الدرس العاشر
فضيلة الشيخ محمد بن مبارك الشرافي
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة نستكمل فيها شرح متن "أصول في التفسير" مع ضيفنا فضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي.
أهلاً وسهلاً بكم فضيلة الشيخ}.
حيّاكم الله، وحيّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، والطلاب والطالبات.
{نستأذنكم في البدء بقراءة المتن}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وللقصص في القرآن حكم كثيرة عظيمة منها:
أولاً: بيان حكمة الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص؛ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر:4-5]
ثانيًا: بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين؛ لقوله تعالى عن المكذبين: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّك﴾ [هود:١٠١]
ثالثًا: بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَر (34) نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ﴾ [القمر: ٣٤-٣٥]
رابعًا: تسلية النبي ﷺ عما أصابه من المكذبين له؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [فاطر:٢٦].
خامسًا: ترغيب المؤمنين في الإيمان بالثبات عليه والازدياد منه، إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين، وانتصار من أمروا بالجهاد، لقوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧].
سادسًا: تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم، لقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد:١٠].
سابعًا: إثبات رسالة النبي ﷺ فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: ٤٩] وقوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم:٩])}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلّي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فلازلنا في فصل القصص، وتقدم معنا تعريف القصص لغة واصطلاحًا، ثم أنواع القصص في القرآن وأقسامها، وأنها إما عن الأنبياء السابقين والرسل وما جرى لهم مع المؤمنين، أو في قصص أمم وأفراد جرى لهم ما جرى مما فيه عبرة، أو أقوام في عهد النبي ﷺ، كما في غزوة بدر أو الأحزاب أو غيرها، أو قصة أبي لهب ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ إلى آخره.
وأمَّا هذا القسم فهو فيه الحكم التي في القصص، وليُعلم أن الله -عز وجل- حكيم حاكم محكم -سبحانه وتعالى-، فشرعه مبني عن حكمة، وكذلك قدره مبني عن حكمة، والفرق بين الشرع والقدر، فالقدر هو هذا الكون وما يكون فيه من السماوات والأرض، وما يكون فيه من الخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة، وأمَّا الشرع فهو ما أمر الله -عز وجل- به، يتقرب به إليه، أو ينهى عنه لئلا يكون سببا في عقابه سبحانه وتعالى.
ومن ذلك القصص التي جاءت في هذا القرآن، بل حتى التي جاءت في السنة، فإن فيها عبرا وحكما كثيرة، منها ما ذكره شيخنا -رحمه الله- ههنا، ولعلك تعيد الحِكَم مرة أخرى، ثم نعلق عليها بما تيسر.
{قال -رحمه الله-: (أولاً: بيان حكمة الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص؛ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر:4-5])}.
هذه حكمة عامة، أن كل قصة وردت في القرآن لا بد فيها من حِكَم كثيرة، تفيد الإنسان في إيمانه، تفيده في العمل، تفيده أيضا في العبرة، تفيده في الأحكام، فإنَّ القصص فيها حكم كثيرة، ولذلك فالدرس القادم -إن شاء الله تعالى- ولعل الإخوة الطلاب وكذلك الطالبات، يكون معهم المصحف، ونأخذ -بإذن الله عز وجل- قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- في سورة الكهف، وإن شاء الله تعالى نأخذ منها ما تيسر من الحكم والعبر، وفيها عبر كثيرة إن شاء الله تعالى.
{قال -رحمه الله-: (ثانيًا: بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين؛ لقوله تعالى عن المكذبين: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّك﴾ [هود:١٠١])}.
هذه هي الحكمة الثانية، بيان عدل الله -عز وجل- في عقوبة الكافرين، فالله -عز وجل حكمٌ عدل، وشرع وكونه مبنيٌ على الفضل والعدل، ومعاقبته للكافرين مبنية على العدل، وثوابه للمؤمنين -عز وجل- مبنيٌ على الفضل، فالله -عز وجل- يتفضل على أهل الإيمان بالإيمان وبالعمل، ثم يثيبهم أيضاً بفضله على ذلك بالجنة، بل حتى يثيبهم في الدنيا بما يُيَسر لهم من الجزاء النفسي أو الجزاء المادي كما يسمى، فالله -عز وجل- يتفضل على المؤمنين.
قوله سبحانه: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ في هذا نفي للظلم عن الله -عز وجل-، وهذا يسمى بالصفات المنفية؛ لأن صفات الله -عز وجل- نوعان:
صفات ثبوتية، وصفات منفية، فمن الصفات المنفية هذه.
ثم أيضا صفات الله -عز وجل-، الصفات الثبوتية هي الأكثر، ولأنه كلما تعددت الصفات، والله -عز وجل- بالنسبة لنا بعلمنا، والصفات الله -عز وجل- ثابتة، نزداد تعظيمًا لله -عز وجل-، ومحبة منه، ورجاءً وخوفًا.
من ذلك نفي الظلم عن الله -عز وجل-، وهذا في الجهة الثانية وهي: الصفات المنفية، ومن الصفات المنفية مثلا: صفة النوم والسِّنَة، قال الله -عز وجل-: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾.
ومن ذلك نفي الكفء عن الله، قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.
