{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، مرحبا بكم طلاب وطالبات برنامج (جادة المتعلم) في حلقة جديدة من حلقات التعليق على كتاب الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين (مقدمة في أصول التفسير)، باسمي وباسمكم نرحب جميعا بفضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي، مرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الطلاب والمشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عز وجل- للجميع العمل الصالح، والتوفيق في التعليق على هذا الكتاب (أصول في التفسير) لفضيلة الشيخ العلامة/ محمد بن عثيمين -رحمه الله-.
{نستأذنكم في البدء بالقراءة}
نعم، على بركة الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (أول ما نزل من القرآن على وجه الإطلاق قطعا ً الآيات الخمس الأولي من سورة العلق، وهي قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:١-٥])}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد، فإنَّ هذا هو المبحث الثاني من المباحث التي ذكرها شيخنا -رحمه الله- في هذا الكتاب المختصر المفيد، وهذا الفصل، وهو: أول ما نزل من القرآن، ومعرفة أول ما نزل، وآخر ما نزل، ونزول الآيات يُفيد في الناسخ والمنسوخ، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- زيادة بيان لذلك.
فأول ما نزل من القرآن مُطلقًا يتبين به ما يأتي أنه أول ما نزل بشأن الرسالة، وبعدها فترة الوحي، آية المدثر، ولكن أول ما نزل مطلقًا، يعني: تامًا هو هذه الآيات في أول سورة العلق.
وقوله سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ هذا أمر من الله -عز وجل- للنبي ﷺ أن يقرأ، ولكن ماذا يقرأ؟ نقول: يقرأ القرآن. ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ والباء هنا للاستعانة والتبرك، أي: مُستعينًا ومُتبركًا بكل اسم لله؛ لأن قوله: ﴿بِاسْمِ﴾ هذا مفرد مضاف، أي: اقرأ مُتبركًا ومُستعينًا بجميع أسماء الله -عز وجل-. ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ ما المناسبة بين نزول هذه الآيات في شأن الوحي ثم الذي خلق؟
الجواب والله أعلم: أن الذي خلق هو الذي يأمر، وهو الذي ينهى، وهو الذي يستحق أن يُعبد، وهو الذي أنزل هذا القرآن العظيم على هذا النبي الكريم ﷺ.
وقوله سبحانه: ﴿خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ أي ابتدأ خلق الإنسان من علق، والعلق هو قطعة الدم. فإن قيل: أليس هناك آيات في أن الإنسان خلق من طين؟ وآيات أنه خلق من نطفة من ماء مهين؟
الجواب: بلى، ولكن هذا ذكر لبعض مراحل الإنسان، فالإنسان خلق من طين في بداية خلقنا جميعا -خلق أبينا آدم-، وخلق بقية ذرية آدم -عليه السلام- من ماء مهين، ويستثنى من ذلك: اثنان، حواء -رضي الله عنها- فإنها خلقت من آدم، ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، ويستثنى أيضًا عيسى -عليه السلام- نبي الله، فإن الله خلقه بكلمة "كن" من أم بلا أب.
وقوله سبحانه: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ كرر القراءة لأهميتها، ثم من أجل أن يُبيّن صفة هذا الرب الكريم، فهو ربُّنا -عز وجل- الخالق الرازق المدبر، الأكرم الذي لا أكرم منه، فجميع هذا الفضل والخير من ربنا -سبحانه وتعالى- ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل:53].
وقوله سبحانه: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ هذا يحتمل معنيين، الأول: عَلَّمَ الكتابة بالقلم، أي علَّمَ الإنسان كيف يكتب بالقلم؟
ويحتمل أنه عَلَّمَ العلوم وحفظ العلوم بالقلم، فَتُكْتَبْ وتُحفظ بالأقلام.
وقوله سبحانه: ﴿عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أي عَلَّم الإنسان ما لم يعلم سواء من العلوم الشرعية، أو من العلوم الدنيوية، فالله -عز وجل- أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ثم علمنا -سبحانه وتعالى-.
وفي هذه الآيات الخمس الحث على طلب العلم من عدة أوجه:
الوجه الأول: في أول كلمة (اقرأ) فالقراءة وسيلة للعلم، وبهذا نعلم أن ديننا مبني على العلم والتعلم وطلب العلم، ولذلك من أراد الخير في الدنيا والآخرة، وأراد نصرة دينه، والدعوة إلى دينه، فلا بد أن يتعلم؛ لأن العلم أساس الدين، وأساس الدعوة، وأساس كل شيء.
والوجه الثاني، في قوله سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ أيضًا فيه حث على قراءة القرآن، فإن القرآن كتاب العلوم الشرعية بل حتى الدنيوية، والله -عز وجل- قال في شؤون الدنيا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ وقال: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ هذه الآيات فيها إشارة إلى استغلال ما في الأرض من ثروات -كما تسمى- ثروات طبيعية، مثل: الحديد وغيره من أجل الصناعات الدنيوية، ولكن القرآن نزل بالأمور المهمة في الشرع.
الوجه الثالث، في قوله بالقلم: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ أيضًا هذا وجهان، فإن الله -عز وجل- علّم، وهذا امتنان منه سبحانه وتعالى، وشيء يمتن الله -عز وجل- به ينبغي لنا أن نتفانى فيه، وأن نتعلم العلم، وأن نطلب العلم.
