الدرس السادس

فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي

إحصائية السلسلة

7657 12
الدرس السادس

أصول التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم طلاب وطالبات برنامج (جادة المتعلم) في حلقة جديدة من حلقات "التعليق على أصول في التفسير" لفضيلة الشيخ العلامة/ محمد بن صالح العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- باسمي واسمكم نرحب بفضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي، حيَّاكم الله يا فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله جميعًا، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح.
{توقفنا شيخنا أحسن الله إليكم عند "ترتيب القرآن".
قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ: (ترتيب القرآن:
ترتيب القرآن: تلاوته تاليًا بعضه بعضًا حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور.
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ترتيب الكلمات بحيث تكون كل كلمة في موضعها من الآية، وهذا ثابت بالنص والإجماع، ولا نعلم مخالفا في وجوبه وتحريم مخالفته، فلا يجوز أن يقرأ: لله الحمد رب العالمين بدلا من ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2].
النوع الثاني: ترتيب الآيات بحيث تكون كل آية في موضعها من السورة، وهذا ثابت بالنص والإجماع، وهو واجب على القول الراجح، وتحرم مخالفته ولا يجوز أن يقرأ: مالك يوم الدين الرحمن الرحيم بدلا من: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 3] ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] ففي صحيح البخاري أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهم في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة:240] قد نسخها الآية الأخرى يعني قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة:234] وهذه قبلها في التلاوة قال: فلم تكتبها؟ فقال عثمان رضي الله عنه: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
وروي الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث عثمان -رضي الله عنه: أن النبي كان ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول، ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا.
النوع الثالث: ترتيب السور بحيث تكون كل سورة في موضعها من المصحف، وهذا ثابت بالاجتهاد فلا يكون واجبا وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه صلّى مع النبي ذات ليلة، فقرأ النبي البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وروى البخاري تعليقًا عن الأحنف: أنه قرأ في الأولى بالكهف، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أن صلى مع عمر بن الخطاب الصبح بهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "تجور قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة. ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة -رضي الله عنهم- في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان رضي الله عنه، صار هذا مما سنة الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها" اهـ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فإن هذا المبحث هو "ترتيب القرآن"، وترتيب القرآن عرفه شيخنا -رحمه الله- بقوله: (تلاوته تاليا بعضه بعضا حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور).
والفائدة من هذا المبحث: أننا لا نغير فيه، فلا يأتي أحد يغير ولو حتى ترتيب السور، كما سيأتي في آخر المبحث.
أما ترتيب الكلمات من حيث مكانها في الآية، أو ترتيب الآيات من حيث مكانها في السورة، فهذا لا يجوز بالإجماع، وقد ذكر شيخنا -رحمه الله- ذلك، وذكر الأدلة عليه، وذكر آية الوفاة، واستشكال عبدالله بن الزبير -رضي الله عنه- على عثمان، وكيف كتب الآية الناسخة قبل المنسوخة، والمعروف أن الناسخ يأتي بعده المنسوخ، ولكن الآية الناسخة جاءت قبل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 234] هذه في سورة البقرة أولًا، ثم آية ثلاثة بعدها: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 240] فالآية الأولى فيها المتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر وعشرة أيام، والآية الثانية فيها: تتربص سنة، وهي منسوخة فكيف كُتبت؟ قال: "لا أغير شيئًا عن مكانه، أي أنه بالنص".
النوع الثالث وهو النوع الأخير: هو ترتيب السور، شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إنه بالاجتهاد، وشيخنا أيضًا كان يقول بذلك، لكن شيخنا -رحمه الله- في الشرح وقد حضرت هذا الشرح وقيدت هذا بيدي وهو مطبوع الآن، قال: "يظهر لي الآن أن بعضه ما هو ثابت بالاجتهاد، وهو الأكثر منه، وما هو ثابت بالنص، وما ثبت بالنص: الجمعة والمنافقون وسبح والغاشية، فإن الذي قرأ هكذا هو النبي ".
ومعنى "الاجتهاد" أي: اجتهاد الصحابة -رضي الله عنهم- ولا يقال عن فعل النبي إنه اجتهاد، بل هو نص.
ثم خلص شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى أن بعض الصحابة اختلفت مصاحفهم، ولكنهم بعد ذلك اجتمعوا على مصحف عثمان وتركوا ما سواه، ولذلك صار اتباعهم بذلك واجبا، وعلى هذا لا يجوز الآن تغيير هذا الترتيب، يأتي رجل مثلًا ويقول: الآن نجد السور الطوال إلى التوبة، ثم نجد أن سورة الأنفال في الوسط فيها، فلماذا ما تجعل بعد التوبة لأنها أقصر؟ نقول: هذا لا يجوز، لماذا؟
أولًا: لأن هذا هو فعل الصحابة -رضي الله عنهم.
ثانيًا: لأنه قد قيل أصلًا: إن سورة التوبة من الأنفال وذلك ما بينها فاصل.
