الإعراب، هو أَثَرٌ يُحدثه العامل في آخر الكلمة، علامته الكسرة أو ما ينوب عنها -كما سيأتي معنا بإذن الله تبارك وتعالى-.
فإذا وجدنا كلمة مجرورة، يعني: في آخرها "كسرة"، فنعلم أنَّ هذه الكلمة اسم، فإن وجد حرف أو نحو ذلك في آخره كسرة؛ فليعلم أنَّ ذلك لعلة وجدت هذه الكسرة، لا على أنها مجرورة. فمثلا لو قلنا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:1] نلاحظ أنَّ كلمة المسجد في آخرها كسرة، إذًا "المسجد" اسم. كيف استدللنا عليه بأنه اسم؟ بوجود الكسرة على الدال في آخره، إذًا هذا هو الخفض، فإذا وجدنا كلمة مخفوضة فلنعلم أنها اسم، وأمَّا الأفعال فإنها لا تخفض.
{هل يمكن أن نقول: إنه يعرف بالذي قبله، فإذا أتى حرف جر، كان الذي بعده اسمًا مجرورًا}.
أحسنت، وهذه إحدى العلامات التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى-.
لماذا عبَّر الماتن بالخفض هنا؟
لأنَّ الخفض قد يكون بغير الحرف، قد يكون الخفض بالإضافة، مثل: "غلام زيد"، "كتاب محمد" الاسم هنا لم يسبقه حرف ولكنه جُرَّ بالإضافة.
كذلك هناك جر بالتبعية -كما سيأتي- معنا، تقول: "سلمت على رجلٍ صالحٍ"، فـ "صالح" لا يعرب مضافًا إليه، وليس مسبوقا بحرف جر، وإنما جاء تبعًا للاسم الذي قبله، فلمَّا كان مجرورًا جُرَّ تبعًا، يعني: عندنا جر بالتبعية، وجر بالحرف، وجر بالإضافة، فعبر المؤلف هنا بالخفض؛ ليشمل هذه المؤثرات الثلاث، وهي: الحرف والإضافة والتبعية -كما سيأتي معنا إن شاء الله- في باب التوابع.
قال -رحمه الله-: (وَالتَّنْوِينِ)، التنوين هو نون ساكنة تلحق آخر الكلمة لفظًا، وتفارقها خطًا، يعني: أنت تلفظ بها نونًا، ولكنك لا تكتبها نونًا، وهما: الفتحتان، والضمتان، والكسرتان.
فلو قلت: "محمدٌ" تكتب "دالاً" وفوقها ضمتان، ولا تكتب نونًا بعدها. هذا هو المقصود بالتنوين، فعندنا الحروف لا تُنون، وكذلك الأفعال لا تنون، وإنما هذا من خصائص الأسماء، وله علة في ذلك، وفيه تفصيل لا يحسن ذكره في هذا المطلوب.
قال: (وَدُخُولِ اَلْأَلِفِ وَاللَّامِ) أي: "أل"؛ لأنَّ من خواص الأسماء دخول الألف واللام عليها، فلا يمكن أن تدخل على الفعل يحفظ "أل"، فتقول: "اليحفظ"، ولا تقول مثلا في الحرف "مِنْ": "الْمِنْ"، ولا في "إلى" تقول: "الإلى"، ونحو ذلك؛ لأنَّ هذا من خصائص الأسماء، فأي كلمة فيها الألف واللام؟ ولو لم تكن مجرورة، ولو لم يدخل عليها حرف خفض، فبمجرد وجود الألف واللام يستدل بهما على أن هذه الكلمة اسم، فـ "الرجل، الكتاب، القلم، محمدٌ" فكل ما قبل دخول ألف فهو اسم من الأسماء.
قال: (وَحُرُوفِ اَلْخَفْضِ)، يعني: من علامات الاسم أنه يُسبق بحرف من حروف الخفض، فأي كلمة تقبل أن يسبقها حرف من حروف الجر، التي سيذكرها الماتن -رحمه الله تعالى- فاعلم أنَّ تلك الكلمة التي دخل عليها ذلك الحرف هي: اسم، فلا يمكن أن يأتينا حرف سابق له حرف آخر، ولا يمكن أن يأتينا فعل وقد سبقه فعل، أو سبقه حرف من حروف الجر، فما يصح أن تقول مثلا: "إلى يحفظ"، ولا يصح أن تقول: "مِنْ يكتب"، ولا يصح أن تقول: (عن مشى)، وكذلك "من اكتب" إلى غير ذلك، فلا يمكن أن يأتي فعل مضارع أو أمر أو ماض ويسبقهم حرف من حروف الجر، بل هذا من خصائص الأسماء، كذلك لا تقول: "مِنْ إلى".