وأيضًا القلم، فإن القلم وسيلة الكتابة، ولذلك كتبت به العلوم، وحفظت به الحدود، وكذلك الديون، وغير ذلك مما يكتب بالأقلام.
وقوله سبحانه: ﴿عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أيضًا هذا وجه آخر؛ لأن هذه الآية سيقت مساق الامتنان، فالله -عز وجل- يمتنّ علينا بأنه علّمنا ما لم نعلم.
إذن فهذه الآيات كلها فيها أوجه عديدة، ولو تُؤمل فيها أكثر من ذلك في الحث على طلب العلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الآيات الخمس الأولى من سورة المدثر)}.
قوله: (ثم فتر الوحي) يعني: انقطع، وبقي ما نزل على النبي ﷺ شيء، والحكمة من فتور الوحي -والله أعلم- من أجل أن يشتاق النبي ﷺ إلى الوحي، وإذا أتاه مرة ثانية أخذه، مع أنه -صلوات ربي وسلامه عليه- سوف يأخذ ما جاء من ربه -عز وجل-، ولكن مع ذلك فالله -عز وجل- يربيه، ولعل أيضًا من التربية أن الله يربي على الصبر، وعلى الانتظار، وأن الخير من الله -عز وجل-.
وأيضًا ليتبيًن أنه نبي الله صدقًا، ورسول الله حقًا، فلم يأت بشيء من عنده، ولذلك ما يتكلم بشيء إلا مما جاءه من الله -عز وجل-، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:3-4].
{أحسن الله إليكم.
قال: (وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر:١-٥])}.
قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر﴾ سوف يأتينا أن هذه أول ما نزل بعد فترة الوحي، وأنها أول ما نزل بشأن الرسالة، ولذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتابه المفيد النافع، الصغير الحجم العظيم النفع، ثلاثة الأصول، قال في الفصل الثالث: "نُبِّئَ بـ "اقرأ" وأُرسلَ بالمُدَّثِّر" يعني: صار نبيًّا حينما نزلت عليه سورة اقرأ، وهي سورة العلق، وصار رسولًا وأمره الله بتبليغ دين الله حينما نزلت عليه سورة المُدَثِر، فكان رسولًا بهذه الآيات.
وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر﴾ معناها المُتَدَثِّر، ومعنى المُتَدثِّر أي: المُتغطِّي، ونظيرها يا "أيُّها المزمل"، وذلك أن النبي ﷺ حينما رأى جبريل أول مرة خاف خوفًا عظيمًا، فأتى إلى خديجة -رضي الله عنه- فقال: «دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي» أو قال: «زملوني زملوني» والمعنيان واحد.
قوله: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ دع منك التدثّر، بل قم قيامًا معنويًا وحسيًا، فأنذر وخوِّف الناس من العذاب؛ لأنهم بقوا على شركهم وكفرهم. ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي: عظمه بالتوحيد، وبإفراده -عز وجل- بالعبادة، وادعو الناس إلى ذلك. ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أي: طهر أعمالك عن الشرك، فإن الثياب تطلق على الثياب الحسية وهي المعروفة، أي: التي نلبسها، وعلى ثياب التقوى، أي: اللباس المعنوي، فطهر أعمالك عن الشرك. ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ والرجز هي الأصنام والأوثان، ﴿فاهجر﴾ أي: اتركها وفارقها.
ثم إن نزول الوحي فيه قصة عجيبة، نذكرها على وجه الاختصار ونأخذ منها بعض الفوائد، فقد ثبت الصحيحين، وقد أشار شيخنا -رحمه الله- إليها، ولكن لم يذكر حديثها كاملا، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحة»، وفي رواية: «الصَّادِقَةُ»، ثم قالت: «فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» يعني: تحققت.
تقول: «ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلَاءُ» يعني: الخلوة والبُعد عن الناس، قالت: «فَكانَ يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ» وغار حِراء في مكة، وهو الآن على يمين الداخل من جهة السيل -جهة الطائف- على يمين الداخل، في حارة سميت بحارة النور، وسمي الجبل بجبل النور، ولا أدري هل لهذا التسمية أصل عند السلف، أو لا؟
لكن لأن القرآن نور، وقد نزل في هذا المكان، فسميت حارة النور.
على كل حال، كان ﷺ يخلو في هذا الغار، ويتعبد لله -عز وجل- بعبادات الله أعلم بها، كيف كانت؟ ما ندري، ولسنا مطالبين بذلك، وأيضا ليس من السنة أن نذهب لهذا الغار للتعبد، ولذلك من الخطأ أن بعض الناس يذهب إلى هذا الجبل فيصلي فيه، نقول: نسألك هل أمر النبي ﷺ به؟ هل فعل الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك؟
الجواب: لا هذا ولا هذا، لأن هذا ليس من السنة، بل ليس من الشرع، ولكن من قال أذهب لأنظر، فهذا لا بأس به إذا كان على سبيل الفرجة، وأما على سبيل التبرك أو التعبد، فهذا في الواقع من البدع وليس من السنة.
تقول -رضي الله عنها-: «حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ» يعني: جاءه الوحي، والحق أي الخبر الصادق من الله -عز وجل-، فجاءه الوحي ودخل جبريل -عليه السلام- عليه، ثم ضمه ضمة شديدة، هكذا بدون سابق إنذار وبدون كلام، حتى كادت أن تخرج روحه ثم أرسله، يعني: أطلقه. فقال: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ ﷺ: «ما أنَا بقَارِئٍ» ومعنى ما أنا بقَارِئٍ: أي: أعرف القراءة، وليس كما يظن البعض: "لن أقرأ" وليس في هذه الحالة يعاند بل كان خائفًا ﷺ، وهذا شيء لا يقوى عليه.
