الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي

إحصائية السلسلة

7657 12
الدرس الثاني عشر

أصول التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من دروس التعليق على متن أصول في التفسير، ومع ضيفنا فضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي.
أهلا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
حيّاك الله يا عبد الله، وحيّا الله الأبناء والبنات والطلاب والطالبات.
{نستأذنكم فضيلة الشيخ في قراءة المتن}
نعم، استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين جميعا.
قال المؤلف -رحمه الله-: (الضمير.
الضمير لغة من الضمور وهو الهزال لقلة حروفه، أو من الإضمار، وهو: الاخفاء، لكثرة استتاره.
وفي الاصطلاح مَا كُنِّيَ به عن الظاهر اختصارًا، وقيل: ما دل على حضور أو غيبة لا من مادتهما)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فهذا المبحث وهذا الفصل في الضمير، وهذا في الواقع من مباحث النحو، فإن قيل: هل نحن في نحو أم في أصول تفسير؟ قلنا: نحن في أصول تفسير، ولكن أصول التفسير يحتاج إلى النحو، لأن المفسر يحتاج إلى النحو؛ لأن القرآن هو أساس اللغة عربية في الواقع، ولذلك لابد من معرفة شيء من علوم النحو، ومنه الضمير لكثرة وروده في القرآن.
قال الشيخ -رحمه الله-: (الضمير لغة) يعني: تعريفه لغة (من الضمور أو من الإضمار)، والضمور يعني: الهُزال، ومنه تضمير الخيل، لأن الخيول حتى تكون سريعة قوية تُغذى ثم تُضَمَّر، يعني: تهزل ثم تكون قوية لسرعة جريها.
(أو من الإضمار وهو الخفاء) يعني: عدم الظهور؛ لأن الضمير قد يستتر، وذلك أن الضمائر إما ظاهرة وإما مستترة، والضمائر الظاهرة تكون إمَّا منفصلة وإما متصلة وكما سيأتي.
يقول شيخنا -رحمه الله-: (وفي الاصطلاح) يعني: في اصطلاح النحويين، (مَا كُنِّيَ به عن الظاهر اختصارا) الظاهر يعني الاسم البارز، تقول: "جاء محمد فأكْرَمْتُه"، الشاهد هنا هو "الهاء" في "أكرمته"؛ لأنَّ الظاهر هنا هو: "محمد" فبدلا من أن تقول: "جاء محمد فأكرمتُ محمدًا"، يكفي أن تقول: "أكرمته". إذًا (كُنِّيَ به عن الظاهر اختصارا).
(وقيل: ما دل على حضور أو غيبة لا من مادتهما) ما معنى (لا من مادتهما)؟ الغيبة والحضور تقول: "أنت"، وتقول: "هو"، فـ "أنت" للمخاطب الحاضر، و "هو" للغائب.
وقوله: (لا من مادتهما) أن تقول: "محمد حاضر"، أي حاضر واضح، فالمادة يعني: مادة الكلمة، وتقول: "غائب"، فغائب من مادته، ولكن الضمير يُفهم منه الغياب أو الحضور من الضمير لا من المادة، يعني: من الكلمة.
{قال -رحمه الله-: (فالدال على الحضور نوعان:
أحدهما: ما وضع للمتكلم مثل: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾.
الثاني: ما وُضِعَ للمخَاطَب مثل: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾.
وهذان لا يحتاجان إلى مرجع اكتفاءً بدلالة الحضور عنه)
}.
قوله -رحمه الله-: (فالدال على الحضور نوعان) وهما: ما وضع للمتكلم وما وضع للمخاطب، ثم مثَّل بمثالين:
الأول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ أين الشاهد؟ "الياء"، والتي تسمى: "ياء المتكلم"، وهي للحاضر المتكلم، فهو حاضر.
الثاني: (ما وُضِعَ للمخَاطَب مثل: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾) الشاهد هو "التاء" في قوله: ﴿أَنْعَمْتَ﴾، فإنَّ المخَاطب هو رب العالمين.
قال الشيخ -رحمه الله-: (وهذان لا يحتاجان إلى مرجع، اكتفاءً بدلالة الحضور عنه). كيف مرجع؟ نقول: مرجع يرجع للضمير، تقدم ذلك في المثال، تقول: "جاء محمد فأكرمته"، الهاء هنا أين مرجعها؟ تعود إلى "محمد" في المثال السابق، ولكن لو قلت: "هذا كتابي"، فالضمير هنا هو: "الياء" في كلمة "كتابي". أين مرجع الضمير؟!
نقول: هل تقدم اسم ظاهر؟ الإجابة: لا، لأنه ما يحتاج، فهو معروف، وما هناك خلاف في أنَّ "الياء" ترجع إلى المتكلم، وبالتالي لا يحتاج إلى مرجع الضمير.
