الدرس الثامن
فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم طلاب وطالبات برنامج (جادة المتعلم) في حلقة جديدة من حلقات "التعليق على أصول في التفسير" لفضيلة الشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- باسمي واسمكم نرحب بفضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي، حيَّاكم الله يا فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله جميعًا، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله-: ("المشتهرون بالتفسير من الصحابة"
اشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة، ذكر السيوطي منهم: الخلفاء الأربعة، أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا رضي الله عنهم، إلا أنَّ الرواية عن الثلاثة الأولين لم تكن كثيرة، لانشغالهم بالخلافة، وقلة الحاجة إلى النقل في ذلك لكثرة العالمين بالتفسير.
ومن المشتهرين بالتفسير من الصحابة أيضا: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، فلنترجم لحياة على بن أبي طالب مع هذين رضي الله عنهم)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فهذا الفصل الذي عقده الشيخ -رحمه الله- لذكر المشتهرين بالتفسير من الصحابة، رضي الله عنهم، ويُعقبه بالمشتهرين بالتفسير من التابعين، عليهم رحمة الله.
فإذن قيل: لماذا؟ أقول أولا: لفضلهم وذكرهم والترضي والترحم عليهم، ثم من أجل أن نأخذ منهم التفسير، وأيضا لو تعارض قول أحد من المفسرين مما لم يكن مشهورا بقول مشهور من الصحابة، قدمنا الأعلم والأشهر.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (عليّ بن بي طالب -رضي الله عنه- هو ابن عم الرسول ﷺ، وزوج ابنته فاطمة -رضي الله عنه وعنها-، وهو أول من آمن به من قرابته، واشتهر بهذا الاسم وكنيته: "أبو الحسن، وأبو تراب"، وقد ولد قبل بعثة النبي ﷺ بعشر سنين، وتربى في حجر النبي ﷺ، وشهد معه المشاهد كلها، وكان صاحب اللواء في معظمها، ولم يتخلف إلا في غزوة تبوك، خَلَّفَه النبي ﷺ في أهله، وقال له: «أمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى، إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي» .
نُقِلَ له من المناقب والفضائل ما لم ينقل لغيره، وهلك به طائفتان:
النواصب: الذين نصبوا له العداوة، وحاولوا إخفاء مناقبه.
والروافض الذين بالغوا فيما زعموه من حبه، وأحدثوا له من المناقب التي وضعوها ما هو في غنى عنها، بل هو عند التأمل من المثالب)}.
هذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابن عم النبي ﷺ، وزوجه فاطمة بنت النبي ﷺ ورضي الله عنها، وأبو الحسن والحسين سيدي شباب الجنة، وريحانتي النبي ﷺ، وهو أول من آمن من قرابته، وأصغر من آمن به.
ثم إنه -رضي الله عنه- اشتهر بالشجاعة والذكاء، وكان مبارزاً صنديداً -رضي الله عنه وأرضاه-، وقد قال فيه النبي ﷺ: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى»؛ لأنه كان وزيره، وقال ذلك حينما خَلَّفَه النبي ﷺ في أهله في المدينة في غزة تبوك، فقال المنافقون: إنما خلفه لأنه ليس شجاعاً، فعلي رضي الله عنه تأثر بهذا الكلام، فأبلغ النبي ﷺ هذا، فقال له ما يطمئنه: «أمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي»، وعلي -رضي الله عنه لم يزعم ذلك، ولكن النبي ﷺ قال هذا: لئلا يأتي من يغلو فيه، مع أنه قد حصل حتى غلوا فيه -رضي الله عنه.
ولذلك قال الشيخ -رحمه الله-: هلك به طائفتان، أي: فرقتان ممن ينتسبون للإسلام، وهم: النواصب والروافض، فالنواصب هم الذين ناصبوا آل البيت العداء، والروافض هم من غلوا في آل البيت، وفي عليٍّ -رضي الله عنه- بخصوصه وفاطمة والحسين -رضي الله عنهما- حتى غلوا فيهم ما لا يقال في النبي ﷺ، بل ما لا يقال إلا لله -عز وجل-.
فصاروا يدعونه من دون الله، ولفقوا له من الفضائل التي هو غني عنها.
ومن اللطائف يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: ذو الحليفة -ميقات المدينة- والذي يسمى أبيار علي، يقولون: لأن عليًا قاتل الجن هناك فغلبهم! أين سند القصة؟
ما فيه سند، وليس في هذا رواية صحيحة، إنما هو قصص، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فارس المعقول والمنقول، الإمام العلم الهمام، قال: "عليٌّ -رضي الله عنه- أجل من أن يقف له الجن، يقول: الجن يخافون من علي، يخافون من الوقوف أمامه. فالأبطال لم يقفوا أمام عليٍّ، فكيف يقف الجن أمامه؟
إذا الذي قالوه هو من باب الكذب، وهو في الواقع يعد من المثالب وليس من مدح عليٍّ رضي الله عنه، وذلا نقول: هؤلاء لا عقل لهم ولا دين ولا علم. أسأل الله أن يهديهم وأن يكفنا شرهم.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (اشتهر -رضي الله عنه- بالشجاعة والذكاء مع العلم والزكاء، حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن.
ومن أمثلة النحويين: قضية ولا أبا حسن لها، وروى عن علي أنه كان يقول: سلوني سلوني وسلوني عن كتاب الله تعالى، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به.
وروي عنه أنه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب)}.
