الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي

إحصائية السلسلة

7657 12
الدرس الحادي عشر

أصول التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
أهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة نستكمل فيها معكم التعليق على متن "أصول في التفسير" مع ضيفنا فضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيّاكم الله، وحيّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، والطلاب والطالبات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{تفضل فضيلة الشيخ}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ، فقد تقدم في الدرس الماضي باب وفصل عقده الشيخ -رحمه الله- في قصص القرآن، وعرَّف الشيخ -رحمه الله- القصص، ثم ذكر أنواع القصص في القرآن، وأنها لأمم وقد تكون لأشخاص، ثم انتهينا في الدرس بالإسرائيليات وتقسيم العلماء لها.
وذكرنا في الدرس الماضي أننا سنطبق في هذا الدرس استنباطًا لبعض الفوائد والحكم من قصة موسى والخضر -عليهما السلام- في سورة الكهف، وسيقرأها الابن عبد الله، ثم نرجع -إن شاء الله تعالى- آية آية، ونفسر منها ما تيسر، ثم نأخذ منها شيئًا من العبر. تفضل يا عبد الله.
{﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف:60-82]}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد، فإنَّ هذه القصة التي ذكرها الله -عز وجل- في سورة الكهف، والتي تتكرر كل جمعة يقرأها المسلمون، ثلاث وعشرون آية فيها قصة من قصص هذا النبي الكريم، موسى بن عمران -عليه السلام-، وسنمر على هذه القصة آية آية. أعد فضلًا.
{﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾}.
قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ﴾ هذا ظرف لِمَا مضى من الزمان، أي: اذكر حين قال موسى، وهو موسى بن عمران، أخو هارون -عليهما السلام-، نبي الله الكريم، بل أفضل أنبياء بني إسرائيل، وثالث أولي العزم من الرسل.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ﴾، وفتاهُ هذا هو يوشع بن نون، الذي صار نبيًا بعد موسى -عليه السلام-، وكان يتبعه ويخدمه ويتعلم منه.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ﴾ أي: لن أزال؛ لأنَّ أبرح من أفعال الاستمرار، فالمعنى: لن أزال مستمرًا سائرًا ﴿حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾ يعني: حتى أصل إلى ملتقى البحرين، ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ يعني: أو أمضي أزمانًا مستمرة حتى أبلغ ذلك.
وأصل هذه القصة أنَّ موسى بن عمران -عليه السلام- قام خطيبًا في بني إسرائيل، فوعظهم حتى آلان القلوب، وأبكى العيون، وخشع الناس، ثم نزل -عليه السلام- فلحقه أحد أتباعه من بني إسرائيل، وقال: يا نبي الله هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ لأنه أُعجب بعلمه، فتفكر موسى -عليه السلام- ولم يكن يعلم أحدًا أعلم منه، فقال: لا.
فأوحى الله -عز وجل- إليه مُعاتبا له، وبين أنَّ عبدًا من عباده -سبحانه- عنده علم ليس عنده، وكان الواجب على موسى -عليه السلام- أن يقول: لا أدري، أو لا أعلم؛ لأن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:76]، فأوحى الله -عز وجل- إليه أن عبدًا من عبادي عنده علم ليس عندك، فموسى -عليه السلام- من حرصه على العلم وعلى تحصيله، قال: وكيف لي السبيل إليه يا رب؟
فأوحى الله -عز وجل- إليه أن خذ مكتلا في حوت ثم اركب البحر، فإذا أضعت الحوت عند مجمع البحرين فثم الرجل، أي: فستجد الرجل، ولهذا قال ما قال لفتاه، قال: ﴿لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ لأن الله -عز وجل- قال: إن هذا الرجل ستجده في مجمع البحرين حينما تضيع الحوت.
{﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾}.
هذه القصة جاءت في القرآن كما نرى، وجاءت أيضا في الصحيحين، في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيرهما مفصلة، وذكر فيها اسم هذا الرجل الذي لقيه موسى، وهو: "الخَضِر" بالتعريف أو "خَضِرًا" بدون الألف واللام.
وسمي الخضر -قالوا-: لأنه كان في أرض جرداء، أي أن الزرع فيها كان هشيمًا، ثم نزل ثم نام فيها ثم صارت خضراء، وهذه من كرامات الله -عز وجل- للأولياء.
