الدرس التاسع
فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم طلاب وطالبات برنامج (جادة المتعلم) في حلقة جديدة من حلقات "التعليق على أصول في التفسير" لفضيلة الشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- باسمي واسمكم نرحب بفضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي، حيَّاكم الله يا فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله جميعًا، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح.
{نستأذنكم في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (أنواع التشابه في القرآن التشابه.
التشابه الواقع في القرآن نوعان:
أحدهما: حقيقي، وهو ما لا يمكن أن يعلمه البشر، كحقائق صفات الله عز وجل، فإننا وإن كنا نعلم معاني هذه الصفات، لكننا لا ندرك حقائقها، وكيفيتها لقوله تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ [طه:١١٠]، وقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام:١٠٣]، ولهذا لَمَّا سُئِلَ الإمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] كيف استوى؟
قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا النوع لا يسأل عن استكشافه لتعذر الوصول إليه)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأُسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فإن هذا المبحث عنوانه: (أنواع التشابه في القرآن)، وقد أشرنا إليه، وعرفنا أن التشابه نوعان، حقيقي يعني: واقع فعلا، فهو مشتبه غير معلوم، وهذا لا يعلمه إلا الله -عز وجل-.
وقد ذكرت أنه نوعان: حقائق صفات الله -عز وجل- يعني: كيفيات الصفات، وحقائق ما في اليوم الآخر، من: القيامة، ودنو الشمس، وحشر الناس، والصراط. نعرف الأسماء وما يقع، ولكن المعنى والكنه والحقيقة ما نعلمها.
قال شيخنا -رحمه الله-في التمثيل: (كحقائق صفات الله -عز وجل، فإننا وإن كنا نعلم معاني هذه الصفات، لكننا لا ندرك حقائقها وكيفيتها) وهنا مسألة مهمة جداً، هل صفات الله -عز وجل- من المتشابه أم من المحكم؟
إن قلنا من المتشابه فهذا خطأ، وإن قلنا من المحكم فهذا أيضًا خطأ، كيف؟
نقول: أمَّا المعاني التي دلت عليها لغة العرب والتي نزل بها القرآن، فإنها معلومة عندنا، وأما حقائقها وكيفياتها فإنها مجهولة عندنا، ولذلك آيات الصفات نعلمها ونفسرها وندرسها بما تقتضيه لغة العرب، وذلك بأن نأخذ آيات الصفات والأحاديث التي وردت فيها أيضا على ظاهرها، بمقتضى لغة العرب على ما يليق بالله -عز وجل-.
مثال: قول سبحانه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:64]. ما موقفنا؟ نقول: نثبت لله -عز وجل- يدين اثنتين حقيقيتين. لماذا؟ نقول: هذا ظاهر القرآن، والله -عز وجل- خاطبنا لنعلم، وقد قال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29]، وأعظم ما في القرآن أسماء الله وصفاته.
إذن نعلم معناها، وأما كيفيتها فلا نعلمها، فإن قال كيف؟ نقول: لأن -عز وجل- أخبرنا بها ولم يخبرنا بكيفيتها، هذا هو الأمر الواجب.
ومن يقول: إن آيات الصفات نقرأها على ظاهريها فقط وما نفسرها هذا من الغلط، ويقولون: إن مذهب السلف هو الإمرار فقط، نقول: نعم إمرار الكيفية، وأما المعنى فإنه معلوم لنا.
وأما كيفيتها فإنها من المشتبه الذي لا نعلمه، ولذلك لَمَّا سئل مالك -رحمه الله- كيف استوى؟ غضب وقال: (الاستواء غير مجهول) يعني: غير مجهول المعنى، على مقتضى لغة العرب، لأن القرآن بلسان عربي مبين.
(والكيف غير معقول) يعني: لا تدركه العقول، أي: ما أخبرنا الله -عز وجل- بذلك، وما رأينا الله، وما رأينا له نظير، وما جاءنا عنه خبر، لا منه -عز وجل- ولا من رسوله ﷺ.
إذن ما ندخل في الكيفية.
(والإيمان به واجب) يعني: بالصفات، مثل: الاستواء، اليدين، الوجه، العينين، القدم، الساق، فالقدم وردت في السنة، بينما الساق ورد في القرآن ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم:42].
(والسؤال عنه بدعة)؛ لأنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- ما سألوا عنه، ولو كان السؤال عنه ممكنًا عن الإجابة، لسألوا النبي ﷺ الذي هو أعلم الناس، وهو رسول الله ﷺ.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (النوع الثاني: نسبي، وهو ما يكون مشتبها على بعض الناس دون بعض، فيكون معلوما للراسخين في العلم دون غيرهم، وهذا النوع يُسأل عن استكشافه وبيانه لإمكان الوصول إليه، إذ لا يوجد في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، قال الله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:١٣٨]، وقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل:٨٩] وقال: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة:١٨]، وقال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة:١٩] وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾ [النساء:١٧٤].
وأمثلة هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصْيِرُ﴾ [الشورى:١١]، حيث اشتبه على أهل التعطيل، ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، وأدعوا أن ثبوتها يستلزم المماثلة، واعرضوا عن الآيات الكثيرة الدالة على ثبوت الصفات له، وأن إثبات أصل المعنى لا يستلزم المماثلة)}.
هذا النوع الثاني، وهو: نسبي، ومعنى نسبي: أي بنسبة شخص دون آخر، فالعلماء يعلمونه، بينما عامة الناس وطلاب العلم الصغار ما يعلمونه، فهو بالنسبة للعالم واضح، وبالنسبة للعامي مُشتبه.