إذن فعلي -رضي الله عنه- مشهور بالشجاعة والذكاء والزكاء، ومعنى الزكاء: الديانة الصحيحة؛ لأن الإنسان قد يكون ذكياً ولكنه ليس زكياً.
وكان أمير المؤمنين عمر بن خطاب -رضي الله عنه- ليتعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن، ومن أمثلة النحويين: "قضية ولا أبا حسن لها"، صارت مثلاً.
وقال: كان يقول: "سلوني سلوني" أي: اسألوا ما شئتم من كتاب -عز وجل- وهذا ليس مدحا لنفسه، وإنما من أجل أن يأخذ الناس العلم عنه.
يقول: (قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به) يعني: من نقلنا لنا نقلا صحيحًا عن علي فقد انتهى الأمر عنده؛ لأنه كان في غاية العلم.
وقال: (وروي عنه أنه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب).
{قال -رحمه الله-: (كان أحد أهل الشورى الذي رشحهم عمر -رضي الله عنه- لتعيين الخليفة، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف فأبى إلا بشروط لم يقبل بعضها، ثم بايع عثمان فبايعه عليٌّ والناس، ثم بُويع بالخلافة بعد عثمان حتى قُتِلَ شهيدا في الكوفة ليلة السابع عشر من رمضان، سنة أربعين من الهجرة رضي الله عنه)}.
قتله عبد الرحمن بن مُلجم، الخارجي الذي أتاه الخوارج فغيروا فكره، وعبد الرحمن بن مُلجم كان مُقرئًا للقرآن -يعمل في تحفيظ القرآن- وقد بعثه عمر -رضي الله عنه- إلى أهل مصر بِرًا بهم، حتى قال: "آثرتكم على نفسي بعبد الرحمن بن مُلجم"، وكان ابن ملجم حافظًا للقرآن ولكن لم يكن عند الفقه في الدين.
ولذلك أوصي نفسي وطلاب وطالبات العلم بأن يتفقهوا في الدين؛ لأن بعض الناس يهتم بالحفظ وحق له، لكن لا بد مع الاهتمام بالحفظ الاهتمام بالعقيدة، وأخذ العقيدة عن العلماء ولاسيّما الكبار، الذين رسخوا في العلم، وعرفوا بالفقه، وعرفوا بالرسوخ وبالتثبت.
وأمَّا من سواهم فإنما يُؤخذ منهم للضرورة، أو يُؤخذ ممن أخذ من العلماء الموثوقين، وزكاه العلماء الموثوقين؛ لأنه قد يوجد ممن عنده علم ولكن ما عنده منهجية، ليس على طريقة السلف، الصالح، وكان هذا الرجل -ابن ملجم- من هذه الشاكلة، بمجرد أن أتاه الخوارج غيروا فكره، حتى جاء فقتل عليًّا رضي الله عنه.
وكان عليٌّ -رضي الله عنه- حينها أفضل أهل الأرض؛ لأن النبي ﷺ قد توفي، وتوفي أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فهو أفضل الناس على أهل الأرض، فقتله وهو يظن أنه يتقرب به إلى الله -عز وجل-، والواقع أنه تقرب به لإبليس.
ولذلك هو من أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (٢- عبد الله بن مسعود:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهزلي، وأمه أم عبد كان ينسب إليها أحيانا ، وكان من السابقين الأولين في الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وما بعدها من المشاهد.
تلقى من النبي ﷺ بضعا وسبعين سورة من القرآن، وقال له النبي ﷺ في أول الإسلام: «إِنَّكَ غُلاَمٌ مُعَلَّمٌ» ، وقال: «مَن أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ القُرآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فليَقرأهُ علَى قِرَاءةِ ابنِ أمِّ عبدٍ» .
وفي صحيح البخاري، أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لقد علم أصحاب رسول الله ﷺ أني من أعلمهم بكتاب الله، وقال: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه)}.
هذا عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، من قبيلة هذيل -رضي الله عنه- وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، وقد هاجر الهجرتين، يعني: الهجرة الى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، وقد أخذ عن النبي ﷺ من فيه مباشرة بضعاً وسبعين سورة، وقال فيه النبي ﷺ: «إِنَّكَ غُلاَمٌ مُعَلَّمٌ»، أي: غلام صغير ولكنك معلم فطن، وهذه من تزكية النبي ﷺ له.
وقال فيه ﷺ: «مَن أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ القُرآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فليَقرأهُ علَى قِرَاءةِ ابنِ أمِّ عبدٍ» وكفى بذلك تزكية له رضي عنه وأرضاه.
{قال -رحمه الله-: (وكان ممن خدم النبي ﷺ فكان صاحب نعليه وطهوره ووساده حتى قال أبو موسى الأشعري: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي ﷺ لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي ﷺ ، ومن أجل ملازمته النبي ﷺ تأثر به وبهديه، حتى قال فيه حذيفة: ما أعرف أحدا أقرب هديا وسمتا ودلا بالنبي ﷺ من ابن أم عبد)}.
كان يخدم النبي ﷺ، وهذه الخدمة من مناقبه، وشرف له أن يخدم النبي ﷺ، وكان ملازمًا له، حتى إن أبا موسى الأشعري وهو من أهل اليمن، حينما أسلم وقدم كان يظن أن ابن مسعود من أهل البيت، وهو من أهل البيت قرباً ومنزلة من النبي ﷺ، وأخذ أخلاق النبي ﷺ وهديه ودله، حتى قال حذيفة بن يمان -رضي الله عنه وعن أبيه-: ما أعرف أحداً أقرب هدياً وسمتاً ودلاً بالنبي ﷺ من ابن أم عبد، وهو عبد الله بن مسعود.