فضمه الثانية ثم أرسله، فقال: فقال: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ ﷺ: «ما أنَا بقَارِئٍ»، وهذا في الواقع من مناقب النبي ﷺ ما هو؟ أنه أمي، وبعض الناس يقول: كيف كان النبي أميًا؟
نقول: جاء في سورة الأعراف ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾، فيقول: لا، الأمي هنا يعني أنه من أم القرى! قلنا: كيف أم القرى؟ قال: يعني من أم القرى أي: من مكة!
ثم يقول: كيف تقول أمي؟، هل كان يجهل القراءة والكتابة؟
نقول: لا نعبر بكلمة جاهل في مقام النبي ﷺ، حتى وإن كان في المعنى صدق، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نعبر بهذه التعبير، ولكن نعبر بما جاء في القرآن ما يعلم شيئا، وكما قال الله -عز وجل- في سورة الضحى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ﴾ لماذا ضالا؟ يعني: ما تعلم شيئا، فالنبي ﷺ ما كان يعلم شيئا، بل هذا من دلائل النبوة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾، كيف المبطلون؟
يعني: الكفار، قالوا: محمد تعلم، وكان عنده من العلم، ولكنهم قلوا ذلك حتى مع معرفته ﷺ ومعرفة سيرته، أين ذهب؟ أين جاء؟ ومع هذا قالوا: تعلم وعلمه منسوب إلى رجل نصراني.
نقول: النبي ﷺ ما عرف القراءة، وكما في قصة الحديبية حينما كتب النبي ﷺ الصلح بينه وبين قريش، كان سهيل بن عمرو مندوبًا لقريش، وسبحان الله أسلم.
كان علي بن أبي طالب يكتب، فقيل له اكتب فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: انتظر، ما نعرف الرحمن، يعني: اسم الرحمن، قال الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ﴾ يعني: بهذا الاسم، فالنبي ﷺ قال لعلي بن أبي طالب: امح بسم الله الرحمن الرحيم، فقال عليٌّ: والله ما أمحوه! ابعض يظن أن هذه معصية للنبي، ولكن في الحقيقة هذا من تعظيم عليٍّ للنبي ﷺ، ومن تعظيم "بسم الله"، ولذلك النبي ﷺ ما أنكر عليه، ولم يقل له: كيف أمرك بشيء وأنت تخالفه؟!
لأن هذا من التعظيم ومن الغيرة على الدين، وذلك النبي ﷺ قال: «أَرِينيه»، وقال سهيل بن عمرو: اكتب باسمك اللهم، فالنبي ﷺ ما كان يعرف القراءة.
وأيضا قال بعدها: هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله مع سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا تكتب رسول الله، فمحاها النبي ﷺ.
الشاهد من هذا أنَّ النبي ﷺ ما كان يعلم شيئا، وكما قلنا هذا من مناقبه.
وبعض الناس ما عنده علم ولا عنده حكمة وأيضا ليس عنده منهجية؛ لأن المنهجية إذا كان الإنسان لا يعرف شيئًا يسأل من أهل العلم، وتأتي رسائل في الواتساب الآن أنَّ النبي ﷺ كان يقرأ ويكتب بسبعين لغة، وهذا خطأ بين فهو ﷺ ما كان يكتب بأي لغة حتى بلغته الأصلية، ولم يعرف إلا اللغة العربية فقط.
ولَمَّا هاجر المدينة أمر زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وكان من شاب الأنصار أن يتعلم لغة اليهود، فتعلمها في سبع عشرة يوم وأتقنها، وكان ذكيًا فطنا، فها هي لغة اليهود القريبين منه ما كان يعرفها ﷺ.
الشاهد من هذا أن قوله: «ما أنَا بقَارِئٍ» يعني: ما أعرف القراءة، فضمه الثالثة حتى كادت تخرج روحه، ثم أرسله فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ثم خرج، أي: هذا الذي جاءه ولم يدر ما هو خرج منه، فخرج ﷺ مرعوبًا خائفًا، ونزل حتى دخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- وهي زوجته، وكانت تكبره بخمسة عشر سنة، ولعل هذا من الحكم -والله أعلم- أن هيئ له هذا الزواج من أجل أن هذه المرأة الكبيرة السن العاقلة الحكيمة تقف معه، وهذا ما حصل.
فدثرته وغطته حتى ذهب عنه روعه، ثم أخبرها فقال: يا خديجة «والله لقد خشيت على نفسي» قيل: عدة أقوال في هذا، ولكن أيسر الأقوال أنه خشي على نفسه من الموت، فهذا كاد أن يقتله من بأسه وقوته، فماذا قالت هذه المرأة الصالحة العاقلة الحكيمة؟
قالت: والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
قال العلماء: وفي هذا أن من أحسن فالله يحسن إليه، والله -عز وجل- يقول: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ ولذلك «احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ» فقالت خديجة: أبدا لا يمكن هذا.