ذكر الشيخ -رحمه الله- هنا أمثلة، منها قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصْيِرُ﴾ فهم أهل البدع منها التعطيل، وأننا لا نثبت لله -عز وجل- الصفات. يقول: اليدين هي النعمة، والوجه هو: الذات، وغضب يعني: أراد لانتقام أو انتقم وعاقب، وهذا خطأ، كيف يقولون ذلك؟! بل نثبت لله -عز وجل- الصفات على ظاهرها كما تقدم بمقتضى لغة العرب، على وجه اللائق بالله سبحانه وتعالى.
والعجيب أن هذه الآية عمدة عند أهل السنة، وعمدة أيضًا عند أهل البدعة، فأهل البدعة يأخذون بأولها، أي قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وقالوا: لو أثبتنا اليدين لجعلناه مثل المخلوقين، ولكن سبحان الله، اقرأ آخر الآية: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصْيِرُ﴾ إذن أثبت الله لنفسه السمع والبصر ونفى المماثلة.
إذن نثبت الله سمعًا يليق به، وبصرًا يليق به، ولكن ننفي المماثلة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومنها قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء:٩٣] حيث اشبته على الوعيدية، ففهموا منه أن قاتل المؤمن عمدا مخلد في النار، وطردوا ذلك في جميع أصحاب الكبائر، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله تعالى)}.
هذا المثال الثاني، وهذه الآية فيها مثالان، الأول في قوله -عز وجل-: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً﴾.
والمثال الثاني في قوله: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ وقد تقدم أن أهل البدع ينفون ويحرفون صفات الله -عز وجل-، فيقولون مثلا: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ أي: انتقم أو أراد الانتقام!
نقول: لا، الغضب صفة حقيقية تليق بالله -عز وجل-، ولكن مقتضاها الانتقام أو العقوبة، وليست هي العقوبة ولا إرادة العقوبة.
وشيخنا -رحمه الله- أتى بمثال على ما اشتبه على الخوارج والمعتزلة من تكفير صاحب الكبيرة، أو عند المعتزلة: "منزلة بين منزلتين"، وأنه في الآخرة مخلد في النار.
نقول: لا، لأن هذه الآية وإن كانت وعيدا، إلا أن هناك آيات وأدلة أخرى تدل على أنَّ صاحب الكبيرة ليس مخلدًا في النار إن دخلها، نعم قد يدخل صاحب الكبيرة من المسلمين النار، ولكن إن دخلها فإنه سيخرج منها إمَّا بالشفاعة أو برحمة الله -عز وجل- بدون شفاعة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومنها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج:٧٠]، حيث اشتبه على الجبرية، ففهموا منه أن العبد مجبور على عمله، وادعوا أنه ليس له إرادة ولا قدرة عليه، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن للعبد إرادة وقدرة، وأن فعل العبد نوعان: اختياري، وغير اختياري.
والراسخون في العلم أصحاب العقول، يعرفون كيف يخرجون هذه الآيات المتشابهة إلى معنى يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كله محكمًا لا اشتباه فيه)}.
هذا مثال ثالث، يقول -عز وجل-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ اشتبه على الجبرية، ولكن من هم الجبرية؟
الجبرية هم من يقولون: إن العبد مجبر على عمله، وعلى هذا فالزاني مجبر على الزنا، والمشرك مجبر على الشرك، وشارب الخمر مجبر على شربها. لماذا؟ قالوا: لأن الله يعلم كل شيء، وما دام أنه معلوم عند الله -عز وجل- فليس للعبد فيه اختيار!
نقول: نرد عليكم بالأدلة وبالعقل، أمَّا الأدلة، فإن الله -عز وجل- أمرنا ونهانا، ألم يقل الله -عز وجل-: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾؟
ألم يقل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾؟ فهل يؤمر العاجز؟
الآن لو أنك أمرت رجلا مُقعدا أن يجري، فقلت له: قم بالجري لعشرة أمتار، ولكنه لم يفعل، فإن الناس يصفون قولك بالعبث لأنه لا يستطيع حتى المشي، فكيف به يجري؟!
ولذا نقول: هل من عاقل يقول: إن الله سيأمرنا بأوامر نجبر عليها ولا نستطيعها؟
هل من عاق يقول: إن الله سينهانا عن قربان الزنا كما في قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ وليس لنا فيه اختيار؟
ثم نقول بالعقل: أنا سألتقط هذا الكاس الآن وأحمله وأنت تراني، هل أنا مجبر عليه؟ لا.
طيب أنا سآخذ القلم لأكتب به. لا لن أكتب به، هل أحد يجبرني على الكتابة به أو لم يجبرني؟ لا، إذن ليس هناك من يقول إيه مجبر في هذا، ولكنك ترى البعض يقول في أمور الدين: إنه مجبر، تسأله لمَ تشرب الدخان؟ يرد عليك ويقول: لأني مجبر!
تسأله لماذا لا تصلي مع المسلمين؟ يرد عليك ويقول: لأني مجبر.
هل يسمح لأحد أن يقول له: أعطني سيارتك أو مالك؟ فإذا قال لِمَ؟ قلنا: لأننا مجبورين على هذا! فهل هو يقر بذلك؟
نقول: لا أحد يقر بذلك.