فإذا قال قائل: قد نسمع مثلا من يقول: "وقع العصفور من على الشجرة"، لاحظ أنَّ "من" حرف جر، و "على" حرف جر، فكيف تقولون: إن هذا من خصائص الأسماء؟
هنا نقول: هذا الذي جاء في السياق "وقع العصفور من على الشجرة" لا بد أن يؤول باسم، فيكون: "من فوق"، أي: "وقع العصفور من فوق الشجرة"، فإذا أَوَّلنَا بهذا المعنى صَحَّ دخول الحرف على الحرف في الظاهر، لكن -في الحقيقة- هو دخل على اسم، فالعبرة بالمعنى لا بذلك اللفظ.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- جملة من أحرف الخفض، والنسخة التي عندي ربما تخالف النسخة التي عندكم، ولذلك هو ذكر بعض الحروف ستأتي معنا في آخر المتن سنتكلم عنها هناك؛ لأنَّ فيها تفاصيل، وهي: "مذ، منذ، حتى" هذه ستأتي معها بإذن الله -تبارك وتعالى-.
{حروف الخفض أكثر من ذلك يا شيخ؟}.
نعم، هي عشرون حرفًا، ذكرها مالك -رحمه الله تعالى-، ونظمها في ثلاثة أبيات، ونحن سنتكلم عنها على سبيل الإجمال من جهة بعض المعاني المتعلقة بهذه الحروف، وهذا مهم جدًا، ومفيد للناظر في التفسير أو غير ذلك.
يقول: (وَحُرُوفِ اَلْخَفْضِ، وَهِيَ: مِنْ)، ومن أشهر معانيها الابتداء، ومن أشهر معانيها كذلك التبعيض، تقول: "خرجت من المسجد إلى الكلية"، "قرأت من الصفحة الأولى إلى الصفحة العاشرة" ف(مِنْ) هنا تفيد الابتداء، أي أنَّ ابتداء القراءة كان من هذا إلى ذاك، فهي تفيد الابتداء، سواء كان هذا الابتداء زمانيًا أو مكانيًا، تقول مثلا: "صمت من اليوم الأول إلى اليوم الحادي عشر" هذا ابتداء زماني، و "سافرت من جدة إلى مكة" هذا ابتداء مكاني.
إذًا، (من) تفيد الابتداء المكاني أو الزماني، ومن معانيها كذلك: التبعيض إلى غير ذلك، ولها معان كثيرة أخرى.
و (إِلَى) تفيد الانتهاء، أي: انتهاء الغاية، وهذه سواء ما إذا كانت الغاية زمانية أو مكانية، مثل: "صمت من اليوم الأول إلى اليوم الحادي عشر"، فالغاية هنا زمنية، يعني: كان نهاية صومي إلى هذا اليوم. وتقول مثلا: "سافرت من مكة إلى الرياض"، فـ "إلى الرياض" هذا نهاية سفري، إذًا هذه غاية مكانية، وقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هذ ابتداء مكاني، ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ وهنا نهاية المكان.
إذًا (إِلَى) تفيد الغاية المكانية والغاية الزمنية.
قال: (وَعَنْ) هذه أيضًا تُفيد المجاوزة، تقول مثلا: "مررت عن يمين النهر"، أي: جاوزته مارًا به، فهي تفيد المجاوزة. تقول: "رميت السهم عن القوس" أي: جاوز السهم القوس فتعداه، ومثل: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق:19]، يعني: تجاوزون هولاً بعد هول، وهذه من أشهر معاني (عَنْ) وتأتي بمعنى "علا "، وتأتي بمعان أخر.
قال: (وَعَلَىَ) وهي أيضا من حروف الجر التي لها معان كثيرة، ومنها الاستعلاء، يعني: العلو، وهذا العلو إمَّا أن يكون حسيًا، تقول: "وضعت الكتاب على الطاولة"، أي: فوق الطاولة، وتقول مثلا: "أُفَضِّلُ الذهب على الفضة"، هنا تفضيل معنوي، وقوله: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ [البقرة:253]، وتقول مثلا: "ركبت على الفرس" هذا استعلاء حسي، وتقول مثلا: "أفضل النحو على البلاغة".
{النحو من علوم الآلة، فهو يفضل، وبتعلم النحو تفتح لك بقية المعرف}
نعم، ولذلك النووي -رحمه الله تعالى- يقول: إن الإنسان ينبغي أن يبدأ بالنحو وعلم الأصول، حتى يفهم مجاري الكلام، فالمقصود أنَّ (عَلَىَ) إمَّا للاستعلاء الحسي، وإمَّا للاستعلاء المعنوي.
قال: (وَفِي) وهي أيضا تفيد الظرفية الزمانية والظرفية المكانية، والظرف هو الوعاء. تقول: "جلست في الدار" أي: كان مكان جلوسي في داخل هذه الدار. وتقول: "سافرت في اليوم الخامس" أي: كان سفري في هذا اليوم الخامس، ف(في) للظرفية الزمانية وللظرفية المكانية، وتأتي بمعنى السببية، «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَ» أي: بسبب هرة، ولها معان غير ما ذكر، ولكن هذه من أشهر معاني الظرفية الزمنية والظرفية المكانية.