أيضًا مثلًا لو جاء وقال: سورة البينة طويلة، وهي بين سور المفصل القصيرة، لماذا ما نجعلها مثلا بعد سورة البروج لأنه في قرب في الطول؟
نقول: هذا لا يجوز، مع أن هذا ثابت من الاجتهاد، لكن اجتهاد الصحابة -رضي الله عنهم- والصحابة -رضي الله عنهم- اجتهادهم واجب الاتباع بالنسبة لنا، فلا نغير ولا نبدل، ولكن مع ذلك استثنى العلماء مجال التعليم، فللمعلم مثلًا أن يكتب بعض الآيات أو السور أو حتى بعض الآيات للتعليم، وأمَّا طباعة المصحف فلا يحل تغييره أبدًا إلا بهذه الصورة: من الفاتحة إلى الناس كما فعل الصحابة -رضي الله عنهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى: (كتابة القرآن وجمعه.
لكتابة القرآن وجمعه ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: في عهد النبي ، وكان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الاعتماد على الكتابة، لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة، ولذلك لم يجمع في مصحف بل كان من سمع آية حفظها، أو كتبها فيما تيسر له من عسب النخل، ورقاع الجلود، ولخاف الحجارة، وكسر الأكتاف وكان القراء عددا كبيرا.
ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي بعث سبعين رجلا يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر معونة فقتلوهم، وفي الصحابة غيرهم كثير كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء رضي الله عنهم)
}.
هذا المبحث في كتابة القرآن وجمعه.
وكتابته: هو كتابته في الصحف.
وجمعه: أي جمعه في مصحف واحد.
يقول شيخنا -رحمه الله: وهذا له ثلاث مراحل.
ما الفائدة من معرفة ذلك؟
الجواب: أن نعرف عناية هذه الأمة بهذا الكتاب العظيم الذي هو عصمتها ونجاتها، وقد اعتنت به الأمة عناية عظيمة إلى وقتنا الحاضر، وقد انتهى هذا العهد بعهد هذه الدولة الموفقة.
والآن هناك مجمع في المدينة النبوية وهو "مجمع الملك فهد" رحمه الله، وقد أُنشئ في عهد ملك فهد -رحمه الله- وهو مجمع عظيم، وله عناية بالغة، وهناك تفسير ميسَّر خرجَ من هذا المجمع، ثم تُرجم هذا التفسير الميسر إلى لغات كثيرة، أظن أن وصل إلى ثلاثين لغة وربما أكثر.
المقصود: أن الأمة بحمد الله اعتنت بالمصحف، جمعًا في بداية الأمر حتى اجتمع، ثم اعتنت به طباعة وكتابة وتفسيرًا ونشرًا.
المرحلة الأولى في عهد النبي ولم يجمع في مكان واحد كتابة، وذلك لَمَّا قال شيخنا -رحمه الله: (لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة)، ما كان فيه أوراق ولا فيه مثل هذ.
كيف كان المصحف مجموعًا؟
نقول: أكثر ما كان محفوظًا، ومع ذلك وُجد ما كتب فيه.
يقول شيخنا -رحمه الله: (بل كان من سمع آية حفظها، أو كتبها فيما تيسر له من عسب النخل، ورقاع الجلود، ولخاف الحجارة، وكسر الأكتاف).
معنى هذا:
عسب النخل: فالعسيب هو الجريد، والعسيب هو آخر الجريدة في النخلة، ويسمى عند العامة الكربة، وصفتها: أنها مفلطحة فيكون فيها مكان للكتابة يكتب فيها.
رقاع الجلود: أي قطع الجلود، خاصة جلد الإبل، وربما البقر، لأن الغنم صغيرة، وربما يكتبه أيضا على جلود الغنم، فالجلد كالورق يُكتب عليه.
لخاف الحجارة: الحجارة أيضًا مفلطحة، نجد الحجارة في الجبال بعضها مجمعة، وبعضها مفلطحة، حتى ربما تمسك حجارة كبيرة جدًا بعضها رقيق فيكتب فيه.
كسر الأكتاف: أي أكتاف الذبائح، الإبل أو البقرة أو الغنم، والكتف له نهايتان: النهاية الأولى التي في مقابل الجسم هذه مدورة وصغيرة، ثم نهايته من الجهة الثانية مفلطحة ففيها مكان للكتابة، فيكتبون فيها.
إذن هذه المرحلة الأولى، وكان القراء كثيرين جدًا، بل كان جل الصحابة -رضي الله عنهم- حفاظًا، حتى إن سبعين منهم قد بعثهم النبي للدعوة فعرض لهم حي من العرب وهم رعل وذكوان وقتلوهم جميعًا، حتى قنت النبي شهرًا يدعو عليهم.
وذكر شيخنا -رحمه الله- أن الخلفاء الراشدين كانوا حفاظًا لكتاب الله، وكذلك من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وسالم، وحذيفة، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وغيرهم -رضي الله عنهم- والكثير منهم كانوا حفاظا للقرآن.