إذن من يقول في أمور الدين إنه مجبر فهذا غير صحيح، والله -عز وجل- حكم عدل، وهو أرحم الراحمين، يثيب الطائع ويعاقب العاصي، ولو كان الإنسان مجبراً لكان ثواب المطيع عبثاً وعقاب العاصي ظلماً. إذ كيف يُثاب من لا اختيار له في العمل الصالح؟ وكيف يعاقب من لا اختيار له في العمل السيء؟
ولذا نقول: إن مذهبهم هذا فاسد ويقتضي أن إرسال الرسل كان عبثاً، فلماذا يرسلهم سبحانه والناس مجبرين؟ إذن هذا مذهب فاسد، وهذا شذوذ في مذهب القدرية، لأن القدرية يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه، وأهل السنة يقولون: العبد له قدرة، واختيار، واستطاعة وتفكير، ويعمل أو لا يعمل، وكل ذلك معلوم عند الله -عز وجل-، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
وهذه المسألة مبسوطة في كتب العقيدة، مثل: الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله- والحموية التدمرية، وهذا المجال ليس مجالا ذكرها والإسهاب فيها ولذا يكفي ما تقدم.
خلاصة ما سبق: أن التشابه في القرآن إما حقيقي، وكما تقدم، حقائق الصفات وحقائق ما في اليوم الآخر، ونسبي: يعني أن يكون مشتبها عند قوم دون قوم، فأهل العلم ليس مشتبها عندهم، بينما متشابه عند عامة الناس.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه.
لو كان القرآن كله محكما لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقا وعملا لظهور معناه، وعدم المجال لتحريفه، والتمسك بالمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولو كان كله متشابها لفات كونه بيانا، وهدى للناس، ولَمَا أمكن العمل به، وبناء العقيدة السليمة عليه، ولكن الله تعالى بحكمته جعل منه آيات محكمات يُرجع إليهن عند التشابه، وآخر متشابهات امتحانا للعباد، ليتبين صادق الإيمان ممن في قلبه زيغ)}.
نعم، هذه هي الحكمة من التنوع -محكم ومتشابه- فالحكمة هي الامتحان، والله -عز وجل- يبتلينا ويختبرنا، ونحن ليس لنا أن نعارض. ومعنى هذا أنه لا يجوز للعبد أن يسأل لماذا لم يخلقني ربي غنيا؟ أو لماذا لا يكون لدي أولاد؟ أو ما شابه.
ولذا نقول: إن شاء الله -عز وجل- يدبر خلقه بين رحمته وحكمته، ليسير الناس، حتى تقوم الحياة. إذًا فلسنا من نختار وإنما نحن تحت الابتلاء والاختبار.
{قال -رحمه الله-: (فإن صادق الإيمان يعلم أن القرآن كله من عند الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق، ولا يمكن أن يكون فيه باطل، أو تناقض لقوله تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:٤٢]، وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ [النساء:٨٢])}
هذا أمر مهم جدًا، وهو أنَّ الإنسان لا يعتقد التعارض في القرآن ولا حتى في السنة، وإذا أتاك ما يُوهم التعارض، وسوف يذكر الشيخ -رحمه الله- أمثلة، فإن الإنسان ينبغي له أن يحاول أن يجمع؛ لأن هذا من الله -عز وجل-، إما من الله -عز وجل- ابتداء وهو القرآن، أو من رسوله ﷺ، وهو ما ينطق عن الهوى.
وكل ما صح عن النبي ﷺ فلا يمكن أن يُعارض القرآن، ولا أن يُعارض بعضه بعضا، ولا أن يُعارض الواقع أبدًا، يعني مثلا: دوران الأرض أو الشمس لا يمكن أن يكون هناك تعارض أبدا، فإذا حصل عند الإنسان إشكال فليتأمل في حل التعارض الذي في رأسه، فإن عجز فليرجع إلى أهل العلم، فإن لم يجد فليتوقف ولا يعتقد التناقض في القرآن أبداً، قال الله -عز وجل-: ﴿لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وأما من في قلبه زيغ، فيتخذ من المتشابه سبيلا إلى تحريف المحكم واتباع الهوى في التشكيك في الأخبار والاستكبار عن الأحكام، ولهذا تجد كثيرا من المنحرفين في العقائد والأعمال، يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات المتشابهة)}..
هذا سبيل الزائغين، أنهم يضربون الأدلة بعضها ببعض، ويشككون الناس ويوهمونهم التعارض، إما بالكذب في الأخبار، أو عدم العدل في الأحكام، ومما ذُكِرَ في التاريخ أن رجلا في عهد عمر -رضي الله عنه- في العراق، اسمه" "صبيغ بن عسل" كان يجلس للناس ويشككهم، يقول: كيف يقول الله كذا ومرة يقول كذا، فيلخبط الناس، فلما علم به عمر -رضي الله عنه- قال: ائتوني به، فلما جاء قال له عمر: من أنت؟!
قال: أنا عبد الله "صبيغ بن عسل" قال: وأنا عبد الله عمر بن الخطاب، ثم جلده وجلده ثلاث أيام يجلده، حتى كاد أن يموت، فلما جاء اليوم الثالث، قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني، وإن كنت تريد أن تزيل ما في رأسي فقد ذهب.
قال عمر: اذهب ولا تكلم الناس، فجاءه الخوارج بعد ذلك أي بعد موت عمر، وأرادوا أن يأخذوه معهم، فقال: قد أزال ما في رأسي العبد الصالح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
ومن الناس الآن من يشكك، كما قلنا في الحلقة السابقة ممن يتسمون بـ اليوتيوبر، تجد عندهم شيئًا من الفصاحة وبعض العلوم، فيشككون الناس في العقائد الصحيحة، ولذلك لا لا يجوز لعامة الناس، بل حتى لطالب العلم الصغير أن يشاهدهم، لأنهم يشككونه. وأنا ما أحب تسمية الأسماء الموجودين، لأن بعضهم خطباء، وبعضهم يكتب على السبورة، وتجده فصيحًا وكذا، ولكنه زائغ، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله أن يرد كيدهم.