{قال -رحمه الله-: (بعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة، ليعلمهم أمور دينهم، وبعث عمارا أميرا، وقال: إنهما من النجباء من أصحاب محمد ﷺ، فاقتدوا بهما، ثم أمره عثمان على الكوفة، ثم عزله، وأمره بالرجوع إلى المدينة، فتوفي فيها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وسبعين سنة)}.
بعث عمر ابن مسعود للكوفة ليعلمهم، فكان معلماً، ومفسرًا للقرآن، وقارئا للحديث، فكان يشرح لهم، ويعلمهم أمور دينهم، وهكذا ينبغي لأهل العلم وطلاب العلم وخريجي الجامعات، بعض الناس الآن ربما يتخرج فيعين مثلا في قرية نائية أو ما أشبه ذلك، فيجهد أن يرجع إلى أهله، وربما أخذ سنوات في هذه المطالبة.
نقول: عملك في تلك المنطقة فرصة؛ لأنك تعلم الطلاب، وتؤمَّ الناس في الجمع والجماعات، وتعلمهم دينهم والعقيدة، فتشرح الأصول الثلاثة، والأربعين النووية، وكم من الناس نفع الله -عز وجل- به حينما عين في بعض البلاد، فضلاً أن ينبغي لطلاب العلم أن يطوفوا للبلدان، وأن يخرجوا للناس؛ لأن هذا هو الخروج الصحيح، وخروج العلماء لا خروج الجهال، يعلموا الناس الدين وينشرونه بينهم.
وأما أن يتكدس طلاب العلم في المدن، بعضهم مع بعض، وربما يترك العلم لأنه ما يجد من يبلغه له، فهذا ليس مما ينبغي لأهل العلم المخلصين.
وصحابة النبي ﷺ انتشروا بالبلدان، مع أنهم يعرفون فضل مكة، ويعرفون فضل الصلاة في الحرم، فالصلاة في الحرم بمائة ألف، وفي المدينة -مدينة النبي ﷺ- الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، بينما في الكوفة وغيرها من البلدان، فالصلاة بصلاة واحدة، ولكن تعليم العلم يفضل العبادة المجردة، والله المستعان.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (٣- عبد الله بن عباس:
هو ابن عم الرسول الله ﷺ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولازم النبي ﷺ؛ لأنه ابن عمه، وخالته ميمونة تحت النبي ﷺ، وضمه النبي ﷺ إلى صدره، وقال: «اللهم علمه الحكمة»، وفي رواية: «الكتاب» ، وقال له حين وضع له وضوءه: «اللهم فقَّههُ في الدينِ» ، فكان بهذا الدعاء المبارك حبر الأمة في نشر التفسير والفقه، حيث وفقه الله تعالى للحرص على العلم، والجد في طلبه، والصبر على تلقيه وبذله، فنال بذلك مكانا عاليا، حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يدعوه إلى مجالسه ويأخذ بقوله، فقال المهاجرون: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟! فقال لهم: "إنه فَتَى الكُهُولِ، لَهُ لِسَانٌ سَؤُولٌ، وَقَلْبٌ عَقُوْلٌ")}.
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وعن أبيه، ابن عم النبي ﷺ، ولم يُهاجر إلا في السنة الثامنة أو قبيلها؛ لأنه كان من المستضعفين في مكة، ومع ذلك فقد حصَّل علماً عظيماً، حصَّله من ملازمة النبي ﷺ، وحصله بعد موت النبي ﷺ من الصحابة -رضي الله عنهم-، وكان حريصاً على العلم، حتى إنه في صغره يقول: بت عند خالتي ميمونة، والبيت غرفة واحدة، فبات على طرف الوسادة، مما يدل على أنه صغير لا يستحيى منه، ومع صغر سنه إلا أنه كان بات تلك الليلة ليرى عبادة النبي ﷺ، فوصف نومه، واستيقاظه، ووضوؤه، وصلاته في الليل، بل إنه توضأ وصفَّ معه، حتى من صغره كان جاهلاً، فصف إلى يسار النبي ﷺ، فأخذ النبي ﷺ برأسه من ورائه ثم أداره إلى يمينه.
يقول: فصل ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، كم صلى إذن؟ صلى ثلاثة عشر ركعة، ومن السنة أن يصلي العبد أحياناً ثلاثة عشر ركعة، هذا فقيه عالم.
وبعد موت النبي ﷺ ماذا فعل؟ يقول -رضي الله عنه-: لَمَّا توفي النبي ﷺ قلت لفتى من الأنصار: هيا بنا نتبع أصحاب النبي ﷺ نسألهم عن الحديث، فماذا قال الأنصاري؟
قال: يا ابن عباس، أتظن أن الناس يحتاجون إليك، وأصحاب محمد متوافرون.
يقول ابن عباس: فتركته، وهكذا ينبغي لصاحب الجد والحزم من طلاب العلم، بل حتى من طالبات العلم، أن يتركوا أهل اللعب، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ قد يأتي بعض الناس ممن هو مستقيمٌ هيئةً، فيه خير، يعني: السنة ظاهرة في لحيته، وفي ثوبه، ولكنه ليس عنده الحرص على طلب العلم. فمثل هذا اتركه ولا تصاحبه؛ لأنه يجعلك كسولا عن طلب العلم.
