الدرس الخامس
فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم طلاب وطالبات برنامج (جادة المتعلم) في حلقة جديدة من برنامج التعليق على (مقدمة في أصول التفسير). باسمي واسمكم نرحب جميعًا بشيخنا محمد بن مبارك الشرافي.
حياكم الله فضيلة شيخ}.
الله يحييك ويحيي الإخوة والأخوات، الطلاب والطالبات والمشاهدين أجمعين.
{شيخنا لو نراجع ما سبق}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلى الله وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فإنَّ من المهم لطالب العلم وكذلك لطالبة العلم مراجعة ما درسه، ثم إن المراجعة قد تكون مع زميلٍ، أو طالبة مع زميلتها، أو حتى الإنسان يراجع بنفسه كأن يضع أسئلة على ما أخذ ويراجع، والمراجعة مهمة لضبط العلم، ولذلك قال الحسن البصري -رحمه الله: "عليك بالمراجعة، فلولا المراجعة لَمَا كثر العلماء".
والبخاري -رحمه الله- كان آية في الحفظ والضبط، فظن بعض الناس أن البخاري -رحمه الله- يشرب دواء أو يأكل شيئًا للحفظ، فسألوه وقالوا: يا بخاري ما دواء الحفظ؟ قال: "لم أجد دواء للحفظ كنهمة الرجل ومداومة نظره في كتبه"، والنهمة: يعني الهمة والتطلع والتوقد. ومداومة النظر في كتبه: يعني المراجعة.
إذًا المراجعة مهمة.
وسبق في المباحث التي أخذناها وهي القرآن، فذكر شيخنا -رحمه الله- القرآن وعرفه لغة واصطلاحًا، ثم وصف القرآن بأوصاف كثيرة: أنه مجيد، وأنه مثاني، ونزل من الله -عز وجل-، ثم ذكر أيضا أنه كما أن القرآن مصدر للتشريع فالسنة كذلك مصدر للتشريع ثم بدأ بالمبحث الأول كمقدمة، ونزول القرآن، وأن القرآن نزل في ليلة القدر في شهر رمضان، وأن الذي نزل به من الله -عز وجل- هو جبريل -عليه السلام-، ثم ذكر أوصافه.
وختم شيخنا -رحمه الله- الآيات التي وصفت جبريل -عليه السلام- بأن ذلك دل على تعظيم القرآن؛ لأن "الكرام" لا يرسَلون إلا بالشيء الكريم العظيم.
ثم المبحث الثاني في نزول القرآن: أول ما نزل منه هو سورة "اقرأ"، أو الآيات الخمس الأولى منها، ثم الآيات الخمسة من سورة المدثر، وأن النبي ﷺ صارَ نبيًّا بـ "اقرأ"، ورسولًا بـ "المدثر" أُرسلَ بالمدثر.
ثم أيضًا ذكر أن القرآن ينقسم إلى قسمين من حيث النزول:
- سببي.
- وابتدائي.
وأن أكثر القرآن ابتدائي -يعني: بدون سبب متقدم- وذكر لذلك أمثلة، وأن منه ما هو سببي، ثم ذكر أن الأسباب:
- إما سؤال يُسأل للنبي ﷺ.
- أو حادثة تقع وتحتاج إلى بيان وإلى تحذير، كما حصل من المنافقين.
- أو إلى حادثة تحتاج إلى بيان حكم، كما حصل من المجادلة التي ظاهر منها زوجها.
ثم ختمنا ما سبق بفوائد النزول وأخذنا فائدتين:
الأولى: أن القرآن نزل من الله -عز وجل- لأن النبي ﷺ يُسأل فينزِل، أو تحدث حادثة فينزل القرآن فيها من الله -عز وجل.
الثانية: الدفاع عن النبي ﷺ، وأخذنا المثال الأول الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- وهو قول الله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32].
وفيه فائدة: أن العلم إذا أُخذ شيئًا فشيئًا يثبت، ولذلك من قواعد طلب العلم: عدم الإكثار، حتى قالوا: "من رام العلم جملة فاته جملة" وإنما يُخذ العلم حديثًا وحديثين.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وكذلك آيات الإفك؛ فإنها دفاع عن فراش النبي ﷺ، وتطهير له عمّا دنسه به الأفاكون)}.
هذا من فوائد أسباب النزول، وهو بيان عناية الله -عز وجل- بنبيه محمد ﷺ، وهذا مثال آخر عن حادثة الإفك.