والحمد لله أن قيد لهم من يرد عليهم، ولكن أكثر الناس يرون هذه الشبهات ولكن لم يرد عليهم.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (موهم التعارض في القرآن
التعارض في القرآن أن تتقابل آيتان، بحيث يمنع مدلول إحداهما مدلول الأخرى، مثل أن تكون إحداهما مثبته لشيء والأخرى نافية فيه.
ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما خبري، لأنه يلزم كون إحداهما كذبا، وهو مستحيل في أخبار الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ [النساء:٨٧] ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ [النساء:١٢٢].
ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما حكمي؛ لأن الأخيرة منهما ناسخة للأولى، قال الله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة:١٠٦] وإذا ثبت النسخ كان حكم الأولى غير قائم ولا معارض للأخيرة.
وإذا رأيت ما يوهم التعارض من ذلك، فحاول الجمع بينهما، فإن لم يتبين لك وجب عليك التوقف، وتكل الأمر إلى عالمه)}.
هذا المبحث مهم جداً، وهو: (موهم التعارض) وتأمل العنوان أو الترجمة جيدًا، قال الشيخ: موهم التعارض ولم يقل التعارض؛ لأنه -كما تقدم- لا يمكن أن تتعارض آيتان، ولا آية مع حديث صحيح، ولا آية أو حديث صحيح مع واقع صحيح أبداً. لماذا؟
نقول: موهم التعارض إما أن يقع في الأخبار أو في الأحكام، فإن كان في الأخبار فيلزم أن أحدهما كذباً، ولا يمكن الكذب في خبر الله -عز وجل- أو ما صح عن الرسول ﷺ.
وكذلك لا يقع في حكم، فلا تجد حكمًا ينفي وآخر يثبت أبدا، فإن وجدت فاعلم أن إحداهما ناسخ للآخر، وعليك أن تتأمل فيهما.
يقول الشيخ -رحمه الله-: (وإذا رأيت ما يوهم التعارض من ذلك، فحاول الجمع بينهما) تأمل لتجمع، وهذا مخاطب به من عنده علم، فإن لم يتبيّن لك وجب عليك التوقف وأن تكل الأمر إلى عالمه، أي: إلى الله -عز وجل-، وإن كان عندك من تسأله من أهل العلم فعليك أن تسأله.
{قال -رحمه الله-: (وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أمثلة كثيرة لما يوهم التعارض، بينوا الجمع في ذلك. ومن أجمع ما رأيت في هذا الموضوع كتاب " دفع إيهام الاضطراب عن أي الكتاب " للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى)}.
هذه مسألة مهمة جدًا، اعتمد العلماء لِمَا يوهم التعارض من الآيات ومن الأحاديث ومن ذلك: "مشكل الآثار" للطحاوي، ومنه أيضًا هذا الكتاب الذي ذكره الشيخ العثيمين -رحمه الله- للشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب التفسير -رحمه الله-، وهذا مطبوع مستقل أو في آخر كتاب التفسير للشيخ -رحمه الله-
{قال المؤلف -رحمه الله-: (فمن أمثلة ذلك قوله تعالى في القرآن: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:٢] وقوله فيه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاس﴾ [البقرة:١٨٥]، فجعل هداية القرآن في الآية الأولى خاصة بالمتقين، وفي الثانية عامة للناس، والجمع بينهما أن الهداية في الأولى هداية التوفيق والانتفاع، والهداية في الثانية هداية التبيين والإرشاد)}.
هاتان الآيتان قد يتوهم منهما متوهم التعارض، فالله -عز وجل- جعل القرآن ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾، فقال سبحانه في سورة البقرة: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾، وفي الآية الثانية في سورة البقرة أيضا، في آيات الصيام ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاس﴾ فكيف مرة هدى للمتقين، ومرة أخرى هدى للناس؟
نقول: لا تعارض، فالقرآن هدى للناس وهدى للمتقين، أي: تبيين، ولكن الذي ينتفع به تمام النفع هم المتقون.
أو نقول: ﴿هُدىً لِلنَّاس﴾، أي هدية التوفيق، والثانية: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ فهي هداية الإرشاد والبيان.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ونظير هاتين الآيتين، قوله تعالى في الرسول ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ [القصص:٥٦]، وقوله فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى:٥٢] فالأولى هداية التوفيق والثانية هداية التبيين)}.
إذن فالنبي ﷺ يهدي ولكنه لا يهدي، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ هنا قد يفهم التعارض، ولكنه لا تعارض، فهو ﷺ هادٍ، أي: مرشد دالٌ مبين، ولكنه لا يهدي، أي: لا يوفق، ولذلك عمه أبو طالب ما استطاع أن يهديه هداية التوفيق، ولكنه هداه هداية الإرشاد والبيان والدعوة؛ لأنَّ هداية التوفيق إنما تكون بيد الله -عز وجل- إذن فلا تعارض.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران:١٨] وقوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّه﴾ [آل عمران:٦٢]، وقوله: ﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء:٢١٣]، وقوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ [هود:١٠١] ففي الآيتين الأوليين نفي الألوهية عما سوى الله تعالى وفي الأخريين إثبات الألوهية لغيره.