{قال -رحمه الله: (المرحلة الثانية: في عهد أبي بكر رضي الله عنه في السنة الثانية عشرة من الهجرة. وسببه أنه قتل في وقعة اليمامة عدد كبير من القراء منهم، سالم مولى أبي حذيفة، أحد من أمر النبي بأخذ القرآن منهم.
فأمر أبو بكر -رضي الله عنه- بجمعه لئلا يضيع، ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر -رضي الله عنهما- بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة، فتوقف تورعا، فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك، فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه، وعنده عمر فقال له أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه، قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. رواه البخاري مطولًا.
وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدوه من حسناته، حتى قال على رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله)
}.
رضي الله عن علي وعن أبي بكر الصديق، والله ما كان بينه ولا بين عمر ولا حتى بين عثمان خلاف، بعض الناس اليوم كفروا الصحابة وكفروا الشيخين -رضي الله عنهما- وقد كان عليٍّ -رضي الله عنه- يقول على منبر الكوفة -وكانت مكان خلافته: "من فضلني على أبي بكر أو عمر ضربته حد الفرية" فانظر كيف يترحم عليهم -رضي الله عن الصحابة أجمعين.
إذًا؛ هذه المرحلة الثانية وهو جمعه في عهد أبي بكر صديق -رضي الله عنه- وسببه: أن كثير من الحفاظ قتل، وقد قتل في اليمامة أكثر من خمسمائة من صحابة النبي من حفظة القرآن، لأن جلهم حفظة، خلافًا لمن زعم من الناس اليوم أن الصحابة لم يكونوا يحفظون! ويزعمون أن الأهم هو الفهم وأن الأهم هو التأمل وما يشبه ذلك!
ونقول: إن الحفظ من أنواع التأمل، بل وهل التأمل إلا طريقه الحفظ؟! ولذلك قال العلماء: "العلم الحفظ والحفظ الإتقان"، ولا يُمكن الإتقان إلا بالمراجعة وكثرة التكرار.
ثم إن الذي أشار بجمع القرآن في هذا العهد هو عمر -رضي الله عنه- لما رأى كثرة قتل القراء والحفاظ أشار على أبي بكر صديق، ولكن أبا بكر -رضي الله عنه- تورعًا ما لم يكن على عهد النبي ، ففي عهد النبي لم يجمع! هذا من العجائب -رضي الله عنه وأرضاه- وقد وقع وقائع كثيرة في هذا الشأن.
لما توفي النبي كان قد جهز جيش أسامة بن زيد لغزو الروم، وكانوا إذا أرادوا أن يغزوا تجمعوا خارج المدينة حتى يكتملون ثم يتجهون إلى ما أمرهم النبي .
النبي جهز جيشًا لغزو الروم، لأنه قد بلغه أنهم يجمعون لغزوه، فأراد مباغتتهم فجأة قبل مجيئهم، فتجمع الصحابة للغزو، فمرض النبي فتوقفوا، فتوفي فتوقفوا، فلما انتُخب أبو بكر -رضي الله عنه- بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم الأجمعين- أول عمل عمله قال: يسير جيش أسامة، فقال عمر -رضي الله عنه: يا أبا بكر، كيف يسير الجيش، والعرب قد ارتدت! فمنهم من ارتدَّ ومنهم من منع الزكاة، ونحن في حاجة للجيش! قال: "والله لا أحل عقالًا عقده النبي أبدًا" ثم أمر بتسيير الجيش.
يقول عمر -رضي الله عنه-: "فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبا بكر للقتال".
أيضا أراد قتال مانعي الزكاة، فقال عمر -رضي الله عنه-: "يا أبا بكر كيف تقاتل من يقول لا إله إلا الله، ويقيم الصلاة؟" قال: والزكاة؟ إن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله، وقال: "والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها للنبي لقاتلتهم عليه"، يقول عمر: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبا بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"، فقاتلوا فكانت ردَّة فعل العرب عجيبة! قالوا: عجيب هؤلاء! نبيهم مات ويغزون الروم؟! والله إن عندهم قوة!
المقصود: أن أبا بكر توقف لئلا يحدث شيئا ما فعله النبي ، مع أنه نفسه له سنة متبعة، لكن من شدة ورعه، وعمر أشار عليه فلم يزل يكرر حتى شرح الله صدره، وكان عمر كالوزير لأبي بكر -رضي الله عنهما.
ثم أرسل إلى زيد بن ثابت -رضي الله عنه- الأنصاري واختاره لأنه من كتاب الوحي، وأيضًا لأنه هو الذي كلفه النبي بتعلم لغة اليهود، فتعلمها في سبعة عشر يوما.
ثم إنه جمعه -رضي الله عنه- يقول: (تتبعته من اللخاف والعسب ومن صدور الرجال حتى جمعه في مكان واحد في الصحف، وكانت الصحف بعد ذلك قد توفرت، فجُمع فكان عنده أبي بكر -رضي الله عنه- ثم عند عمر، ثم عند حفصة بنت عمر -رضي الله عنها).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (المرحلة الثالثة: في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة الخامسة والعشرين، وسببه اختلاف الناس في القراءة بحسب اختلاف الصحف التي في أيدي الصحابة رضي الله عنهم فخيفت الفتنة، فأمر عثمان رضي الله عنه أن تجمع هذه الصحف في مصحف واحد؛ لئلا يختلف الناس، فيتنازعوا في كتاب الله تعالى ويتفرقوا.