طيب "التاء" في ﴿أَنْعَمْتَ﴾ هذا رب العالمين، لأنَّ الخطاب في السورة كما في قوله: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ أو ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ فكل الضمائر ترجع إلى الله -عز وجل- بدون خلاف.
إذن فالتكلم أو الخطاب يُغني عن مرجع الضمير.
{قال -رحمه الله-: (والدال على الغائب، ما وضع للغائب. ولابد له من مرجع يعود عليه)}.
نعم؛ لأن الغائب لا بد أن نذكر شيئًا نرد الضمير إليه، فلو قلت لك يا عبد الله: "أكرمته وخرج من البيت"، فأنت تسأل وتقول: من هو؟!
أقول لك: "جاءني البارحة ثم طعم طعام العشاء ثم انصرف"، فلك أن تسأل وتقول: من هو؟!
ولكن لو قلت لك: "جاء أستاذي فأكرمته ثم خرج"، فهذا واضح، ولذا نقول: الغائب يحتاج إلى مرجع ضمير.
{قال -رحمه الله-: (والأصل في المرجع أن يكون سابقًا على الضمير لفظًا ورتبة، مُطابقًا له لفظًا ومعنى، مثل: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ [هود:٤٥])}.
قوله: (والأصل في المرجع) يعني: المعروف والمعتاد لغةً، أن يكون سابقًا على الضمير؛ لأن الضمير يرجع إلى شيء سابق، فقولك: "جاء محمد فأكرمته"، فـ "محمد" سبق الضمير!
ولكن لو قلت لك: "أكرمته جاء محمد" فما يعرف، ولذا لابد أن يتقدم كما يقول: (لفظا ورتبة) أي: لفظًا في الكلام، و (رتبة) نقول: لأن كلمات اللغة العربية تكون مرتبة، ولذا نجد أن الأصل في المبتدأ أن يكون قبل الخبر، وأن الفعل يأتي قبل الفاعل، وأن الفاعل يأتي قبل المفعول به، هكذا يكون الترتيب، وهذا معنى: (رُتبة) أي: في الكلام على مقتضى لغة العرب.
ثم مَثَّل -رحمه الله- بقوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ الشاهد هو "الهاء" في قوله: ﴿رَبَّهُ﴾ فالهاء هنا: تعود على (مُتقدم لفظًا ورتبةً) فـ (لفظًا) هذا واضح وهو: ﴿نُوحٌ﴾، و (رتبة) لأن ﴿نُوحٌ﴾ فاعل، و "الرب" مفعول به، فالمنادى هو: ﴿رَبَّهُ﴾.
{قال -رحمه الله-: (وقد يكون مفهوما من مادة الفعل السابق مثل: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:٨])}.
قد يكون المرجع غير موجود، ولكنه يُفهم من المعنى بدون لفظ، وقوله: (﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾) أين الشاهد؟
قوله: ﴿هو﴾. طيب ما المفهوم؟ نقول: العدل، يعني اعدلوه فالعدل أقرب لتقوى الله -عز وجل-، فإذا عدلت فأنت تتقي الله -عز وجل-. إذن هذا المعنى مفهوم من مادة الفعل.
{قال -رحمه الله-: (وقد يسبق لفظًا لا رتبةً مثل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة:١٢٤])}.
هنا اختلف لأنه قال: (وقد يسبق لفظًا لا رتبةً)، مثل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ يعني: المرجع يكون ضميرًا سابقا لفظا لا رتبة، أين الشاهد هنا؟ الشاهد هنا: "الهاء"، والضمير "الهاء" يعود على من؟! يعود على إبراهيم -عليه السلام.
ما موقع إبراهيم في الإعراب؟ إبراهيم مفعول به، والمفعول به المفروض أن يكون متأخرًا، ولذا قال هنا: (وقد يسبق لفظًا لا رتبةً) وهنا من أجل الضمير أن يرجع قدمنا المفعول لفظًا -الذي يفترض أن يكون متأخرًا- قدمناه لفظًا من أجل أن يرد الضمير إليه. فرجع إلى متقدم لفظاً لا رتبة.
{قال -رحمه الله-: (وقد يسبق رتبة لا لفظاً مثل: "حَمَلَ كِتَابَهُ الطَّالِبُ")}.
كلمة "الطالب" في المثال الذي أورده الشيخ موقعها في الإعراب: فاعل، و "الكتاب" مفعول به، وأيهما المفروض يتقدم؟ المفروض أن الفاعل هو من يتقدم أي: "الطالب"، فالضمير هنا عاد إلى متقدم رتبة لا لفظًا، إذن الضمير سبق رتبة لا لفظًا.
