{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثالث، والذي نشرح فيه (المقدمة الآجرومية) للإمام محمد بن آجروم -رحمه الله تعالى-، يصحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ عبد الله بن حسن الحارثي.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخ عبد الله}.
حياكم الله وأهلا وسهلا ومرحبًا، طيب الله أيامكم وأوقاتكم.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (بَاب اَلنَّعْتِ)، وقد بدأنا بمقدمة بسيطة، ونكمل على بركة الله تعالى}.
عقد المؤلف -رحمه الله تعالى- هذا الباب للكلام عن قضية مُهمة، وهي ما يتعلق بالنعت، والنعت هو: الوصف، يعني: أن تتقدم كلمة ثم تُعَقَّبْ بكلمة، وهذه الكلمة التي جاءت متأخرة لها علاقة بذلك المتقدم، من جهة بيان شيء من أحواله، أو بتخصيص ذلك الشيء المتقدم؛ لأنه فيه شيوع وفيه عموم، فلما نَصِفُه بوصف يخرج ما عداه من الأوصاف، يخرج ما يمكن أن لا يكون له صلة بهذا المتقدم، وَمَثَّلَ المؤلف -رحمه الله تعالى- بقوله: (قَامَ زَيْدٌ اَلْعَاقِلُ، وَرَأَيْتُ زَيْدًا اَلْعَاقِلَ، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ اَلْعَاقِلِ)، وهنا نقول كما يقول الشراح في تعريف النعت على وجه الدقة، قالوا: "هو التابع المشتق، الموضح لمتبوعه في المعارف، المخصص له في النكرات". ما المقصود بهذا الكلام؟
قلنا: التابع معروف، فهو يأتي متأخرًا، يعني: يكون تابعًا لِمَا قبله، أو يكون هناك شيء تقدم عليه ثم يأتي هذا ويتبعه، كقوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ فخبيثة تابعة لـ "كلمة"، ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ ، و "طيبة" تابعة لـ "كلمة".
تقول مثلا: "جاءني رجل صالح"، "صالح" تابعة لكلمة "رجل".
فالمقصود، أنَّ هذا التابع وهو النعت، لا بد أن يكون مُشتقًا؛ لأنَّ الكلمات إمَّا أن تكون مشتقة، وإمَّا أن تكون جامدة، مثلا كلمة: "حجر" هي كلمة جامدة، أي: غير مأخوذة من غيرها، وكذلك: "قلم"، كلمة جامدة غير مأخوذة من غيرها، وهذا بخلاف قولك: "كاتب"، فكلمة "كاتب" مأخوذة من: "كَتَبَ"، "كاتب، يكتب، مكتوب، كاتبان، يكتبون، اكتب"، وكذلك: "حفظ، حافظ، يحفظ، احفظ"، فكلمة "حافظ" مأخوذة من الفعل.
هذا الوصف إذا وقع لا بد أن يكون مُشتقًا، أي: لا بد أن يكون مأخوذًا من غيره، فلو أتينا مثلا بمثال، ما يصلح أن تقول: "جاءني رجلٌ حجرٌ". أو تقول: "اشتريت خيزرانًا حجرًا". فنقول: هل "حجر" نعت؟ يقول: نعم، نقول: لا يصلح أن تنعته بحجر، لماذا؟ نقول: لأن كلمة: "حجر" جامدة غير مأخوذة من غيرها.
طيب ما هو التصحيح في مثل هذا الحال؟
التصحيح هو أن تأتي بكلمة مشتقة، يعني مأخوذة من غيرها، تدل على أنَّ هذا النَّعت مشتق مأخوذ من غيره، يقول ماذا أفعل؟ نقول: تأتي بكلمة مشتقة بدلا من "حجر"، فتقول مثلا: "اشتريت خيزرانًا قاسيًا"؛ لأنَّ كلمة "قاسيا" مشتقة، أي: مأخوذة من غيرها، فهي مأخوذة من: "قسا، يقسو"، فهو: "قاس".
إذًا (النَّعت) لا يصلح أن يكون جامدًا، بل لا بد أن يكون مُشتقًا، أي: مأخوذًا من غيره، سواء كان اسم فاعل، "كتب، يكتب، كاتب"، فتقول: "جاءني رجلٌ كاتبٌ" هل "كاتب نعت لـ "رجل"؟ نقول: نعم يصح، لماذا؟ لأنَّ "كاتب" مشتقة، مأخوذة من غيرها، بخلاف ما إذا قلت: "جاءني رجلٌ قلمٌ"؛ لأنَّ "قلم" غير مشتقة.
إذًا كيف أعبر التعبير الصحيح ف الجملة السابقة؟ نقول: نستبعد كلمة "قلم" الجامدة، ثم نأتي بما يدل عليه، فتقول: "جاءني رجل كاتب" أو "هذا الرجل الكاتب" أو "جاء زيد الكاتب".
طيب كلمة: "عاقل" التي أتى بها المؤلف في أمثلته، هي مشتقة من: "عقل، يعقل"، ولذلك إذا أردنا أن نصف كلمة مُتقدمة، لا بد أن تكون مُشتقة.
ما الغرض من هذا الوصف؟ أو لماذا نأتي بهذا الوصف؟ أو هل للوصف غرض أو أنَّ ذكره مجرد زيادة في الكلام؟
نقول: بل له غرض، وغرضه أن يكون موضحًا لتلك المعرفة، يعني: عندنا رجلٌ معروف اسمه "محمد"، إذا قلت لكم: "جاء محمد"، عرفنا أنه "محمد"، وأمَّا إذا أردت أن أصفه بوصف هو معروف به فأبرزه، فعلي أن آتي بهذا الوصف الذي يدل على تميزه بهذا الشيء، فأقول مثلا: "جاء زيدٌ الفقيهُ"، "جاء زيدٌ العالمُ"، "جاء زيدٌ الكريمُ".
فالأصل أن "زيدًا" معروف بالنسبة لمن تحدثه، ولكن إذا هناك أكثر من رجل اسمه "زيد"، أحدهم نحوي، والآخر فقيه، والثالث كذا، وأردت أن تصف أحدهم بما فيه، أو أن تميزه عن غيره، فتقول: "جاء "زيد المزارع" مثلا، "جاء زيد الطبيب"، وهكذا. وكلمة المزارع والطبيب معرفتان بـ "أل"؛ لأنَّ "زيد" معرفة هي الأخرى.
ما الغرض من الإتيان بالنعت أو الوصف هنا؟ التوضيح؛ لاشتراك غيره معه في الاسم.
إذًا القصد من الوصف هو إيضاح الموصوف إذا ما كان الموصوف معرفة.
أمَّا إذا كان الموصوف نكرة، تقول: "زارني رجلٌ طيبٌ"، وكلمة: "رجل" تشمل المسلم والكافر، الأبيض والأسود، الطويل والقصير، فإذا أردت أن تصفه تقول: "جاءني رجلٌ كريمٌ"، فـ "كريم" نكرة، و "رجل" نكرة. طيب ما الغرض من الإتيان بالوصف في مثل هذه الحال؟
الغرض هو تخصيص هذه النكرة، فكلمة "رجل" تقع على كل بني آدم ممن هو ذكر بالغ، فإذا أردت أن تخصص هذا فقل: "جاءني رجل مسلم"، فأخرجت جميع الكفار في الدنيا، أخرجت اليهود والنصارى والمجوس والوثنيين إلى آخره. كيف أخرجتهم؟ أخرجتهم بهذا النعت.