المقصود: يقول فتركته، فكنت أتبع أصحاب النبي ﷺ أسألهم عن الحديث، فربما أتيت الرجل وهو نائم -في القيلولة- وكانوا يقيلون قبل الظهر، يقول: فأكره أن أوقظه -يعني أكره أن أطرق عليه الباب، أو أن أزعجه، وهذا من الأدب مع العلماء، وأكره أن أذهب فأترك حديث النبي ﷺ.
يقول: فأنتظر عند الباب، فتسفر الرياح في وجهه، ويقول: وربما غفوت عند الباب. ثم يقول: فيخرج الصحابي فيراني فيفزع؛ لأنه ابن عم رسول الله ﷺ، ومن تعظيم النبي ﷺ أن يعظم آل البيت، وأهل السنة قديماً وحديثاً يعظمون أهل البيت، ويرون أن لهم حقين:
حق الصحبة، وهذه يشترك فيها الصحابة كلهم -رضي الله عنهم. والحق الثاني: هو حق القرابة من النبي ﷺ، ورضي الله عن أصحابه جميعاً، وعن آل بيته.
فيقول الصحابي لابن عباس: ألا أيقظتني؟ أنت ابن عم رسول الله ﷺ! فيقول: لا، أنت أحق أن أنتظرك.
فلما عظم العلم، وعظم العلماء حصله، حتى طال الزمن فتوفي كبار أصحاب النبي ﷺ فاحتاج الناس إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- فجلس للتعليم، فكان الأنصاري الأول ذاك يمر عليه ويقول للناس: هذا الفتى كان أعقل مني، طلب العلم أنا ما طلبت العلم، فاحتاج الناس إليه فنفعهم.
ولذلك كم نقول في المجالس، لا يكاد مجلس علم شرقا ولا غربا، ليلا أو نهارا حتى في غير في اللغة العربية يكون لابن عباس أقوال فيها، إلا ذكر ابن عباس، وترضي عنه، فضلا عن التفسير والحديث والفقه.
إذن هذا ابن عباس، حبر الأمة، أو حِبر الأمة، وجهان صحيحان، وترجمان القرآن، رضي الله عنه وأرضاه.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ثم دعاهم ذات يوم فأدخله معهم ليريهم منه ما رآه، فقال عمر: ما تقولون في قول الله تعالى: ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا فتح علينا، وسكت بعضهم، فقال عمر لابن عباس: أكذلك تقول؟ قال: لا، قال: فما تقول؟ قال: هو أجل رسول الله ﷺ، أعلمه الله له، إذا جاء نصر الله، والفتح هو فتح مكة، فذلك علامة أجلك، فسبح بحمد ربك، واستغفره إنه كان توابا، قال عمر: ما أعْلَمُ مِنْها إلَّا ما تَعْلَمُ)}.
كان عمر -رضي الله عنه- يُدخل ابن عباس إلى مجلس الشورى، فكان بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار يقولون: أدخل أبناءنا كما أدخلته، فهم في نفس السن، فقال عمر: لا، (إنه فَتَى الكُهُولِ، لَهُ لِسَانٌ سَؤُولٌ، وَقَلْبٌ عَقُوْلٌ).
ثم أراد أن يُريهم فقهه، فذكر لهم سورة النصر، ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ والفتح هو فتح مكة، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ يكثر الناس في الدخول في الدين، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ قال لهم: ما تقولون فيها؟
قالوا: أُمِرنَا إذا فتح الله علينا مكة، أن نستغفر الله ونسبحه.
فقال عمر لابن عباس -رضي الله عنه-: وأنت ما تقول فيها؟ قال: (هو أجل رسول الله ﷺ)، ذلك أنه إذا فتحت مكة، اكتملت البلدان؛ لأن الناس حول مكة والمدينة كانوا يقولون: انتظروا وتلوموا به وبأهل مكة، لأنهم أهله، وقالوا: إن دخل أهل مكة معه دخلنا وإلا انتظرنا.
فلما فتحت مكة ودخل أهل مكة -قريش- فقد كملت الرسالة، فالنبي ﷺ مهمته انتهت، وحياته كلها عبادة، والعبادات الشريفة تُختم بالاستغفار، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾، ولذا قال: هذا أجل رسول الله ﷺ، مع أن ما قاله الصحابة -رضي الله عنهم- كان صحيحًا وليس خطأ، ولكن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- قد وصلا إلي شيء لم يصل البقية إليه.
فقال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تعلم"، فأقروا له بالعلم والمكانة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لنعم ترجمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد، أي ما كان نظيرا له، هذا مع أن ابن عباس عاش بعده ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما اكتسب بعده من العلم)}.
تقدم معنا أنّ ابن مسعود -رضي الله عنه- كان عالمًا كبيرًا، والنبي ﷺ قال: «إِنَّكَ غُلاَمٌ مُعَلَّمٌ»، وقال: «مَن أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ القُرآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فليَقرأهُ علَى قِرَاءةِ ابنِ أمِّ عبدٍ».
يقول في ابن عباس رضي الله عنهما: "هذا ترجمان القرآن، نعم ترجمان القرآن، لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد"، يقول شيخنا: أي ما كان نظيرًا له، وعاشره يعني: صار عشرة، فابن عباس قاق في العلم، وهذا الذي قيل فيه كان في عصر ابن مسعود.