ونحن أهل السنة نقر بكرامات الأولياء، أو أن هذا الرجل كان نبيًا، على خلاف وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ يعني: أخذ مكتلا، والمكتل هو الإناء المصنوع من سعف النخل، الزنبيل أو الزبيل، كما يسميه بعضهم.
فأخذ هذا المكتل وجعل فيه الحوت، والحوت سمكه، ثم ركبوا في قارب وساروا حتى بلغ مجمع البحرين، وموسى -عليه السلام- إما أنه لم ينتبه لهذا المجمع، أو أنه بلغ المجمع وسار فيه حتى يبحث عن الرجل.
﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ وذلك أنهما ناما في بعض الطريق، فهما صارا مدة أو أيامًا أو ليالي، فناما في مكان، وموسى -عليه السلام- نام والحوت موجود، ويوشع بن نون -عليه السلام- كان مستيقظًا، فأصاب الحوت ماء من البحر، قالوا: عين في البحر، فأصاب هذا الحوت ماءً فصار حيًا، ثم نزل فشق البحر، ولذلك قال: ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ والسرب هو الشق في البحر، وهو المكان الذي يُسار فيه.
وقال أهل العلم: إنَّ هذا الحوت فيه ثلاث آيات:
أولًا: أنه كان ميتًا، يأكل موسى -عليه السلام- منه هو وغلامه، وميتة البحر حلال، قال : «أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ، فأمَّا الميتَتانِ فالحوتُ والجرادُ، وأمَّا الدَّمانِ فالكبِدُ والطِّحالُ»[1].
الآية الثانية: أنه أصابه الماء فصار حيًا، والله -عز وجل- يحي الموتى بسبب وبدون سبب، ولكن هذا بسبب أنَّ أصابه ماء من عين في البحر.
الآية الثالثة: أنه حينما نزل شق البحر ولم يلتئم، الآن العادة أن الماء إذا سار فيه مثل: القارب أو السفينة، وخاصة إذا كان يسير بسرعة فإن البحر ينشق، ولكن بعد قليل يلتئم ويرجع، بينما الرمل مثلًا لو مشت فيه سيارة أو لو قمت بيدك وخطيت على الرمل ماذا يحدث؟
يبقى الأثر ليوم أو يومين، ولو جاءت رياح يمكن أن يندفن بعد قليل، وأما البحر فإنه يرجع مباشرة، ولكن هذا لم يلتئم، ولذلك قال: ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾.
{﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا﴾}.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا﴾ أي: سارا وجاوزا المكان الذي فيه الرجل، ولم يوقظ يوشع بن نون -عليه السلام- موسى ولم يخبره لئلا يُزعجه، وهذا من أدبه مع نبي الله الكريم، فأراد أن يتركه حتى إذا استيقظ أخبره بالحوت فنسي.
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا﴾ المكان لقي موسى التعب. يقول الشيخ العثيمين -رحمه الله- في تفسيره لهذه السورة: إن موسى -عليه السلام- لم يشعر بالتعب حتى جاوز المكان، وهذا من آيات الله، من أجل أن يرجع، وألا يبعد عن المكان الذي فيه الرجل فيه.
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا﴾ يعني أعطنا الأكل أو الطعام، وكانا يأكلان من الحوت! فتذكر يوشع بن نون أن الحوت الذي كانا يأكلان منه أنه نزل.
قال موسى -عليه السلام-: ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا﴾، وفي هذا أنَّ الإنسان إذا اشتكى من التعب فلا بأس في ذلك، ولا يعد هذا من الاعتراض على القضاء والقدر، وإنما هذا من الاخبار بالحال.
{﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾}.
قوله: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ أي هل تذكر يوم ﴿أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ ونمنا عندها، ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ أي لما نام موسى -عليه السلام- رأى يوشع بن نون الحوت، قال: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ يعني: نسيت أن أخبرك أنه نزل، وليس المعنى أنه وضع الحوت فوق الصخرة وتركه.
﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾ وفي هذا أن الشيطان كان سبب النسيان.
﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ وكان يوشع -عليه السلام- قد أراد أن لا يُزعج موسى من نومه، وقال سبحانه: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ هذه الآية يخبرنا الله فيها عن يوشع ماذا قال؟
قال: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ هذا كلام يوشع، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ يعني: الحوت صار عجبًا لموسى وفتاه؛ لأنه صار سَرَبًا، فالحوت اتخذ سَرَبًا، وصار هذا السَرَبُ عَجَبًا لموسى وفتاه، لأنه تعجب كيف أنه لم يرجع.
{﴿قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾}.
كان يوشع -عليه السلام- يلوم نفسه أنه لم يخبر موسى بما صار، وموسى فرح لكون هذه هي العلامة التي جعلها الله -عز وجل- له للقاء الرجل الذي عنده علم ليس عند موسى.
﴿قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾، و "نبغ" هنا أصلها نبغي، وحُذفت الياء تخفيفًا، والياء أو حرف العلة قد يُحذف تخفيفًا، وقد يُحذف لعامل، مثل: "المؤمن لم يمش في الشر"، فأصلها "يمشي"، فلما جاءت "لم" جزمتها، وعلامة جزم المُعتل: "حذف حرف العلة". بينما هنا لا يوجد حرف جزم.
﴿قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ يعني: نبغي. ﴿فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ يعني: رجع مرة ثانية يقص الأثر. ولكن هنا إشكال، كيف يقصان الأثر؟ هل أثرهم في البحر باقٍ؟ يعني هل أثر موسى في البحر باق؟ الجواب: لا. إذن كيف يقصان الأثر؟
نقول: ألا تعلم أن أهل البحر يقصون الأثار في البحر كما يقص الناس الأثار في البر، هذا من العجائب! يعني: المستمر في ركوب البحار يعرفها كما يعرف الأرض، وقد ذكروا العجب عن أهل البحار، فالبحار كما ترى أطول من اليابسة بأضعاف، حتى قال العلماء -علماء الجيولوجيا-: إن اليابسة ثلث البحر، يعني: الأرض اليابسة تعادل 29% من مساحة الأرض، والبحار تعادل 71%، أي أنها أكثر من الثلثين، فالبحار عجيبة، ومع ذلك كنا يسافرون فيها الأيام والليالي بل والشهور، والله -عز وجل- جعل لهم قدرة على معرفة البحار، حتى إنهم يعرفون هذا البحر أين؟
ومن الطرائف التي سمعتها من شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- أنه قال: رجل أعمى ولكنه كان يعرف البحر بسبب استمراه وخبرته فيه، فكان يسافر مع الناس، وإذا ضاعوا قال: ما عليكم ما عليكم، فقد أريد من ينزل في الأرض ويأتيني بتراب البحر، فكان إذا أمسك التراب بيديه قال: اجعلوني عند حافة القارب، ويبدأ بمسك البحر بيده، ثم يقول: أنت في المكان الفلاني ووجهتكم في اتجاه كذا.
فعل الرجل ذلك مرة واثنتين وثلاثة حتى ظن الناس أنَّ له تعامل بالجن أو غير ذلك، فاتفقوا فيما بينهم على اختباره، فأنزلوا رجلا منهم وأحضر من تراب البحر ثم مشوا يومًا كاملا في الماء، ثم نادوا عليه وقالوا: لقد ضللنا الطريق يا فلان! فقال لهم كعادته: لا تخافوا، لينزل أحدكم ويأتي بتراب البحر.
فقام أحدهما بالغطس في الماء ثم عاد، ووضعوا للرجل في يديه من التراب الذي جلبوه من قاع البحر قبل يوم أو يومين.
فأمسك الرجل التراب بيديه ثم أمسك الماء بيده الأخرى ثم قال: التراب للمنطقة الفلانية، وأما الماء فهو لمنطقة مختلفة عن التراب.
فأقر القوم وقالوا: هذا التراب أتينا به من منطقة كذا لأجل أن نختبرك!
فانظر إلى هذا الأعمى، ومع ذلك عن طريق اللمس يعرف، فقوله سبحانه: ﴿فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ يعني في البحر يعرفون مكانهم، فلا غرابة.
{﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾}.
رجعا حتى نهاية المكان الذي ضاع فيه الحوت ثم تبعوه أي: الحوت؛ لأن الحوت شق البحر، وماء البحر لم يلتئم فلحقوه، حتى وجدا رجلا على صخرة، يعني: جالسًا على صخرة في البحر، وهذا موجود كثير، وجاء في الحديث أنَّ الرجل كان قد وضع الغطاء عليه وكان نائمًا.