ففي صحيح البخاري أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان من فتح أرمينية وأذربيجان، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، ففعلت، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وكان زيد بن ثابت أنصاريا والثلاثة قرشيين - وقال عثمان للرهط الثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وقد فعل عثمان رضي الله عنه هذا بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم، لما روي أبن أبي داود عن على رضي الله عنه أنه قال: والله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملاء منا، قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا، فنعم ما رأيت.
وقال مصعب بن سعد: أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد، وهو من حسنات أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه التي وافقه المسلمون عليها، وكانت مكملة لجمع خليفة رسول الله أبي بكر رضي الله عنه)
}.
والعجيب أن الخوارج جعلوا هذا من مثالب عثمان، والصحابة -رضي الله عنهم- جعلوه من مناقبه، وهو توحيد الناس على مصحف واحد.
هذه الآن المرحلة الثالثة من جمع المصحف وهو في عهد عثمان -رضي الله عنه- في السنة الخامسة والعشرين من هجرة النبي .
وسببه: اختلاف الناس في القراءة، وذلك أنه في هذا العصر توسَّعت الفتوحات الإسلامية، فدخل العجم وكثير من العرب بلغات مختلفة ومتنوعة، فاختلفوا في القراءة، وكان القرآن نزل على سبعة أحرف واختلف العلماء جدا فيها، والأقرب -والله أعلم- أنها سبعة أحرف أي لغات العرب، لغة قريش، لغة بني تميم، لغة طيء، ولغات متنوعة، ثم إن الناس اختلفوا ولاسيما العجم الذين دخلوا في الإسلام وما يدرون هل يقرؤون بلغة قريش أو لغة تميم، ما عندهم تمييز! فصار هناك اختلاف، ففزع حذيفة من اليمان -رضي الله عنه- وكان في الغزو، فقدم من أذربيجان ومن أرمينيا بعد فتح أرمينيا وقال لعثمان -رضي الله عنه: "أدرك أمة محمد قبل أن تختلف اختلاف اليهود والنصارى"، فاستجاب عثمان -رضي الله عنه- ثم استدعى أربعة من الصحابة:
زيد من ثابت وهو أنصاري، وثلاثة قريشيون وهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث -رضي الله عنهم أجمعين-.
ثم طلب المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- من حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- وكان عندها، فقال: أعطينا إياه لننسخه ثم نرده إليك، ففعلت، ثم نسخوه ورُدَّ إليها، ثم أمر -رضي الله عنه- بعد ذلك بأن يُنسخ المصحف بلغة قريش الأخيرة هذه على قراءة واحدة ثم يبعث إلى الآفاق.
وليُعلَم أن القراءات السبع الموجودة الآن أو العشر أو الأربعة عشر؛ أن كلها في مصحف عثمان، وليس في اللغات السابقة التي نزل بها القرآن، وهذا هو الصحيح، لأن الصحابة اجتمعوا على مصحفٍ واحدٍ وعلى قراءةٍ واحدةٍ، لكن فيها قراءات متنوعة وهذا الموجود الآن، قراءة ورش وقراءة حفص...، لكنها كلها فيما اتَّفق الصحابة -رضي الله عنهم- عليه.
ثم أمر -رضي الله عنه- بالمصاحف الباقية وأحرقت، وهذه من مناقبه، وهذا من إكرام القرآن.
ولذلك الآن إذا تمزق المصحف وصارت أوراقه لا يمكن الاستفادة منها، ماذا نعمل؟
قال العلماء: إمَّا أن تدفن، يذهب إلى مكان في البرية أو ما أشبه ذلك بمكان نظيف، ثم يعمَّق لها وتدفن، أو تحرق -وهذا أسهل شيء- ثم يفتت حتى يصير دخانًا، ولا يهان فيه المصحف، لأن وضع المصحف في أماكن غير طيبة لا يجوز؛ بل حتى مجرد وضع المصحف على الأرض العلماء أنكروه، والله عز وجل يقول: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ [عبس13 - 14]، أي: مرفوعة رفعًا حسيًّا ومعنويًّا.
إذًا؛ عثمان -رضي الله عنه- أحرق المصحف لئلا يهان، يعني الناس ما يستفيدون منه لأنه وحَّد الناس على لغة واحدة.
يقول علي- رضي الله عنه: "إن ذلك عن ملأ منَّا" أي: ممالأة، يعني اتفاق منَّا، فلا يُعَب عثمان- رضي الله عنه-، لأن علي- رضي الله عنه- يرد أيضا على الخوارج الذين خرجوا على عثمان- رضي الله عنه- وقتلوه، وكان -كما تقدم الكلام- أنهم عدوه من المثالب، قالوا: كيف تحرق المصاحف؟!