ثم زيادة في التثبت، وأيضًا سنًا لطريقة سليمة عظيمة، أخذت عليه ثيابها ثم أخذته إلى العالم ورقة بن نوفل بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان رجلًا كبير السن قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان دين النصرانية إذ ذاك مقبولًا، ولذلك كان "ورقة بن نوفل" من أهل الجنة مع أنها مات نصرانيًا، بل قد نقول: إنه مات مسلمًا؛ لأنه حينما أخبره النبي ﷺ قَبِلَ.
المقصود أن أخذته إلى ورقة، فقالت له: يا ابن عم، أو قالت: يا عم، كما في بعض الروايات، فـ ابن عم لأنه كان ابن عمها، أو يا "عم" تعظيمًا له على كبر سنة، والناس لا زالوا حتى عندنا اليوم يقول: "يا عم" إذا كان كبيرًا.
قالت: اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة -رضي الله عنه-، ونترضى عنه لأنه قبل الإسلام، ماذا رأيت يا ابن أخي؟ فأخبره النبي ﷺ خبر ما رأى، فقال: الله أكبر، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، والناموس يعني: صاحب السر، صاحب الوحي، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني فيها جذعًا -ليتني أكون حيًا- حين يخرج قومك.
وتأمل هذا الأمر، فهذا أمر عجيب، يعني: هذا الرد من ورقة -رد عالم-، قال: ليتني أكون حيًا جذعًا، ليتني أكون شابًا قويًا أنصرك إذ يخرج قومك. فقال ﷺ: «أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
انظر لهذا الرجل الكبير سنا، وكان قد عمي، ولكنه كان مستعدًا لنصرة الدين، فأين الشباب؟ وأين أهل القوة؟ أين نصرة الدين؟ أين طلبة العلم؟ أين الإقبال على الدعوة إلى الله عز وجل؟ أين حضور الدروس وترغيب الناس في الخير؟
هذا الرجل كبير السن وأعمى يقول: أنصرك نصرًا مؤزرة، فدين الله يحتاج إلى رجال، ويحتاج إلى من يتعلمه، ومن يعمل به في نفسه، ثم يدعو الناس إلى الله -عز وجل-.
من عظيم هذه الفوائد في هذه القصة: الرجوع لأهل العلم، ولك أن تتأمل أن خديجة تعرف أبا طالب، وأبو طالب كان يحمى النبي ﷺ منذ أن كان عمره سبع سنين وكفله، وكان معه، ولكنها في هذا الموقف لم تذهب إلى أبي طالب. لماذا؟ لأن هذه أمور علمية تحتاج للعلماء، تحتاج لحكمة، وفي هذا فائدة لطلاب العلم والشباب في الرجوع للعلماء، ولاسيما في الأمور الكبيرة، فالله -عز وجل- يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾.
ويقول سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، ولذلك فالأمور الكبيرة خاصة ما يتعلق بالأمم، يتعلق بالسلم أو بالحرب، أو بمعاملة ولاة الأمر، نرجع فيه إلى العلماء، بل العلماء الكبار الذين هم أهل الحكمة، وأهل العلم.
فانظروا إلى هذه المرأة -رضي الله عنها- الحكيمة كيف لم تذهب إلى عم النبي ﷺ، ولا إلى كبار قريش، ولا إلى قبيلتها، بل ذهبت إلى العالم، لأن لديه علم من الله -عز وجل-، علم الشرع، ولذلك علينا أن نستفيد من هذه القصص في منهجنا، وفي سيرنا في حياتنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ففي الصحيحين: صحيح البخاري ومسلم، عن عائشة -رضي الله عنها- في بدء الوحي، قالت: حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ، فقال النبي ﷺ ما أنا بقارئ، "يعني: لست أعرف القراءة" فذكر الحديث، وفيه ثم قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق﴾ إلى قوله: ﴿عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:١-٥]. وفيهما عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال وهو يحدث عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء....» فذكر الحديث، وفيه، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (١) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ إلى ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُر﴾ [المدثر:١-٥].
وثمت آيات يقال فيها: أول ما نزل، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون أولية مقيدة مثل: حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين)}.
قوله -رحمه الله-: (وثمت) يعني: هناك، و "ثمَّ" هذه ظرف، وبعض الناس يخطئ في النطق فيقول: ومن "ثُمَّ" هذا غلط، قال الله -عز وجل-: ﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾، فـ (ثَمَّ) يعني هناك، وهي بفتح الثاء لا بضمها.
وقوله -رحمه الله-: (وثمت آيات يقال فيها: أول ما نزل)، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون الأولية مُقيدة، مثل: حديث جابر -رضي الله عنه- في الصحيحين، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء مُعين، وهنا باعتبار بعد فترة الوحي، أو في شأن الرسالة، وقد يقال مثلا: آيات في الجهات، هذا أول ما نزل.
إذن فقد تكون الأولية باعتبار أمر معين.
{أحسن الله إليكم.
قال: (مثل الحديث جابر -رضي الله عنه- في الصحيحين، أنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله، أي القرآن أنزل أول؟ قال جابر: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر﴾ قال أبو سلمة: أنبئت أنه ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾. فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله ﷺ، قال رسول الله ﷺ: «جاوَرْتُ بحِراءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوارِي نَزَلْتُ فاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الوادِي» ، فذكر حديثًا وفيه، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلتُ: دَثِّرُونِي وصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قالَ: فَدَثَّرُونِي وصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قالَ: فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ إلى قوله: ﴿والرجز فهجر﴾)}.