ومات ابن مسعود، وبقي ابن عباس -رضي الله عنهما- بعده ستا وثلاثين سنة، وحصل العلم. كيف حَصَّلَ العلم وقد توفي الصحابة؟ نقول: ألا تعلم أن تعليم العلم الذي معك يعد تعلمًا جديداً، ولذلك من وسائل طلب العلم لمن تأهل أن يُعلم، فالتعليم يشحذ الهمة، ويُرسخ العلم، ويجعل الإنسان يُحَضِّر الدروس، ويقرأ وينظر في الأحاديث وتفسير الآيات ومراجعتها وضبطها، هذا كأنه طلب علم جديد.
ولذلك من كان تأهل بعد الجامعة، أو درس عند الشيخ لسنوات ثم تأهل للتعليم، فنقول: تعليمك للناس هو في الواقع طلب للعلم، ولذلك فالذي يعلم الناس كثيرا تجد أنَّ علمه ينضبط.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وقال ابن عمر لسائل سأله عن آية: انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد ﷺ.
وقال عطاء: "ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس فقها، وأعظم خشية، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع".
وقال أبو وائل: خطبنا ابن عباس وهو على الموسم "أي وال على موسم الحج من عثمان رضي الله عنه"، فافتتح سورة النور نجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول ما رأيت، ولا سمعت كلام رجل مثله، ولو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت)}.
ابن عمر -رضي الله عنه- لَمَّا سئل عن آية قال: انطلق لابن عباس، فإنَّه أعلم من بقي، وفي هذا فائدة، وهي: رَدُّ العلم لأهله، واحترام طلاب العلم بعضهم لبعض، وهذا من حسن النية، والشيطان في الغالب يأتي بين الأقران فيحرش بينهم، فربما كان هناك من أعلم، ولكن تجد بعض ضعاف النفوس يثلبه، وهذا ليس من شأن أهل العلم المخلصين، بل إنه يرد العلم لأهله، أو حتى لمن كان معك تقديراً له وتعظيماً.
ولذلك من حسن سير طالب العلم أنه يُعَظِّم إخوانه ويحترمهم لمن كان معه، خلافاً لأهل الحسد وأهل التشغيب، والذي ربما يبلغه قول عن أخيه -طالب علم، خطيب جمعة- فيقول: لا، هذا أخطأ، وقال كذا وكذا. والصواب أنه يصوب الخطأ -إن وجد- بطريقة حسنة، فلربما كانت له وجهة نظر، فالصواب أن يرد ويقول: الشيخ فلان أعلم مني، ولكن لربما أخطأ لسبب أو كذا، ولذا فالصواب من وجهة نظري كذا.
أما أن يقول: فلان ليس لديه علم أو لا يفهم أو كذا وكذا، فهذا خطأ، ولذا وجدنا ابن عمر يقول: اذهب لابن عباس، مع أنهما في سن واحدة، بل ابن عمر أكبر سنًا من ابن عباس، ولكنه رد العلم إليه رضي الله عنه وأرضاه.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ولاه عثمان على موسم الحج سنة خمس وثلاثين، وولاه عليٌّ على البصرة، فلما قُتِلَ -أي: عليٌّ- مضى إلى الحجاز، فأقام في مكة، ثم خرج منها إلى الطائف، فمات فيها سنة ثمان وستين، عن إحدى وسبعين سنة)}.
إذاً فأول الصحابة الأجلاء: علي، وابن مسعود، وابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين، ممن يُؤخذُ منهم التفسير.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (المشهرون بالتفسير من التابعين.
اشتهر بالتفسير من التابعين كثيرون، فمنهم أهل مكة وهم أتباع ابن عباس -رضي الله عنهما- كمجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح.
وأهل المدينة وهم أتباع أُبي بن كعب، كزيد بن أسلمة، وأبي العالية، ومحمد بن كعب بن القرظي.
وأهل الكوفة وهم أتباع بن مسعود، كقتادة وعلقمة والشعبي، فلنترجم لحياة اثنين من هؤلاء، مجاهد، وقتادة)}.
تقدم معنا أنَّ التابعي هو من التقى بالصحابي مؤمنًا بالنبي ﷺ ومات على ذلك، ثم هم درجات في العلم والفضل، وفيهم كبار التابعين، وأواسط التابعين، وصغار التابعيين، والشيخ هنا سيترجم لاثنين منهم، وهم: مجاهد وقتادة رحمهما الله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (مجاهد.
هو مجاهد بن جبر المكي مولى السائب بن أبى السائب المخزومي ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وأخذ تفسير القرآن عن ابن عباس رضي الله عنهما، روى ابن إسحاق عنه أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، وكان سفيان الثوري يقول: إذا جاءت التفسير عن مجاهد فحسبك به، واعتمد تفسيره الشافعي والبخاري وكان كثيرا ما ينقل عنه في " صحيحه" وقال الذهبي في آخر ترجمته: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به، توفي في مكة وهو ساجد سنة أربع ومائة، عن ثلاث وثمانين سنة)}.
الله أكبر، هذا مجاهد بن جبر المكي، مولى السائب بن أبي السائب، ما معنى مولى؟
المولى إمَّا أنه مُعتق أو ابن مُعتق، فالعبد إذا أُعتق يصير مولى لمن أعتقه.