عندي أنا بحسب ترتيب المتن، قال: (وَرُبَّ) وهي أيضا من حروف الجر، لكن لها خصائص، أنها لا تدخل إلا على النكرات، وإنها قد تعمل مع حذفها، تقول: "رُبَّ رجل كريم لقيته"، "رُبَّ أخٍ لم تلده أمك" فـ (رُبَّ) حرف جر، مبني على الفتح، و "رجل" تقول: اسم مجرور ل(رُبَّ)، وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره، فنلاحظ أنَّ (رُبَّ) دخلت على نكرة، ولا يصح أن تقول: "رُبَّ الرجل صحيح" ولا تقل: "رُبَّ زيد" وإنما تدخل على النكرات.
الأمر الثاني: أنها قد تعمل وهي محذوفة، "وليلٍ كموج البحر" قالوا أي: (ورُبَّ) ليل، يعني: (وَرُبَّ) ليل كموج البحر.
إذًا رُبَّ حرف من حروف الجر، تدخل على النكرات، قد تعمل وإن كانت محذوفة.
قال: (وَالْبَاءُ) الباء أيضًا من الحروف المهمة، ولها معانٍ كثيرةٍ منها: الاستعانة، تقول: "كتبت بالقلم" أي: مستعينًا بالقلم، وتقول: "ضربت الدابة بالعصا" أي: مستعينا بالعصا، فمن أشهر معانيها الاستعانة، وتأتي بمعنى: العوض، ودائمًا تدخل على الثمن، تقول: "اشتريت المسواك بريال" فدائمًا الباء تدخل على الثمن، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى﴾ يعني: جعلوا الهدى هو الثمن، وقبضوا بدلاً عنه والعياذ بالله الضلالة، فهذه الباء من أشهر معانيها الاستعانة، وكذلك العوض. وأيضًا تأتي بمعنى السببية.
قوله: (وَالْكَافُ) من أشهر معانيها التشبيه، تقول: "زيدٌ كالبحر علما"، و "الجارية كالقمر"، أي: في جمالها وبهائها، والكاف تفيد التشبيه، وهذا أشهر معانيها.
قوله: (وَاللَّامُ) اللام كذلك من الحروف المهمة، ولها معانٍ كثيرة، تُجَاوز العشرة، ومن أشهر معانيها: الاستحقاق، والاختصاص، والملك، والتفريق بين هذه المعاني أنَّ الْمِلك أن تقع هذه اللام بين ذاتين، أحدهما: يَمْلِكْ، والآخر يقبل أن يُمْلَك. كما لو قلت: "القلم لزيد"، القلم هذا ذات، شيء محسوس، و "زيد" هذا ذات أيضًا لكنه يعقل، ومن شأنه أن يملك، يعني: له ذمة، والقلم من شأنه أن يُملك؛ لأنه مال. فإذا وقعت اللام بين ذاتين، شيئان محسوسان، فإذا كان الأول يُمْلَك، والآخر يَقبل أن يَملك، له ذمة وعاقل إلى آخره، فهذه تسمى: "لام الملك"، مثل: "القلم لزيد"
وإذا وقعت بين ذاتين، أحدهما يقبل أن يُمْلك، لكنَّ الذي دخلت عليه (اللام) لا يقبل أن يكون مالكًا، كما لو قلت لك: "اللجام للدابة"، فاللجام هذه ذات، والدابة ذات، لكن هذه الدابة ليس من شأنها أن تملك، وكذلك اللجام يُشترى، قد يشتريه "زيد" يضعه عنده في المنزل، إذًا هذا يملك، لكن الطرف الآخر لا يقبل أن يكون مالكًا، فهذا يُسمى اختصاصًا.
ما الفرق بين اللام في قوله: "اللجام للدابة"، واللام في قوله: "القلم لزيد"؟
اللام في "اللجام للدابة" هي لام الاختصاص؛ لأنَّها وقعت بين ذاتين، الدابة ذات، ولكنها ليست بعاقلة، وبالتالي ليس من شأنها أن تملك.
وأمَّا اللام في "القلم لزيد" هي لام الملك؛ لأنَّها وقعت بين ذاتين، و "زيد" عاقل، والقلم يقبل أن يملك.
ما هي لام الاستحقاق؟
لام الاستحقاق هي أن تقع اللام بين ذات ومعنى من المعاني، إذا قتلت: "الولاء للمؤمنين"، فالولاء شيء معنوي غير محسوس، أنت لا تشاهده، ولا أن تشير إليه. فإذا وقعت (اللام) بين ذات ومعنى، فهذه (اللام) تسمى: "لام الاستحقاق"، ومنه قول الله -عز وجل-: ﴿الْحمدُ لِلَّهِ﴾ ، قيل: إنَّ اللام هنا لام الاستحقاق، وقيل: للاختصاص والاستحقاق في هذا المقام، وكلها واردة وكلها معان صحيحة.
{أحببت شيخنا أن نمر على (حتى، حاشا، منذ) ولا نرجئها؟}.
نُرجئها؛ لأنَّ (حتى) ستأتي معنا في النواصب، وستأتي معنا (حاش) في باب الاستثناء، وستأتي معنا (منذ) في المجرورات في آخر الأجرومية، فنتكلم عنها -بإذن الله تبارك- في ذلك الموضع.