قوله -رحمه الله- (قول جابر -رضي الله عنه-: «فأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلتُ: دَثِّرُونِي») هذا حديث النبي ﷺ، هل هذا وقع مرتين؟
الجواب: نعم، فإنه أيضا في المرة الثانية بعد غار حراء، المرة الثانية حينما كان يتطلع إلى الوحي، خرج ﷺ إلى الجبال، قال: فنوديت، فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي، فلم أر شيئًا، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالسٌ على عرشٍ بين السّماء والأرض، فخشيت منه -عليه السلام- على صورته التي خلقه الله -عز وجل- عليها.
يقول ابن سعود رضي الله عنه رأى النبي ﷺ جبريل -عليه السلام- على صورة التي خلقه الله -عز وجل- عليها له ستمائة جناح، قد سد بين الخافقين، أو قال: بين المشرق والمغرب، قال ﷺ: «فجُثِثتُ منْهُ رعبًا» يعني: أخذ الرُّعبُ منه كلَّ شيء، ثم ذهب إلى خديجة فقال: دثروني مرةً ثانية، فنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (١) قُمْ فَأَنْذِرْ﴾.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (فهذه الأولية التي ذكرها جابر رضي الله عنه باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي، أو أول ما نزل في شأن الرسالة؛ لأن ما نزل من سورة اقرأ ثبتت به نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما نزل من سورة المدثر ثبتت به الرسالة في قوله: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر:٢].
ولهذا قال أهل العلم: إن النبي ﷺ نبئ بـ ﴿اقْرَأْ﴾، وأرسل بـ ﴿الْمُدَّثِّرُ﴾)}.
نستفيد من هذا الحديث وهذا السياق، أن الإنسان قد يشكل عليه شيء من الأدلة ومن الشرع، فالواجب أن يرجع لأهل العلم، فأبو سلمة بن عبد الرحمن أشكل عليه هذا الأمر فسأل جابرًا رضي الله عنه.
وفي قوله: (أُنبئت أنه: اقرأ باسم ربك الذي خلق) هذا أيضًا فيه أدب، لأنه لم يقل: قال فلان كذا وكذا، ولذلك ينبغي لطالب العلم إذا كان عند شيخ يتعلم منه، ثم أشكل عليه شيء من كلامه، فيعرض إشكاله بطريقة لطيفة، ولا يقل له: كيف تقول كذا وكذا؟ هل هذا مجلس للمناظرات؟ أو أن يقول له: الشيخ فلان قال كذا وكذا، فهذا كله غير مناسب.
بل الأصل أن يقول: أشكل علي، أُنبئت، سمعت كذا وكذا، ثم يطرح على سبيل طلب الجواب والاستشكال، وهذا قد يتبين في طريقة السؤال، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يتأدب في خطاب الشيخ الذي يتعلم عنده.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ينقسم نزول القران إلى قسمين:
الأول: ابتدائي: وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه، وهو غالب آيات القران، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [التوبة:٧٥] الآيات، فإنها نزلت ابتداء في بيان حال بعض المنافقين، وأمَّا ما اشتهر من أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب في قصة طويلة، ذكرها كثير من المفسرين، وروجها كثير من الوعاظ، فضعيف لا صحة له)}.
هذا المبحث الثالث في تقسيم نزول القرآن إلى نوعين: ابتدائي وسببي، وقد ذكر الشيخ -رحمه الله- أنَّ الابتدائي هو الذي لم يسبقه سبب معين، ويقول: وهذا غالب نزول القرآن، أي نزل بدون سبب معين، وهناك آيات لها سبب.
ذكر الشيخ مثالا وخص هذا المثال لأن فيه قصة روج لها بعض الفسرين أنها فيها، وهي غير صحيحة، وهي قصة ثعلبة بن حاطب -رضي الله عنه- أنه منع الزكاة، وحينما آتاه رسول رسول الله ﷺ يطلب الزكاة امتنع، فأخبر عامل النبي ﷺ بالقصة، هكذا قالوا، ثم جاء ثعلبة إلى النبي ﷺ بالزكاة فلم يقبلها، فتوفي النبي ﷺ ولم يقبلها.
ثم جاء إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في خلافته ولم يقبلها، وَجَاء إلى عَمَرُ ولم يقبلها. هذا كله غير صحيح، إذا كان الشرك والكفر وهو أعظم من الزكاة، يقبل الله من صاحبه التوبة، فكيف بهذا؟
وهذه القصة -كما ذكر الشيخ- يروج لها بعض الوعاظ ويذكرونها، وهي غير صحيحة.
إذن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين ابتداءً لا بسبب.
{قال -رحمه الله تعالى-: (القسم الثاني: سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه، والسبب: إما سؤال يجيب الله عنه مثل ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة:١٨٩])}.
هذا القسم الثاني وهو السببي، وهو ما له سبب معين نزل من أجله، قال الشيخ -رحمه الله: (مثل سؤال يجيب عنه النبي ﷺ ولا يعرفه، فالله -عز وجل- يخبره ويجيب ذلك)، قال الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾.