نقول: هل أنتم بأعلم من صحابة النبي ؟ هل أنتم أشهد تعظيما للقرآن والمصاحف من الصحابة؟ قطعًا لا، لكنهم يريدون الخروج فيبحثوا عن أعذار لهم.
{أحسن الله لكم.
قال -رحمه الله: (والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر رضي الله عنهما أن الغرض من جمعه في عهد أبي بكر الله عنه تقييد القرآن كله مجموعا في مصحف، حتى لا يضيع منه شيء دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد؛ وذلك أنه لم يظهر أثر لاختلاف قراءاتهم يدعو إلى حملهم على الاجتماع على مصحف واحد.
وأما الغرض من جمعه في عهد عثمان -رضي الله عنه- فهو تقييد القرآن كله مجموعا في مصحف واحد، يحمل الناس على الاجتماع عليه لظهور الأثر المخيف باختلاف القراءات.
وقد ظهرت نتائج هذا الجمع حيث حصلت به المصلحة العظمى للمسلمين من اجتماع الأمة، واتفاق الكلمة، وحلول الألفة، واندفعت به مفسدة كبرى من تفرق الأمة، واختلاف الكلمة، وفشو البغضاء، والعداوة.
وقد بقي على ما كان عليه حتى الآن متفقا عليه بين المسلمين متواترا بينهم، يتلقاه الصغير عن الكبير، لم تعبث به أيدي المفسدين، ولم تطمسه أهواء الزائغين. فلله الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين)
}.
ذكر شيخنا -رحمه الله- في هذه القطعة من كلامه الغرض من جمع في عهد بكر صديق وفي عهد عثمان، والفرق بينهما، وأنه في عهد بكر- رضي الله عنه- الغرض هو جمع في مكانه واحد لأنه يضيع، لأنه قتل الكثير من الحفاظ، وأما الغرض من جمعه في عهد عثمان- رضي الله عنه- فهو جمع الناس على قراءة واحدة لأنهم يختلفون، وقد حصل ذلك والحمد لله.
{قال -رحمه الله: (التفسير لغة: من الفسر، وهو: الكشف عن المغطى.
وفي الاصطلاح. بيان معاني القرآن الكريم.
وتعلم التفسير واجب لقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29] ولقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
وجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى بين أن الحكمة من إنزال هذا القرآن المبارك؛ أن يتدبر الناس آياته، ويتعظوا بما فيها.
والتدبر هو التأمل في الألفاظ للوصول إلى معانيها، فإذا لم يكن ذلك، فاتت الحكمة من إنزال القرآن، وصار مجرد ألفاظ لا تأثير لها.
ولأنه لا يمكن الاتعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه.
ووجه الدلالة من الآية الثانية أن الله تعالى وبخ أولئك الذين لا يتدبرون القرآن، وأشار إلى أن ذلك من الإقفال على قلوبهم، وعدم وصول الخير إليها)
}.
هذا أيضا مبحثا بحث علم أصول التفسير، وهو معرفة التفسير، ثم أيضا سوف تأتى طرق التفسير.
إذًا؛ التفسير معناه: مأخوذ من الفسر وهو الكشف عن المغطى، والتفسير معناه: التوضيح والتبين.
واصطلاحًا: فهو بيان معاني كلام الله -عز وجل- للقرآن.
ثم ذكر حكم التفسير: وأنه واجب على الأمة، ويجب منه ما لا يقوم دين الإنسان إلا به.
ثم ذكر آيتين، وذكر وجه الدلالة منهما:
أما الآية الأولى فيقول الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
وجه الدلالة من الآية: أن الله -عز وجل- بين الحكمة من إنزال القرآن هو التدبر من أجل التذكر، والتدبر معناه: التأمل والتفكر، وهذا هو التفسير، ولو أنه لم يتدبر لفاتت الحكمة من إنزال القرآن. ما هي الفائدة من أن نقرأ القرآن دون أن نفهمه!
الآية الثانية قال الله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، هذه الآية فيها استفهام توبيخي وتقريعي لمن لا يتدبر القرآن، يعني: هلَّا تدبر القرآن أم أن قلوبهم مقفولة مغلقة؟!
وأيضًا من الآيات إنكار الله -عز وجل- على أهل الكتاب في قوله سبحانه: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 78]، فلو لم نعرف كلام ربنا صرنا مثلهم ولكن مذمومون.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وكان سلف الأمة على تلك الطريقة الواجبة، يتعلمون القرآن ألفاظه ومعانيه؛ لأنهم بذلك يتمكنون من العمل بالقرآن على مراد الله به فإن العمل بما لا يعرف معناه غير ممكن.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذي كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا)
}.
هذه طريقة السلف من الصحابة -رضي الله عنهم- ومَن تبعهم من التابعين وتابعي التابعين إلى عصرنا هذا، أنهم كانوا يتعلمون القرآن ويتعلمون ألفاظه ومعانيه، يعني قراءته ومعنى ما يقرأ.
يقول أبو عبد الرحمن السلمي وهو من التابعين الأجلاء -رضي الله عنه ورحمه- قال: "حدثنا الذي كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا".