إذًا النعت إذا جيء به مع النكرة، يُقَلل شيوعَه، ويخصصه، يعني: يخرج كثيرًا مما لا يتصف بهذا الوصف، وأما إذا وصفت معرفة؛ فإنه يوضحه، وأما إذا كان مع النكرة فإنه يخصصه.
يقول مثلاً: "سمعت بكاء"، "سمعت": فعل وفاعل، و"بكاء" مفعول به. طيب هذا ممن؟ هل هو لطفل؟ هل هو لرجل كبير؟ هل هذا البكاء يسيرًا أو كثيرًا؟ فإذا قلت: سمعت بكاء يسيرًا" أو شيئا من هذا القبيل، فقد حددت هذا البكاء ووصفته.
فالمقصود أنَّ (النعت) إن كان مع معرفة؛ فإنه يفيد الإيضاح، وإن كان مع نكرة؛ فإنه يفيد التخصيص. ولذلك قلنا في التعريف: "التابع المشتق الموضح لمتبوعه في المعارف، والمخصص بالنكرات".
ومنه قول الله -تبارك وتعالى- في النكرات في سورة إبراهيم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ فـ "شجرة" منعوت، و "طيبة" نعت لها، فهو وصف هذه الكلمة بأنها طيبة، والمقصود بالكلمة: "لا إله إلا الله "، ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ يراد بها كلمة الشرك، أو نحو ذلك.
فالمقصود أنه يؤتى بها مع النكرات للتخصيص، وفي المعارف يؤتى بها لإيضاح المتبوع، مثال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فكلمة: "الرحمن": نعت لله -جل وعلا-، يعني: وصف لله -عز وجل-، ومن صفته كذلك أنه "الرحمن"، و "الرحيم" صفة ثانية له.
فصفة: "الرحيم" تتطابق مع اسم الله -عز وجل- من جهة أنها مفرد غير مجموع، وكلاهما مجرور، وكلاهما معرفة، إلى غير ذلك من الأوصاف.
إذًا هذا هو الغرض من النعت، ولذلك عَقَّبَ -رحمه الله تعالى- بالكلام عن المعرفة؛ ليتبين لك: المعرفة من النكرة؛ حتى إذا نَعَتَّ معرفة، فلا بد أن تأتي معها بمعرفة.
طيب ما هي المعرفة حتى أعرفها؟
ما هي النكرة حتى أنعت المنعوت بنكرة مثله؟
لذلك عقد بابا يُبين لك ما هي المعارف من النكرات حتى تتضح لك الصورة في مثل هذا.
{قال -رحمه الله-: (بَابُ اَلنَّعْتِ
اَلنَّعْتُ تَابِعٌ لِلْمَنْعُوتِ فِي رَفْعِهِ وَنَصْبِهِ وَخَفْضِهِ، وَتَعْرِيفِهِ وَتَنْكِيرِهِ؛ تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ اَلْعَاقِلُ، وَرَأَيْتُ زَيْدًا اَلْعَاقِلَ، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ اَلْعَاقِلِ)}.
يلاحظ في المثال الأول أنَّ كلمة (زيد) مرفوعة، وفي الثاني منصوبة، وفي الثالث مجرورة، وجاءت كلمة: "العاقل" بعد "زيد" في الأمثلة الثلاثة، لكنها جاءت في الأول مرفوعة؛ لأن "زيد" قبلها جاءت مرفوعة، وفي الثاني جاءت كلمة: "العاقل" منصوبة؛ لأن ما قبلها منصوب، وأمَّا في الثالث فقد جاءت مجرورة؛ لأنَّ ما قبلها كان مجرورًا، ولهذا لا يصح أن تقول: "مررت بزيد العاقلَ"، بل لابد من "العاقل"، وفي هذه الجزئية تفصيل ليس هذا محله في هذا الكتاب.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمَعْرِفَةُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: اَلِاسْمُ اَلْمُضْمَرُ نَحْوَ: أَنَا وَأَنْتَ، وَالِاسْمُ اَلْعَلَمُ نَحْوَ: زَيْدٍ وَمَكَّةَ، وَالِاسْمُ اَلْمُبْهَمُ نَحْوَ: هَذَا، وَهَذِهِ، وَهَؤُلَاءِ، وَالِاسْمُ اَلَّذِي فِيهِ اَلْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوَ: اَلرَّجُلُ وَالْغُلَامُ، وَمَا أُضِيفَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ اَلْأَرْبَعَةِ)}.
هذا باب عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- للمعرفة، والمقصود بالمعرفة: اللفظ الذي يدل على معين. يعني: ما يُفهم منه معينٌ، وهذا أقسام على درجات، تتفاوت قوة المعرفة، كلاهما في حيز المعرفة، يُعين المقصود، لكنها تتفاوت قوةً وضعفًا، كما سنبين بعد ذلك في بيت واحد يجمع هذه المعارف.
منها: الضمير، والضمير من أقوى هذه المعارف، فإذا قلت: (أنا) فهذا الضمير واضح ولا يحتمل شيئًا آخر، وإذا قلت: (أنتَ)، فهو واضح أيضًا دون ذكر المسمى.
إذًا عندنا الضمائر سواء كانت للمتكلم أو كجماعة المتكلم كـ (نحن)، أو (أنت) للمخاطب، أو (أنتِ) للمخاطبة، أو (أنتما) أو (أنتم) أو (أنتن) أو (هو) أو (هي) هذه الضمائر كلها معارف.
قال: (وَالِاسْمُ اَلْعَلَمُ نَحْوَ: زَيْدٍ وَمَكَّةَ) والاسم العلم هو الاسم الذي يعين المسمى مُطلقاً، أي: الذي وضع للدلالة على المعين دون الحاجة إلى أي شيء إضافي يطلق فوق هذا اللفظ، فلما أقول مثلا: "جاء معاذ" نعرف نحن هنا أنَّ "معاذ" المذكور هو هذا الشخص الجالس معنا، والمعروف بأوصافه، إلى آخره. فـ "معاذ" يُعين مسمى مُطلقًا.
ولَمَّا أقول لك: "مكة" ينصرف الذهن إلى المدينة المعروفة اليت فيها البيت الحرام، ولَمَّا أقول مثلا: "الرياض"، المدينة المعروفة والتي هي عاصمة المملكة العربية السعودية.
إذًا "الاسم العلم" الذي يُعين ويُبين مُسماه مُباشرة بمجرد إطلاقه، سواء كان في الأشخاص أو في المدن أو في الفواكه أو في الكتب، منا لو قلت لك مثلا: النحو، وهو ذلك العلم المعروف، الذي هو عبارة عن القواعد التي يُضبط بها أحوال أواخر الكلمات.
إذا عندنا أعلام، هذه الأعلام من المعارف، فلمَّا أقول مثلا: "جاء زيد" أو "ذهبت إلى مكة المباركة"، فـ "مكة" اسم علم، ولاحظ أننا وصفناها الآن بكلمة معرفة، لماذا؟ لأنَّ مكة معرفة، فأنت إذا أردت أن تنعتها أو تصرفها فلا بد وأن يكون ذلك الوصف مُطابقًا لها من هذه الناحية وهي: التعريف.