{قال -رحمه الله-: (وقد يكون مفهومًا من السياق مثل: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فالضمير يعود على الميت المفهوم من قوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾)}.
قوله: (وقد يكون مفهومًا من السياق) يعني: مرجع الضمير يفهم من السياق، قال سبحانه: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ من هو ذا؟ هو الميت كيف عرفنا؟ نقول: من السياق؛ لأن السياق في المواريث، والميراث لا يمكن أن يكون إلا وقد مات، وبالتالي فيرجع للميت.
واللغة العربية في غاية البلاغة، فما يحتاج لذكر الميت؛ لأنه معروف أن الميراث لا يكون إلا بوجود ميت، ولذا نقول: رجع الضمير إلى مفهوم من السياق.
{قال -رحمه الله-: (وقد لا يُطابق الضمير معنى مثل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ فالضمير يعود على الإنسان باعتبار اللفظ؛ لأن المجعول نطفةً ليس الإنسان الأول)}.
(المجعول نطفةً ليس الإنسان الأول) إذاً قد لا يطابق الضمير معنى، يعني: مرجع الضمير لا يطابقه معنى، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ﴾، ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ من؟ أي: هذه النطفة.
من هو (الإنسان الأول) الإنسان الأول هو من خلق من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام.
(المجعول النطفة) من هو؟ ذريته، إذن لا يُطابق المرجع، ولكنه معروف ومفهوم، فقوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ﴾ يعني: ذريته.
{قال -رحمه الله-: (وإذا كان المرجع صالحًا للمفرد والجمع جاز عود الضمير عليه بأحدهما مثل: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا خَالِدِينَ ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾)}.
قوله: (وإذا كان المرجع صالحًا للمفرد والجمع جاز عود الضمير عليه بأحدهما) يعني: بالجمع أو بالمفرد. أين مرجع الضمير في المثال هنا؟ مرجع الضمير قوله: ﴿وَمَن﴾ وهو اسم موصول بمعنى الشرط، ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ هنا ضمائر، ﴿يَعْمَل﴾ يعني: من يؤمن، وقوله: ﴿يُدْخِلْهُ﴾ أي من عمل صالحًا.
وقوله: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وكلمة ﴿خَالِدِينَ﴾ هنا وصف إلى ﴿وَمَن﴾؛ لأن "من" هنا اسم موصول يصلح للجماعة والمفرد، والاثنين.
أيضا ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ الهاء في ﴿لَهُ﴾ ترجع إلى ﴿مَنْ﴾ التي في أول الآية.
إذن فالمرجع إذا كان يصلح للجماعة والإفراد والمثنى، جاز أن يرجع الضمير له بأيهما.
{قال -رحمه الله-: (والأصل اتحاد مرجع الضمائر إذا تعددت مثل: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم:٥-١٠]، فضمائر الرفع في هذه الآيات تعود إلى شديد القوى، وهو: جبريل)}.
أورد شيخنا -رحمه الله- هذه الآية؛ لأنه حصل فيها خلاف وإشكالات عند المفسرين، ففي قوله سبحانه: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ إلى آخره، وقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ هل المراد جبريل -عليه السلام- أم الله عز وجل؟ فالله قد يدنو من عبده المؤمن، يدنيه في كنفه.
قال شيخنا -رحمه الله-: (والأصل اتحاد مرجع الضمائر إذا تعددت) نشوف الآن، قوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ أول ضمير هنا هو: "الهاء" وهو يرجع إلى من؟ الضمير يرجع إلى محمد ، وهذا ليس فيه إشكال، و ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ هو: جبريل، و ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ يعني: ذو حسن وبهاء، أي: جبريل.
﴿فَاسْتَوَى﴾ من المقصود؟ المقصود هو جبريل -عليه السلام-، أي: استوى هو، واستوى يعني: كمل وظهر على الصورة التي خلقها الله -عز وجل-.
﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى﴾ من هو؟ جبريل -عليه السلام، ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ من هو؟ هو جبريل وهذا هو الأصل، لأن الأصل أن الضمائر ترجع إلى مرجع واحد ﴿فَتَدَلَّى﴾ يعني: قَرُبْ، من هو؟ جبريل -عليه السلام- أيضاً، ﴿فَكَانَ﴾ أي: جبريل -عليه السلام- ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ﴾ والهاء هنا في ﴿عَبْدِهِ﴾ ليست ضمير رفع، بل هي ضمير جر؛ لأنها مضاف إليه.
﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ لفظتي (فأوحى، وأوحى) فيهما ضمير، وهو ضمير الغائب فهو جبريل -عليه السلام.
إذن جميع ضمائر الرفع هنا ترجع إلى جبريل -عليه السلام.
{قال -رحمه الله-: (والأصل عود الضمير على أقرب مذكور إلا في المتضايفين فيعود على المضاف؛ لأنه المتحدث عنه، مثال أول: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيل﴾ [الإسراء:٢].