إذًا؛ فيأخذون العشر آيات ويتدبرونها ويتأملونها، فيعملون بها ثم يأخذون ما بعدها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحونه فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم)}.
هذا الكلام من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- قاله في قدمة التفسير، وذكر أيضا عن ابن عمر أنهم فعلوا.
يقول: (والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب)، معنى الفن: النوع.
يقول: جرت عادة الناس -يعني من القديم- أن يقرؤوا كتابًا في فنٍّ من الفنون أن يفهموه، لأن ما الفائدة أن أقرأ في كتاب في الطب وما أفهمه؟! أو في الرياضة وما أفهمه؟!
يقول: (كالطب والحساب ولا يستشرحونه)، يقول: ما جرت العادة هكذا؟!
يقول: (فكيف بكلام الله تعالى)، يعني: القرآن. قال: (الذي عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم)، هل يحسن أن يتركوا القرآن لا يستشرح ولا يفسر ولا يفهم معناه؟ قطعًا لا.
إذًا؛ فمعرفة معانى القرآن وتفسير القرآن مهم جدًا، وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في مقدمة التفسير عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا"، ومعنى "قرأ" أي حفظ، فليس المعنى أنه حفظ حروفها فقط، لا؛ وإنما حفظها حروفًا ومعانٍ.
يقولون: مكث ابن عمر -رضي الله عنهما- عدة سنين في البقرة -قيل: ثمان سنين- في سورة البقرة يقرؤها ويحفظها، هل ابن عمر ما يقدر يحفظ سورة البقرة في شهر؟! بعض الطلبة ربما يحفظها في أسبوع، ولكن ما كان يحفظها حفظًا مجردًا، ولكن كان يحفظها ويتأمل معانيها.

{قال -رحمه الله: (ويجب على أهل العلم أن يبينوه للناس عن طريق الكتابة أو المشافهة لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: الآية 187]، وتبيين الكتاب للناس شامل لتبيين ألفاظه ومعانيه، فيكون تفسير القرآن، مما أخذ الله العهد على أهل العلم ببيانه)}.
الله أكبر! هذا الأمر عجيب جدًّا ينبغي أن نهتم به، طالب العلم -والعلماء يعرفون ما يفعلون- لكن طلاب العلم يعتنون بالتفسير ومع الأسف أن العناية بالتفسير قليلة! حتى أذكر
أيام شيخنا -رحمه الله- ابن عثيمين، كان شيخنا عنده سبعة أيام: يومان للتفسير، ويومان للحديث -بلوغ المرام- ويومان لزاد المستنقع، ويوم للبخاري المسلم؛ فكان الطلاب أكثر ما يكونون في الزاد، بعده البلوغ، أقل ما يكون في التفسير، هذا أمر يؤسف له! هذا من الشيطان! لا شك في أن الفقه مهم والحديث مهم لكن الأهم منها التفسير.
على كل حال؛ هذا أمر يجب العناية به، فعلى الناس أن يبينوا التفسير للناس، ولو أن أئمة المساجد -وفقهم عز وجل- يقرءون على الناس ولو آية أو آيتين من قصار السور، ويقرأ من تفسير ابن السعدي، ولو حضرها قليلا أو حتى ما حضَّر، بعضهم يقول: ما عندي وقت! والله عندك وقت لكن مع الأسف ما فيه اهتمام! نقول: يكفي أن تقرأ من تفسير ابن السعدي للناس، ثم اسبق ذلك بقراءة بحيث إنك تصحح قرأتك أنت، لا تقف قدام العوام وتغلط! الناس يملون منك! بل أنت تمل أيضًا وتقول لن أقرأ! يكفي أني إمام!
ووزارة الشؤون الإسلامية -جزاهم الله وخيرا- كلفوا أئمة المساجد بتعليم الناس الأصول الثلاثة، كتاب التوحيد، رياض الصالحين، فضل الإسلام؛ كتب ينبغي لأصحاب الفضيلة أئمة المساجد أن يقرؤوها على الناس، إن استطاعوا الشرح والتبيين ولو يسير أو على الأقل أن يقرؤها، وأعظم من ذلك وأهم من ذلك القرآن.
{قال -رحمه الله: (والغرض من تعلم التفسير هو الوصول إلى الغايات الحميدة والثمرات الجليلة، وهي التصديق بأخباره والانتفاع بها وتطبيق أحكامه على الوجه الذي أراده الله؛ ليعبد الله بها على بصيرة)}.
هذا الغرض من تعلم التفسير: أن نعرف معاني كلام الله- عز وجل- ونعمل به، فهذا أمر مهم جدا، يقول شيخنا -رحمه الله: (من أجل الغاية الحميدة للقرآن وهي تصديق أخباره والعمل بأحكامه على وجه الذي أراد الله- عز وجل- لنعبد الله- عز وجل- على بصيرة).
{قال -رحمه الله: (الواجب على المسلم في تفسير القرآن.