قال: (وَحُرُوفُ اَلْقَسَمِ) المقصود بالقسم: ذكر المعظم، وهو تأكيد أمرٍ بذكر معظم بصيغة مخصوصة، فأنت إذا قلت مثلا: "والله" فهذا الرب -عز وجل- الله معظم عند ذلك الحالف، وقدمت قبله حرف "الواو"؛ لتأكيد أن تفعل كذا وكذا. إذًا هذا هو القسم، تأكيد أمرٍ بذكر معظم بصفة مخصوصة. ما هذه الصفة؟ هي استخدام أحد هذه الحروف التي وردت عند العرب في الإقسام، وأشهرها هذه الثلاثة: (اَلْوَاوُ، وَالْبَاءُ، وَالتَّاءُ)، مثل: "والله"، "والليل"، "والسماء ذات الحبك"، وغير ذلك من الآيات. فهذه الحروف تسمى حروف القسم من حيث المعنى، ومن حيث العمل تَجُرُّ ما بعدها، "والله"، "والشمس"، "والقمر إذا تلاها"، "والفجر وليال عشر"، وقد أدخلها المؤلف -رحمه الله تعالى- في حروف الجر؛ لأنَّها مع إفادة القسم تعمل ما يعمله حرف الجر، من جهة جر الكلمة التي بعدها.
إذًا هي مخصوصة بالأسماء، وتجر ما بعدها، وهي: (اَلْوَاوُ، وَالْبَاءُ، وَالتَّاءُ) تقول مثلا: "بالله لأفعل كذا وكذا"، وتقول: "تالله"، ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ ، ولو تلحظ في قولك: "تالله" لوجدت أن "التاء" حرف قسم، ولفظ الجلالة بعده جاء مجرورًا؛ لأنَّ حروف القسم تعمل عمل جروف الجر في نفس الوقت، والترتيب المنطقي في هذا أن تقدم (الباء) ثم (الواو) ثم (التاء) لماذا؟
لأنَّ الباء تدخل على الاسم الظاهر وعلى الضمير، تقول مثلا: "بالله" يعني: "والله"، "بالله لأفعل كذا"، و "بالله لا أفعل كذا وكذا" فهنا الباء دخلت على الضمير، ودخلت على الاسم الظاهر، فهي أقوى، وأما (الواو) فهي لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، "والله"، "والضحى"، "والليل" وأما "التاء" فلماذا أُخرت؟ لأنها لا تدخل إلا على لفظ الجلالة، وسمع عند بعض العرب وهم قليل: "كالرحمن" أو "كرب الكعبة" وهذا قليل، والقليل يعتبر شاذًّا في هذا الباب.
فالمقصود أن حروف القسم بحسب الترتيب الأقوى: (الباء) ثم (الواو)، ثم (التاء)، ووجه هذا التفريق أنَّ (الباء) تدخل على الظاهر والمضمر، و (الواو) تدخل على الظاهر فقط، وأمَّا (التاء) فإنها لا تدخل إلا على لفظ الجلالة.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَالْفِعْلُ يُعْرَفُ: بِقَدْ، وَالسِّينِ وَسَوْفَ وَتَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ)}.
انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذِكر علامات الاسم، إلى ذكر علامات الفعل، وهنا جمع بين العلامات المشتركة، وذكر أيضًا العلامات الخاصة، فهنا بدأ بـ (قَدْ) التي علامة مشتركة بين الماضي والمضارع، ثم ذكر (السِّينِ وَسَوْفَ) التي هي خاصة بالمضارع، ثم ذكر (تَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ) التي هي خاصة بالفعل الماضي، فهو -رحمه الله- ذكر أولاً علامة تجمع بين الفعل الماضي والمضارع، ثم خصص الفعل المضارع، ثم خصص الفعل الماضي.
(قَدْ) تدخل على الفعل الماضي، وهو يعني الحدث الذي حصل قبل زمن التكلم، فلما أقول لك مثلا: "صليت" فأنا قبل إخباري لك بأني صليت، قد وقعت الصلاة مني. فإذًا (قد) تدخل على الماضي. وتدخل (قد) كذلك على المضارع، والمضارع هو الحدث الذي يحدث أثناء زمن التكلم، مثل: "يحفظ، يشاهد، يقرأ، يعلق" فإذا دخلت (قد) على الفعل الماضي أفادت معنيين مشهورين:
المعنى الأول: هو التقريب، بمعنى قرب حصول ذلك الفعل الذي جاء في سياق (قد).
فمثلا: إذا كانت الشمس جهة المغيب ولم يغب قرصها بعد، فتقول لشخص بجوارك: "قد غابت الشمس"، والسؤال: هل هي غابت فعلا؟
الجواب لا، وإنما قد قَرُبَ موعد غيابها، فهنا تفيد التقريب؛ لأنَّها دخلت على الفعل الماضي.
ولو جاءك ضيف مثلا في عجلة من أمره، وأنت تريد إبقائه، فتقول له: "جاء الشاي" والشاي لم يأت بعد، ولكن التقريب هو المقصود، فكأنَّه يقول له: لا تتعجل فالشاي بات قريبًا.