قال: (وَالِاسْمُ اَلْمُبْهَمُ نَحْوَ: هَذَا، وَهَذِهِ، وَهَؤُلَاءِ) والاسم المبهم هو الذي لا يتعين مقصوده بمجرد إطلاق لفظه، بل لا بد معه من قرينة أخرى، والاسم المبهم معرفة، تقول: "جاء هذا"، مثال: عندنا خمسة رجال جالسين، فقلت: "أكرمني هذا"، أنت لا تستطيع -يا شيخ معاذ- أن تعرف المقصود؛ لأنَّ "هذا" اسم إشارة، ولكن لَمَّا أقول: "هذا" وأشير إلى أحدهم، فقد ضممت إلى اسم الإشارة، الإشارة باليد، فهنا سمي مُبهمًا؛ لأنه عند إطلاقه لا يُفهم المقصود منه، فإذا شفعت ذلك بإشارة إليه؛ عُرف المقصود، فهو يُسمى مُبهمًا؛ لأنه لا يتعين إلا بالإشارة إليه.
عندنا المبهم الآخر، وهو الاسم الموصول، تقول: "جاء الذي"، "جاء": فعل ماضي، "الذي": اسم موصول مبني في محل رفع فاعل، ولكن "جاء الذي" ما زال الأمر فيه إبهام، وغير واضح، فإذا قلت: "جاء الذي زارنا أمس، أو "جاء الذي أكرمني"، أو "جاء الذي عَلَّمَ كذا وكذا"، أو "جاء الذي خطب بنا خطبة الجمعة"، صار المعنى واضحًا.
إذًا عندنا أسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، تسمى: مُبهمات؛ لأنَّ المقصود بها لا يتعين ألا بقرينة، إمَّا بالإشارة، وإما بالصلة، كما هو الحال في الأسماء الموصولة.
{قال: (وَالِاسْمُ اَلَّذِي فِيهِ اَلْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوَ: اَلرَّجُلُ وَالْغُلَامُ)}.
يعني: كل ما صلح دخول الألف واللام عليه فأفاد تعريفًا، فهو يُسمى معرفة، تقول مثلاً: "رجل، الرجل"، "قلم، القلم"، "جوال، الجوال"، "إنسان، الإنسان"، فالمقصود، أنَّ كل ما دخل عليه الألف واللام فأفاد معرفة، فهذا يدخل في حيز المعرفة؛ لأنه تعرف بالألف واللام، قال: (نَحْوَ: اَلرَّجُلُ وَالْغُلَامُ)، تقول: "جاءني رجل"، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ ، فـ "رسول" هنا نكرة، ثم قال: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ الرسول هنا هو موسى -عليه السلام-، ﴿فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ ، فالرسول هذا عرف أنه موسى؛ لأنه دخلت عليه الألف واللام، ولكن لو قال الله -تبارك وتعالى-: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إليكم رسولا، فعصى فرعون رسولا} لَمَا تعين أنه موسى؛ لأن هذا معناه أنه رسول آخر مختلف، ولكن لما قال: ﴿فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ عرفنا أن المقصود به الرسول الأول.
إذًا الضمائر وأسماء الأعلام، والمبهمات، مثل: اسم الإشارة، والاسم الموصول، التي تتعين بالصلة أو بالإشارة إليه أو بالألف واللام، هذه كلها تكون من أحكام المعارف.
{قال: (وَمَا أُضِيفَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ اَلْأَرْبَعَةِ)}.
ما المقصود بما أضيف إلى واحد من هذه الأربعة؟ مثال: عندنا الكاف ضمير، والهاء ضمير، والياء ضمير، فلما أقول: "غلامك"، غلام أصله نكرة، وأصبح الآن معرفة؛ لأني أضفته للضمير. إذا عرفنا أنه غلام فلان من الناس مثلا.
طيب لَمَّا أقول: "غلامي"، فـ "الياء" هذه ضمير، فإذا قلت: "جاء غلام"، فالناس لا يعرفون من هو الغلام الذي جاء! فإذا أضفته ونسبته إليَّ بضمير "الياء" عرف الناس أنَّه غلامي أنا عبد الله، ولَمَّا أقول: غلامه، "زيد جاءني وزارني غلامه"، عرفنا أنَّ المقصود بالغلام هو غلام "زيد"، لكن لو قلت: "جاءني زيد وزارني غلام"، فهنا "غلام" نكرة لم توضح من هو الغلام.
إذًا مَا أُضيف إلى واحد من هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- ومنها الضمير، ومنها كذلك المعرفة، لو قلت لك: "جاءني غلام زيد"، غلام نكرة، ولكنه لَمَّا أُضيف إلى "زيد" المعرفة، عرفنا أنه غلام "زيد"، وليس غلام محمد، ولا غلام بكر، ولكنه غلام زيد على وجه الخصوص.
الاسم المبهم، مثل: "زارني غلام" نكرة، وأمَّا "زارني غلام هذا"، فهذه معرفة؛ لأنَّك لَمَّا قلت كلمة: "غلام" وهي نكرة، وأشرت إلى المقصود أصبح معرفة.
فإذا قلت: "جاء غلام الذي زارنا"، عرفت أنَّ المقصود هو غلام فلان من الناس.
إذًا ما أُضيف إلى واحد من هذه الأمور يكون معرفة.
طيب لو أضفت إلى ما فيه "أل" كيف أقول فيه؟
تقول: "جاء غلام الرجل"، "جاء غلام المعلم"، فالمعلم معرفة، ولَمَّا أضفت "غلام" وهي نكرة، أصبح معرفة؛ لأننا عرفنا أنه غلام المعلم، وليس غلام الطبيب، ولا غلام المهندس، ولا نحو ذلك.
ومن حيث القوة فأقواها الضمير، وقد رتبها المؤلف -رحمه الله تعالى- بحسب القوة، والمعارف سبعة، ويجمعها قول القائل:
إنَّ المَعَارِفَ سَبعَةٌ فيها سَهَل .... أَنا سَالمٌ ذَا ما الفَتَى ابنِي يَا رَجُل
"أنا" الضمير، و "سالم" هذا اسم علم، و "ذو" اسم الإشارة، "ما" الاسم الموصول، "الفتى"، أي المعرف بـ الألف واللام، و "ابني" المضاف، "يا رجل"، أي: باب النداء. لَمَّا ينادي خطيب الجمعة، ويقول: "يا رجلا" هل قصد شخصًا مُعينا؟ الإجابة: لا، ولكن لَمَّا نخاطب شخصًا بذاته، ونقول: "يا رجل"، فأنا لَمَّا أتوجه إليه بالقصد والخطاب أصبح معرفة، وإن كان في لفظه نكرة، لكن لَمَّا توجهت إلى القصد أصبح معرفة، ولذلك أدخلوا المنادى المقصود في باب المعارف.
إذًا، المعارف عندنا سبعة وهي:
- الضمير.
- الاسم العلم، مثل: "سالم أو صالح".
- "ذا"، أي: اسم الإشارة، مثل: "هذا"، تقول: "أكرمت هذا".
- "ما"، أي: الاسم الموصول بمعنى: الذي.
- "الفتى"، أي: المعرف بـ "أل".
- "ابني"، أي: المضاف للضمير أو لواحد من هذه المعارف التي مرت.
- "يا رجل"، أي: المنادى المقصود بالنداء، وهذه فيها خلاف.
وأعرف المعارف هو: "الله" تبارك وتعالى، وقيل: إن سيبويه رؤيَ في المنام، فقيل له: ماذا فعل الله بك؟
قال: غفر لي وأكرمني وأدخلني الجنة. قالوا بماذا؟ قال: بقولي في باب المعرفة: "والله أعرف المعارف"، أي: لا ينكره أحد، وهم يرتبون المعارف، فيقولون: أقواها الضمير، وأعرف من ذلك وهو الله -تبارك وتعالى-، لا ينكره أحد، حتى من زعم الإلحاد أو كذا، يعرفون الله -تبارك وتعالى-.