والجمع بين ذلك أن الألوهية الخاصة بالله عز وجل هي الألوهية الحق، وأن المثبتة لغيره هي الألوهية الباطلة؛ لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦٢])}.
هذا مثال ثالث، في قوله -عز وجل-: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذه لا نافه للجنس، فـ "لا إله إلا الله"، وأمَّا الآية الأخرى ففيها إثبات إله غير -عز وجل-، فنقول: هذه ألوهية باطلة، والألوهية الحق تكون لله -عز وجل-، وعلى هذا فالألوهية الباطلة تكون لغير الله -عز وجل-، ولكنها لا تعتبر.
أو نقول: إن قوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾ أي: في اعتقادهم، ولكن اعتقادهم باطل.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف:٢٨] وقوله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ [الإسراء:١٦] ففي الآية الأولى نفي أن يأمر الله تعالى بالفحشاء، وظاهر الثانية أن الله تعالى يأمر بما هو فسق. والجمع بينهما أن الأمر في الآية الأولى هو الأمر الشرعي، والله تعالى لا يأمر شرعا بالفحشاء لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:٩٠] والأمر في الآية الثانية هو الأمر الكوني، والله تعالى يأمر كونا بما شاء حسب ما تقتضيه حكمته لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢])}.
هذه المثال الرابع، قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾، والفحشاء هي الأفعال الفاحشة البذيئة، كالزنا، وعقوق الوالدين، والكلام الفاحش البذيء.
والثاني: يقول -عز وجل-: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ ظاهر الآية أنه أمر، نقول: لا تعارض، لأنَّ الأمر المنفي هو الأمر الشرعي، والأمر المثبت هو الأمر الكوني، فالله -عز وجل- قدر كل شيء، قدر الخير والشر، الشرك والإيمان، الكفر والإلحاد، والضلالة والهداية والنور، كله بتقدير الله -عز وجل- كونًا، ولكن الله -عز وجل- لا يأمر إلا بالخير، وينهي عن الفحشاء والمنكر شرعا، ولكن الناس قد لا يفعلون، فهؤلاء أمروا كونا لا شرعا.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومن رام زيادة أمثلة فليرجع إلى كتاب الشيخ الشنقيطي المشار إليه آنفا.
القسم بفتح القاف والسين اليمين، هو تأكيد الشيء بذكر معظم بالواو أو إحدى أخواتها، وأدواته ثلاث، الواو مثل قول تعالى: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٍ﴾ [الذريات:٢٣]، ويحذف معها العامل وجوبا، ولا يليها إلا اسم ظاهر.
والباء مثل قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة:١]، ويجوز معها ذكر العامل كما في هذا المثال، ويجوز حذفه كقوله تعالى عن إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص:٨٢]، ويجوز أن يليها اسم ظاهر كما مثلنا، وأن يليها ضمير، كما في قولك: الله ربي وبه أحلف لينصرن المؤمنين.
والتاء مثل قوله تعالى: ﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ [النحل: ٥٦]، ويحذف معها العامل وجوبا، ولا يليها إلا اسم الله، أو رب، مثل: ترب الكعبة لأحجن إن شاء الله)}.
هذا الفصل هو: (القسم) وقد ذكره الشيخ -رحمه الله-؛ لأنه جاء في القرآن كثيرا، فالله عز وجل قد أقسم مرارا، مثل: والعصر، فوربك، وكذلك ذكر -عز وجل- عن إبليس: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص:٨٢] فذكر القسم لأنه موجود في القران كثيرا.
عرفه بقوله: (القسم هو اليمين) أي: هو الحلف، (وهو تأكيد الشيء بذكر معظم بالواو أو بإحدى أخواتها "التاء، والباء").
إذن القسم هو تأكيد الشيء بذكر معظم، ثم لا يكون القسم بالنسبة لنا إلا بالله -عز وجل-، وأما الله -عز وجل- فيقسم بما شاء من خلقه.
ثم ذكر الشيخ -رحمه الله- أن من أدواته: الواو، والباء، والتاء، وذكر بعض أحكامها.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (والأصل ذكر المقسم به، وهو كثير كما في الأمثلة السابقة. وقد يحذف وحده مثل قولك: أحلف عليك لتجتهدن.
وقد يحذف مع العامل وهو كثير مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:٨])}.
ذكر المقسم به، والمقسم به بالنسبة لنا هو الله -عز وجل- أو صفة من صفاته، ولكن الله -عز وجل- قد يقسم بما شاء من مخلوقاته كما تقدم.
يقول: (والأصل ذكر المقسم به، وهو كثير كما في الأمثلة السابقة) مثلا قوله: ﴿فوربك﴾ فالمقسم به هو رب العين.
وقوله: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أقسم برب يوم القيامة، فالمقسم به هنا هو يوم القيامة.
في قول الله -عز وجل-: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ أقسم إبليس الخبيث بعزة الله -عز وجل-، وهذا المقسم به المذكور كثير.
يقول: (وقد يحذف وحده مثل قولك: أحلف عليك لتجتهدن) ما التقدير؟ الأصل أن تكون أحلف عليك بالله، فحذف المقسم به وكذلك أداة القسم.
يقول: (قد يحدث مع العامل وهو كثير مثل: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾) يعني: اقسم بالله لتسألن عن النعيم.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (والأصل ذكر المقسم عليه، وهو كثير مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُن﴾ [التغابن:٧] وقد يحذف جوازا مثل قوله تعالى: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق:١] وتقديره ليهلكن.
وقد يحذف وجوبا إذا تقدمه، أو اكتنفه ما يغني عنه، قاله ابن هشام في المغني ومثل له بنحو: زيد قائم والله، وزيد والله قائم)}.