ومثال الثاني: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:٣٤])
}.
قوله: (والأصل عود الضمير على أقرب مذكور) طيب.. لو قلت لك: "جاء محمد، وجاء بعده علي، فأعطيته كتابا" الهاء ترجع على من؟ الأصل أن الهاء ترجع على "علي"، ويمكن أن ترجع على "محمد"، ولكن هذا خلاف الأصل، إلا إذا دلّ الدليل، ولذلك يقول شيخنا -رحمه الله-: (والأصل عود الضمير على أقرب مذكور إلا في المتضايفين) يعني: المضاف، والمضاف إليه، (فيعود على المضاف لأنه المتحدث عليه).
ثم ذكر الشيخ مثالا، قال سبحانه: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيل﴾ الهاء في ﴿جعلناه﴾ تعود على "موسى" أم تعود على "كتاب"؟
هناك احتمال، ولكن نقول هنا: يرجع إلى المضاف.
قوله: (ومثال الثاني: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾) عندنا مرجعان، الأول: النعمة، والثاني: لفظ الجلال "الله"، وقوله: ﴿لا تُحْصُوهَا﴾ تعود على من؟ تعود على النعمة، هذه مؤنث.
{قال -رحمه الله-: (وقد يأتي على خلاف الأصل فيما سبق بدليل يدل عليه)}.
أي أن ما سبق وكل ما ذكره الشيخ من قواعد قد تختلف إذا دل دليل عليها.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (الإظهار في موقع الإضمار.
الأصل أن يؤتى في مكان الضمير بالضمير لأنه أبين للمعنى وأخصر للفظ، ولهذا ناب الضمير بقوله تعالى: ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:135] عن عشرين كلمة المذكورة قبله، وربما يؤتى مكان الضمير بالاسم الظاهر وهو ما يسمى: الإظهار في موضع الإضمار، وله فوائد كثيرة، تظهر بحسب السياق منها)
}.
قوله: (الإظهار في موضع الإضمار) ما معناه؟ الإظهار يعني: ذكر الاسم الظاهر بدل الضمير، كما قلنا من قبل: "جاء محمد فأعطيته كتاباً" الآن لو قلت لك: "جاء محمد فأعطيت محمدًا كتابًا" ماذا تظن؟ قد تظن أن رجلا آخر اسمه محمد، ولذا كان الأصل أن نأتي بالضمير.
ولكن لو قلت: "دخل طالب، فأجاب الطالب مسألة، فأعطيت الطالبة جائزة"، هنا إظهار في موضع الإضمار، نقول: هذا خلاف الأصل، ولكن قد يكون لفائدة.
قال: (الأصل أن يؤتى في مكان الضمير بالضمير لأنه أبين للمعنى وأخصر للفظ)، ثم ذكر مثالا في سورة الأحزاب، فقال: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ أي ذكر عشرين كلمة، ثم قال: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً﴾ أين الضمير؟ الضمير: لهم.
وهنا لو أردنا الإظهار لقلنا: أعدَّ الله للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات إلخ، فبدلاً من إعادة الكلام يكفي الضمير لهم.
إذن فالاختصار أبين واضح، واللغة العربية في غاية البلاغة، ولو عدنا الكلام لصار ركيكًا، لكن أحيانا يُعاد الكلام لفائدة، وهو ما يسمى: (الإظهار في موضع الإضمار).
{قال -رحمه الله-: (وله فوائد كثيرة، تظهر بحسب السياق منها:
الأول: الحكم على مرجعه بما يقتضيه الاسم الظاهر.
الثاني: بيان علة الحكم.
الثالث: عموم الحكم لكل متصف بما يقتضيه الاسم الظاهر.
مثال ذلك قوله تعالى: ﴿من كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:٩٨]، ولم يقل: فإن الله عدو له، فأفاد هذا الإظهار:
١- الحكم بالكفر على من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل.
٢- إن الله عدو لهم بكفرهم.
٣- أن كل كافر فالله عدو له)
}.
ذكر شيخنا -رحمه الله- فوائد الإظهار في موضع الإضمار، ثم أتى بمثالين، ثم طبَّقَ الفوائد عليه، قال في المثال: قوله سبحانه: ﴿من كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ الشاهد قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ ولو كان في غير القرآن لصحَّ أن نقول: من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو له. صحيح؟ ولكنه أظهر في الآية، والقرآن في غاية البلاغة، فدل على الفائدة.
قد يقول قائل: الفوائد ما هي؟ قلنا: (الحكم على مرجعه بما يقتضيه الاسم الظاهر)، الآن ما مرجع الكافرين هنا؟ نقول: "عدو لجبريل" ﴿لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ﴾، والاسم الظاهر هنا ما هو؟
الاسم الظاهر هو: "الكافرين"، فالحكم على مرجع الضمير بالظهور ما هو؟ الكفر.