ولد مجاهد سنة واحد وعشرين من الهجرة، وأخذ تفسير القرآن عن ابن عباس، رضي الله عنهما، فلازم وعرض عليه القرآن. روى ابن إسحاق في السير، أنه قال: عرضت المصحف من فاتحته إلى خاتمته ثلاث مرات على ابن عباس، أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، ومعنى أوقفه عند كل آية يعني: ما لا أفهمه، وليس المعنى أن كل آية يعيدها ثلاث مرات، هذا غير صحيح وغير سائغ؛ لأنَّ كثيراً من القرآن يفهمه باللغة العربية، وفهمه في المرة الأولى والثانية، ولكن المراد هنا: ما أشكل عليه من القرآن سأل عنه.
ولذلك لَمَّا سأل عَلِمَ، فصار بعد ذلك حجة في التفسير، فاعتمده الشافعي والبخاري عليهم رحمة الله جميعاً.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (قتادة.
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ولد أكمه، أي: أعمى، سنة إحدى وستين، وجَدَّ في طلب العلم، وكان له حافظة قوية، حتى قال عن نفسه: "ما قلت لمحدث قط أعد لي، وما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي". وذكره الإمام أحمد فأطنب في ذكره، فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير، ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلما تجد من يتقدمه، أما المثل فلعل.
وقال: هو أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئا إلا حفظه، وتوفي في واسط، سنة سبع عشرة ومائة، عن ستة وخمسين سنة)}.
قتادة بن دعامة السدوسي البصري -رضي الله عنه ورحمه- تابعي، يقول: (ولد أكمه، أي: أعمى)، والإنسان قد يُولد أعمى، وقد يُولد مبصراً ثم بعد ذلك يصيبه العمى، وما منعه العمى من طلب العلم، فجدَّ واجتهد وبرز، وقد أُوتي حافظة قوية، حتى قال: (ما قلت لمحدث قط أعد لي)؛ لأنه كان قوي التركيز منتبهاً حافظًا، وهذا خلاف لبعض الناس حيث صار الناس في زمن الجوالات في غاية من البلاهة والبلادة بسبب الجوال، ولذلك كان من أسباب تحصيل العلم التفرغ من الشواغل.
قال الشافعي -رحمه الله-: لو كلفت بشراء بصلة ما فهمتُ مسألة.
وقال ابن الجماعة في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم": ينبغي لطالب العلم أن يعطل دكانه، ويهجر إخوانه، ويموت أقرب أقاربه وما يحضر جنازته، هذا نوع مبالغة، ولكنهم أرادوا أن يتفرغ طالب العلم، فالعلم إذا لم تقبل عليه بقلبك ما حصلته، فكيف تحفظ؟ وكيف تفهم؟ وكيف تقرأ؟ وكيف تراجع؟ إذا ما عندك وقت. فإذا انشغل الإنسان بالجوالات وغيرها ضاع عليه الوقت.
وهذا أكمه ويقول: (ما سمعت أذناي شيئا قط إلا ووعاه قلبي).
وذكره أحمد -رحمه الله- فأطنب في ذكره، فجعل ينشر من علمه وفضله الشيء الكثير، رحمه الله رحمة واسعة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: القرآن محكم ومتشابه.
يتنوع القرآن الكريم باعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الإحكام العام الذي وُصِفَ به القرآن كله، مثل قول تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:١])}.
هذا المبحث مبحثٌ مهمٌ جدًا، إحكام وتشابه، إحكام معناه: إتقان وقوة وضبط، وأما التشابه فإما أن يكون معناه: أنه يشبه بعضه بعضا، أو معناه مختلف أو مشتبه، ولكن مع ذلك فقد وصف القرآن بالإحكام العام كله، والتشابه العام كله، والإحكام في بعضه والتشابه في بعضه، ولذلك ذكر شيخنا -رحمه الله- هذه الأنواع الثلاثة.
{قال -رحمه الله-: (النوع الأول: الإحكام العام)}.
يعني: أن القرآن كله محكم.
قال -رحمه الله-: (الذي وُصِفَ به القرآن كله، مثل قول تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:١]، وقوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [يونس:١]، وقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف:٤].
ومعنى هذا الإحكام: الإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه، فهو في غاية الفصاحة والبلاغة، أخباره كلها صدق نافعة، ليس فيها كذب، ولا تناقض، ولا لغو لا خير فيه، وأحكامه كلها عدل، وحكمه ليس فيها جور، ولا تعارضٌ ولا حكم سفيه)}.
الجور يعني: ميل وعدم عدل.
هذا الإحكام العام، وقد وصف القرآن بأنه محكم كله، ما معنى هذا الإحكام؟
معناه: الإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه، فهو في غاية الكمال والفصاحة والبلاغة، أخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل. هذا معنى الحكام العام.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (النوع الثاني: التشابه العام الذي وصف به القرآن كله مثل قولي تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:٢٣]، ومعنى هذا التشابه، أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة والغايات الحميدة ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82])}.
هذا النوع الثاني: التشابه العام، وهو أن القرآن كله متشابه، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ فما معنى التشابه هنا؟ يقول شيخنا -رحمه الله-: إنه يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة والغاية الحميدة، فالقرآن كله نافع، الأحكام، والأخبار، والقصص، وذكر الجنة، وذكر النار، ذكر المتقين وذكر الفجار، كل هذا في كمال الغاية وكمال الجودة والإتقان، وأن غاياته حميدة، سواء ذكرت النار فيخاف منها، أو ذكرت الجنة فيرغب فيها، ذكرت القصص فنعتبر بها، ذكرت الأحكام فنمتثلها، وهكذا.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (النوع الثالث: الإحكام الخاص ببعضه، والتشابه الخاص ببعضه، مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:7].