ما الإفك؟
نقول: الإفك هو الكذب العظيم، وذلك حينما اتهم المنافقون عائشة -رضي الله عنها- بالإفك، وأنها وقعت في الفاحشة، وذلك في قصة عجيبة ذكرتها عائشة -رضي الله عنها-، وقد رواها البخاري ومسلم، وهي قصة مبكية طويلة، وليس المقام مقام ذكرها، ولكنها بينت أن هذه الآيات نزلت في شأنها، حتى قالت -رضي الله عنها: "كنت أعلم أن الله -عز وجل- مُبَرِّئِي لكن شأني عند نفسي أقل -أو قالت: أحقر- من أن ينزل الله فيَّ قرآنًا"، وكانت -رضي الله عنها- صبيّة صغيرة، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآيات دفاعًا عن فراش نبيه ﷺ، ودفاعًا عن عائشة -رضي الله عنها-، الصديقة بنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها وعن أمها وعن جدّها، لأنهم كلهم صحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم.
إذًا، فهذا من عناية الله -عز وجل- برسوله ﷺ.
والواقع أن المنافقين حينما اتهموا عائشة -رضي الله عنها- لم يقصدوها عينًا، وإنما أرادوا تعييب النبي ﷺ، فالله -عز وجل- دافع عنه وردَّ كيد هؤلاء، ولذلك نقول: من يتهم عائشة -رضي الله عنها- الآن بالزنا، فلا شك أنه كافر بإجماع المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (ثالثًا: بيان عناية الله تعالى بعباده في تفريج كرباتهم وإزالة غمومهم، مثال ذلك: آية التيمم، ففي صحيح البخاري أنه ضاع عِقد لعائشة -رضي الله عنها- وهي مع النبي ﷺ في بعض أسفاره، فأقام النبي ﷺ لطلبه، وأقام الناس على غير ماء، فشكوا ذلك إلى أبي بكر، فذكر الحديث وفيه: فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: "مَا هِيَ بأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آلَ أبِي بَكْرٍ". والحديث في البخاري مطولًا)}.
هذا أيضًا من أسباب النزول: معرفة عناية الله -عز وجل- بالمسلمين، فإن هذه الآية نزلت في تفريج كربتهم، لأنه قبل هذه الحادثة ما كان المسلمون يعرفون التيمم، فقط يعرفون الوضوء بالماء، ثم إنه في أحد أسفار النبي ﷺ ضاع عقد لعائشة -رضي الله عنها- والعقد: ما تلبسه المرأة في رقبتها لتتجمل به، فأخبرت عائشة النبي ﷺ أن عقدًا لها ضاع، وكانوا في ليل، فجلسوا في بحث عنه فما وجدوه! فباتوا وما كان معهم ماء! فجاء الناس إلى أبي بكر -رضي الله عنه- وقالوا له: أما ترى ما صنعت عائشة! حبستنا وحبست رسول الله ﷺ وليس معنا ماء!
تقول عائشة -رضي الله عنها: "فجاء أبو بكر إليّ وكنت مسندة النبي ﷺ على فخذي"، يعني: النبي نائم على فخذها؛ لأنه كان يحبها، وكانت هي أيضًا تعتني به، فقبّح الله مَن يسب هذه المرأة التي كانت في غاية العناية بالنبي ﷺ.
تقول: "فجاء ليطعنني -يعني بيده- ويقول: حبستي رسول الله ﷺ والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فما يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ"، فتحمَّلت عائشة الأذى حتى ما تحركت وما صاحت مع الألم، وأبو بكر أبوها يعاقبها وهذا من حقه، فانظروا كيف كانت عناية عائشة بالنبي ﷺ! ما أرادت أن تكدر نومه -رضي الله عنها-، فباتوا فأنزل الله هذه الآيات: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، فتيمم الناس، ثم لَمَّا أصبحوا وقام البعير وجدوا العقد تحت البعير، فقال أسيد بن حضير الأنصاري -رضي الله عنه-: "مَا هِيَ بأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أبِي بَكْرٍ، فَوَاللَّهِ ما نَزَلَ بكِ أمْرٌ قَطُّ، إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ منه مَخْرَجًا وجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فيه بَرَكَةً" رضي الله عنهم.
{قال -رحمه الله: (فهم الآية على الوجه الصحيح. مثال ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة:158] أي يسعى بينهما، فإن ظاهر قوله: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْه﴾ [البقرة:158] أن غاية أمر السعي بينهما، أن يكون من قسم المباح، وفي صحيح البخاري عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] إلى قوله: ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة:158] وبهذا عرف أن نفي الجناح ليس المراد به بيان أصل حكم السعي، وإنما المراد نفي تحرجهم بإمساكهم عنه، حيث كانوا يرون أنهما من أمر الجاهلية، أما أصل حكم السعي فقد تبين بقوله: ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾)}.
هذه هي الفائدة الرابعة من فوائد معرفة سبب النزول: أن نفهم الآية الفهم الصحيح، وذكر شيخنا -رحمه الله- لها مثالًا في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ لو أخذنا هذه الآية على ظاهرها لقلنا: إذا حججت أو اعتمرت فلا بأس أن تسعى بين الصفا والمروة، أو أنه السعي مباح وليس بواجب، ولكن الصحيح أن الطواف بالصفا المروة ركن.