إذن ﴿من كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ فهو كافر، هذا واحد.
يقول: (بيان علية الحكم) ما الحكم؟ العداوة، ﴿من كَانَ عَدُوّاً﴾ طيب العلة ما هي؟ العلة هي الكفر، إذن علة العداوة الكفر.
الثالث: يقول: (عموم الحكم لكل متصف فيما يختصر اسم الظاهر) يعني: كل من كان عدوًا لجبريل ولو كان غير السابقين -من اللاحقين- فهو كافر.
إذن فالحكم عام، وهذه هي فوائد الإظهار في موضع الإضمار.
{قال -رحمه الله-: (مثال آخر: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف:١٧٠] ولم يقل: إنا لا نضيع أجرهم، فأفاد ثلاثة أمور:
١- الحكم بالإصلاح للذين يمسكون الكتاب، ويقيمون الصلاة.
٢- أن الله آجرهم لإصلاحهم.
٣- أن كل مصلح وله أجر غير مضاع عند الله تعالى)
}.
هذا مثال آخر، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾ ما معنى ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾؟ يعني: "يُمْسِكُون"، ولكن عندما زاد المبنى زاد المعنى، يعني: يُمسكونه تماماً، والتمسك بالكتاب هو الاتباع والتطبيق ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾. في غير القرآن كان يمكن أن يقال: {نضيع أجرهم}، ولكنه أظهر في موضع الإضمار.
الفوائد المذكورة: الحكم بالصلاة عليهم، أن الله أجرهم لصلاحهم، وهذه علّة الحكم، أن كل مصلح له أجر غير مضاع، وهذا عموم الحكم فيمن اتصف بهذه الصفات.
{قال -رحمه الله-: (وقد يتعين الإظهار، كما لو تقدم الضمير مرجعان، يصلح عوده إلى كل منهما والمراد أحدهما، مثل: اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، وبطانة ولاة أمورهم، إذ لو قيل: وبطانتهم، لأوهم أن يكون المراد بطانة المسلمين)}.
هذا من البلاغة، أننا إذا احتجنا الإظهار أظهرنا، فلو صلح الضمير أن يعود إلى مرجعين فأظهرنا من أجل أن يرجع الحكم على من نريد، كما نقول: اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم.
لو قال: وبطانتهم، فهل المقصود هنا بطانة الولاة أو بطانة المسلمين؟ نقول: بل بطانة الولاة، ولذلك قال: وبطانة ولاة أمورهم.
{قال -رحمه الله-: (ضمير الفصل.
ضمير الفصل: حرف بصيغة ضمير الرفع المنفصل، يقع بين المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، ويكون بضمير المتكلم كقوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ وبضمير المخاطب كقوله تعالى: ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم﴾، وبضمير الغائب كقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾)
}.
طيب هذا ضمير الفصل، وتقدم من الضمير ما يكنى به عن الظاهر اختصارا، وهو مأخوذ من الضمور يعني: الضعف، أو من الإضمار وهو الخفاء.
قال: (ضمير الفصل: حرف بصيغة ضمير الرفع) إذاً ضمائر الفصل دائماً ضمائر رفع، وضمائر الرفع معروفة، "هو" وما تفرع عنها، مثل: "هو، وهي، وهم، وهن، وأنا، وأنت، ونحن".
والهاء والياء ليستا من ضمائر الرفع، وكذلك "الناء" قد تكون للنصب أو تكون للجر على حسب.
يقول: (يقع بين المبتدأ والخبر إذا كان معرفتين) هل يمكن أن يكون المبتدأ غير معرفة؟ نقول: نعم. مثال: "رجلٌ كبيرٌ جاء"، أين المبتدأ؟ رجل، وأين الخبر؟ نقول: جملة جاء وهي جملة فعلية، فلا بد أن يكونا معرفتين.
قال: (ويكون بضمير المتكلم)، وهو مثل أنا في قوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ هنا (أنا) ضمير الفصل، وضمير الفصل لا محل له من الإعراب، وإنما يؤتى به لفوائد ذكرها شيخنا -رحمه الله- وهي: (التوكيد، والحصر، والفصل).
طيب هنا في غير القرآن لو قال: {إنني الله} صَحَّ هذا لغة في غير القرآن، ويصح مثلا قولك: "إنني مدرس"، أو "إنني أنا مدرس"، ولكن أقول: "إنني أنا مدرس" هنا ضمير الفصل.
يقول: (وقوله في مثال آخر: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾) "نحن" هنا هي الشاهد. (وبضمير المخاطب كقوله: ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم﴾) الشاهد قوله: "أنت"، قال: (وبضمير الغائب كقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾) الشاهد قوله: "هم".