ومعنى هذا الإحكام أن يكون معنى الآية واضحا جليا لا خفاء فيه مثل قول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات:13]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة:275]، وقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [المائدة:3]، وأمثال ذلك كثيرة)}.
هذا النوع الثالث: أن القرآن وصف بالإحكام والتشابه، فبعضه مُحكَم وبعضه متشابه، فالمُحكَم هنا ما اتضح معناه، والمُتشابه: هو ما اشتبه معناه، ثم إنَّ التشابه أيضا نوعان:
تشابه مُطلق، وتشابه نسبي، فالتشابه المطلق الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن يعرفه، مثل: حقائق صفات الله -عز وجل-، حقائق ما في الجنة وما في النار، ما نعرف من ذلك إلا الأسماء.
وكذلك صفات الله -عز وجل- نعرف معناها، ولكن لا نعرف كيفيتها، ولذلك لَمَّا سُئل الإمام مالك -رحمه الله- عن معنى الاستواء، كيف استوى؟!
يقول من روى عنه: فطأطأ مالك رأسه، حتى علاه الرحضاء، فصار العرق يتصبب منه تعظيمًا لهذا القول، وقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم قال: لا أراك إلا مبتدع، يعني: الاستواء معلوم المعنى، فمعنى استوى العرش: أي: علا وارتفع.
وأما كيفية الاستواء، فهذه الصفة غير معقولة، لا يمكن أن نصل إليها؛ لأن الله -عز وجل- أخبرنا أنه استوى، ولم يخبرنا كيف استوى؟
والإيمان به واجب؛ لأنه جاء في القرآن، ويجب أن نؤمن بكل ما جاء في القرآن، وكذلك ما صح عن النبي ﷺ.
والسؤال عنه بدعة؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- ما سألوا عنه، ولو كان في معرفته خير لبيّنه الله -عز وجل-، أو بينه نبيه ﷺ، أو سأل الصحابة رضي الله عنهم عنه، ولكنهم لم يفعلوا، ولذا كان السؤال هذا بدعة.
إذن فالتشابه، إما مطلق وإما نسبي، والتشابه النسبي هو الذي يُشكل على البعض ويعرفه البعض، يُشكل على عامة الناس وطلاب العلم الصغار، ولكن العلماء يعرفونه.
ثم ذكر شيخنا -رحمه الله- أربعة أمثلة للآيات المحكمة، أي: واضحة جلية، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، فالذكر هو: آدم عليه السلام، والأنثى هي: حواء.
هل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ فيه اشتباه؟ لا، هذا واضح جدا، ﴿الذي خلقكم﴾ يعني: من عدم، ﴿والذين من قبلكم﴾ كذلك خلقهم الله -عز وجل- ﴿لعلكم تتقون﴾ أي: تتقوا النار إذا أفردتم الله بالعبادة.
قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ البيع هو مبادلة مال بمال، وهذا حلال، وهو الأصل في الحل.
قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ هذه حرام ما يجوز أكلها، سواء ماتت حتف أنفها، يعني: وجدناها ميتة في الحظيرة، أو ذكية ذكاة غير شرعية، كأن تكون ذبحت لغير الله، أو ذبحت ولم يسم الله عليها.
﴿وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ هذا كله حرام، وهذا واضح.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومعنى هذا التشابه: أن يكون معنى الآية مشتبها خفيا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه العالم الراسخ في العلم خلاف ذلك)}.
هذا النوع الثاني، والنوع الأول كان هو الإحكام، وذكرنا من قبل، وأما الآن فيتكلم المؤلف عن التشابه، والتشابه هو ما يشتبه.
وقلنا قبل قليل: إن التشابه نوعان، تشابه مطلق، على كل الناس، مثل: حقيقة صفات الله، كيف صفات الله؟ كيف الجنة؟ كيف النار؟ نقول: نعرف الأسماء ولكن لا نعرف الحقيقة.
أو التشابه النسبي، وهو ما ذكره الشيخ -رحمه الله- هنا.
{قال -رحمه الله-: (مثاله فيما يتعلق بالله تعالى أن يتوحى واهم من قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المادئدة:64] أن لله يدين مماثلتين لأيدي المخلوقين.
ومثاله فيما يتعلق بكتاب الله تعالى، أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضا حين يقول: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ ويقول في موضع آخر: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾.
ومثال فيما يتعلق برسول الله ﷺ، أن يتوهّم واهم من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ ظاهره أن النبي ﷺ كان شاكا فيما أنزل إليه)}.
بين الشيخ الأوجه هنا باختصار، وهذه ثلاثة أمثلة لِمَا قد يشتبه على البعض دون البعض، الأول قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ هنا نثبت لله -عز وجل- يدين حقيقيتين لا تماثل أيدي المخلوقين أبداً؛ لأن -عز وجل- يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
يقول الشيخ -رحمه الله-: قد يتوهّم واهم، يعني: يشتبه على إنسان، أن إثبات اليدين يلزم منه التماثل، فينفي اليدين، وهذ ما فعله أهل البدع من الأشعرية والمعتزلة. قالوا: لا نثبت اليدين لله، بل اليدان يراد بهما: النعمة.
نقول: أخطأتم، وهذا غلط عظيم، والله -عز وجل- قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، فهل عند الله نعمتان فقط؟
وقوله ﷺ: «يَطْوي اللهُ السَّماواتِ يومَ القيامةِ ثُمَّ يأخُذُهنَّ بيدِه اليمنى ثُمَّ يَطْوي الأَرَضينَ ثُمَّ يأخُذُهنَّ بشمالِه» فهل يطوي؟ يعني: يأخذها بنعمته، هذا الكلام غير صحيح.