وقال العلماء: كل آية فيها: "يسألونك أو يستفتونك"، فهذه قد سئل عنها النبي ﷺ ولم يجب، وفي هذا فائدة مسلكية نافعة لطالب العلم، الذي هو طالب علم مُؤهل، أنه لا يُفتي فيما لا يعلم، ولذلك يجب وجوبًا على الإنسان أن يتوقف عما لا يعلم، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء:36]، وقال: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص:86]، فلا تتكلف ما لا تعلم، ولذلك فالعلماء عظموا هذه المسألة، ما هي؟ قول القائل: الله أعلم، أو ما أدري، وهذا النبي ﷺ يُسأل وما يجيب، فيجيب الله -عز وجل-، ولَمَّا قيل للشعبي وقد سئل، قال: ما أدري، الله أعلم، فقيل له: كيف تقول هذا وأنت الشعبي أو الزهري؟ والخطأ مني الآن، فقال: إن الملائكة لم تستح حينما قال الله -عز وجل-: ﴿أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة:32]، فهذه الملائكة، وهذا النبي ﷺ.
وثبت أن رجلًا أتاه فسأله عن أحب البقاع إلى الله وأبغضها إلى الله، فقال: لا أدري، حتى سأل جبريل، فجاء جبريل -عليه السلام- فسأله، فقال: لا أدري حتى أسأل ربي، فهذا النبي ﷺ وهذا جبريل -عليه السلام- يتوقفان عن الفتوى بدون علم، وهذا أمر واجب، وهذا من توفيق الله لطالب العلم، أنه يتوقف عما لا يعلم.
ولذلك قالوا: "من أخطأ لا أعلم أُصيبت مقاتلُه"، ونعوذ بالله أن نقول على الله ما لا نعلم.
فالمقصود أنَّ هذه الآيات آيات سببية، وسئل النبي ﷺ فلم يجب، فأجاب الله -عز وجل- عن ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وحادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ [التوبة:٦٥] الآيتين نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله ﷺ وأصحابه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر النبي ﷺ فيجيبه ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة:٦٥])}.
هذا النوع الثاني من الآيات السببية، تكون لحادثة وقعت فنزل في شأنها القرآن، وهذه القصة التي وقعت في غزوة تبوك، وذلك أن بعض المنافقين كانوا مع النبي ﷺ وصحابته، كانوا يمشون معهم، حتى إنهم كانوا يخرجون في الجهاد لئلا يفضح أمرهم، وقد أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، ولكن مع ذلك -سبحان الله الطيور على أشكالها تقع-، والناس كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضًا.
فنزلوا بعد العودة من غزوة تبوك، فتجمع المنافقون مع بعض، فصاروا يتندرون ويسمون ويلعبون وينكتون، فقال بعضهم لبعص: "ما رأينا مِثلَ قُرَّائِنا هؤلاء، لا أرغَبَ بُطونًا، ولا أكذَبَ ألسِنةً، ولا أجبَنَ عند اللِّقاء" يعني: إن الرسول الله ﷺ وأصحابه القراء -يعني العلماء- وهذا من العجيب، يعني: وصفوهم بصفات هي في هؤلاء المنافقين وليست في النبي ﷺ وأصحابه، بل هم على عكسها تماما، كان يربط على بطنه ﷺ الحجر وأبي بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهم- كذلك، وفي المعارك كانوا يقدمون، وكثير من الناس يعرف شجاعة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وشجاعة عمر -رضي الله عنه-، وشجاعة خالد بن الوليد، لكن ما يعرف شجاعة النبي ﷺ! النبي ﷺ كان أشجع الناس مطلقا، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كُنَّا إذا احمرَّ البأسُ، ولَقيَ القومُ القومَ، اتَّقَيْنا برسولِ اللهِ ﷺ" .
وفي غزوة حنين حينما كمنت ثقيف في الجبال، ثم فاجأوا الصحابة -رضي الله عنهم- ورجع كثير منهم تفاجأوا، فبعضهم نكس راحلته، وبقي النبي ﷺ وثلاثة من الصحابة، فكان على بغلته -ليس على فرس ولا على بعير- يتقدم ويقول: «أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ» ، والعباس -رضي الله عنه- كان يجر البغلة، فلما رأى النبي ﷺ عمه العباس ما ترك البغلة، تركها ونزل إلى الناس وكان بصوته يصدع: «أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ»، فشجاعته منقطعة النظير، وهؤلاء المنافقون يقولون: "أجبن عند اللقاء"، كذبتم والله.
فكان هناك مؤمن قريب منهم، فقال: كذبت ولكنك منافق، وفي هذا أصل لمسألة مهمة، قد لا يعرفها بعض الناس، وربما يستنكف منها، وهي إبلاغ ولي الأمر بالمحْدِثين، ويأتي أيضًا خبر حذيفة -رضي الله عنه- الذي كان أمين سر النبي ﷺ، فهذا الرجل أخبر النبي ﷺ، ذهب ليخبره لما رأى الرجل هذا المنافق، الرجل ذهب إلى النبي ﷺ عرف يخبره، فذهب ليعتذر، فلما وصل إلى النبي ﷺ وجده قد ركب راحلته وقامت به، فأراد أن يخبر النبي ﷺ، فإذا الصحابي قد قام ﷺ، وما ذُكِرَ في الحديث أنه أخبره، ولكن جاء المنافق يعتذر، فأمسك بنسعة الناقة، ونسعة الناقة هو هذا الحبل الذي يربط به مع الناقة من المحامل التي يركب عليها الراكب، فكان يقول: يا رسول الله، إنما كنا نتحدث حديث الركب، نقطع عناء الطريق، وما قصدنا شيء، يعني فقط سوالف وكذا. سبحان الله ألم تجد إلا النبي ﷺ وتنكت عليه؟
بعض الناس المبتلى إنما ينكت على أهل الخير، فهلا كان ينكت على غيرهم، مع أن التنكيت على الناس بأعيانهم ما يجوز، لأنه ليس من شأن المؤمن الكلام الرديء، والكلام غير الموزون.