قال -رحمه الله-: (وله ثلاث فوائد، الأولى: التوكيد، فإن قولك: "زيد هو أخوك" أوكد من قولك: "زيد أخوك".
الثاني: الحصر واختصاص ما قبله بما بعده، فإن قولك: "المجتهد هو الناجح" يفيد اختصاص المجتهد بالنجاح.
الثالثة: الفصل، أي التمييز بين كون ما بعده خبرًا أو تابعًا، فإنَّ قولك: "زيد الفاضل" يحتمل أن تكون "الفاضل" صفة لزيد، والخبر منتظر، ويحتمل أن تكون "الفاضل" خبرًا، فاذا قلت: "زيدٌ هو الفاضل" تعين أن تكون الفاضل خبرا لوجود ضمير الفصل)
}.
هذه فوائد ضمير الفصل، الأول: التوكيد، والثاني: الحصر، والثالث: الفصل.
كيف التوكيد؟ يعني تأكيد الكلام وتثبيته، فقولك: "زيد هو أخوك" أوكد مما لو قلت: "زيد أخوك".
وأما الاختصاص فهو اختصاص ما قبله بما بعده، يعني: اختصاص زيد بالأخوة، زيد هو أخوك لا غيره.
"المجتهد هو الناجح" يُفيد اختصاص المجتهد بالنجاح.
وأما الفصل فهو تمييز كون ما بعده خبر أو صفة، مثاله قولك: "زيد الفاضل"، و "زيد هو الفاضل"، فإذا قلنا: "زيد هو الفاضل" تعيين "الفاضل" خبرًا، ولكن لو قلنا: "زيد الفاضل" ما تتعين، لماذا؟ قد تقول: "زيد الفاضل موجود" فأين الخبر؟ الحبر "موجود".
لكن لو قلت: "زيد هو الفاضل"، فقطعا "الفاضل" هو الخبر، بعكس ما لو قلت: "زيد الفاضل" بدون توكيد.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (الالتفات: تحويل أسلوب الكلام من وجه إلى آخر، وله صور منها:
١- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة] فحول الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله: إياك.
٢- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس:٢٢] فحول الكلام من الخطاب إلى الغيبة بقوله: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾.
٣- الالتفات من الغيبة إلى التكلم، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ [المائدة:١٢] فحول الكلام من الغيبة إلى التكلم في قوله وبعثنا.
٤- الالتفات من التكلم إلى الغيبة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ فحول الكلام من التكلم إلى الغيبة بقوله: لربك)
}.
هذا فصل الالتفات، وهو آخر الفصول والأبواب التي ذكرها شيخنا -رحمه الله- في هذا الكتاب المختصر (أصول في التفسير)، وقبل أن نعلق عليه بما يسر الله -عز وجل-، أحبُّ أن أنبه في هذه الدورة خصوصا وغيرها عموما، أنَّ الطالب إذا أخذ المادة والموضوع والعلم لأول مرة قد لا يفهم، وقد لا يستوعب، تسأل وتقول كيف هذا؟ نقول: هذا أمر طبيعي، ولذلك الآن إذا أتيت إلى مسجد ثم تكلمت عن الوضوء، هل الناس يفهمون؟ نعم يفهمون، بل كل من يخرج يكون فاهمًا، بل حتى لكن لو تكلمت عن البيوع، وأنواع البيوع، والبيع الإلكتروني، والبيع إلى أجل، والعينة، والتورق، فإن الناس قد لا يفهمون، نعم قد يكونون من يستخدم مثل تلك الأنواع في البيوع، ولكن لأنهم لأول مرة يعرفون أحكامها ويتكلمون فيها فيستغربون!
وهذا طالب العلم وطالبة العلم إذا أخذ العلم لأول مرة فقد لا يفهم، وقد يأتيه الشيطان ويقول له: أنت ما تصلح لطلب العلم!
نقول: لا. انتبه فهذا أمر طبيعي، وقس ذلك على غير العربي إذا جاء إلى بلاد العربية التي يتكلمون فيها باللغة العربية، تراهم يسمون ذاك: "الأطرش في الزفة" أطرش يعني: أصم، فإذا أتى يُكَلِّمُ الناس فإنهم لا يفهمون قوله، ولكن بعد سنتين -ما شاء الله- تراه يجيد الكلام، وهكذا طالب العلم. ولذا نقول لطالب العلم: انتظر ولا تتعجل، فهذا هو الطبيعي، تأخذ مرة ومرة حتى تفهم بإذن الله -عز وجل. ويكفيك شرفًا وفخرًا أنك تصبر على العلم، فالصبر على العلم منقبة، ومن أسباب تحصيل العلم: الصبر.