إذًا هذا هو المقصود، وهو مختص بالزمن، أي: تقريب حدود ذلك الفعل في ذلك الوقت.
و (قَدْ) تفيد التحقيق، أي: حصول هذا الشيء حقًا وفعلاً وتحققًا في الواقع، فمثلا إذا غابت الشمس وقلت لمن بجوارك: "قد غابت الشمس"، ونظر فإذا الشمس قد غابت فعلا، فهذا يسمى تحقيقا، وأمَّا إذا كانت على وشك الغروب، فهذا يسمى تقريبًا، ومنه إذا قال المؤذن: "قد قامت الصلاة"، فهذا معناه أنه قد قرب قيامها، أي: تأهب أيها المصلي للدخول في الصلاة، ولكن لو جاء رجل وقال -بعد أن دخل الناس في الصلاة-: "قد قامت الصلاة" فهي تفيد هنا التحقيق.
إذًا (قد) تفيد التقريب، وتفيد كذلك التحقيق، ولها معان غير هذا.
والمقصود بـ (قد) هنا الحرفية؛ لأنَّ هناك (قد) الاسمية، ولها محل من الإعراب، ولها تفاصيل ليس هذا موضعه، وإنما هنا المقصود بـ (قد) التي هي حرف من الحروف، وقد تدخل على المضارع أيضًا. إذًا هي علامة مشتركة بين الماضي والمضارع، وهي لا تدخل على الأمر، فلا يصح أن تقول: "قد أحفظ"، أو "قد أكتب"، وإنما تدخل على الماضي والمضارع.
إذا دخلت (قد) على المضارع تفيد معنيين مشهورين أيضًا، وهما: التكثير والتقليل، تقول مثلاً: "قد يجود البخيل" هذه تقليل أو تكثير؟ تقليل؛ لأنَّ البخيل نادرًا ما يجود، ولكن "قد يجود الكريم" هذه تفيد التكثير.
"قد ينجح الكسول" هذه للتقليل. "قد يتفوق المجتهد" للتكثير.
كيف يفرق الشخص بينهما؟ التفريق بينهما يكون بحسب السياق.
"قد يكذب الصدوق" يعني: يحصل منه شيئًا نادرًا، "قد يصدق الكذوب"، "قد يجود المنافق"، وإن كان الأصل فيه البخل، ونحو ذلك.
فالمقصود أنها تفيد التقريب والتحقيق في جانب الفعل الماضي، وتفيد التقليل والتكثير في جانب الفعل المضارع، ولها معان غير ما ذكرته.
ثم انتقل إلى العلامة الخاصة بالمضارع وهي: (السِّينِ وَسَوْفَ)، وهذه من خصائص المضارع، فتدخل (السين) على المضارع، والمقصود بها "السين الزائدة" وليست التي من أصل الفعل، كما نقول مثلا: "سيحفظ الطالب الآجرومية" أي سيحصل منه الحفظ في المستقبل، ولاحظ أنَّ أصل الفعل "حفظ" دخلت عليه المضارعة؛ فأصبحت فعلا مضارعا، أي: "يحفظ" والسين هذه زائدة على ما بعد حرف المضارعة. لكن لو جاءني واحد وقال مثلا: "سحر لبيد بن معصم النبي ﷺ" فالسين في "سحر" من أصل الكلمة، وليست زائدة، ونحن نتكلم عن السين الزائدة.
أين تقع هذه السين؟
تقع قبل أحرف المضارعة، وأحرف المضارعة -كما سيأتي معنا- هي: (الألف والنون والياء والتاء) أنيت، مثال ذلك: "أحفظ، نحفظ، يحفظ، تحفظ" كلها أفعال مضارعة، والسين دائمًا تسبق "الألف أو النون أو الياء أو التاء"، هذا هو المقصود بالسين التي تسبق حروف المضارعة.
يتبين من هذا أنَّ السين من خصائص الفعل المضارع، تقول: سأحفظ، سأكتب، سنقوم بواجبنا، ستنجح، وهكذا.
وكذلك (سَوفَ) تعد من خصائص الفعل المضارع، وهي تفيد كذلك الاستقبال، مثلها كمثل (السين). المضارع بطبيعته يفيد الاستقبال، فإذا دخلت (سوف) فإنَّها تنقله إلى المستقبل، تقول: "سيحفظ، سيحج، سيعتمر"، وكذلك سوف.
ما الفرق بين (السين وسوف)؟
الفرق بينهما أنَّ سوف أكثر استقبالا، تستخدم للأكثر استقبالا والأبعد، بينما (السين) تستخدم للمستقبل القريب، هذا من أوجه الفرق.
السين لوحدها تفيد الاستقبال، مثلا لو قلت لك: "سأفطر إذا أذن المغرب"، هذا في القريب، لو قلت: "سأسافر بعد ثلاثة أيام" هذا للقريب. لكن إذا قلت لك: "سأحج" فهذا على البعيد، ولو أردنا تمثيلها بمثال حسي أوضح فأقول: لو أنَّ عندنا سيارة وشخص سيضع فيها بنزين بعشرة ريالات، ولكن شخص آخر وضع فيها بنزين بـ ثلاثين ريال. أيهما سيصل إلى مسافة أبعد؟
نقول: من وضع البنزين أكثر هو من سيصل إلى مسافة أبعد.