تقول عائشة -رضي الله عنها: "ما أتمَّ اللهُ حَجَّ امرئٍ ولا عُمْرَتَه، لم يَطُفْ بين الصَّفا والمروةِ" هذا ركن، وإن كان قيل: إنه سنة، وقيل: واجب، لكن الصواب أنه ركن وهذا مذهب الحنابلة وهو الصحيح. فتفهم الآية بسبب النزول.
عاصم سليمان هو تابعي يقول: "سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن الصفا والمروة"، يعني: هل نطوف أو لا؟ قال: "كنا نرى أنه من أمر الجاهلية، وذلك أنه كان عليهما صنمان، فكان الناس في الجاهلية يعظمون الصنمين، فلما أسلموا تحرجوا، فأنزل -عز وجل: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ نفيًا للتحرُّج الذي كان أصابهم، وأما الأخذ بأنهما ركن أو واجب على قول بعض العلماء فمن قوله: ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾، وأيضًا من سنة النبي ﷺ وأقوال الصحابة -كما تقدم- من قول عائشة -رضي الله عنها.
{قال -رحمه الله تعالى: (عموم اللفظ وخصوص السبب:
إذا نزلت الآية لسبب خاص، ولفظها عام كان حكمها شاملا لسببها، ولكل ما يتناوله لفظها، لأنَّ القران نزل تشريعا عاما لجميع الأمة، فكانت العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه)}.
هذه قاعدة من القواعد العظيمة التي تذكر في التفسير وتذكر في الحديث بل حتى في الفقه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ما هو المعنى؟ نقول: العبرة بالآية لا ما نزلت من أجله أو نزلت فيه، يعني: يؤخذ الحكم عامًا.
يقول الشيخ -رحمه الله: (لأنَّ القرآن نزل تشريعًا عامًا)، يعني: ليس لأشخاص معينين، فهو ينزل وإن نزل في شأن أحد بعينه إلا أنه يعمُّه ويعمُّ مَن كان مثله في الحال والحكم، وسيذكر الشيخ أمثلة لذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مثال ذلك: آيات اللعان، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور:6-9]، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ﷺ بشريك بن سحماء، فقال النبي ﷺ: «البينة أو حد في ظهرك»، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرء ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ [النور:6]، فقرأ حتى بلغ ﴿إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور:9])}.
هذا مثال لقاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، فاللعان وهو إذا قذف الرجل زوجته -نعوذ بالله من ذلك ونسأل الله السلامة والعافية- أي: إذا اتهمها بالزنا، فإنه إما أن يقيم بيّنة، أي أن يأتي أربعة شهود رجال يشهدون بالزنا الصريح.
قال العلماء: ولم تقع هذه على مر التاريخ أبدًا، ما أقيم حد في الإسلام بشهادة أربعة، وهذا تعظيم لمسألة الأعراض، بعض الناس قد يتهم، وبعض النساء قد تكون ليست بتلك المؤدَّبة لكنها ما يصل إلى أنها تزني، ربما تكون أخطأت وينبغي أن تعزَّر من القاضي أو الحاكم، لكن ما تصل لحد الزنا، فقذفها بالزنا هذا عظيم جدًا، بل كبيرة من كبائر الذنوب، لأن القذف من كبائر الذنوب، ولذلك يجب فيه الحد.
هذا الرجل -هلال بن أمية- وهو صحابي جليل -رضي الله عنه-، قذف شريك بن سحماء بامرأته أنه زنا بها، فالنبي ﷺ قال: «البينة أو حد في ظهرك»، أي: تأتي بأربعة وإلا فالحد! فنزلت آيات اللعان، قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فنزلت فتلاعنا، وقيل: إذا لاعن الزوج أولًا فإن أقرَّت المرأة أقيم عليها الحد، فتُرجم إن كانت محصنة، وتجلد إن كانت غير محصنة، فإن نكلت وما اعترفت يطلب منها الملاعنة، فإن أبت يُقام عليها الحد، إن قالت: لم أزنِ ولن أُلاعن. نقول: إذًا عليكِ الحد، فإن لاعنت فإنها تشهد أربع شهادات بالله -عز وجل- إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا، والخامس أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ فإذا حصل ذلك حصلت الفرقة بينهما فرقة تامة، لا يحلُّ لها وتحلُّ له، وإن كانت حاملًا فإن الولد له حالان:
- إن انتفى منه، وقال الزوج: هذا الولد ليس مني: لحق أمه، يعني: سُمّي بأمه.
- وإن لم ينتفِ منه، فقد تكون قد زنت بعد أن حملت: فإن الولد يلحقه.
فيشترط للملاعنة أن ينتفي من الولد وإلا لحقه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فهذه الآيات نزلت بسبب قذف هلال بن أمية لامرأته، لكن حكمها شامل له ولغيره، بدليل ما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أن عويمر العجلاني جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال النبي ﷺ: «قدْ أنْزَلَ اللَّهُ القُرْآنَ فِيكَ وفي صاحِبَتِكَ» . فأمرهما رسول الله ﷺ بالملاعنة بما سمى الله في كتابه، فلاعنها. الحديث..