الواجب على المسلم في تفسير القرآن أن يشعر نفسه حين يفسر القرآن بأنه مترجم عن الله تعالى، شاهد عليه بما أراد من كلامه فيكون معظما لهذه الشهادة خائفا من أن يقول على الله بلا علم، فيقع فيما حرم الله، فيخزى بذلك يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: 60])
}.
الله المستعان! يقول شيخنا -رحمه الله: (الواجب على المسلم في تفسير القرآن أن يشعر نفسه حين يفسر القرآن بأنه مترجم عن الله تعالى)، المترجم: هو الذي يبلغ الكلام.
ومعنى الترجمة في عهد السلف: يُقال "كان بعض التابعين يترجم بين يدي ابن عباس" يعني: يبلغ وينقل الكلام.
وأيضا الترجمة تُطلق على نقل الكلام بلغة أخرى.
لكن المراد هنا من كلام شيخنا -رحمه الله: أنه ينقل كلام الله للناس، ويبين للناس، فأنت حينما تتكلم في التفسير أنت تبين كلام الله- عز وجل-، ولذلك لا بد أن تعظم هذا الشأن، ولا تتكلم في القرآن إلا بالعلم، وذلك عن طريق دراسته من كتب التفسير المعتمدة كتفسير ابن سعدي، وتفسير بن كثير، وتفسير ابن جرير وهذا كبير جدا، وهنالك التفسير الميسر، وذلك مما ينبغي العناية به في هذا الوقت ثلاثة كتب: تفسير الشيخ ابن السعدي، وتفسير ابن كثير، وهنالك مختصر لابن كثير مفيد جدًّا وهو كتاب عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر المصري -رحمه الله- وهو توفي، وهو مطبوع الآن بحمد لله، وهو تفسير جيد جدا، أعني بذلك اختصار جيد، لأنه حذف الأسانيد وحذف الإسرائيليات، ثم أبقى على كلام ابن كثير نفسه.
التفسير الثالث الذي أنصح به: التفسير الميسر، وهو الذي -كما أشرنا- قد خرج مطبعة الملك فهد -رحمه الله- لأنه تفسيره اجتمع عليه عدة علماء، وكان يشرف عليهم الشيخ الفاضل/ عبد العزيز بن صالح آل الشيخ -حفظه الله- وخرجت أول طبعة عام 1415ه، ثم نشر في العالم، وطلب من العلماء أن يبدوا ملاحظات، ثم توقفت طباعته تقريبا خمسة عشر سنة، ولا شك أن أهل العلم قرؤوا وأبدوا ملاحظات ليست بتلك الكثرة، لكن أذكر منها أنهم كانوا مثلًا في تفسير قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِي﴾ كانت في الطبعة الأولى: "يا محمد"، لكن بعد ذلك قالوا: "يا أيها الرسول" لأنها أجل وأحسن من قول "يا محمد"، ثم طبع تقريبا من عام 1431هـ إلى الآن الحمد لله وهو يُطبع، ثم صار ترجم بلغات كثيرة جدا، فهو هو تفسير محرَّر، أي: معتنًى به، وقد اعتمدوا على ابن السعدي وابن كثير وابن جرير في جُلِّه ومَن يعرف التفاسير هذه يعرف ذلك، حتى أنهم حيانا ينقلون الكلام بنصه إما من كثير أو من تفسير ابن سعدي -عليه رحمة الله.
فالمقصود: أنه كتاب وإن كان مختصرًا إلا أنه كتابٌ محررٌ موثوق.
ثم ذكر شيخنا -رحمه الله- آيتين في تحريم أن يتكلم الإنسان في التفسير بغير علم فذكر آية الأعراف، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
قال ابن القيم -رحمه الله: "إن الله- عز وجل- ذكر المحرمات بالتدرج من الأدنى إلى الأعلى"؛ فأولها: الفواحش -ومنها الزنا عافانا الله وإياكم- والإثم -وهو أن يفعل الإنسان محرمًا غير الفواحش، مثل الربا- والبغي -وهو التعدي على الناس- والمرتبة التي بعدها في عظم الذنب: الشرك، وأعظم من ذلك: أن تقول على الله ما لا تعلم، فهذا أمر عظيم، ولذلك ما يفتي عن جهل إلا جاهل، أما العلماء فتجدهم يعظمون الفتوى، ويعظمون الكلام في الدين، حتى قال بعض السلف: "أدركت من كان يُسأل ويرعُد" يُستفتى ومن شد تعظيمه للفتوى والقول على الله بغير علم كان يرعد، وبعض الناس الآن ربما وهو يشرب شاهي ويتكلم في الجوال وهو يفتي ويقول: حلال وحرام! هذا خطأ! كان الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- هو شيخ المشايخ ما كان يفتي وهو يمشي، كان إذا استفتي يجلس، وكان يُستفتَى فربما جلس في السؤال يومين أو ثلاثة أو أربعة ورد السائل، مع أنه شيخ الشيوخ -عليه رحمة الله.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: 60]، ومن قال الله بغير علم فقد كذب على الله- عز وجل.