فوقف موسى وَفَتَاهُ عنده، فَسَلَّمَ موسى عليه قائلًا: السلام عليكم. فكشف الخضر عن وجهه وقال: وأنى بأرضك السلام؟! ويظهر أن البلد هناك كانت لكفار فكيف يسلمون؟ هذا مؤمن بل قد يكون نبيًا، فقال: وأنى بأرضك السلام؟ ثم قال: من أنت؟ قال: أنا موسى. فقال الخضر: موسى بن عمران؟! قال: نعم. فحياه.
قال الله -عز وجل- قبلها: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي: عبدًا مؤمنًا صالحًا، ﴿عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ أي أنَّ الله -عز وجل- قد رَحِمَه، ما هي الرحمة التي أتاه الله؟
نقول: الله تعالى أعلم، ولكن منها: الإيمان، والعمل الصالح.
قال: ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ أي أنَّ الله -عز وجل- أعطاه علما من عنده، فقوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ يعني: علمًا من عندنا أوحاه الله -عز وجل- إليه، أو تعلمه عن طريق نبي من الأنبياء، المقصود أنه تعلم علمه من الله -عز وجل-.
وليس قوله: ﴿مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ من باب ما يسميه بعض الناس "العلم اللدني"، وهذه مسألة مهمة، وأخشى أني ما أرجع إليها فأبيّنها الآن.
أقول: إن أهل البدع قد اتخذوا من قصة الخضر -عليه السلام- أو رضي الله عنه، إذا قلنا: إنه نبي فنقول: عليه السلام، وإذا قلنا: إنه رجل صالح فنقول: رضي الله عنه وأرضاه، ويجوز حتى أن نقول: عليه السلام حتى وإن كان رجلًا صالحًا، ولكن ما يتخذ هذا الدعاء إلا علامة للأنبياء، والترضي للصحابة، وكذلك أتباع الأنبياء، والترحم على من بعدهم.
وهذا الرجل قد اختلف العلماء فيه، هل كان نبيًا أم كان رجلا صالحًا؟ على قولين، فمن العلماء من قال: إنه نبي، واستدلّ بنحو هذه الآية، قال سبحانه: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ إذ العلم مِنَ اللَّهِ -عز وجل-، وهذا وحي فلا يأتي الوحي إلا للأنبياء، وأيضًا في قوله في آخر السورة: ﴿وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِي﴾ يعني: من الله -عز وجل-، إنما أوحى الله -عز وجل- إليه، وممن قال بهذا القول: الشيخ ابن باز -رحمه الله- وعلماء اللجنة الدائمة في المملكة، حيث قالوا: هو نبي من أنبياء الله -عز وجل- وعليه فلا تعلق لأهل البدع به.
والقول الثاني: أنه رجل صالح وليس بنبي، رجل صالح أتاه العلم، والله أعلم كيف أوحى الله -عز وجل- إليه بهذا العلم؟! وكيف حصل هذا العلم؟! وممن قال بهذا القول شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-، والشيخ ابن سعدي -رحمه الله-.
إذن المسألة فيها خلاف، فمن قال: إنه نبي فلا غرابة، ومن قال: إنه رجل صالح فلا غرابة.
ولكن الإشكال أنَّ أهل البدع ولا سيما ممن يقولون إنه ليس نبيًا، وإنما هو ولي من الأولياء، قد اتخذوا هذا القول وبنوا عليه أشياء عجيبة، منها أنهم قالوا:
أولًا: الأولياء أفضل من الأنبياء وأعلم منهم! فإن قلنا كيف؟ قالوا: إن موسى -عليه السلام- حينما خطب في بني إسرائيل، فقال له أحد أتباعه هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه بوجود عبدٍ من عباده سبحانه هو أعلم منك، أو قال: عنده علم ليس عندك.
قالوا: إذن الأولياء أفضل من الأنبياء؛ لأنهم أعلم منهم.
وقالوا كذلك: والأولياء أيضًا أفضل من الرسل، حتى قال قائلهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول وتحت النبي
أي يقولون: إن طبقات الناس عبارة عن: رسول، ثم نبي، ثم ولي، فالرسول بالأسفل لأنه خادم يقوم بتبليغ الرسالة.