فجعل النبي ﷺ حكم هذه الآيات شاملا لهلال بن أمية وغيره)}.
هذا مثال تطبيقي لما سبق، الآيات نزلت في شأن هلال بن أمية وشريك بن سحماء، ثم أيضًا تكررت في شأن عويمر العجلاني حينما قال يا رسول الله: "يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟"، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآيات، فطبق النبي ﷺ عليه الآيات التي نزلت في شأن شريك وهلال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (المكي والمدني
نزل القران على النبي ﷺ مفرقا في خلال ثلاث وعشرين سنة، قضي رسول الله ﷺ أكثرها بمكة، قال الله تعالى ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء:106] ولذلك قسم العلماء -رحمهم الله تعالى- القرآن إلى قسمين: مكي ومدني:
فالمكي: ما نزل على النبي ﷺ قبل هجرته إلى المدينة.
والمدني: ما نزل على النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة)}.
هذا المبحث الرابع من المباحث التي ذكرها شيخنا -رحمه الله- في هذا الكتاب الصغير المختصر المفيد، وهو المكي والمدني.
والمراد بذلك: الآيات، والقرآن كله إما مكي وإما مدني، ثم إن الأصل أن السورة كاملة مكية أو كاملة مدنية، وبعض العلماء تجده يقول: الآيات كذا وكذا مكية وباقي الآيات مدنية أو العكس؛ فهذا خلاف الأصل، إلا بديل واضح.
ثم إن المكي منسوب إلى مكة، والمدني منسوب إلى المدينة.
قال شيخنا رحمه الله: (فالمكي: ما نزل على النبي ﷺ قبل هجرته إلى المدينة.
والمدني: ما نزل على النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة).
إذًا؛ ما قبل الهجرة يكون "مكيًا" وما بعد الهجرة يكون "مدنيًا".
وقيل: المكي ما نزل في المكة، وَالْمَدِنِي مَا نَزَلَ في المدينة؛ لكن هذا القول لا ينضبط، لأن هناك آيات لم تنزل لا في مكة ولا في المدينة، وإنما نزلت في غير هذا الموضع، وهذا هو الصواب أن الآيات المكية هي ما نزل قبل الهجرة، وأن الآيات المدينة هي ما نزل بعد الهجرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا﴾ [المائدة:3] من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي ﷺ في حجة الوداع بعرفة، ففي صحيح البخاري عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة)}.
هذا مثال لِمَا نزل في غير المدينة وغير مكة؛ لأن عرفة خارج مكة، ومع أن الناس يعتقدون أن عرفة من مكة، نقول: لا، عرفة غير مكة، ومزدلفة غير مكة، ومِنى غير مكة، وإن كانت الآن اتصلت البنيان حتى صاروا بمكان واحد.
فعلى كل حال هذه الآية نزلت في عرفة، ومع هذا قال العلماء: إنها مدنية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع:
أما من حيث الأسلوب فهو:
1. الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب؛ لأن غالب المخاطبين معرضون مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك، اقرأ سورتي المدثر، والقمر.
أما المدني: فالغالب في أسلوبه البين، وسهولة الخطاب، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، اقرأ سورة المائدة.
2. الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة، لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون، فخوطبوا بما تقتضيه حالهم، اقرأ سورة الطور.
أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام، مرسلة بدون محاجة، لأن حالهم تقتضي ذلك، اقرأ آية الدين في سورة البقرة)}.
هذا تبيين للفروق بين المكي والمدني من عِدة حيثيات:
الحيثية الأولى: من حيث الأسلوب، والأسلوب: هو الطريقة التي نزلت بها الآيات.
يقول الشيخ -رحمه الله: وهناك فرقان -أو ميزتان:
الميزة الأولى: (الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب، لأن غالب المخاطبين معرضون مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك).
وهذا في غاية البلاغة، وهو أن تخاطب كل إنسان بما يليق به، والقرآن في غاية البلاغة.
يقول: (اقرأ سورتي المدثر والقمر) قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ﴾ بعدها قال: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾، [المدثر 11–19] عجيب هذا!
وفي سورة القمر: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر 1–2]، آيات قوية، ثم أيضًا الختام بالراء، وهذا الحرف رنة ووقع في القلوب ولذلك قريش والعرب تأثروا، حتى مِن تأثرهم منعوا الناس من السماع حتى لا يتأثرون، وذلك حجبوا الناس عن النبي ﷺ إما بالقوة أو بالكذب، فقالوا: هذا ساحر، هذا كاهن، هذا أساطير الأولين، من أجل حجب الناس لما تأثروا بالقرآن تأثُّرًا عجيبًا.