وأما عن الالتفات فأكثر الناس ما يعرف الالتفات، نقول: هو كذلك في اللغة تحويل الكلام من أسلوب إلى أسلوب، يعني: أنا كنت أنظر للأمام، ثم نظرت على اليمين، أو على اليسار.
يقول شيخنا -رحمه الله-: (الالتفات تحويل أسلوب الكلام من وجه إلى آخر، وله صور يعني: أقسام وأنواع:
الأول: الالتفات من الغيبة إلى الحضور، مثاله قوله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾)
. الآن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هل رب العالمين يُخاطب؟ نحمده -عز وجل- ونثني عليه.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ هو سبحانه ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، صيغة الغائب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الآن خطاب، أي: أخاطب ربي سبحانه وتعالى.
قال الشيخ -رحمه الله-: كأن العبد حينما أثنى على الله -عز وجل- وعظمه ومجده، كأنه صار أمامه فخاطبه سبحانه وتعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي: أعبدك يا رب لا أعبد غيرك، وأستعين بك لا استعين بغيرك.
قال الشيخ -رحمه الله-: (الثاني: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة) هذا مثال آخر، كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ فقوله: ﴿كنتم﴾، أي: كنتم أنتم، ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ أي: بكم أنتم، فالخطاب لنفس الناس.
يقول: (فحول الكلام من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾)
هناك فائدة أيضا خاصة بهذا الكلام، يقول شيخنا -رحمه الله-: "كراهة أن يتصف المخاطبون بما ذكر بعده"، لماذا؟ لأن هؤلاء في الفُلك، وأنعم الله -عز وجل- عليهم، وأجرى لهم السفن بالرياح، ثم عبدوا غير الله -عز وجل- فكراهة أن يخاطب هؤلاء بما اتصف به أولئك من الكفر والشرك حَوَّلَ الكلام.
الثالث قال: (الالتفات من الغيبة الى التكلم) انظر ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ﴾ هنا الخطاب الغيبة الله رب العالمين، ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ بعثنا (هذا للمتكلم) لأنَّ "ناء" هنا ضمير المتكلمين الحاضرين، أو المتكلم المعظم لنفسه، وهو المراد هنا ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾، يقول شيخنا -رحمه الله-: (فحول الكلام من الغيبة الى التكلم في قوله: ﴿وَبَعَثْنَا﴾)، والفائدة الخاصة في هذا أنها من باب التعظيم؛ لأن الذي بعثه وأرسله لرحمة العالمين هو رب العالمين.
الرابع قال: (الالتفات من التكلم إلى الغيبة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾) الخطاب هنا للنبي محمد ، يقول: (فحول الكلام من التكلم إلى الغيبة بقوله: لربك).
هنا أين المتكلم؟ المتكلم هو: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾. الغَيبة أين؟ الغيبة ﴿لِرَبِّكَ﴾. ما قال لي مع أن الله هو الذي أعطاه، و ﴿إِنَّا﴾ هذا حاضر، و ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ حاضر، ثم قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾، فلو كان الكلام في نفس السياق لقال: {فصل لي وانحر لي}، ولكن الله -عز وجل- لم يقل ذلك.
قال شيخنا -رحمه الله- في الشرح: الفائدة الخاصة: الاشارة إلى أن الله منحك هذا للربوية الخاصة بك.
{قَالْ المؤلف -رحمه الله-: (وللالتفات فوائد منها:
١- حمل المخاطب على الانتباه لتغير وجه الأسلوب عليه.
٢- حمله على التفكير في المعنى، لأن تغيير وجه الأسلوب، يؤدي إلى التفكير في السبب.
٣- دفع السآمة والملل عنه، لأن بقاء الأسلوب على وجه واحد، يؤدي إلى الممل غالبا)
}.
يقول -رحمه الله-: (وللالتفات فوائد منها أولاً: حمل المخاطب على الانتباه لتغير وجه الأسلوب عليه) كيف؟ نقول: أسلوب الكلام لو صار واحداً لربما أصاب المخاطب والسامع الملل، ولكن حينما يتغير الكلام ينتبه، ونظير ذلك بعض الخطباء في الجمعة ينام الناس حوله، وقد يأتي خطيب آخر بنفس الخطبة والناس يكادون يقفون على أقدامهم من كلامه!
مثال: لو قلت مثلاً: إن الله -عز وجل- قد خلقنا من العدم، وربانا بالنعم، وسوف يبعثنا يوم القيامة للحساب، وسوف نعرض على النار، ونمر فوق الصراط، وسوف نحبس في القنطرة بين الجنة والنار، ثم تفتح أبواب الجنة.