نقول: التنكيت والضحك بشيء صحيح لا بأس به، وقد ثبت أن النبي ﷺ أمسك رجلا من خلفه كان يحبه ﷺ، أمسك به وقال: من يشتري هذا العبد مني؟ هذا كلام ما به بأس؛ لأن الرجل عبد لله -عز وجل-، فلما التفت الرجل عرف أنه النبي ﷺ. فقال الرجل لرسول الله ﷺ: والله يا رسول الله لو بعتني لوجدتني كاسدًا، فقال ﷺ: لكنك عند الله -عز وجل- غالي الثمن، أو كما قال النبي ﷺ.
المقصود أن هذا الرجل قال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، يقول الراوي: فما يلتفت إليه، وما يزيد أن يقول: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة:65].
إذن هذه الآيات نزلت في شأن هذه القصة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه مثل: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة:١])}.
هذه الواقعة جاءت امرأة إلى النبي ﷺ وقد ظاهر منها زوجها، والظهار في الجاهلية كان طلاقًا، وكان النبي ﷺ لم ينزل عليه في هذا الشأن شيء، فقالت: يا رسول الله، وكانت تخاطبه عند الباب.
وتقول عائشة -رضي الله عنها-: كانت المجادلة تكلم النبي ﷺ عند باب الحجرة وأنا فيها، تقول: والله إنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، والله -عز وجل- من فوق سبع سماوات يخفى عليه شيء. قال: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ كانت تشتك وتقول: يا رسول الله، بعد عن كبرت سني، ونثرت له بطني، ظاهر مني، وهو رجل كبير السن، فالنبي ﷺ لم يجبها، فالله -عز وجل- أنزل هذه الآيات وحل مشكلتها، وبيّن أن الظهار فيه كفارة عتق رقبه، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا.
إذن فهذه الآيات نزلت في شأن هذه الواقعة.
إذًا خلاصة ما سبق في هذا المبحث أن نزول القرآن إمَّا سببي وإما ابتدائي، وأنَّ الابتدائي أكثر الذي نزل، وأن السببي إمَّا ينزل بسبب سؤال للنبي ﷺ، أو بشأن واقعة حصلت، أو مسألة تحتاج لمعرفة حكم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (معرفة أسباب النزول مهمة جدا، لأنها تؤدي إلى فوائد كثيرة منها:
بيان أن القران نزل من الله تعالى، وذلك لأن النبي ﷺ يسأل عن الشيء، فيتوقف عن الجواب أحيانا، حتى ينزل عليه الوحي، أو يخفى الأمر الواقع، فينزل الوحي مبينًا له)}.
إذن معرفة أسباب النزول لها فوائد، وذكرها العلماء، بل ألف فيها العلماء مؤلفات، ومنها: كتاب: "أسباب النزول للواحدي"، وغيرها ومن الكتب اللطيفة: كتاب لفضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المزيني، وهو أحد أكبر طلاب الشيخ -رحمه الله- في أسباب النزول الصحيحة، والكتاب عبارة عن رسالة الدكتورة، وهو كتاب جيد.
والشيخ خالد المزيني -حفظه الله- من الطلاب المقدمين عند الشيخ -رحمه الله-، وهو أستاذ دكتور في الجامعة تخصص في التفسير، فكتابه أيضًا جيد ومفيد.
يقول: ما عرفت أساب النزول مهمة جدًا؛ لأنها تؤدي إلى فوائد كثيرة، منها:
بيان أن القرآن نزل من الله، وهذا يُثَبِّت قلب الإنسان، أنه القرآن من الله -عز وجل-، وأيضًا حُجة على المشركين والمنافقين، فهو تثبيت للمؤمنين ورد للمنافقين والمشركين.
يقول: لأن النبي ﷺ يُسأل فيه فيتوقف، ومنه هذه القصة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- ونعلق عليها.
{(مثال الأول: قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:٨٥]، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رجلا من اليهود قال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت، وفي لفظ: فأمسك النبي ﷺ، فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:٨٥])}.
إذن هذه نزلت حينما سأل هذا اليهودي النبي ﷺ عن الروح، يعني: ما الروح هذه؟
وورد أيضًا أن الذي سأل النبي ﷺ قريش بأمر من اليهود؛ لأنَّ قريشًا أرسلت اثنين منهما "عقبة بن أبي معيط وآخر"، يسألون اليهود، قالوا: اذهبوا إليهم فاسألوهم عن هذا الرجل.
وأنا أتعجب من هذا، يعني: لعلهم إنما أرسلوهم لأن بعضهم قد شك هل النبي صادق كان صادقًا أو لا؟ وربما أيضًا تعنتًا، فقالوا: اسألوهم فهم أهل الكتاب، فذهبوا إليهم في المدينة وقالوا: عندنا رجل يدعي أنه نبي، وأنه يأتيه وحي من السماء، فقالوا: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بها فإنه نبي، وإلا فإنه رجل متقول، فأروا فيه رأيكم، يعني: انظروا ما يجب أن تفعلوه به.