يقول: (أما المدني: فالغالب في أسلوبه البين، وسهولة الخطاب، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، اقرأ سورة المائدة).
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائد:6]، أسلوب لين، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ [المائدة:27]، تفصيل القصة، ما فيه ذاك الزَّجر والقوَّة، بعكس أسلوب الآيات المكية.
يقول: (الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة، لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقُّون، فخوطبوا بما تقتضيه حالهم).
قوله: (اقرأ سورة الطور) الغالب في المكي قصر الآيات وقوة المحاجة لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقُّون فخُوطِبوا بما تقضي حالهم، كذلك يأخذها بقوة وبسرعة لقصر آياته قِلَّتها.
يقول شيخنا: (اقرأ سورة الطور)، قال تعالى: ﴿وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور:1–13]، أسلوب عجيب وقوي!
يقول: (أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام، مرسلة بدون محاجة، لأن حالهم تقتضي ذلك، أقرأ آية الدين في سورة البقرة)، المرسلة: أي البسط.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: 282]، كلها أحكام، لأنَّ المخاطب تقبَّل ما تقول، إذًا فهو في غاية البلاغة وغاية الوضوح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأما من حيث الموضوع فهو:
1- الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، خصوصا ما يتعلق بتوحيد الألوهية والإيمان بالبعث، لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك.
أما المدني: فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات، لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات)}.
هذا من حيث الموضوع، يقول: (الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة)، أي: عقيدة التوحيد والبعث، وهاتان المسألتان من أعظم المسائل التي جاء بها القرآن، لأن قريشًا والعرب ينكرون التوحيد والبعث، ولذلك يقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:5]، فالله -عز وجل- أنزل آيات ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ وقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة:255]
يقول: (أما المدني: فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات)، مثل آية الصيام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة:183-184]، فيه تبيين الأحكام، فالناس قد أسلموا وقبلوا الإسلام فعلمهم.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ [الطلاق:1].
إذًا ففي المكي العقائد، وفي المدينة الأحكام والمعاملات والعبادات.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (2- الإفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني لاقتضاء الحال، ذلك حيث شرع الجهاد، وظهر النفاق بخلاف القسم المكي)}.
مما يتميز به المدني: أنَّ فيه ذكر الجهاد وذكر المنافقين، ومكة ما فيها جهاد ولا نفاق، عجيب!
نقول: ليس فيها جهاد لأن المسلمين كانوا مستضعفين، وليس فيها نفاق لأنه ما في قوة للمسلمين، إنما ظهر النفاق حين قوِيَ الإسلام، ولذلك ظهور المنافقين علامة صحة للإسلام، والصحة يعني القوة، لأنه لو كان الإسلام ضعيفًا لأظهروا رؤوسهم وما تخفوا، إذًا فظهر النفاق في المدينة، فظهرت أحكام الجهاد وأحكام المنافقين في المدينة.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (فوائد معرفة المدني والمكي:
معرفة المكي والمدني نوع من أنواع علوم القرآن المهمة، وذلك لأن فيها فوائد، منها:
1- ظهور بلاغة القرآن في أعلى مراتبها، حيث يخاطب كل قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة، أو لين وسهولة.
2- ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئا فشيئا بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ)}.
بعد أن عرفنا المكي والمدني وتمييزه، والفرق بين المكي والمدني من حيث الأسلوب والموضوع؛ هنا فوائد معرفة المكة والمدنية:
قال: (ظهور بلاغة القرآن)، ولا شك أن القرآن في غاية البلاغة في اللغة العربية، ولغة العرب هي أحسن اللغات وأفضلها، والقرآن نزل فيه الكمال، ومن حكمة الله -جَلَّ وَعَلَا- أن آيات الأنبياء تكون في كل زمن بحسبه، موسى -عليه السلام- كان في عصر اشتهر السحر، فجاء بما يشبه السحر وليس سحرًا، ولذلك لما رأى السحرة العصا مباشرة أسلموا، لأنهم هم أهل الصنعة، عيسى -عليه السلام- اشتهر في عصره الطب، فجاء بما يشبه الطب وليس طبًا، يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، فهذه آية من آيات الله -عز وجل.
والعرب اشتهروا بالفصاحة والبلاغة، حتى كانت هناك أسواق يجتمعون فيها للشعر وللخطابة، ومن ذلك المعلقات السبع، وهي من عيون الشعر العربي، اختارها حكَّام كانوا يختصون لهذا الشأن، ثم من جمالها علقوها في الكعبة، وكان العرب حتى قبل الإسلام يعظمون الكعبة لكنهم كانوا يشركون -وهذه هي مصيبتهم.
فالمقصود: أنهم كانوا في غاية البلاغة، فنزل القرآن بشيءٍ بليغ يشبه الشِّعر وليس شعرًا، ومع كره العرب وقريش للقرآن واجتهادهم في رده إلا أنهم لم يعيبوه مرة.