طيب (سوف) تتكون من كم حرف؟ تتكون من ثلاثة، وهي: "سين، الواو، الفاء"، إذًا هي تتكون من ثلاثة أحرف، إذًا هي أكثر استقبالا، بينما "السين" إنما هو حرف واحد، فهي تدل على أنها مستقبل أقل أو قريب.
{هذا ربط جميل}.
ولهذا استخرج بعضهم نكتة من قوله تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارً﴾ [النساء:56]، هنا قال: (سوف)، وفي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ . فما وجه التفريق؟ الآخرة فيها الجنة وفيها النار، والسؤال: لماذا عبر في حق الكافرين بسوف، وعبر في حق أهل الجنة بالسين، مع أن كلاهما في الآخرة؟
قالوا: فيه بشرى للمؤمنين بقرب حصول هذا الأمر، أي: اصبروا على التكاليف والبلاء ونحو ذلك؛ لأنَّ الموعود الجميل سيحصل قريبا لكم، وأمَّا سوف فقالوا: عَبَّر الله بها في حق الكافرين؛ لأنَّ "السوف" من معانيه في اللغة الهلاك، مادة "سوف" لو رجعت إلى المعاجم تجد أن من معانيها الهلاك، فعبر في حقهم بما يكون مُستقبلا مضمنًا معنى الهلاك. فهذه النكتة نبه عليها بعض المعاصرين، والمقصود أنَّ (السين، سوف) تُمَحِّض الفعل المضارع للاستقبال.
هل هما بنفس الدرجة في الاستقبال؟
منهم من قال: نعم، ومنهم من فَرَّق وقال: السين لمستقبل القريب، وسوف للبعيد، ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ و"نصليهم" فعل مضارع، فكيف استدللنا عليه؟
استدللنا عليه بدخول (سوف) عليه، فدخول (سوف) دَلَّ على أنه مضارع.
وكذلك قوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ فـ "سندخلهم" فعل مضارع أيضًا، واستدللنا على ذلك بدخول حرف (السين).
{هذا قد يستأنس فيها بالمعاني البلاغية}.
نعم لا شك، ولذلك ما من لفظة أو حرف في القرآن إلا وله معنى، فهمه من فهمه، وغاب عمن غاب عنه.
{قال -رحمه الله-: (وَتَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ)}.
بعد أن ذكر العلامة المشتركة بين الماضي والمضارع، وهي: (قد)، ذكر العلامة الخاصة بالمضارع وهي: (السين، وسوف)، ثم انتقل إلى العلامة الخاصة بالفعل الماضي وهي: (وَتَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ)، وتاء التأنيث هي التي تلحق آخر الماضي. إذًا ليست هي "التاء" التي تأتي في أول الفعل الماضي، وإنما (تَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ) من خصائصها أنها تأتي في آخر الفعل الماضي، تقول مثلا: "كتب" تقول فيها: "كَتَبْتْ"، حَفِظَ: "حَفِظَتْ".
كيف أستدل على أنَّ "حفظ" فعل ماض؟ لماذا لا يكون مضارعًا؟ أو لماذا لا يكون أمرًا؟
نقول: صل (تاء التأنيث به) في آخره، فإن قَبِلَ "التاء" في آخره، فاعلم أنه ماضي، فنقول: حَفِظَ: حفظت، قام: قَامَتْ.
ألَمّتْ فحَيَّتْ ثُمّ قامَـتْ فوَدّعَـتْ ... فلمّا تَوَلّتْ كادتِ النّفْسُ تَزْهَقُ
هذه ستة أفعال ماضية، استدللنا على ماضيها في لحاق (تَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ) لها في آخرها.
لماذا سميت الساكنة؟ لأنها تسكن، تقول: "قالتْ، علمتْ، كتبتْ" لكن قد تجد أحيانا في بعض التراكيب تحريك هذه التاء، فكونها محركة بالكسر لا يدل على أنها ليست بتاء تأنيث ساكنة، كقوله تعالى: ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ فالتاء هنا (قَالَتِ) مكسورة في آخرها، وهذا الكسر إنما جاء لأجل التخلص من التقاء الساكنين؛ لأنَّ الهمزة في "امرأة" ساكنة، والتاء الثانية هذه أصلها ساكنة، فللتخلص من الساكنين لا بد من تحريك هذه التاء، ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ ؛ لأنك لو أردت أن تنطق بها وكلاهما ساكن، يكون فيه شيء من الثقل، فتحركها بالكسر لأجل التخلص من التقاء الساكنين.
هناك قضية أخرى مهمة في هذا الموطن، وهي: هناك تاء أخرى تلحق آخر الماضي، وهي من خصائصه، وهي "تاء الفاعل". إذًا عندنا "تاءً" تدخل على آخر الماضي، و "تاء" الفاعل، و (تاء التأنيث الساكنة). تقول مثلا: "كتبتُ" لاحظ أنَّ التاء هنا مُضمومة.