إذن نقول: هذه يدان حقيقيتان، ولا تماثل أيدي المخلوقين.
طيب الآية الثانية: بالآية تان قوله سبحانه: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، الحسنة ممن؟ من الله، والسيئة ممن؟ من نفسك.
الآية التي بعدها يقول: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ الآية الأولى فيها الحسنة من الله، بينما الثانية فيها: الحسنة من نفسك، هذا كله من عند الله؟
نقول: نعم، لا تعارض، نقول: كل من عند الله تقديراً ومشيئةً، والحسنة من الله تفضلا نعمةً، ومن عند نفسك تسبباً.
إذن لا تعارض.
الآية التي بعدها: قوله سبحانه: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يعني القرآن والوحي، ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس:94]، هذا الخطاب موجه للنبي ﷺ ظاهراً، والمراد به الناس، أي: لا تشكون، وإلا فإن النبي ﷺ لا يمكن أن يشك، ولكن وُجِّهَ الخطاب له ليقال للناس: انتبهوا، ولا تشكوا في رسالة النبي ﷺ.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (موقف الراسخين في العلم والزائغين من المتشابه
موقف الراسخين في العلم والزائغين من المتشابه إن موقف الراسخين في العلم من المتشابه وموقف الزائغين منه بينه الله تعالى فقال في الزائغين: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾.
وقال في الراسخين في العلم: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ فالزائغون يتخذون من هذه الآيات المتشابهات وسيلة للطعن في كتاب الله، وفتنة الناس عنه، وتأويله لغير ما أراد الله تعالى به، فيَضلون ويُضلون.
وأما الراسخون في العلم، فيؤمنون بأن ما جاء في كتاب الله تعالى فهو حق، ولس فيه اختلاف ولا تناقض؛ لأنه من عند الله، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82].
وما جاء مشتبهًا ردوه إلى المحكم ليكون الجميع محكما)}.
هذا الموقف للراسخين في العلم ولمن في قلوبهم زيغ، والواقع أنَّ هذا موجود ونحتاجه إليه الآن، فكم من الناس الآن ممن يسمى بالمشتهرين -يوتيوبر- وربما يكون أتباعهم بالآلاف بل بالملايين، ثم عندهم شيء من الفصاحة، وبعض اللغة العربية، ثم يأتون بالآيات ويضربون بعضها ببعض، فيضلون الناس.
وقد وجد والحمد الله من يرد عليهم، ولكن كثيرًا ممن يسمع إليهم ما يسمع لمن برد عليهم، وهذا خطر جدا.
الدين لا يُؤخذ إلا عن أهله، والله -عز وجل- يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ كثير من هؤلاء ما طبق السنة فضلا على الواجبات التي يتركها، ثم يأتي بمشتبهات في الآيات والأحاديث ويضرب بعضها ببعض، فيزيغ الناس ويضلهم عن سبيل -عز وجل، فعلينا أن ننتبه، وأن نرجع في ديننا إلى أهل العلم المتخصصين.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ويقولون في المثال الأول: إن لله تعالى يدين حقيقيتين على ما يليق بجلاله وعظمته، لا تماثلان أيدي المخلوقين، كما أن له ذاتًا لا تماثل ذوات المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:11].
ويقولون في المثال الثاني: إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله عز وجل، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده، أما السيئة فسببها فعل العبد كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه، لا من إضافته إلى مُقَدِّره، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مقدره، وبهذا يزول ما يوهِم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة.
ويقولون في المثال الثالث: أن النبي ﷺ لم يقع منه شك فيما أنزل إليه، بل هو أعلم الناس به، وأقواهم يقينا كما قال الله تعالى في نفس السورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [يونس:١٠٤] المعنى إن كنت في شك منه فأنا على يقين منه، ولهذا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، بل أكفر بهم وأعبد الله)}.
هذه إجابة شيخنا -رحمه الله- على الأمثلة الثلاثة، وقد تبين ذلك بحمد الله، وقد سبق الكلام، وهذا كلام شيخنا -رحمه الله- وهو واضح.
{قال -رحمه الله-: (ولا يلزم ولا يزم من قوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ أن يكون الشك جائزا على الرسول ﷺ أو واقعًا منه، ألا ترى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ هل يلزم منه أن يكون الولد جائزا على الله تعالى أو حاصلا؟ كلا، فهذا لم يكن حاصلا ولا جائزا على الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾.
ولا يلزم من قول تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أن يكون الامتراء واقع من الرسول ﷺ؛ لأن النهي عن شيء قد يُوجه إلى من لم يقع منه، ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، ومن المعلوم أنهم لم يصدوا النبي ﷺ عن آيات الله، وأن النبي ﷺ لم يقع منه شرك.
والغرض من توجيه النهي إلى من لا يقع منه: التنديد بمن وقع منهم، والتحذير من مناهجهم، وبهذا يزول الاشتباه، وظن ما لا يليق بالرسول ﷺ)}.
على حد قول العرب: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، فالنبي ﷺ لم يشك، والله -عز وجل- لم يتخذ ولداً، ولكن رداً لهؤلاء المفترين.
أسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم شيخنا وجزاكم الله كل خير.
إذن أيها الإخوة المشاهدون، إلى هذا الحد نصل لختام هذه الحلقة، ونلقاكم في حلقات قادمة بمشيئة الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
7657 12