فإن قال قائل: لماذا ما عابوه؟ لأن بلاغة القرآن أظهر وأقوى من أن تعاب، ولأن من حكمة الله -عز وجل- أن حتى الكفار ينكر بعضهم على بعض فيما أخطأوا فيه خطأ ظاهرًا، وترى هذا حتى موجود الآن، بعض الناس يقول: لماذا هذه الدول الكبرى لا تهاجم القرآن؟ لأنهم لا يقدرون على ذلك، ولذلك يفتعلون الأحداث للهجوم على المسلمين إما تفجيرات -هم يسوونها- أو يغرون بعض الشباب من أجل أن يفجروا، ويقولون: هذا الإرهاب الإسلامي!
ومر علينا في بعض الدروس السابقة أن مسيلمة الكذاب أراد أن يختلق شيئا من عنده مثل القرآن، فجاء عمرو بالعاص -رضي الله عنه- وكان مشركًا آنذاك وكان صديقًا لمسيلمة في اليمامة في المدينة، واليمامة هي منطقة الرياض الآن، فجاءه فقال لمسيلمة -وقد ادعى النبوة- والعجيب أنه جاء مع وفد بني حنيفة إلى النبي ﷺ وأسلموا وهو ما أسلم! قال: يا محمد، لك الوبر ولي الشعر، فقال له النبي: «﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾»، المهم أنه صار يزبد ويرعد وصدقه بعض الناس! يقولون: كذاب بني حنيفة هو لا صادق مضر! حمية!
المقصود: قال يا عمرو، صاحبكم أنزل عليه شيء؟ قال عمرو بن العاص: نعم أنزل عليه سورة قصيرة عجيبة. قال: ماهي؟ فذكر سورة: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]، يقولون: فأزبدَ وأرعدَ وتمتمَ، ثم قال: وأنا أُنزلَ عَلَيَّ مِثْلُهَا، ثم أتَى بخرافات ما أود أن أذكرها، لأن بعض الناس أيضًا خاصة الشباب ربما يجعلها تنكيتًا، وهذا ما يجوز.
فالمقصود: أن مسيلمة قال هذا، ثم قال: ما رأيك يا عمرو؟ قال عمرو: والله يا مسيلمة إنك تعلم أنك عندي كذاب!
فالقرآن في غاية البلاغة، حينما ينزل يخاطب كل قوم بما يلق بحالهم.
يقول: (ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياتها)، يعني تشريع الأحكام عجيب جدًا، انظر مثلًا إلى ثلاثة: إلى الحجاب وإلى الخمر وإلى الصيام، في مكة ما كان فيه حجاب، النساء والرجال مع بعض، بل في أول العهد المدني إلى السنة الخامسة تقريبًا ما كان في حجاب، كانت النساء بدون حجاب، اختلاط الرجال والنساء جائز، وما كان فيه إشكال، ولذلك بعض العلماء -عفا الله عنهم- ممن لا يقول بالحجاب يستدل بأدلة سبقت نزول الحجاب، وهذا من الخطأ.
الثاني: تحريم الخمر، تحريم الخمر نزل بالتدريج وسوف يذكر شيخنا -رحمه الله- وأترك التعليق عليه إلى وقته.
الثالث: الصيام لم يُشرع في مكة، وإنما شرع في المدينة، وفي السنة الثانية نزل فرض الصيام ونزل التخيير، فكان القادر مخيرا بين الصيام لقوله: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وبين أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا ولا يقضي، ثم بعد ذلك أُلزم القادر بالصيام.
لماذا؟ نقول: لأن الناس ما تهيؤا، والصيام فيه مشقة، ولا يصوم إلا المؤمن كامل الإيمان، هذا الذي يحصل -الحمد لله- الآن بعد أن اكتمل الإيمان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القرآن في الأسلوب والموضوع، من حيث المخاطبين، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها)}.
وهذا مهم جدًّا، الأصل في الدعوة أنه للعلماء وطلاب العلم المتمكنون، وقد تكون فيمن دونهم، نقول: ينبغي استخدام الأسلوب بحسب من المخاطبين، فمثلا خطيب جمعة لو خطب عند أناس مثقفين ينبغي أن يختصر وأن يأتي بالأدلة حتى بدون شرح، وانظر خطباء الحرمين الآن، خطباء الحرم المكي والمدني -ما شاء الله تبارك الله- يعني في غاية الأسلوب الراقي، والخطاب مختصر، لأن يسمع لهم العالم كله، بعكس إنسان يخطب في منطقة ريفية فينبغي أن ينزل في الأسلوب إلى ما يليق بالناس من حيث الأسلوب، فلو تكلم باللغة العربية الفصحى تامة ثم بألفاظ وأدلة وقواعد؛ يخرج ناس ما يدرون ما قال! هذا ليس من حكمة، ولذلك بعض أصحاب الفضيلة من الخطباء يأخذون خطب مشايخ ويخطبون بها، نقول: نعم استفد من غيرك لكن حوِّر الأسلوب أنت، خذ خطبة الشيخ التي كتبها أو الخطيب ثم عدِّل فيها بما يناسب جماعة مسجدك.