كتبتُ، كتبتَ، كتبتِ، هذه التاء التي هي مرة مضمومة ومرة مفتوحة ومرة مكسورة، تسمى "تاء الفاعل"، وأمَّا "تاء التأنيث"؛ فإنها تكون ساكنة.
فإذا قال قائل: كيف أفرق بينهما؟
نقول: فرق بينهما بأمرين:
الأمر الأول: تاء التأنيث ساكنة، وتاء الفاعل متحركة. هذا الفرق الأول، "كتبتُ كتبتَ، كتبتِ" هذه تاء الفاعل، وأمَّا "تاء التأنيث" فهي ساكنة.
الأمر الثاني: ما قبل "تاء التأنيث" يكون متحركًا، "كَتَبَتْ، حَفِظَتْ، عَلِمَتْ" لاحظ الميم، وأمَّا "تاء الفاعل" فيكون ما قبلها ساكن. إذًا هذه الساكنة يكون ما قبلها متحرك، وتاء الفاعل المتحركة يكون ما قبلها ساكن.
هناك فرق ثالث: وهو أنَّ "تاء التأنيث" لا محل لها من الإعراب، بل هي مجرد علامة على أن الذي قام بهذا الفعل أنثى، وأما "تاء الفاعل" فهي في ذاتها لها محل، فهي فاعل دائمًا، تعرب على أنها فاعل.
لو قلت لشخص أعرب: "كَتَبْتُ، كَتَبَتْ". فيقول في كَتَبْتُ: كَتَبَ فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير الفاعل. و "التاء" ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل.
كَتَبَتْ: فعل ماض مبني على الفتح، وتاء التأنيث الساكنة لا محل لها من الإعراب.
هذه ثلاثة فروق بين "تاء التأنيث الساكنة، وتاء الفاعل"، ولذلك يقول ابن مالك:
بتاء فعلتَ وأتت ويا افعلي ... ونون أقبلن فعل ينجلي
"بتاء فعلت" هذه تاء الفاعل، و "أتت" هذه تاء التأنيث. يقول: ينجلي الفعل بهذه التاء.
{قال -رحمه الله-: (وَالْحَرْفُ: مَا لَا يَصْلُحُ مَعَهُ دَلِيلُ اَلِاسْمِ وَلَا دَلِيلُ اَلْفِعْلِ)}.
أي أنَّ عدم العلامة علامة له، وكأنه يقول لك: بعد أن ذكرت لك علامات الاسم، وذكرت علامات الفعل، فالحرف إن لم تجد فيه شيء من العلامات المذكورة في الفعل، ولا من العلامات المذكورة في الاسم، فاعلم أنه حرف. إذًا الحرف هو ما لا يقبل علامات الاسم، ولا يقبل علامات الفعل، يعني قالوا: هو مثل الحاء بين الخاء والجيم. الخام ما علامته؟ ستقول: نقطة في أعلاه. والجيم ما علامته؟ نقطة في أسفله، وأمَّا الحاء فليس له نقطة. وكذلك الحرف عندنا، ليست له علامات الاسم، أي: لا يدخل عليه (مِنْ، وَإِلَى، وَعَنْ، وَعَلَى، وَفِي، وَرُبَّ، وَالْبَاءُ، وَالْكَافُ، وَاللَّامُ)، ولا تدخل عليه (قَدْ، وَالسِّينِ وَسَوْفَ وَتَاءِ اَلتَّأْنِيثِ اَلسَّاكِنَةِ).
إذًا عدم قبوله لعلامات أخوية دليل على أنه حرف، ولذلك قال: (مَا لَا يَصْلُحُ مَعَهُ دَلِيلُ اَلِاسْمِ وَلَا دَلِيلُ اَلْفِعْلِ).
{قال -رحمه الله-: (بَابُ الإعراب
الإعراب هُوَ: تغيير أَوَاخِرِ اَلْكَلِمِ لِاخْتِلَافِ اَلْعَوَامِلِ اَلدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرً)}.
هذا باب من أهم أبواب النحو، وهو (بَابُ الإعراب)، والإعراب معناه: البيان والحسن والتغيير وغير ذلك من المعاني التي لها ارتباط بالمعنى.