إذًا هذه المعارف التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- وهي مُهمة، ثم لَمَّا ذكرها ناسب أن يذكر ما يضادها، وهي النكرة حتى تتبين المقصود، فتكلم عن هذه الجزئية.
{قال -رحمه الله-: (وَالنَّكِرَةُ: كُلُّ اِسْمٍ شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، وَتَقْرِيبُهُ كُلُّ مَا صَلَحَ دُخُولُ اَلْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ، نَحْوُ اَلرَّجُلِ والفرس)}.
النكرة: هي ما لا يفهم منه مُعين، يعني: هي كل اسم وضع لا ليخص واحدًا بعينه، مثل كلمة: "رجل" فهذه تصلح أن تطلق على: زيد، وعلى "علي، وبكر، ومحمد، وعبد الله إلى آخره؛ لأنَّ "رجل" يعبر بها عن جنس الرجال، يعني: يدخل تحته أفراد كثيرون يتفقون في هذه الحقيقة، بمعنى: يصح أن تخبر عن كل واحد من هؤلاء الأفراد بهذا الجنس، فتقول: "زيد رجل، محمد رجل، بكر رجل، عليٌّ رجل".
إذًا اسم الجنس شائع، بمعنى: يصدق على كثيرين يدخلون تحت هذا المسمى، كلهم يصح أن يخبر عنه برجل.
مثال آخر: كلمة "نجم"، هذه جنس، ويدخل تحتها مثلاً: القمر، الشمس، زحل، عطارد، المشتري، وهذا كما لو قلت: "رأيت كوكبا"، فالكوكب الذي رأيته لا يُدرى ما هو، ولذلك فلابد لك أن تضيفه أو أن تصفه أو أن تبين حاله حتى يعرف أي الكواكب هذا الذي رأيت، فتقول: "رأيت كوكبًا يُضيء نهارا"، فهنا يعرف أنك تقصد الشمس، أو تقول: "رأيت كوكبًا" وتشير إلى الشمس، فهنا أصبح معرفةً؛ لأنك أشرت إليه.
إذًا النكرة هي الاسم الشائع الذي لا يدل على معين. ما هي علامته من جهة التقريب؟
قالوا: إذا صلح دخول "أل" عليه، فهذا هو النكرة، مثل: شمس: الشمس، نجم: النجم، رجل: الرجل، امرأة: المرأة، قلم: القلم. فكل ما صلح دخول "أل" فأفاد تعريفًا، فهذا يسمى نكرةً.
فائدة الذكر هذا، أنك لَمَّا تأتي بموصوف، تقول: "جاءني رجل"، لا بد أن تصفه بنكرة، فلا تقل: "جاءني رجل الكريم"، بل لا بد من التطابق في: التعريف والتنكيل، فلذلك عقد المؤلف -رحمه الله تعالى- هذا الباب؛ ليبين هذه الجزئية المهمة، وهي: التطابق في النعت والمنعوت في التعريف والتنكير.
{قال -رحمه الله-: (بَابُ اَلْعَطْفِ
وَحُرُوفُ اَلْعَطْفِ عَشَرَةٌ وَهِيَ: اَلْوَاوُ، وَالْفَاءُ، وَثُمَّ، وَأَوْ، وَأَمْ، وَإِمَّا، وَبَلْ، وَلَا، وَلَكِنْ، وَحَتَّى فِي بَعْضِ اَلْمَوَاضِع،ِ فَإِنْ عُطِفَتْ بِهَا عَلَى مَرْفُوعٍ رُفِعَتْ أَوْ عَلَى مَنْصُوبٍ نُصِبَتْ، أَوْ عَلَى مَخْفُوضٍ خُفِضَتْ، أَوْ عَلَى مَجْزُومٍ جُزِمَتْ، تَقُولُ: "قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَرَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَزَيْدٌ لَمْ يَقُمْ وَلَمْ يَقْعُدْ)}.
عقد المؤلف -رحمه الله تعالى- هذا الباب لبيان جملة من الحروف التي إذا أُوتي بها تُشَرِّكُ بين ما قبلها وما بعدها في الحكم الإعرابي، وكما لا يخفى أنه مرت الإشارة عند المؤلف -رحمه الله تعالى- لَمَّا ذكر المرفوعات وما يتبعها فقال: (وَالتَّابِعُ لِلْمَرْفُوعِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ اَلنَّعْتُ، وَالْعَطْفُ، وَالتَّوْكِيدُ، وَالْبَدَلُ)، فتكلم عن النَّعت من جهة أنَّ النَّعت -كما مر معنا قبل قليل- هو تابع، والمقصود بالتابع أنَّ حكمه الإعرابي الذي يظهر في آخره ليس مستقلا بعامل جديد، وإنما لكون الكلمة التي تقدمت عليه جاءت مرفوعة، فجاء هو تبعًا لها، كما أنَّ الرجل الذي يُولد له طفل، وهذا الرجل مسلم، فإنَّه يحكم للولد تبعًا لوالده بأنه مسلم كأبيه، فإسلامه هذا تابع لوالده، فإذا جاءت كلمة متأخرة مرفوعة، فهذا يدل على أنَّها تابعة لِمَا قبلها، ومن هذه الأبواب النعت وقد مر معنا، وهناك باب آخر أيضًا يدخل في باب التبعية، وهو: العطف، بمعنى: أن يُؤتى بحرف، وتتقدمه كلمة، وتتأخر بعد هذا الحرف كلمة، فالكلمة الواقعة بعد هذا الحرف تتبع ما قبلها في حكمها الإعرابي، فإن كان ما قبلها مرفوعًا جاءت هي مرفوعة، وإن كان ما قبلها منصوبًا جاءت منصوبة، وإن كان مجرورًا جاءت مجرورة، وإن كان مجزومًا، جاء ذلك الفعل مجزومًا بعدها.
هل هناك أسلوب عند العرب يعطف المتأخر عن المتقدم ويشرك بينهما في الحكم والإعراب؟
الجواب: نعم، فهم استخدموا عشرة حروف، لتعطف المتأخر عن المتقدم، إذًا عندنا معطوف، وعندنا معطوف عليه، وعندنا حرف عطف، يعني لو جئنا نضع ثلاث دوائر، فالدائرة التي في الوسط يقع فيها حرف من حروف العطف العشرة، مثل: "الواو، ثم".
وعندنا المعطوف هو الذي يقع بعد حرف العطف، فهو المتأخر، مثل: جاء زيد وعمرو"، فـ "عمرو" هذا هو المعطوف، والمعطوف عليه هو الذي يقع قبل الواو.
يعني: الدائرة الأولى يقع فيها المعطوف عليه، والدائرة الثانية فيها حرب العطف، والدائرة الثالثة يقع فيها المعطوف، إذًا عندنا حرف عطف، وعندنا معطوف عليه، وعندنا معطوف، فإذا كان المتقدم على حرف العطف مرفوعًا، فلا بد أن يكون ما بعد حرف العطف مرفوعا مثله.
هل يشترط فيها التذكير والتأنيث؟
لا يشترط فيهما التذكير والتأنيث، بل قد يختلفان، نقول: "جاء زيد وهند"، أو "جاء محمد والرجال"، فلا يشترط فيهما ما يُشترط في النعت.