طيب يقول هنا: (والأصل ذكر المقسم عليه) وهنا المُرَاد جواب القسم، مثل قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هنا عندنا قسم، وأداة قسم، ومقسم، ومقسم عليه.
من المقسم؟ هو الله -عز وجل-.
أداة القسم: الواو.
المقسم به: العصر.
المقسم عليه: إن الإنسان لفي خسر.
هذا مكتمل الأركان، أي موجودة ولم يحذف منها شيء.
يقول: (والأصل ذكر المقسم عليه، وهو كثير مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُن﴾) المقسم عليه هنا هو: البعث، لتبعثن هذا المذكور.
يقول: (وقد يحذف جوازا مثل قوله تعالى: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾) أين المقسم عليه؟ محذوف (وتقديره ليهلكن الظالمين)، فهو يقدر بهذا.
قال: (وقد يحذف وجوبا إذا تقدمه، أو اكتنفه ما يغني عنه، قاله ابن هشام في المغني)
والمُراد بالمُغني: كتاب مُغنى اللبيب، وهو كتاب لغة لابن هشام -رحمه الله-وقد اختصره شيخنا -رحمه الله- أيضا في كتاب مُختصر.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وللقسم فائدتان:
إحداهما: بيان عظمة المقسم به.
والثانية: بيان أهمية المقسم عليه، وإرادة توكيده، ولذا لا يحسن القسم إلا في الأحوال التالية:)}.
يقول: فائدة القسم فائدتان:
إحداهما: بيان عظمة المقسم به، ولذلك نحن إنما نقسم بالعظيم تعظيمًا له، ولذا لا يجوز لنا أن نقسم بغير الله -عز وجل- ولذلك يخطئ من يقسم بالنبي ﷺ.
نقول: يا أخي الكريم، النبي ﷺ معظم ومحبوب، ولكن لا يجوز القسم به القسم، وإنما القسم يجوز بالله سبحانه وتعالى، بل نبينا ﷺ قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» فلا يجوز لنا.
الثانية: بيان أهمية المقسم عليه، ولذلك الله -عز وجل- أقسم مرارا بالوقت تعظيمًا بالوقت، ولذلك إقسام الله -عز وجل- بالأوقات والعصر، والليل، والفجر، والشمس ضحاها، هذا من بيان أهمية الوقت الذي ينبغي لطالب أن يعتني به.
يقول: (بيان أهمية المقسم عليه، وإرادة توكيده، ولذلك لا يحسن القسم إلا في الأحوال التالية)
{قال -رحمه الله-: (الأولى: أن يكون المقسم عليه ذا أهمية.
الثاني: أن يكون المخاطب مترددا في شأنه.
الثالث: أن يكون المخاطب منكرا له)}.
يقول: لا يحسن القسم إلا في الأحوال التالية، الأولى: (أن يكون المقسم عليه ذا أهمية) كما تقدم: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ ومثل قوله ﷺ: «والذي نفْسُ محمدٍ بيدِهِ، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ، لا يهودِيٌّ، ولا نصرانِيٌّ، ثُمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كان من أصحابِ النارِ».
ما المقسم عليه هنا؟ هو الإيمان، يعني: أن يؤمن اليهودي أو النصراني وإلا هلك، هذا معنى: (أن يكون المقسم عليه ذا أهمية).
(أن يكون المخاطب مترددا في شأنه) كأن تخبر أحدًا مثلا أن أباه قد قدم، قد يكون غائبا من فترة فتخبره أنه قد قدم، فتقول: والله إنه جاء، أقسم بالله قد جاء. ولكن إذا كانت الشمس طالعة الآن فتقسم وتقول: والله إن الشمس ساطعة. نقول: ما لهذا داعٍ، لأننا نراها، وهذا ليس فيه تردد.
قال: (أن يكون المخاطب منكرا كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، وقوله: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُن﴾ فالكفار ينكرون البعث فأقسم الله -عز وجل- لهم، وأمر نبيه ﷺ أن يقسم.
{قال المؤلف -رحمه الله-: القصص.
القصص والقص لغة: تتبع الأثر.
وفي الاصطلاح: الإخبار عن قضية ذات مراحل، يتبع بعضها بعضا.
وقصص القرآن أصدق القصص؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ [النساء:٨٧] وذلك لتمام مطابقتها على الواقع وأحسن القصص لقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآن﴾ [يوسف:٣] وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى.
وأنفع القصص، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب﴾ [يوسف:١١١]، وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق)}.
القصص في اللغة تتبع الأثر، يعني: واحد يمشي والثاني يتبعه، أي يقص أثره، فالقصة تتبع الآثار. كيف تتبع الآثار؟ ما هو الرابط بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي؟
نقول: ما هو واحد، عندما تقص قصة فكأنك تتبع ما حصل له، كما أن الذي يقص الآثار يتبعه.
يقول: (وقصص القرآن أصدق القصص) وأحسن القصص، وأنفع القصص، وأصدقها لأنها من الله -عز وجل-، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾، وأحسنها لقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾، وهذه الآية في صدر سورة يوسف، وبعض الناس يعتقد أن قصة يوسف أحسن القصص لهذه الآية! نقول: لا، هذه الآية عامة، ومن القصص الحسنة قصة يوسف -عليه السلام.
الثالث: يقول: (وأنفع القصص)، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب﴾ يعني: عظة وموعظة، واتعاظ للناس بقصص الأولين، (وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق).