وقد يأتي آخر فيقول: والله -عز وجل- خلقنا لعبادته، وسوف يُحاسبنا ويبعثنا، ثم إما أن نُعرض على الجنة أو وعلى النار، ونمر فوق الصراط. فتراه تارة رافعاً صوته وتارة خافضًا صوته وهكذا.
فمثل هذا الأسلوب يشد الانتباه، ولذلك تجد الناس يذهبون إلى الخطيب الذي يحرك قلوبهم.
الثاني يقول: (حمله على التفكير في المعنى) يعني: يحمل المخاطب أو السامع على التفكير في المعنى؛ لأن تغيير وجه الأسلوب يؤدي للتفكير. كيف؟ انظر قوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ لم لم تأت وجرين بكم؟
نقول: هذا من أساليب القرآن الداعية إلى التفكير والتأمل فيه، الله -عز وجل- يقول: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾.
الثالث قال: (دفع السآمة والملل عنه، لأن بقاء الأسلوب على وجه واحد، يؤدي إلى الممل غالبا).
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وهذه الفوائد عامة للالتفات في جميع صوره، وأما الفوائد الخاصة فتتعين في كل صورة، حسب ما يقتضيه المقام.
والله أعلم. وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. تم ولله الحمد رب العالمين)
}.
يقول شيخنا -رحمه الله-: (هذه الفوائد) يعني: ذكر هذه الفوائد الثلاث (عامة للالتفات) أي: في كل التفات، وقد يكون هناك فوائد خاصة في بعض السياقات، أو في بعض الآيات، وقد ذكرنا بعضًا منها (حسب ما يقتضيه المقام).
وبهذا تم هذا الكتاب، أسأل الله -عز وجل- أن يغفر لشيخنا مغفرة واسعة، وأن يرفع درجاته، وأن يعلي منازله، وأن يخلفه في عقبه، وأن ينفعنا وإياكم بعلمه وبجميع علماء المسلمين، وأن يغفر للمسلمين والمسلمات.
كما أسأل الله -عز وجل- أن يحفظ هذا البلاد، وأن يحفظ ولاة أمرها، وأن يحفظ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، وأن يصلح بطانتهما، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، في فلسطين، وفي غزة، وفي السودان، وفي جميع أقطار المسلمين.
كما أُثَنِّي بالشكر عليكم، وعلى هذه المؤسسة الطيبة الخيرة، أسأل الله ينفع بها والقائمين عليها والمشرفين عليها جميعا.
وإني أوصي أبنائي وبناتي في هذا الختام بالتمسك بالعلم والثبات عليه، فإن العلم يحتاج إلى زمن، ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله- حينما رؤيَ وهو في سنة السبعين يحمل المحبرة والدواة، يعني: القلم والمحبرة، فقيل يا إمام إلى متى هذا العلم، فقال: مع المحبرة إلى المقبرة، يعني: لا يزال طالب العلم مستمرًا في طلب العلم حتى يموت، ما ينتهي طلب العلم حتى يموت، ولا يقول الإنسان إذا وصلت إلى درجة كذا انتهيت، حتى برامج هذه الجمعية المباركة، فإذا انتهى الإنسان منها كلها، قلنا له: استمر، بل قد نقول: إن برامج هذه الجمعية هي بداية طلب العلم، والجامعة نفسها بل حتى الدكتوراة، هي خطوات في طلب العلم، ودرجات يرتقي الإنسان بها، يَثْبُتْ ويراجع العلم، وإذا راجع العلم ثبت عنده، بل إنَّ تعليم طالب العلم للناس العلم إذا تأهل، فهذا في الواقع طلب علم جديد، ولذلك من يُعلم الناس ما تَعلمه يثبت العلم في صدره وفي قلبه.
وهذا ما أوصيكم به، وأوصيكم أيضًا بضرورة أن يسمع طالب العلم وأن يحضر دروسًا في آداب طالب العلم، في سير العلماء، في الكتب التي أُلِفت حول العلم وطلب العلم ومنهجية طلب العلم، فإنها تشحذ الهمة، وينبغي لمن سمع مراجعته وسماعه مرة بعد مرة، وأعرف أن هذه الجمعية المباركة -إن شاء الله- عندهم دروس في هذا المعنى. ونقول: حتى لو درست فصلا فعده، بل تراجع مرة بعد مرة، فإن العلم إذا تكرر تقرر.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله لكم شيخنا، وجزاكم خيرًا على ما قدمتم وأفدتم، ونسأل الله أن يبارك في هذه الدروس، وأن ينفع بها عامة المسلمين إن شاء الله.
والشكر موصول إليكم أيضا أيها الأخوة والأخوات، وعند هذا الحد نصل إلى ختام هذه الحلقات، والتي كانت في التعليق على متن "أصول في التفسير"، نلقاكم في برامج أخرى بمشيئة الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