طيب الآن العلماء ذكروا أهم قضايا في هذه الحروف، وهي: إفادة معانيها. ماذا تفيد؟ هل إذا قال قائل: "جاء زيد وعمرو" كقوله: جاء زيد ثم عمرو"؟ الجواب: لا.
هل إذا قال قائل: "جاء زيد لا عمرو" كقول القائل: "جاء زيد وجاء عمرو"؟ الجواب: لا، وإنما جيء بهذه الحروف للدلالة على معنى معين، ولولا هذه الحروف لَمَا ظهر ذلك المعنى، وأصبح الكلام كله واحدًا، لا يفرق الشخص بين هذا الأسلوب وبين ذلك الأسلوب.
فإذا قال شخصٌ: "جاء زيد ومحمد"، فـ الواو هنا حرف عطف، نقول: جاء فعل ماض مبني على الفتح، و "زيد": فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، و "الواو": حرف عطف مبني على الفتح، لا محل من الإعراب، و "محمد": معطوف على "زيد" مرفوع؛ لأنَّ المعطوف على المرفوع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
ما فائدة "الواو" هنا؟ التشريك في الحكم، دون الإشارة أو التنبيه على أي منهما جاء أولا، فالمستفاد من الجملة هو حضورهما، ولكن لا تدل على أيهما جاء أولا، فقد يكون "زيد" هو من حضر أولا، وقد يكون "محمد" هو من حضر أولا، إلا إذا وجدت قرينة تدل على أنَّ أحدهما حضر قبل الآخر، ولو كانت الواو هنا مستخدمة، فهذا أمر آخر. كما لو قلت: "اعتمرت وطفت بالبيت وسعيت"، فالواو لا تفيد الترتيب، ولكن معلوم من النسك الذي جاء عن النبي ﷺ أنَّ السعي يكون بعد الطواف، فهنا وجدت قرينة من جهة ما ثبت عن النبي ﷺ وصح به الخبر، أنَّ السعي يكون بعد الطواف.
مثال آخر: "تزوج محمد وابنه"، فهنا الواو تفيد الترتيب؛ لأنَّه قطعًا قد تزوج الأب أولاً، إذا كيف يولد له! إذًا هنا الواو تفيد الجمع وتفيد الترتيب من جهة القرينة.
ولكن إن لم توجد قرينة، فالأصل التشريك في الحكم، دون أن نقطع بالمتقدم والمتأخر.
ثم قال: (الفاء)، فـ (الفاء) تفيد التشريك في الحكم، ولكنها أيضًا تفيد أن المتأخر الذي وقع بعد (الفاء) أقل رتبة من المتقدم عليه، يعني: جاء بعده مباشرة، إذًا هناك متقدم واضح، وهناك متأخر، وهذه "الفاء" تفيد التعقيب والترتيب، كل شيء بحسبه، بمعنى إذا قلت لك: "دخلت مكة فالطائف" هل أنت خرجت من مكة ومباشرة دخلت الطائف؟ لا، وإنما هناك مدة تقريبا ساعة ونصف، جرت العادة أنَّ الإنسان إذا قضى هذه المدة يدخل الطائف، إذًا هذا تعقيب وترتيب مباشرة بحسبه.
"تزوج زيد فولد له"، هل أول ما تزوج ولد له؟ الجواب: لا، بل بعد تسعة أشهر في الغالب، أو يزيد أو يقل قليلا، إذًا هذا تعقيب وترتيب.
ولكنه لو تأخر عن الإنجاب سنتين مثلا فلا يصح أن نقول: "تزوج فولد له"، بل نقول: "تزوج ثم ولد له".
لو قلت لك مثلا: "دخل محمد فعمرو"، فيفهم من هذا أنَّ دخول محمد سبق، وجاء بعده مباشرة عمرو، فـ "الفاء" تفيد السرعة، تفيد التعقيب مباشرة، كل شيء بحسبه.
لو قلت لك: "أذن المؤذن فأفطر الصائم"، الفاء في "فأفطر"، دلَّت على أنه التعقيب مباشرة، ولكن إذا قلت: "أذن المؤذن من صلاة المغرب فصلى المسلم التراويح" هذا غير دقيق، والصواب أن نقول: "ثم صلى التراويح"، ولذلك قال الله -عز وجل-: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ فلما كان يوم القيامة متأخرًا عن وقوع العذاب في الدنيا وهو سقوط السقف، عبَّر بـ (ثم) الذي سيقع فيه العذاب مُتأخرًا.
إذا عندنا (الواو) تفيد مطلق التشريك في الحكم دون مراعاة الترتيب إلا بقرينة، وأما (الفاء) فتفيد التعقيب والترتيب مباشرة، وأمَّا (ثم) فتفيد الاشتراك في الحكم، لكن مع الترتيب والتراخي، أنَّ هذا المتأخر حصل له نفس حكم المتقدم عليه، لكن بعد رتبة، وبعد تأخر في الزمن.
تقول مثلا: "بعث النبي ﷺ ثم هاجر إلى المدينة"، ومعلوم أنَّ هجرته لم تكن إلى المدينة مباشرة، وإنما بقي في مكة ثلاثة عشرة سنة ثم انتقل إلى المدينة.
إذًا (ثم) تفيد الترتيب والتعقيب، ولذلك لَمَّا قيل للنبي ﷺ: "ما شاء الله وشئت"، قال: «قل: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ» إشارة إلى تراخي المنزلة، والتفاوت بين الرَّبِّ والنبي ﷺ.
قال: (وأو) كذلك (أو) من المواطن التي يعطف بها ما قبلها على ما بعدها، طبعا لَمَّا نقول: (ثم)، و (الفاء)، وغيرهما، لا بد أن يكون ما تقدم مطابق لِمَا بعد (الواو) أو (ثم) أو (الفاء) في الحكم، مثال: "جاء زيد وعمرو"، فـ "زيد" مرفوع، ولا بد أن يكون ما بعد (الواو) مرفوع كذلك. إذا قلت: "دخل زيد فبكر"، فلا بد أن يكون "بكر" مطابقًا لـ "عمرو" من جهة الإعراب، وإذا قلنا مثلا: "حفظ زيدٌ ثمَّ محمد"، يدل على أنَّ حفظ "محمد" تراخى عن حفظ "زيد"، ولكن لا بد من التطابق فيما بينهما من جهة الإعراب، فلا يصح أن تقول: "حفظ زيدٌ ثم بكرًا"، نقول: هذا الأسلوب غير صحيح، والصواب: "ثم بكرٌ"؛ لأنه مشترك في الحكم، وجاء بينهما حرف عطف.
ما الفائدة من الإتيان بهذه الحروف عموما؟
عدم تكرار العامل مرة أخرى، لَمَّا تقول: "جاء زيد وجاء عمرو"، أنت تختصر وتقول: "جاء زيد ثم عمرو"، أي: ثم جاء عمرو، فأنت كأنك تكرر العامل، لكنك استغنيت عنه بهذا الحرف الذي هو: (ثم)، و (الفاء) وغيرهما.
الحرف (أو) ماذا يفيد؟ (أو) لها معنيان، إما أن يفيد التخيير، وإمَّا أن يفيد الإباحة، والمقصود بهما: أنَّ التخيير لا يجوز فيه الجمع ما بين (أو) وما قبل (أو)، والفرق بين التخيير والإباحة: أنَّ (أو) في التخيير تعني أنه لا يجوز الجمع بين ما قبلها وما بعدها، تقول: "تزوج هندًا أو أختها"، فهنا لا يمكن أن تجمع بين هند وأختها، فأنت هنا مخير.