نقول: وَنِعْمَ الخدمة، وأي خدمة أشرف من تبليغ رسالة الله.
إذن قالوا: الرسول بالأسفل، ثم فويق مرتبة الرسول تجد مرتبة النبوة، أي أنَّ مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الرسول بقليل، ثم فوق هاتين المرتبتين تحت مرتبة الولي.
ثم قالوا: الأولياء عندهم علم لدني، فإن قلنا من أين أتيتم بهذا؟ قالوا: من قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾!
نقول: دعونا نسلم لكم في العلم اللدني، فهذا الخضر عنده علم لدني وعرفناه من القرآن على التسليم لكم بالعلم اللدني، أنتم من أين أتيتم بالعلم اللدني؟ تراه يقول: أنا ولي وعندي علم لدني، فنسأله من أين أتيت به؟ فهل كل من قال عندي علم لدني نسلم له؟
إذن السؤال من أين أتيتم بالعلم اللدني؟ ومن يشهد لك بذلك؟ هل يشهد لك أحد؟ إذن بطل هذا الأمر.
ثم نقول: تعال في الترتيب، من هو الولي؟ الله بيّنه في القرآن فقال سبحانه: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أكمل الآية، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ إذن هذا هو تعريف الولي الذي عرفه لنا رب العالمين، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾. إذن المؤمن التقي هو ولي.
نأتي إلى الأنبياء، هل الأنبياء مؤمنون؟ هل هم أتقياء؟ قطعًا إذن الأنبياء أولياء.
هل الرسل مؤمنون؟ هل هم أتقياء؟ نعم قطعًا، إذن فالرسل أيضًا أولياء. إذن قد بَطُلَ كلامهم.
نأتي إلى الأنبياء، متى يكون الرجل نبيًا؟ إذا جاءه الوحي من الله، وقد تقدم معنا في الدروس أن نبينا محمدًا صار نبيًا بـ "اقرأ" يعني: حينما أوحى الله إليه الخمس آيات الأول من سورة العلق صار نبيًا، وصار رسولًا بالمدثر.
إذن نقول: كل رسول نبي وولي، وكل نبي ولي. ولكن هل كل ولي نبي؟ هل كل ولي رسول؟ إذًا بَطُلَ كلامهم.
إذن لو فكروا بعقولهم وفكر أتباعهم لعرفوا أنهم مبطلون، وإنما يقولون هذا الكلام لأجل ابتزازهم، ولذلك تراهم يقولون: عندنا علم لدني، والولي أفضل من النبي، ويأتيني الوحي، وحتى أتوا بكل باطل وبكل عجيب، وادعوا علم الغيب؛ لأنهم قالوا: الخضر عنده علم الغيب، ويستشهدون -كما جاء في القصة- أنه قتل الغلام، وخرق السفينة، وبنى الجدار!
نقول: لو سلمنا هذا لكم بأن الخضر كان عنده علم الغيب، فأنتم من أين جئتم بعلم الغيب؟
إذن نقول: هذه الأباطيل رتبوها على هذا القصة وأكلوا عقول الناس بها، بل حرفوهم بل أوقعوهم في الشرك الأكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
{﴿قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾}.
لقد بحث موسى -عليه السلام- عن الخضر -عليه السلام- لأجل أن يتعلم منه، فقال موسى للخضر: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ وانظر التلطف والأدب من هذا النبي الكريم ليتعلم من هذا الرجل، قال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ فعرض عليه، يعني: ودي أتبعك، ولم يقل: تعال علمني ما عندك كم علم، فكأنه قال: هل تأذن لي أو تسمح لي أن أتبعك أو أن آتي عندك؟ وهذا من أدب طالب العلم مع شيخه.
قال: ﴿عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾ ولم يقل: أتعلم منك، فَرَدَّ الفضل له.
﴿عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ الله أكبر، ولذلك قال الخضر:
{﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾}.
فكأنه يقول: لا مانع لدي من أن أعلمك، ولكنك لن تستطيع أن تصبر معي، لماذا؟
{﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾}.
الخضر أعطاه العذر، لأن الذي سيراه منه، ليس عند موسى فيه خبر، وبالتالي فلن يصبر عليه، ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ يعني: علمًا، وبالتالي ستنكره ولن تصبر عليه، فكأنه يقول: أنت معذور فلا تجلس.
{﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾}.
أكبر الله، انظر للهمة ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ ففي هذا أولا: الهمة العالية، وثانيا: الاعتماد على الله؛ لأن الأمر أمر مستقبلي، وهذه الأمور التي يجب أن نقول فيها: إن شاء الله إذا أردنا نفعلها في المستقبل، فهنا تقول: إن شاء الله، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾، ولكن بعض الناس يقول إن شاء الله في كل شيء، فإذا قيل له: ما اسمك؟ قال: محمد إن شاء الله! نقول: هذه ليس فيها تعليق للمشيئة. فإذا قيل له: هل أنت صائم؟ قال: نعم، إن شاء الله!
نقول: هذا خطأ، لأنَّ "إن شاء الله" تكون في الأمر المستقبلي، حيث أفعل أو لا أفعل، كما لو قلت لك: لا تغب مرة أخرى، فهنا لك أن تقول: لن أغب ثانية إن شاء الله.
أو كما لو قلت لك: عليك أن تأتي غدا مبكرًا، فهنا لك أن تقول: أفعل إن شاء الله.
﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ وهذا من تسليم الطالب للمعلم.
{﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾}.
هذا شرط اشترطه الخضر على موسى -عليه السلام- قال: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ يعني: سترى أشياء تستغربها لأنه ما عندك علم فيها، فلا تسأل عنها حتى أعلمك.
هل موسى -عليه السلام- التزم بالشرط؟ الجواب: لا، لم يلتزم، فمرة نسي، ومرة استعظم الأمر، ومرة ثالثة حتى قال موسى: ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾.
{﴿فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾}.
هذه القصة فيها بعض المراحل؛ لأنه الآن أين وجده؟ وجده في البحر على صخرة، لم يذكر الله -عز وجل- ماذا صار؟ وهكذا لأنه قد جاء في الآثار أنهم مشوا على ساحل البحر فمرت سفينة فعرفوا الخضر فأركبوهما بغير أجرة، فالقرآن ما يفصل في أشياء وإنما يذكر الفائدة.
قال سبحانه: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ﴾ أي: مشيا ساحل البحر، ولاحظ أنه لم يذكر هنا يوشع، فقال: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا﴾، فإما أن موسى عليه السلام أمره أن يذهب إلى شأنه، أو أنه معهما ولكنه لَمَّا كان تابعًا لموسى ذُكِرَ معه كالواحد، وذلك في بقية القصة حيث لم يذكر مرة أخرى.
﴿حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾ كيف خرقها؟ لَمَّا أركبوا الخضر وقد عرفوه ومعه موسى ما عرفوه وما سألوا عنه، والسفينة كانت كبيرة، فنزل الخضر وموسى يتبعه ليتعلم منه، فنزلا في أسفل السفينة، ثم كان معه مثل الشاكوش، فقلع اللوح فطلع الماء فرده ثانية وجلس عليه! فقال له موسى: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ يعني: أركبونا بغير أجرة، ثم تأتي لتغرق سفينتهم، واللام في قوله: ﴿لِتُغْرِقَ﴾ للعاقبة وليست للتعليل، يعني: مصيرهم للغرق، وهذا كقوله تعالى في قصة موسى مع فرعون: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ يعني: أخذ موسى فصارت بعد ذلك العاقبة "عدوا وحزنا"، فاللام المكسورة اللاحقة للفعل قد تكون للتعليل، وقد تكون للعاقبة.
﴿قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ ما معنى إمرا؟ يعني: عظيمًا، ومنه قول أبي سفيان يوم أن كان مشركًا -رضي الله عنه- قال في قصة هرقل في صحيح البخاري: "لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة" يعني: النبي ؛ لأن ملك الروم هرقل والذي عنده خافوا منه واطردوا لما جاءت رسالة النبي أن ادخلوا في الإسلام، قال أبو سفيان لأصحابه: "لقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ"[2]، وكلمة "أَمْرُ" هنا بمعنى: شأن، وأَمِرَ يعني: عظم، فقوله سبحانه: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ أي أمرًا عظيما، وهو إغراقهم.
{﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾}.
يعني: ألم أقل لك إنك لن تصبر! فأنا اشترطت عليك أن لا تسألني عن شيء حتى أخبرك، وتأمل هنا أن اللغة فيها لطافة، وأما بعد ذلك فستجد فيها شيئًا من الشدة.
{﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾}.
موسى -عليه السلام- انتبه وقال: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾ فهذه من موسى -عليه السلام- كانت نسيانًا، وفي هذا أنَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد ينسون، بل إن النبي كم مرة سهى في الصلاة؟ حتى قال مرة لأصحابه: «إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني»، فالنبي قد ينسى، وقال العلماء: لكن ما كان من شأن النبوة والرسالة ما ينساه، يعني: تبليغ شيء أو آية ما ينساها، أو حكم ما ينساه، ولكنه قد ينسى عملا في الصلاة.
فنسى موسى الشرط، وقال: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ وهنا مبدأ الاعتذار، فالإنسان إذا أخطأ، إذا زل، إذا نسي، إذا حصل منه تقصير فليعتذر وليقل: أنا آسف سامحني، وأما أن يكابر فهذا خطأ
{﴿فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾}.
الآن نزلوا من السفينة فماذا حدث لهم بعد ذلك؟ هذا لم نعرفه الآن، قال سبحانه: ﴿فَانْطَلَقَا﴾ أي نزلا من السفينة وانطلقا في البر، ﴿حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا﴾ جاء في الأحاديث أنهما قد وجدا غلمانًا يلعبون، فعمد الخضر إلى غلام وضيء وأخذه من بيم أقرانه الصغار وقتله، ولكن جاء في الأحاديث أنه قطع رأسه، وجاء في حديث أنه حزَّ رأسه بالسكين، وجاء في حديث ثالث أنه رَضَّه، والسؤال هل في ذلك تناقض؟ لا ليس هناك تناقض، لأنه سبق معنا الاضطراب والإيهام والتناقض، ونقول: كيف نجمع بين هذه الألفاظ؟
نقول: أولًا ضربه بصخرة ثم حزه بالسكين ثم قطع رأسه، فتجتمع الأدلة، فقتله.
فقال موسى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ وهذا ليس نسيانًا، ولكن الأمر عظيم، أي أمر قتل نفس صغيرة، فهو ليس زانيًا محصنا مثلا بل كان غلاما صغيرًا، ولذلك لم تكن هذه من موسى نسيانًا.
{﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾}.
هذه فيها شدّة، بعكس المرة الأولى، ففي الأولى قال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ﴾، وفي هذه المرة قال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ﴾ فكانت هذه فيها تغليظ، ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾.
{﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾}.
هنا لم يعتذر بنسيان لأنه لم ينس، وإنما كان الأمر عظيما، ولكن كان عليه أن يلتزم الشرط، فالمسلمون على شروطهم. ثم قال موسى: ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ وإن سألتك مرة ثانية فأنت معذور.
{﴿فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾}.
هذا هو الموقف الثالث، فانطلقا حتى دخلا قرية، وكان أهل هذه القرية بخلاء، فاستطعموهما من أجل الضيافة، فأبوا وما ضيفوهما، ولَمَّا مشيا وجدا ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ يعني: كان آيلًا للسقوط، ﴿فَأَقَامَهُ﴾ وجاء في بعض الأحاديث أنه هدمه ثم أعاد بناءه مرة ثانية، وجاء أنه لفه حتى استقام، فقال موسى: لماذا لا تأخذ أجرة؟!
{﴿قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾}.
هذه هي المرة الثالثة، وأنا كنت قد أخبرتك أن لا تسألني حتى أعلمك؛ لأن قوله: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ بمثابة السؤال، والمعنى: لماذا لا تأخذ أجرًا، وهم لم يضيفونا؟ أي: هم مقصرون في حقنا وأنت بنيت الجدار ولم تأخذ أجرًا!
قال: ﴿هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ ولكن قبل أن نتفارق ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾.
{﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾}.
قال الخضر: هذه السفينة التي خرقتها كانت لمساكين، يعني: فقراء، وهذا يدل على أنَّ الفقير قد يكون عنده سيارة، أو بيتًا، ولذا فقد يقول قائل: كيف تعطون الزكاة لرجل يملك بيتًا أو سيارة أو جوالا؟ ويظن أن الفقير هو صاحب الثياب المقطعة، والذي يجلس في زاوية، وما عنده ولا شيء.