ومما يؤسف له أنَّ أكثر الناس اليوم لا يهتمون بقصص القرآن، ولا بما صح عن النبي ﷺ مع أنه والله هو الأنفع! لو جاء واحد الآن وقال: سأقص عليهم "قصة ذي القرنين"، هذه ما ينتبه الناس لها؟ كثيرا، ولكن لو قلنا: البارحة كان هناك مطر.
أو يوم أن نزلنا من الطائرة وجدنا من يصيح، وجلس وشق ثيابه، ثم جاءت الشرطة فأمسكوه! فتجد أن الناس في شغف للاستماع، والطل يريده أن يكملها!
ولكن ماذا صار؟ يقول: اتضح أن عقله به خلل. ما الغاية والهدف هنا؟ لا شيء، ولن نستفيد منها شيئًا.
ولكن القصص التي قصها الله -عز وجل- علينا نافعة، ولذلك فالعلماء كالشيخ ابن سعدي وشيخنا -رحمهما الله- يستنبطون من هذه القصص العجب، وانظر إلى تفسير ابن سعدي -رحمه الله- في قصة يوسف، كيف استنبط منها فوائد عجيبة نافعة جدا، وكذلك في الكهف، في قصة موسى -عليه السلام-، استنبط استنباطات عجيبة جدا، يحسن الرجوع إليها.
{قال المؤلف -رحمه الله-: وهي ثلاثة أقسام:
- قسم عن الأنبياء والرسل، وما جرى لهم مع المؤمنين بهم والكافرين.
- وقسم عن أفراد وطوائف، جرى لهم ما فيه عبرة، فنقلة الله تعالى عنهم، كقصة مريم، ولقمان، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وذي القرنين، وقارون، وأصحاب الكهف، وأصحاب الفيل، وأصحاب الأخدود وغير ذلك.
- وقسم عن حوادث وأقوام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كقصة غزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني قريظة، وبني النضير، وزيد بن حارثة، وأبي لهب، وغير ذلك)}.
يقول شيخنا -رحمه الله-: (وهي ثلاثة أقسام) يعني: القصص في القرآن ثلاثة أقسام.
يقول: (القسم الأول عن أفراد وطوائفه جرى لهم ما فيه عبرة فنقله الله تعالى عنهم) مثل: قصة مريم رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم عيسى -عليه السلام-، حيث بدأت حينما حملت أمها، ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ إلى آخر القصة.
ثم كفلها زكريا -عليه السلام- ثم كان يرى عندها الفواكه التي ليس أوانها، وهذا من كرماتها.
ثم ذكر -عز وجل- قصة انتباذها نزول جبريل علي عليها وتعوذها منه ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ كيف يكون هذا لا تزوجت وليست زانية!
قال: ﴿قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ يعني: يسير ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ قال العلماء: إن جبريل -عليه السلام- نفخ في درع جيبها نفخة من كلمة الله -عز وجل-، والكلمة هي (كُن) فحملت به حملاً عادياً وولدته، وحينما أتاها المخاض انتبذت من أهلها وابتعدت عنهم، ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا﴾ عيسى عليه السلام ﴿أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ وسريا: أي رجلا عظيما عند الناس، وقيل: (سريا) أي ماء لتشربي منه، ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ وهذا عجيب، النخلة قوية، وجذرها كبير، وهذه امرأة وفي المخاض فهي لتوها ولدت، وهي في آلام الولادة، قد ولدت الآن طفلاً، وتؤمر أن تهز النخلة، كيف تهزها؟ وهذه من الأسباب التي جعلها -عز وجل-، والله -عز وجل- قادر على إنزال الرطب لها بدون سبب، ولكن الله جعل لكل شيء سببا.
﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ فنزل الرطب في الأرض من رأس النخلة جَنِيًّا، كيف جني؟ الرطب الآن لين، والعادة أن يسقط من فوق يصير له يرتب يخرب، ولكن هذا ينزل في الأرض وما يخرب. ﴿رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ لا عليك واطمئني ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ كيف؟
الله -عز وجل- أراد آية لها ولابنها، فإذا رأيت أحدا لا تكلمينه، ﴿نَذَرْتُ للرَّحمنِ صومًا﴾ أي سكوتا ما أتكلم.
فذهبت به إلى قومها، فلما رأوها طاروا، قال: ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ يعني: عظيمًا، ثم لمحوا لها وقالوا: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ أبوك ليس برجل سيء، وأمك ما كانت زانية، فما الذي صار ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ ولم تتكلم، ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ أأنت مجنونة؟! هل نكلم الرضيع هذا وهو صبي على حالته، فهل يتكلم الصبي؟
فنطق فقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ هذا عيسى ابن مريم، وهذه قصته اللطيفة الجميلة، وهذا مثال يحتذى به للرجال والنساء، وهذه مريم -رضي الله عنها وأرضاها- وقد مدحها الله -عز وجل- بأنها كانت قانتة، وأنها حفظت فرجها، فحفظ المرأة لفرجها منقبة وفضيلة، أن تبتعد عن الزنا وعن الرجال وعن الفاحشة.
وهكذا الرجال أيضًا، ولذا كانت هذه القصة مليئة بالعبر.
وقصة أصحاب الكهف هم فتية، كانوا عند قوم مشركين، وكان عندهم ملك ظالم يأمرهم بعبادته فابتعدوا، وكان في يوم عيد، ثم اجتمعت أجسامهم كما اجتمعت قلوبهم، ثم قالوا: إن قومنا في ضلال، كيف يعبدون غير الله -عز وجل-، ثم أووا إلى كهف ليعبدوا الله -عز وجل- فيه، ثم أطبق عليهم، فبقوا فيه ثلاث مائة سنة وازدادوا تسعًا، ثم بعثهم الله -عز وجل- ليرى الناس منهم آية.