أيضًا الموضوع، قد أخطب في مكان وأتكلم عن البيوع، وأخطب في مكان آخر وأتكلم عن الوضوء وعن الصلاة، مكان آخر أتكلم عن الشرك وعن البدعة، فهذه المواضيع ينبغي أن تدار، لكن أحيانا إنسان ما يخطب إلا مرة واحدة، نقول: اختر ما يليق بمن أمامك.
إذًا، فالقرآن يربينا كيف ندعو إلى الله -عز وجل- والقرآن كتاب الدعوة.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية، يتحقق فيهما شروط النسخ، فإن المدنية ناسخة للمكية، لتأخر المدنية عنها)}.
النسخ هو: إبطال الحكم السابق، وإذا أتتنا آياتنا فلا نقول بالنسخ إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يمكن الجمع بينهما.
الشرط الثاني: أن يتحقق التاريخ.
فإن لم يكن فإما نرجح أو نتوقف.
إذًا، فمن فوائد معرفة فالمكي والمدني هو معرفة الناسخ من المنسوخ.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله: (الحكمة من نزول القرآن الكريم:
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني، يتبين أنه نزل على النبي ﷺ مفرقا. ولنزوله على هذا الوجه حكم كثيرة منها:
1- تثبيت قلب النبي ﷺ، لقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (يعني كذلك نزلناه مفرقًا) كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ (ليصدوا الناس عن سبيل الله) إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)﴾ [الفرقان: 32-33])}.
إذًا نزوله مفرقًا له عدة حكم وفوائد، منها:
تثبيت قلب النبي ﷺ وكذلك أمته يثبتون على دين الله -عز وجل- وذكر شيخنا -رحمه الله- هذه الآية وقد سبقت معنا حينما أنكر المشركين كيف ما نزل القرآن جملة واحدة كالكتب السابقة؟ قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32]، أي: مفرقًا ومنجمًا لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا.
{قال- رحمه الله: (2- أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئا فشيئا، لقوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء:106])}.
هذه هي الفائدة الثانية: أنه يفيد في الحفظ وفي الفهم، فلو جاء كثيرًا قد لا يحفظه وقد لا يفهمه، أو قد يحفظه ويفهمه آحاد الناس لكن عامة الناس ما يفهمونه، لكن إذا جاء شيئا فشيئا فإنه يحفظ ويفهم، ولذلك الآن من طرق التعليم في الحفظ والتدريس عدم الإكثار، وذلك بعض الناس الآن ربما يدخل دورات مكثفة فيحفظ القرآن في شهر واحد، لكن بعد ذلك يضيع، أو أيضا بعض الدورات في حفظ الأحاديث ربما يحفظون الصحيح في 40 يومًا، وبعد ذلك يجد صعوبة، بعض المشايخ يقول: حتى لو ما راجعوا ولكنه بركة أن يمر على القرآن ويمر على الأحاديث هذه في حد ذاتها فائدة.
لكن نقول: الطريقة الأمثل والأكمل هي طريقة القرآن، وهو أن يؤخذ شيئًا فشيئًا، لأنه يثبت في الحفظ ويثبت أيضًا في الفهم، وسبق معنا في دورس سابقة قلت: إنه ينبغي لطلاب العلم وخاصة الكبار أن يجمع بين التفسير والقرآن، بمعنى إذا أراد أن يحفظ نصف وجه أو ثلاث آيات، نقول: اقرأها على الشيخ وصحح تلاوتك أولا، ثم اقرأ تفسيرا من تفسير الشيخ ابن السعدي، في هذا تستفيد فائدة عظيمة ويسهل عليك حفظها.
إذًا، من فوائد نزول القرآن شيئًا فشيئًا: حفظه والعمل به.
{قال- رحمه الله: (3- تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القران وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك واللعان)}.
والظهار أيضًا، وكذلك الآيات التي سبقت معنا في سؤال اليهود وقريش النبي ﷺ حصل فيه تشوق.
إذًا، فمن حكمة نزول القرآن مفرقًا ومنجمًا أن تشوَّق الناس له، فإذا نزلت قبلوها وأخذوها.
{قال- رحمه الله: (4- التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا، فنزل في شأنه أولا قوله تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: الآية 219] فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه.
ثم نزل ثانيا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: الآية 43] فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات، ثم نزل ثالثا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90] ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92] فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منها باتا في جميع الأوقات، بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات)}.