قالوا: اسألوه عن الروح؟ واسألوه عن فتية ذهبوا في غابر الدهر ما شأنهم؟، واسألوه عن رجل طاف مشارق الأرض ومغاربها ما شأنه؟
فلما رجعوا فرحوا وقالوا: أتينا بالفصل بيننا وبين محمد، قالوا: أخبروه فاجتمعوا ودعوا النبي ﷺ إلى المجلس، ثم قالوا: يا محمد أخبرنا عن هذه، فسألوه عن الأسئلة الثلاثة، عن الروح، والفتية، والرجل الذي طاف في مشارق الأرض ومغاربها؟
فقال ﷺ: «أخبركم غدا» ولم يقل: إن شاء الله، فانقطع الوحي وفتر تقريبًا خمسة عشر يومًا، ففرحوا وصاحوا، وقالوا: هذا محمد يقول: أخبركم غدًا وهذا لنا خمسة عشر يوما ما أخبرنا.
قال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: وهذا لو عقلوه لعدوه من صدقه ﷺ؛ لأنه لو كان كاذبًا ما قال أمهلوني يوما أو أكثر، بل كان يختلق بعض الإجابات في حينها، ولكنه ﷺ ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى.
ثم نزلت الآيات كجواب لهم في قصة أصحاب الكهف، فذكرت القصة: الفتية، وذي القرنين في سورة الكهف أيضا، ويسألونك عن الروح في سورة الإسراء، فأجابهم النبي ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الثاني قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلّ)﴾ [المنافقون:٨]، وفي صحيح البخاري أنَّ زيد بن أرقم -رضي الله عنه- سمع عبد الله ابن أُبى رأس المنافقين يقول ذلك، يريد أنه الأعز ورسول الله ﷺ وأصحابه الأذل، فأخبر زيد عمه بذلك، فأخبر به النبي ﷺ، فدعا النبي ﷺ زيدًا فأخبره بما سمع، ثم أرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله ﷺ، فأنزل الله تصديق زيد في هذه الآية؛ فاستبان الأمر لرسول الله ﷺ)}.
هذا أيضًا من الأمثلة على أنَّ هذا القرآن نزل من عند الله -عز وجل-، وهذا من فوائد أسباب النزول، وهذه القصة كانت في غزوة المريسيع، وقد حصل خصومة بين اثنين من الصحابة، أحدهم من الأنصار، والثاني من المهاجرين، فحصل ما حصل منهم، أي: ما يحصل بين الناس، وهذا أمر طبيعي، فالصحابة بشر -رضي الله عنهم- وليسوا ملائكة.
فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فكادوا أن يقتتلوا حتى أتاهم النبي ﷺ وهدأهم ثم لَمّا برد الأمر، تكلم هذا الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول، وقال: "سَمِّن كلبك يأكُلك"، انظر كأنه يقول: هؤلاء المهاجرين جاءوا إلينا فأعطيناهم فصاروا يخاصمون، وهذا خبيث.
ثم قال: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلّ﴾ يقصد بالعزيز نفسه، وبالذليل رسول الله ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم-، وأنا فهو فخسئ.
والعجيب أن بلغ ذلك ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: والله ما يدخلها إلا النبي ﷺ، ولن تدخل أنت حتى يأذن لك رسول الله ﷺ، فإنه هو الأعز وأنت الأذل، حتى وقف بسيفه في باب المدينة، فرد أباه، وهذا من قوة إيمانه، حتى أرسل عبد الله بن أبي كي يستأذن النبي ﷺ بالدخول فأذن له، فكان النبي هو الأعز، وأُبي بن سلول هو الأذل.
فالمقصود أن هذه الآية نزلت في هذا الشأن، وهي في آخر سورة المنافقين.
{أحسن الله إليكم. (الثاني: بيان عناية الله تعالى برسوله ﷺ في الدفاع عنه، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان:٣٢]، وكذلك آيات الإفك؛ فإنها دفاع عن فراش النبي ﷺ وتطهير له عمّا دنسه به الأفاكون)}.
هذه الفائدة الثانية من فوائد أسباب النزول: (بيان عناية الله تعالى برسوله ﷺ والدفاع عنه) وقد ذكر شيخنا -رحمه الله- آية في ذلك، وأشار إلى الآيات من سورة النور.
الآية الأولى في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ يعني: الكفار يتعنتون ويبحثون عن الحجج، بل خيوط العنكبوت لرد رسالة النبي ﷺ.
قد يقول قائل: لماذا لم ينزل القرآن على النبي ﷺ جملة واحدة كما نزل غيره من الكتب؟
قلنا: ما لكم بهذا الشأن، ثم إن هذا من الحكمة، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ و "لولا" يعني: هلا، أي: لماذا نزل عليه القرآن مرة واحدة؟
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ نزل مفرقًا منجمًا ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ أي: أنه نزل شيئًا فشيئا فثبت قلب النبي ﷺ، وثبت الصحابة -رضي الله عنهم- حتى اكتمل. ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ أي: قرأناه قراءة مرتلة محسنة، عن طريق جبريل -عليه السلام-.
وللأسف الإخوة يشيرون عليَّ بانتهاء الوقت، ولعلنا نرجئ هذه الفكرة لنتكلم عنها لنرجعها نشئت في الدرس القادم.
{جزاكم الله خير شيخنا، وأحسن الله إليكم، وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة، نستودعكم الله -سبحانه وتعالى- الذي لا تضيع ودائعه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه يا أجمعين}.