والمقصود بالإعراب هو التغيير كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الذي يحصل في أواخر الكلمات، بسبب وجود العوامل، كما سنبين -بإذن لله تبارك وتعالى- بعد قليل، ونبين هذا بمثال قبل أن نشرع في التفصيل، في قول الله -عز وجل-: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ فالحجُ، الحجَ، الحجِ، لو تلاحظ أن الجيم جاءت مضمومة، ومرة منصوبة، ومرة مجرورة، لماذا لم تأت كلها مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة؟
هذا التغير هو الإعراب، إذًا هناك شيء أحدث الضمَّ في كلمة "الحج" الأولى، وهناك شيء أحدث النصب في كلمة "الحج" الثانية، وهناك شيء أحدث "الجر" في كلمة "الحج" الثالثة، وهذا الذي أحدث يسمى عاملا، والعامل يقصد به الأثر الذي يحدثه لفظ من الألفاظ أو ما في معناه ليغير تلك الكلمة، بمعنى: لو أتينا مثلا بحائط من الزجاج، ومعي قطعة حجر، ومعي قطعة من القطن، ورميتها على الزجاج بقوة ينكسر الزجاج، بينما إذا رميت قطعة القطن على الزجاج بقوة، هل ينكسر الزجاج؟ لا ينكسر، لماذا لا ينكسر؟
لأنَّ العامل هذا بخلاف العامل هذا، فالعامل الأول كان قويًا فكسر الزجاج، بينما العامل الثاني كان ضعيفًا فلم يكسره، وإنما أثر فيه تأثيرًا يسيرًا، فعندنا كذلك هناك أشياء في اللغة العربية تؤثر فيما بعدها، فمرة تؤثر في الرفع، وهناك أشياء وألفاظ تؤثر في الجر، وهناك أشياء تؤثر في النصب، فهذا التغيير كما قال -رحمه الله تعالى-: هو (تغيير أَوَاخِرِ اَلْكَلِمِ) يعني: تغيير حال آخر الكلمة، والمقصود بتغيير أواخر الكلمة لا يعني أنَّ الآخر يتغير، فالدال من "زيد" مثلا كما هي دال، ولكن حالها يتغير، كما لو دخل على رجل اسمه "زيد" فوجده مرة ضاحكًا، ومرة حزينًا، ومرة باكيًا، ومرة مسرورًا، ومرة متحيرًا، فـ "زيد" هو "زيد" إلا أنَّ هناك أشياء أثَّرت فيه، فخبر وفاة والده مثلا أثَّر فيه بالحزن، وخبر نجاحه وتفوقه أَثَّر فيه بالفرح.
إذًا هناك عوامل أثَّرت في "زيد" فجعلته مرة ومرة، وعندنا كذلك ألفاظ: "الحجُّ، الحجَّ، الحجِّ" أثرت في هذه الكلمة عوامل فجعلتها مرة مرفوعة، ومرة منصوبة، ومرة مجرورة.
ولعله يضاف كلمة هنا في قوله: (تغيير أَوَاخِرِ اَلْكَلِمِ) لتصير العبارة: "تغيير حال أواخر الكلم".
إذًا قوله: (أَوَاخِرِ) يخرج ما تغير في أوله أو في وسطه؛ لأنَّه لا علاقة له بعلم النحو، وإنما هذا في علم الصرف، ونحن يعنينا التغير الذي يكون في أواخر الكلمات؛ لأنَّ هذا التغير هو الذي تنبني عليه هذه المعاني المختلفة.
قال: (تغيير أَوَاخِرِ اَلْكَلِمِ) المقصود بالكلم هنا: "الاسم المعرب والفعل المضارع" فقط؛ لأنه -كما سبق- أنَّ الكلم (اسم، وَفِعْلٌ، وَحَرْفٌ)، والأسماء منها المبني، ومنها المعرب، والأفعال منها المبني، ومنها المعرب، والحروف كلها مبنية لا تتغير، فصار قوله: (أَوَاخِرِ اَلْكَلِمِ) يَقصد به الجزء الأول من الأسماء المعربة.
إذًا قوله: (أَوَاخِرِ اَلْكَلِمِ) يقصد به الفعل المضارع؛ لأنَّ الأفعال عندنا ماض ومضارع وأمر، والماضي والأمر مبنيان، بينما المضارع هو المعرب، أي: هو من يتغير، فلو قلت لك: "زيد يقومُ بواجبه"، و "زيد لن يقومَ بواجبه"، و "زيد لم يقمْ بواجبه"، لاحظ أنَّ المضارع قد تغير هنا، فجاء مرة مجزومًا، وجاء مرة منصوبًا، ومرة يكون مرفوعًا، وكل ذلك بحسب العامل.
أمَّا الماضي والأمر، فإنهما مبنيان دائمًا، وبالتالي لا يدخلان في هذا السياق.
وكذلك عندنا الأسماء، منها ما هو مبني، مثل: "الضمائر، أسماء الإشارة، أسماء الاستفهام، أسماء الشرط، الأسماء الموصولة" هذه كلها مبنية لا تتغير، لكن عندنا قسمان يقبلان هذا التغير، أي: يقبلان هذه العوامل فتحدث فيها: "الضمة، والفتحة، والكسرة". فالمقصود بأواخر الكلم ليس كل الكلمات في العربية، وإنما الأسماء والأفعال المضارعة، وأما المبني من الأسماء والأمر والماضي والحروف؛ فهذه ليست داخلة في باب الإعراب معنا.
وبهذا نقف عند هذا الحد، ونستكمل -بإذن لله تبارك وتعالى- في الحلقة القادمة.
{بارك الله فيكم شيخنا، وفتح الله لكم، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، أمين. والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نستودعكم الله، ونلتقي بكم في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-----------------------
[1] ضعيف الجامع (4216).
سلاسل أخرى للشيخ
-
19284 15