وهكذا قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر، قصة ذي القرنين، وأصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن، وهم أناس من الحبشة في الأصل، وقد استعان بهم أحد أهل اليمن على اليهود الذين كانوا مع "بختنصر"، وقتلوا النصارى هناك، فذهب هذا الرجل إلى ملك الروم واستعان به على نصرة قومه، فقال: إنكم بعيدون عني، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فكتب إليه ثم بعث معه قوما سبعين ألفا، وكان على رأسهم رجل اسمه أرياط، فأتوا إلى اليمن فاحتلوها وأجلوا اليهود وقتلوهم.
ثم إنه قد حصل خصومة بين أرياط وبين أحد جنود اسمه أبرهة الأشرم، في قصة طويلة تطول، ثم إن أبرهة قتل أرياط، فغضب عليه ملك الحبشة، وأقسم أنه يأتي فيقص رأسه ويطأ اليمن، فلما علم أبرهة مباشرة بعث إليه بالهدايا وقص شعر رأسه، وأرسلها إليه، وأرسل إليه ترابًا من تراب اليمن، وقال: هذا شعر رأسي قصصته لك أبر به قسمك، وهذا تراب اليمن تطؤه وتبر قسمك، وأنا عبد كما أن أرياط عبد لك، مطيع لك فيما تريد وتبغاه.
فلما رأى ملك الحبشة ذلك اطمأن وقال المهم أن تطيعونني.
ثم إن أبرهة الخبيث هذا، قال: لأبنين لك كنيسة تسمع بها العرب، أصرف الناس إليها، ففعل وبنى كنيسة عظيمة جدا، وزينها بالذهب وبالعاج... ثم دعا الناس إليها فلم يأت إليها أحد، قال: كيف هذا؟
أرسل مناديين ورسلا في الناس، وقال: تعالوا حجوا إلى الكنيسة، واتركوا الكعبة، فأعلم بها أحد العرب فقال: سأحج إلى الكنيسة، فذهب إليها وخبث بها، ثم أشعل فيها النار وهرب، فلما عادوا إلى الكنيسة قالوا: من فعل بها هذا؟ قالوا: رجل من العرب، علم أنك تبغي أن تصرف الناس إلى الكنيسة ففعل ما فعل.
فأقسم أن يهدم الكعبة لأجل أن يأتي الناس إلى كنيسته، فذهب بجيش عرمرم، والعرب حينما سمعوا به استعظموا ذلك، وخرجوا في جيوش ولكن ما كان أحد يقف أمامه، فهزمهم جميعًا، حتى وصل إلى الطائف.
ثم أخذ -فيما ذكر- مائة بعير لعبد المطلب جد النبي ﷺ، فلمَّا علم عبد المطلب جاء إليه، ولم يكن أبرهة يعرف العربية، فترجم له الترجمان، وقال له: هذا كبير أهل مكة الذي تريد أن تهدم كعبتهم، فظن أبرهة أن عبد المطلب جاء ليتشفع في الكعبة لئلا يهدمها، فعظمه لَمَّا رأه، وكان رجلا مَهيبًا.
فما أجلسه معه لئلا يرى الحبشة أنه يجلس على سرير الملك، ولم يجلسه في الأرض تعظيمًا له، كان عنده نوع أدب ولكنه لم يكن ذكيا، فجلس معه على فراش على الأرض.
ثم قال للترجمان: ماذا يريد؟
فقال أبو طالب للترجمان: إن جنوده أخذوا مائتي بعير، وأريد رد إبلي.
فلما ترجم الترجمان قال له: قل له إني لما رأيتك عظمتك، فلما تكلمت احتقرتك، قال: لم؟ قال: لأني أتيت لهدم البيت الذي فيه عزك وعز أباءك وأجدادك، وأنت جئت تطلب مائة بعير!
فقال كلمة عظيمة، قال: أنا رب الإبل، يعني: صاحبها، وأمَّا البيت فله رب يحميه، ولست أنا، ووالله صدق، ولكنه مات على الشرك، نعوذ بالله من ذلك.
على كل حال قال أبرهة لمن معه أعطوه الإبل، ولَمَّا أصبح تقدم بهذه الفيلة العظيمة لهدم الكعبة، ولكن الله -عز وجل- أرسل عليه ما لا قِبَلَ لهم به، أرسل طيورًا من جهة البحر، من جهة جدة، كانت كالغمام من كثرتها، فلما استوت على رؤوسهم دارت عليهم، وقد وصلوا إلى مكان اسمه: المغمس، والفيل ما تقدم، وقف في ذلك المكان فما تقدم.
وهذه قصة عجيبة يحسن مراجعتها في كتب البداية والنهاية، وابن إسحاق، وفي كتاب الرحيق المختوم ستجدها مختصرة.
ثم أتتهم هذه الطيور فدارت عليهم وما تركتهم حتى أهلكتهم، قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ أهلكهم حتى صاروا كالزرع الذي أكلت الدواب فأهلكته.
إذن قصص القرآن قصص نافعة مفيدة محكمة، وإن شاء الله تعالى نكمل فيما بعد؛ لأن الوقت -فيما يظهر- قد انتهى.
{جزاكم الله خيرًا شيخنا على ما قدمتم وأفدتم، وأيضا الشكر موصول لكم أيها الإخوة المشاهدين، ونلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
7650 12