و (أو) تفيد الإباحة، أي: يمكن الجمع بين ما قبل (أو) وما بعدها، ويمكن اختيار أحدهما، مثلا لو قلت لك: "اشرب الماء أو ارفع يدك" فيمكن أن تشرب الماء وأن ترفع يدك أو لا يمكن؟ نعم يمكن أن تشرب الماء مثلا باليمين وترفع يدك اليسرى.
تقول مثلا: "تعلم النحو أو الفقه"، فيمكن أن تدرس النحو في الصباح، وفي المساء مثلا الفقه. إذًا (أو) إذا كان ما قبلها وما بعدها يمكن الجمع بينهما، ولا مانع شرعي أو حسي أو نحو ذلك، نقول: هي: للإباحة، وإن كان ممتنع الجمع بينهما، فهي هنا: للتخيير، فلو قلت لك مثلا: "صم رمضان أو عاشوراء"، هل يمكن أن تجمع بينهما في يوم واحد، فتصوم عاشوراء نافلة وتصوم القضاء؟
الجواب: لا. إذًا (أو) هنا للتخيير، فتخير إمَّا كذا أو كذا. لكن لَمَّا أقول لك مثلا: "صلِّ الضحى أو تحية المسجد"، يمكن أن تجمع بينهما بنية واحدة، فتصلي الضحى وتحية المسجد، أو سنة الوضوء مثلا.
إذًا هذا هو الفرق بين التخيير والإباحة، إذًا معنى ذلك: لو جاءنا شخص وقال: "تزوج هندًا أو أختها" نقول: "هندًا" مفعول به منصوب، و (أو): حرف عطف يفيد التخيير، مبني لا محل من الإعراب، "أختها": معطوف على "هند"، والمعطوف على المنصوب منصوب.
إذا (أو) فائدتها هنا العطف والتشريك في الحكم الإعرابي. هذا بالنسبة لـ (أو).
(أم): هي لطلب التعيين، ولَمَّا نقول للتعيين، فلا بد من ذكر شيئين، فنقول مثلا: "أدرست النحو أم الفقه؟"، أنت هنا تحتاج أن تجيب عن واحد من هذين، فأنا أريد منك أن تعين لي أحد الأمرين اللذين سألت عنهما، لكن أنا لَمَّا أسأل فقد تعلق سؤالي بشيء معين، أنا أعرف أنك درست أكثر من مادة، لكن أنا الذي يهمني أن أعرف هل أنت درست النحو والفقه حتى أنا أعطيه مثلا كتابًا أكبر مما درسه، فهو له غرض بسؤاله، فلما أميز بين أمرين، أقول: "درست الآجرومية أو المتممة؟" تقول: درست المتممة، إذًا أنا سينبني عندي معنى جديد، وهو مثلا أن أنتقل إلى الألفية.
إذًا (أم) يقصد بها التعيين، طبعا هي لا بد وأن تسبقها همزة الاستفهام، تقول: "أدرست النحو أم الفقه؟".
و (إمَّا): بشرط أن تُسبق بمثلها، وهي مثل: (أو) في المعنيين، يعني: (إمَّا) تفيد التخيير أو الإباحة، لكن لا بد أن تتكرر قبلها (إمَّا) لكن (إمَّا) المتقدمة لها معنى مختلف، فهنا (إمَّا) حرف عطف، وعندنا (إمَّا) المتقدمة تأتي بمعنى التفصيل والبيان، قال الله -عز وجل-: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ ، (إمَّا) هذه تسمى حرف شرط وتفصيل؛ لأنه ليس معطوفا على شيء متقدم، ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ ، و (إمَّا) الثانية حرف عطف، و (فداء) معطوف منصوب، معطوف على (منًا)؛ يعني: إمَّا تمن منًا، وإمَّا تفد فداء، يعني: أوَّلها بعض المفسرين بهذا، وإمَّا تمن منًا.
أقول: "إمَّا أن تتزوج هندًا وإمَّا أختها" هنا لا يمكن الجمع بينهما، إذًا هي هنا للتخيير، مثل: (أو).
أقول لك مثلا: "تعلم إمَّا النحوَ وإمَّا الفقه"، فهنا يمكن أن تجمع بينهما، ولذلك كانت (إمَّا) هنا للإباحة. إذًا هي حرف عطف، لكنها من حيث المعنى تفيد ما أفادته (أو) إمَّا التخيير، وهو عند عدم الجمع بين ما قبل (إمَّا) وما بعدها، فكذلك عندنا هنا نفس الحكم الإعرابي، فنقول: (إمَّا) حرف عطف، وقيل: إن حرف العطف هو (الواو) في قوله: ﴿وَإِمَّا فِدَاءً﴾ لكن لا يعنينا هذا. وما نص عليه المؤلف أنها هي حرف العطف.
فقوله: "تزوج إما هندًا، وإمَّا أختها"، فـ "تزوج": فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، و (إمَّا): حرف شرط وتفصيل، "هندًا": مفعول به منصوب لـ "تزوج"، فهي التي عملت فيه النصب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، و (الواو): منهم من قال: حرف عطف، ومنهم من قال: (إما) هي حرف العطف، و "أختها": معطوف على "هندًا"، والمعطوف على المنصوب منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
بقي (بل، ولا، ولكن، وحتى)، و (بل) هذه تسمى الإضراب، ومعناه: أن يكون ما قبلها في حكم المسكوت عنه، بمعنى أنك تكلمت ابتداء بكلام، ثم بدا لك أنَّ المستمع لا علاقة له به، أو لا اهتمام له بهذا الكلام، فتضرب عنه كأنك لم تنطق به تماما، ثم تنتقل إلى كلام جديد للمستمع غرض فيه، تقول مثلا: "جاء زيد"، ولكني عرفت أن "زيد" هذا ما يعنيك مجيئه، فقلت: "بل عمرو".
أقول مثلا: "جاء المصور" ثم رأيت أنه ليس هناك حاجة في أخبار المصور، فقلت: "بل المدير".
أقول: "جاء زيد، بل عمرو"، يعني: بل جاء عمرو، و "جاء": فعل ماض، و "زيد": فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة، (بل): حرف عطف وإضراب مبني على السكون، و "عمرو": معطوف على "زيد"، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
إذًا، (بل) في حكم المسكوت عنه، كأنك أعرضت عنه، وابتدأت كلامًا جديدًا، وهنا قال: جعل ما قبلها في حكم المسكوت عنها، وقالوا: إذا أردت أن تستعمل (بل) في الإضراب فلابد من شرطين:
الأول: لا بد أن يكون المعطوف بها مفردًا لا جملة، تقول: "جاء زيد، بل عمرو"، ولا يصح أن تقول: "جاء زيد، بل سافر بكر"، أي لا تأتي بجملة، وإنما تأتي بمفرد، معطوف على ذلك المتقدم عليها في نفس الجملة السابقة لها، تقول: "جاء زيد، بل عمرو"، ولاحظ أنَّ "عمرو" مفرد.
تقول: "جاء الرجال، بل الطلاب"، أو "جاء الآباء، بل الطلاب" أو "بل الأبناء"، فإذًا لا بد أن يكون المعطوف بها مفردا لا جملة.