هذه هي الحكمة الرابعة من نزول القرآن شيئا فشيئا، آياتٌ مفرقة منجمة حسب ما أراد الله -عز وجل- وهو التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال.
وذكر الشيخ -رحمه الله- الخمر مثالًا، وذلك أن الخمر كان في أول إسلام جائز؛ بل امتنَّ الله -عز وجل- به، قال الله -عز وجل- في سورة النحل: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: 67].
فكان مباحًا بل كان منة، ثم إن الله -عز وجل- أراد تحريمه، والله -عز وجل- يحكم ما يريد، لكنه -عز وجل- من رحمة حكمته أن حرمه شيئا فشيئا، فأول آيات في التحريم آية البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 219]، فالعاقل سوف يقول: فيه إثم كبير، ما لي وله! فيتركه، ولذلك تركه بعض الناس بهذه آية، بل بعض العرب ما كان يشرب الخمر ومنهم أبو بكر -رضي الله عنه- قبل الإسلام ما كان يشرب الخمر لأنها ضارَّة في العقل، فتذهب العقل تمامًا، ولها مفاسد لا تعد ولا تحصى.
الآية الثانية: نزلت آية النساء قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]، "حتى" يعني: لكي.
فهذه الآية حرمت الخمر في بعض الأوقات، وهو قُرب وقت الصلاة، فبعض الناس تركها حتى إن عمر- رضي الله عنه- كان يقول: «اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخمرِ بيانًا شافيًا» ، لأن عمر كان يتوقى ويتحرى وكان من الملهمين، حتى قال فيه ﷺ: «لقَدْ كانَ فِيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فإنْ يَكُ في أُمَّتي أحَدٌ، فإنَّه عُمَرُ» ، فكأنه تطلع إلى أن هذا الخمر سوف يُحرَّم، فكان يتطلع أن نزول الآية.
ثم نزلت آية المائدة في التحريم الباتِّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، علق الله -عز وجل- الفلاح بترك هذه كلها، والخمر هو كل ما خامر العقل -أي: غطاه على وجه اللذة والطرب- سواء كان يُشرب أو يُشم ويُستنشق أو يُؤخذ بالإبر.
والميسر: هو كل معاملة يدخلها الإنسان بين غانم أو غارم -يعني إما تخسر أو تربح- ما فيه بين بين.
فإن قيل: البيع ربح خسارة؟
نقول: البيع ربما يكون ربحًا وخسارة أيضًا، ولكنه مباح.
مثال للميسر: بعض الناس الآن يقول: ادخل بعشرة ريالات وممكن تكسب مليونًا وهو ما يسمى بـ "اليانصيب"، ربما هو يكسب، ولكن الباقي يخسرون.
ومن اللطائف والطرائف: أن رجلًا غربيًا ذكيًا ولكنه ليس زكيًّا أراد أن يبيع بيته بالملايين، فأعلن إعلانًا في الصحف وقال: بيتي بدولار، فجاءه 300 مليون، كلهم شاركوا، وفاز واحد فقط!
نقول: حتى لو كان دولارًا أو ريالًا فهذا ميسر ولا يجوز، والشريعة تمنع الأشياء حتى لو استصغرها الناس، لأنها ستصير أكثر!
والأنصاب: هي الأوثان التي تُعبَد من دون الله -عز وجل.
الأزلام: هي القداح التي كانوا إذا أرادو سفرًا جعلوها مثل القرعة، وجاء الإسلام بصلاة الاستخارة، فكانوا يجعلون ثلاثة أقداح: "امض، لا تمض، والثالث فارغ"، وكانوا يجعلون رجلًا هذا عمله ويعطونه فلوسًا فإذا أراد واحد أن يسافر أو يتزوج أو يدخل تجارة ذهب إليه، فيُسوِّي له الأقداح ويزينها، وهذا كله من عمل الشيطان.
قال -سبحانه: ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، يعني اجتناب الخمر من أسباب الفلاح والنجاح، ولذلك فحياة من يشرب الخمر تتدمر -نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله لهم الهداية- واعلم أن شرب الخمر لا خير فيه، فالذين جربوه وجدوا رائحته قذرة، طعمه قذر، آثاره في البطن سيئة، لكن بسبب قلة الإيمان يريد أن يذهب عقله، ولذلك الغرب لا عجب منهم، أكثر ما يوجد عندهم البارات، حتى توجد في كل حارة -أو حي- بار يشرب فيه الخمر، أما حياتهم الطبيعية ما يهنون فيها، بعكس المؤمن الذي يعمل الصالحات ويعمل رب العالمين يهنأ بالحياة الطيبة، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، وقال سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، فالإيمان بدل هذه الأمور، بل الدخان -أو ما يسمونها بالشمَّة- أسبابها قلة الإيمان -نسأل الله الهداية لهؤلاء الشباب والكبار والصغار.
إذًا فهذه حِكَم من نزول القرآن مفرقًا منجمًا.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
بهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة، وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
7650 12