إذًا؛ فهذا شأن التفسير، شأنه عظيم، والذي أوصي نفسي به وإخواني من طلاب العلم ولا سيما من أعطاه الله شيئًا من العلم وتعلَّم عند الشيوخ وتعلَّم في الجامعات وكان لهم حظ من العلم أن
يعتني بالتفسير أو أن يهتم به اهتمامًا بالغًا، وأن يعلم أن كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا، وأن القرآن مبارك في تلاوة وفي سماعه وفي تدبره وفي تعليم الناس ليه، فيعتني بالتفسير، ثم يضبط التفسير، وطريقة الضبط فيما أرى -والله أعلم: أن الإنسان يعتمد كتابًا للتفسير، وليكن هذا الكتاب يتميز بميزتين: من حيث هو، ومن حيث طباعته.
أما مع حيث هو: فقد ذكرت ثلاثة تفسيرات: ابن السعدي، ابن كثير ومختصره "العمدة" لأحمد شاكر، والتفسير الميسر؛ فيكون أحدها أصلا وليكن ابن سعدي أو ابن كثير.
ومن حيث الطباعة: بحيث يكون فيه حواشي واضحة، فبعض التفاسير تجده مزحوم ما تجحد تعليق عليه.
ثم يتأمل الإنسان الآيات أولًا، ولنقل مثلًا سورة الكوثر، فيقرأ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [سورة الكوثر]، مَن المخاطب هنا؟ وما هو الكوثر؟ هل هو القرآن؟ ما معنى انحر؟ ما هو الذبح؟ وكيف يذبح؟ ما معنى شانئك؟ وما هو الأبتر؟ يناقش نفسه؛ فقد يعرف المعنى وقد لا يعرف، ولكن هنا حرك ذهنه، ثم يقرأ في التفسير الذي قلنا أنه يعتمده ولنقل ابن السعدي، فيقرأ ويجعل معه القلم الفسفوري الأصفر، وقلم آخر ملون أحمر أو أزرق، هذه الأقلام تجعل العلم عندك يتمحَّص، ثم يلاحظ المعاني ابتداءً، ويضبط التفسير الأصلي، ثم يأخذ التفسير الثاني، ولنقل التفسير الميسر فيقرأه، فربما وجد نفس المعنى والتفسير، وربما وجد زيادة فيقيدها جنب الآية، ثم يأخذ أيضا تفسير عمدة ابن كثير
وأنا خترت العمدة لأمرين:
أولًا: لئلا يمل الإنسان من الطول.
ثانيًا: ولأنه من عالم معتمَد وهو الشيخ أحمد شاكر، فهو من العلماء الموثوقين، وأيضًا محدث.
وأنبه على مسألة! أنه قد قيل إن أحمد شاكر -رحمه الله- إنما اختصر تفسير ابن
كثير إلى سورة يونس، وبعدها اختصره غيره، لكني فيما أرى أنه إما أنه هو الذي انتهى منه، أو جاء بعده مَن كان مثله في الاختصار وبحمد الله قرأناه كله عندنا في الدروس فلم أجد إلا فرقًا يسيرًا، والفرق الذي وجدته: أن تخريج الأحاديث إلى سورة يونس يعلق عليها أحمد شاكر ويحكم عليها لأنه محدث، ما بعد ذلك ينقل أحكام الألباني -رحمه الله- أو غيره من العلماء، لكن مع ذلك طريقة الاختصار هي نفسها، حذف الأشياء الزائد والأسانيد، لأن ابن كثير -رحمه الله- كان يذكر الأسانيد عن أحمد وعن أبي داود وعن البخاري مسلم، ويظهر أن هذا من حفظ ابن كثير -رحمه الله- فهو عالم، وأكثر ما يذكر عن مسند أحمد، فأحمد شاكر حذف هذا، أيضًا حذف الإسرائيليات، وربما حذف بعض التكرار، لكن بقي تفسير كلام ابن كثير نفسه.
المرحلة الثالثة إذًا؛ يقرأ في هذا الكتاب "عمدة التفسير" ثم أيضا يخطط ويلخص ويرقِّم، ثم ينقل القائد الزائدة على تفسير ابن السعدي، بهذا ينتفع انتفاعًا كبيرًا، ثم حينما يلقى الدرس يعيد فيقرأ ويضبط التفسير الأصلي لابن السعدي وما علق من حواشٍ ثم يلقي، ولو أنه ألقاه على نفسه قبل أن يلقيه في الدروس لانتفع أيضًا وضبط علمه، ومع الأيام والليالي يحصل الإنسان للعلم.
إذًا؛ فينبغي لنا تعليم الناس، فإن كان الإنسان عنده مفسوح في الدروس الحمد لله أو كان إمام مسجد فإنه يدرس أو في المدارس، أو الآن في اجتماعات الأهل والعوائل أو في الاستراحات أو في البيوت يعلم الناس التفسير، يشرح لهم الفاتحة، يشرح آية الكرسي، يشرح القصار المفصل، وربما فعل ذلك في بيته. والله المستعان، ونسأل الله -عز وجل- أن يعننا وإياكم على كل خير الله.
{بهذا نكون وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، إلى الحلقة القادمة نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