نقول: لا، هذا الفقير هو من كان كسبه ودخله ما يكفيه وعائلته، والفقراء يتفاوتون وهذا يعتبر فقيرا، فهؤلاء لهم سفينة يعملون عليها ولكنهم فقراء.
قوله: ﴿يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ في هذا جواز العمل في البحار سواء بالصيد، أو بنقل البضائع، ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ أي أجعل فيها عيبًا بسيطًا ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ﴾ أي: أمامهم، وهذا كقوله تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾.
﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ يعني: يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا أي: بالقوة. طيب هذه السفينة هل هي صالحة أو لا؟ نقول: ليست صالحة لأنها مخروقة، ولذا قال العلماء: هذا من ارتكاب المفسدة الدنيا لِتَجَنُّبَ المفسدة العليا، وهذا ينبغي أن يُطبق، والذي يُحسن تطبيقه هم العلماء، ومنه ما يفعله ولي الأمر، فولي الأمر قد يفعل أمرًا في نظر الناس مفسدة أو خطأ، ولكن يدرأ بذلك لمفسدة أعظم.
ومن ذلك مثلًا: إعطاء الكفار بعض المناصب، أو الأموال، أو صفقات تجارية، يفعل ذلك لأجل أن يتقي شرهم، ولا يجوز لعامة الناس أن يتدخلوا فيما يفعل ولي الأمر، أو ينتظرون من ولي الأمر كلما فعل شيئًا يجمعهم ليعلمهم ويقول لهم: فعلت كذا لكذا، وفعلت كذا لكذا.
ولذا ينبغي للشباب أن يستقيموا وأن يحترموا ولاة الأمر، وأن يقدروهم، وأن يعلموا أنه قد يفعل مفسدة لأجل أن يدرأ مفسدة أكبر منها. فهذا الخضر -عليه السلام- خرق السفينة، وهذه مفسدة، ولكنه فعلها لأجل أن يدرأ مفسدة أعلى منها.
{﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾}.
﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ﴾ والغلام ذكر صغير، أي ما بلغ بعد الرشد، ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ يعني: صالحين تقيين، ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾ يعني: إذا كبر يرهقهما ﴿طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ أي: يحملهما على الكفر، إما بالقوة أو بمحبته، والوالدان يحبان الولد، وكم من الآباء والأمهات يفعلون أشياء من الخطأ لأجل أولادهم، فالله -عز وجل- أعلم الخضر أنَّ هذا الغلام لو بقي سوف يُضل والديه، فإذا قتل ارتاح والديه منه، والله -عز وجل- يُبدلهما ﴿خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ يعني: زكيًا تقيًا، من الزكاء وهو الصلاح، ﴿وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ أي: أقرب رحمة لهم، وإن جاءتهم بنت مؤمنة فهي خير من هذا الغلام.
{﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾}.
أما قوله سبحانه: ﴿تَسْطِعْ﴾ يعني: تستطيع، وخُفِّفَت هنا؛ لأن الأمر صار أخف، ففي الأولى قال الخضر: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ وهنا قال: ﴿ٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ قالوا: لَمَّا كان لا يدري كان الأمر ثقيلا، ولذلك قال: ﴿تَسْتَطِعْ﴾ ولَمَّا عرف صار الأمر أخف.
إذن فالجدار كان لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحا في حياته وقد مات، فأراد الله -عز وجل- أن يكبرا ثم يأخذا كنزهما، ولو سقط الجدار لانكشف الكنز، فأخذه أهل هذه القرية، فحفظ الله -عز وجل- لهما هذا الكنز بإصلاح الجدار، وذلك بصلاح أبيهما.
إذن الخضر كان عنده هذا العلم، فأصلح الجدار بهذه الطريقة.
هذه هي القصة، وهذا شيء من مخبرها، وإني أنصحك يا عبد الله، وأنصح الإخوة المشاهدين والمشاهدات بالرجوع إلى تفسير ابن سعدي -رحمه الله- فإنه يذكر عبرًا جميلة جدا في طلب العلم خاصة، وببعض الأحكام اللطيفة الجميلة، والله تعالى أعلم.
{شكر الله لك فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، وجزاكم عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم أيضًا أيها الإخوة، ونلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] أخرجه ابن ماجه (3314) واللفظ له، وأحمد (5723).
[2] رواه البخاري (2978).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