الثاني: ألا يسبقها استفهام، أي لا تقول مثلا: "هل جاء النساء، بل الرجال؟" هذا لا يصح؛ لأنك أنت الآن تخبر، فتقول: "جاء الرجال"، ثم تقول: "بل النساء"، فلما تستفهم لم يصبح المعنى دقيقًا.
ثم قال: (لا) وهي تنفي عمَّا بعدها نفس الحكم، يعني: لَمَّا تأتي بحكم قبل (لا)، ثم تأتي بـ (لا) وتأتي بعدها بـ "اسم"، هذا الاسم الذي وقع بعد (لا) حكمه يخالف حكم ما تقدم على (لا)، يعني: أنت بدل ما تنفي بجملة جديدة، وتأتي بها بعد (لا) فقط تقول: (لا)، وسينقدح المعنى في ذهن المستمع.
تقول مثلا: "جاء بكرٌ" أنت الآن أثبتَّ مجيء بكر، "لا عمرو"، فدل على أنَّ "عمرو" لم يأت، إذًا (لا) تتوسط بين كلمتين، الأولى: يثبت لها حكم يخالف حكم ما بعدها، فإن كان ما قبلها منفيًا في الجملة، فما بعدها مثبت لِمَا نفيته، وإن كان ما قبلها منفي، فهو ثابت لِمَا بعده، فإذا قلت: "ما جاء زيد، بل عمرو" يعني: عمرو جاء، وإذا قلت: "جاء عمرو لا زيد"، إذا "عمرو" جاء لكن "زيد" لم يحضر.
إذًا هي بحسب ما قبله، إن كان ما قبلها منفيًا، فما بعدها يثبت له المجيء أو الثبوت، أو يثبت ما نفيته، وإن كان ما قبلها ثابتًا، فإن ما بعده يكون منفيًا.
(لكن) وهي تدل على تقرير الحكم، أي: تقرير لحكم ما قبله وإثبات ضده، تقول: "لا أحب الكسالى"، فأنت نفيت حبك عن الكسالى، لكن ماذا عن المجتهدين؟! لاحظ.
تقول: "لا أحب اليهود لكن المسلمين"، "لا": نافية، "أحب": فعل مضارع مرفوع، التقدير أنا، "اليهود": مفعول به منصوب، ولاحظ أن كلمة "اليهود" منصوبة، وكذلك كلمة "المسلمين" منصوبة أيضًا، إذًا، كلاهما منصوب من حيث الحكم الإعرابي، لا بد أن يتفقا؛ لأن هذا عطف، ولا بد أن تعطف منصوب على منصوب، أو مجرور على مجرور، لكن الحكم مختلف، فأنت نفيت حبك عن اليهود وأثبته للمسلمين.
(لكن): حرف عطف يفيد مخالفة حكم ما قبله لما بعده، حرف عطف مبني على السكون، لا محل له من الإعراب، "المسلمين": معطوف على اليهود، والمعطوف على المنصوب منصوب، وعلامة نصبه "الياء"؛ لأنه جمع مذكر سالم.
إذًا (لكن) شبيهة بـ (لا)، تقول: "حضر زيدٌ، لا بكرٌ"، فأنت تنفي الحضور عن بكر، لكن لَمَّا أقول: "لا أحب الكسالى لكن المجتهدين"، يعني: لكن أحب المجتهدين، ولذلك قالوا من شرطها: أن يسبقها نفي أو نهي، لابد في (لكن) أن يسبقها نفي، فما تقول: "أحب المجتهدين لكن الطلاب"، هذا لا يستقيم.
"لا أحب الكسالى، لكن المجتهدين"، فلابد أن تسبق بنفي أو نهي، أقول مثلا في النهي: "لا تكرم الكسالى، لكن المجتهدين"، فـ "لا تكرم الكسالى" نهي، و "لكن المجتهدين" يعني: أكرم المجتهدين. إذًا عندنا نفي وعندنا نهي.
قالوا: "وأن يكون المعطوف بها مُفردًا" يعني: ما تعطي بها جملة، أي: لا تقل: "لا أحب الكسالى، ولكن زيدًا كذا وكذا"، نقول: لا بد أن تأتي بمفرد، سواء كان مثنى أو مجموعة أو ما يدل على واحد، لكن لا تأتي بجملة وتعطف بها في هذه الحالة.
{نجد أنَّ هذا الشرط يتفق مع الحروف السابقة، يعني أن تكون مفردة ولا تكون جملة}.
العطف هو في الحقيقة فيه نية تكرار العامل، أي: كأنك أعدته، لكنهم حذفوا هذا العامل ولم يظهروه، وبالتالي اقتصروا على إخراج المفرد في هذه الصورة؛ لأنَّ ما قبله هو الذي يُفْهِم ذلك المقصود.
قال: (حتى) وهي للتدرج والغاية، وهي للدلالة على انقضاء الحكم شيئًا فشيئًا، فمثلا تقول: "يموت الناسُ حتى الأنبياء"، فما بعد (حتى) في غالب استعماله، إمَّا أن يكون غاية في الشرف، أو غاية في الخسة، تقول: "يموت الناس حتى الأنبياء"، فـ "الأنبياء" أعظم رتب البشرية باعتبار الرسالة، فـ (حتى) يؤتى بما بعده -في الغالب- إما بشيء حقير، أي: بأدنى مراتبه، وإمَّا بشيء عظيم، "يموت الناس، حتى الأنبياء" والأنبياء داخلون في الناس، ولكن لَمَّا نقول: أنبياء لإظهار شرفهم، يعني: حتى هؤلاء الذين شرفهم الله بالرسالة يموتون.
وتقول مثلا: "جاء الناسُ حتى الحجامُ"، والحجام هذا في أدنى المراتب؛ لأنَّ النبي ﷺ أخبر أنَّ قسم الحجام خبيث، وقد عده بعضهم من خوارم المروءة، لما فيها من مص دم وكذا كما كان يحدث في الماضي.
تقول مثلا: "صَلَّى الناسُ في المسجدِ حتى السارقُ"، أي أنَّ السارق هذا عاص لله بسرقته، ولكنه مطيع لله بصلاته، فأنت لا تريد أن تحقر من شأنه، فتقول: صلى السارق.
تقول مثلا: "صلى الاستسقاء أهل الحي حتى ابن باز"، فأنت تريد أن تبين ما هو أعلى رتبة، باعتبار العلم والفضل.
إذا فالمقصود أنها تفيد التدرج في الشيء، هذا أصل معناها، ولكن من أغراضها الإتيان بعدها بما هو أشرف أو بما هو أحقر، تقول: "أكلت الرغيف حتى آخره"، "أكلتُ السمكةَ حتى رأسها"، يعني: حتى رأسَهَا أُكلت، فـ (حتى) تفيد أنك تدرجت في الأكل حتى بلغت رأس السمكة، لأنها تفيد تدرج الغاية، ولها معان غير هذا، ولكن هذا أشهر معانيها.
هذا فيما يتعلق بحروف العطف.
ثم قال -رحمه الله تعالى- تأكيد لما مضى، وقد قرأته: (فَإِنْ عُطِفَتْ بِهَا عَلَى مَرْفُوعٍ رُفِعَتْ أَوْ عَلَى مَنْصُوبٍ نُصِبَتْ، أَوْ عَلَى مَخْفُوضٍ خُفِضَتْ، أَوْ عَلَى مَجْزُومٍ جُزِمَتْ، تَقُولُ: "قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَرَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَزَيْدٌ لَمْ يَقُمْ وَلَمْ يَقْعُدْ")، وقوله: (قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو)، "قام": فعل ماض، و "زيد": فاعل مرفوع، و "الواو": حرف عطف، "عَمرو": معطوف على "زيد"، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
قوله: (وَرَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا)، "رأيت": فعل وفاعل، و "زيدًا": مفعول به منصوب، و "الواو": حرف عطف، و "عَمرو": معطوف على "زيد"، والمعطوف على المنصوب منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
قوله: (وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو)، "مرَّ": فعل ماض مبني على السكون، التي هي الراء الثانية، لاتصاله بضمير الفاعل، و "التاء": ضمير متصل مبني على الضم، في محل رفع الفاعل. و "بزيد": الباء حرف جر، و "زيد": اسم مجرور بالباء، وعلامة جره الكسرة، و "عمرو": يعني: ومررت بعمر، لكنه لم يكررها، وإنما أتى بالواو ليكتفي عن الجملة السابقة، و "الواو": حرف عطف، و "عمرو": معطوف على "زيد"، والمعطوف على المجرور مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظاهرة على آخره.
قوله: (وَزَيْدٌ لَمْ يَقُمْ وَلَمْ يَقْعُدْ)، وهنا مثَّل بمثال لعطف فعل على فعل، فـ "زيد": مبتدأ، و "لم": حرف جزم ونفي وقلب، "يقم": مضارع مجزوم بـ "لم"، وعلامة جزمه السكون، و "الواو": حرف عطف، و "لم": حرف جزم، و "يقعد": مجزوم بـ "لم"، وكان الأولى بالمؤلف أن يأتي بمثال أوضح، فلو كان قد قال: (وَزَيْدٌ لَمْ يَقُمْ ويحفظ) لعرفنا أنَّ "يحفظ" معطوف على المتقدم المجزوم، وكذلك عطف عليه فعلا مجزومًا وهو يقعد؛ لأنه لا بد عند العطف من الاشتراك في الحكم السابق من جهة الإعراب.
{شيخنا فيما تبقى من الوقت، إذا أردنا أن نأخذ أية قرآنية ونطبق عليها ما قد درسناه}.
نأخذ مثلا سورة الفتح، لعل الله تعالى يفتح علينا.
{هل نبدأ القراءة؟}
نعم.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ }.
"إنَّا": مرت معنا قبل قليل، وهي التي تنصب الاسم وترفع الخبر، وهي من نواسخ المبتدأ والخبر. و "إنَّ": حرف توكيد ونصب، و "ناء": ضمير متصل مبني في محل نصب اسم إنَّ.
"فتحنا": فعل، ولكن هل هو فعل ماض أو مضارع أو أمر؟
نطبق العلامات التي مرت معنا فيما مضى، فنقول: هل يصح أن تدخل عليها (قد)؟
نقول: نعم، مثل: (قد فتحنا)، و (قد) يصح أن تدخل على الماضي والمضارع، إذًا لا يزال الأمر مشتبهًا.
قلنا من قبل: من خواص الفعل الماضي أنه تلحقه "التاء" في آخره، فهل يصح أن نقول عن فتح، فَتَحَتْ؟ نقول: نعم يصح، فنقول: "فتح محمد الباب"، و "فتحت عند الباب"، إذًا "فتح": فعل ماض. ما الدليل على ذلك؟
أنَّنا أدخلنا (قد) عليه فقبلها، وكذلك أدخلنا "تاء التأنيث الساكنة" في آخره فقبلها، وأدخلنا عليه تاء الفاعل كذلك فقبلها، تقول: "فَتَحتُ، فَتَحتِ، فَتَحتِ"، وتقول: "فتحت هند"، إذًا "فتح": فعل ماض.
وأمَّا لو أردنا أن ندخل عليه علامة الفعل المضارع، هل ستقول: "ففتحنا لك"؟ أو "سوف فتحنا لك"، إذًا هذا لا يقبل علامات الفعل المضارع.
طيب، هل هو يدل على الأمر؟ نقول: لا، هل يقبل ياء المؤنث المخاطبة؟ نقول: لا.
إذًا "فتحنا" لم يقبل علامات الأمر، ولم يقبل السين وسوف، ولكنه قَبِلَ: (قد)، وَقَبِلَ "التاء" في آخره، إذًا "فتحنا" من الأفعال الماضية؛ لقبوله العلامة.
و "ناء": نقول: مرَّ معنا أنَّ الفاعل إمَّا أن يكون ضميرًا، وإمَّا أن يكون اسمًا ظاهرًا، فالفعل "فتحنا"، فيه: "ناء": فاعل، فـ "فتح": فعل ماض مبني على السكون، لاتصاله بضمير الفاعل، و "ناء": ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
إذًا هنا مثال للفاعل الذي وقع ضميرًا.
"فتحًا": هل هذا فعل أو اسم أو حرف؟
نقول: مرَّ معنا أن من علامات الأسماء: التنوين، هل التنوين موجود في فتحًا؟
نعم، التنوين موجود، "فتحًا"، إذًا هذا اسم من الأسماء، والدليل على ذلك أنه لحقه التنوين في آخره.
"مبينًا": هذه الكلمة فيها تنوين، ولو أدخلنا عليها الألف واللام لقبلت "المبين"، وكذلك تقبل الجر، تقول: "مِن فتحٍ ومبينٍ" أو نحو ذلك.
إذًا هذه أسماء، والدلالة على ذلك مما مر معنا خصوصًا، وجود التنوين في آخرها.
"ليغفر": مر معنا الفعل المضارع، والمضارع إمَّا أن يكون مرفوعًا، وإمَّا أن يكون منصوبًا، وإمَّا أن يكون مجزومًا. والفعل: "يغفر" ما الذي نصبه؟
مرَّ معنا أنَّ من النواصب: (لام التعليل) أو (لام كي). قال: (فالنواصب عَشَرَةٌ، وَهِيَ: أَنْ، وَلَنْ، وَإِذَنْ، وَكَيْ، وَلَامُ كَيْ)، ولام كي التي تفيد التعليل.
"يغفر": فعل مضارع منصوب بـ (اللام)، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
لماذا قلنا: "يغفر" فعل مضارع؟
نقول: هل نستطيع أن ندخل عليه "تاء التأنيث" في آخره، "يغفرت"؟ نقول: لا يمكن هذا، هل نستطيع أن نقول: "سوف يغفر"؟ نعم قبل دخول سوف، ويقبل دخول (السين) فيصح أن تقول: "سيغفر".
فـ "يغفر" فعل مضارع؛ لقبوله السين وسوف، وكذلك (قد)، تقول: "قد يغفر"، فهو فعل مضارع.
إذًا استدللنا على أنَّ الفعل: "يغفر" هو فعل مضارع؛ لأنه قَبِلَ: (السين)، و (سوف)، و (قد).
وهذه جملة مما يمكن قوله في هذه الآية، للتفريق بين الأسماء والأفعال، ومرَّ معنا، وسيأتي -إن شاء الله معنا- تطبيق آخر.
{بارك الله فيكم، وجيد أن يتدرب الطالب على بعض من الأبواب التي مررنا عليها، ثم يُعمل الذهن فيما سيعربه، وهذا هو ثمرة علمه في تطبيقه للإعراب}.
لا شك، وهذا مما يرسخ القواعد، ويثقل المعلومة عند الطالب، أي إذا قارن بين التطبيق العملي والنظري -بإذن الله تبارك وتعالى-.
{فتح الله لكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله في لقاءات أخرى- نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.