ومن هذا الباب نفي الظلم، وإنما نفى الله -عز وجل- الظلم عن نفسه هنا؛ لأنه ربما يعتقد الكافر أو ضعيف الإيمان أن عقوبة الكافر إنما هي ظلم، نقول: لا، الله -عز وجل- ما يظلم، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾، وجاء في الحديث القدسي، قال الله -عز وجل-: «إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» ، فالله -عز وجل- لا يظلم أحدا، لا مؤمنًا ولا كافرًا، فالكافر لا يزيد في سيئاته، والمؤمن ما ينقص من حسناته، بل هو -عز وجل- يضاعف للمؤمن الحسنات، والكافر يعاقبه بحسبه.
قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ يدل على أنَّ العاصي هو الذي يظلم نفسه، وأنَّ ما أتاه من عقوبة دنيوية أو أخروية، فإنها بسبب ظلمه، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]، وقال سبحانه: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فما منعت منهم عقوبة، وما صارت تعاقب بدلا عنهم، ولذلك على الإنسان أن يعتبر بمثل هذه القصص، وأن ينتبه لأنه قد يقال: إن الكفار لا يسمعون القرآن، ونقول: لا، بالعكس يسمعون، بل بعضهم يدرس القرآن، ولكن الذي يعتبر أكثر هو المؤمن الطائع.
ولذا نقول: انتبه قد تعاقب، والله -عز وجل- ما بينه وبين أحدٍ نسبًا أو حسبًا، ولا عنده عهد إلا بالإيمان، فإذا عصيت الله -عز وجل- فكن على حذر من العقوبة.
واعلم أنه إن عاقبك الله -عز وجل- في الدنيا أو في الآخرة، فإن هذا بسبب ذنبك، والله -عز وجل- حكم عدل ما يظلم.
{قال -رحمه الله-: (ثالثًا: بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَر (34) نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ﴾ [القمر:٣٤-٣٥])}.
المثوبة هنا دنيوية، والله -عز وجل- يُثيب المؤمن في الدنيا والآخرة، يثيبه في نفسه مما يأتيه من الإيمان القلبي والطمأنينة النفسية، وكذلك يثيبه في الولد -في بركة الولد- بصلاح الأولاد، يثيب في ماله، يثيبه -عز وجل- بأن يمنع البلاء من نفسه، أو من بيته، أو من سيارته، يجنبه الحوادث، والله -عز وجل- يُثيب في الدنيا والآخرة.
هنا ثواب دنيوي، بإنجائهم من العقوبة، فإن الله -عز وجل- أمر لوطا -عليه السلام- عن طريق الملائكة أن يسير بأهله وذهبت عنه زوجته، لكن العقوبة جاءتها؛ لأنها كانت كافرة، قال الله -عز وجل-: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾ قال العلماء: خانتاهما بالكفر لا في الفراش، لأن الله -عز وجل- يكرم أنبياءه أن تخون زوجاتهم في الأمور الأخلاقية.
{قال -رحمه الله-: (رابعًا: تسلية النبي ﷺ عما أصابه من المكذبين له؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [فاطر:٢٦])}.
هذه الحكمة الرابعة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- أن في القص تسلية للنبي ﷺ عما يصيبه من المكذبين، من قريش أو من العرب، فإنهم كانوا يؤذون النبي ﷺ.
ولك أن تتعجب، نبينا ﷺ ما جاءهم من مكان بعيد، وما كانوا يجهلونه، بل كان من أنفسهم، ويعرفون نسبه، ويعرفون سيرته، وعاش بينهم أربعين سنة حتى كانوا يسمونه الأمين، ثم لما دعاهم إلى الله، دعاهم للنجاة من النار ودخول الجنة، عارضوه وكذبوه، بل آذوه ووصفوه بأقبح الأوصاف، قالوا: ساحر تارة، ومجنون تارة، قالوا: مذمم، آذوه في نفسه وحسيا، حتى يأتي عقبه بن أبي معيط الخبيث ويضع سلا الجزور على النبي ﷺ وهو يصلي، وسلا الجزور هو ما يخرج من الناقة بعد الولادة، اسمها المشيمة، مليئة بالدماء والنجاسات والقذارة، ومع هذا يأتيه وهو يصلي ﷺ فيفعل به ذلك، ووالله ما آذى النبي ﷺ عقبة من قبل ذلك، يعني لم يسبق أن آذاه ﷺ، وما سبه أو شتمه من قبل، ما ضربه، ما أخذ ماله، ما سبَّ والده أو أهله، ولكن انظر العداء الخبيث، فالله -عز وجل- يقص القصص عن النبي ﷺ ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ والنبي ﷺ بشر، يصيبه ما يصيب البشر من الغم والهم حتى الكلام، يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ الله أكبر، رسول الله ﷺ الذي كان أشرح الناس صدراً، بل امتنَّ الله -عز وجل- عليه بقوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ الاستفهام هنا استفهام تقريري للنعمة، الله -عز وجل- شرح صدر النبي ﷺ لقبول الشرع والقدر، ومع ذلك من شدة الأذى يُصيبه ﷺ ما يغمه ويهمه، ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾.
وفي هذا أيضا تسلية للدعاة إلى الله -عز وجل- وهم العلماء وطلاب العلم والخطباء، يعني: قد يعلم الناس، يخطب للناس، يرشد الناس، ثم يأتي من يؤذيه إما مباشرة أو يأتي كلام من الناس فيتأذى منه، ولذا نقول: غيرك قد أوذي، بل كلما ازداد الإنسان إيماناً ازدادت معادلة الأذى، وقد تقدّم معنا في أوائل الكتاب حديث ورقة بن نوفل حينما جاءته خديجة بالنبي ﷺ، حينما جاءه الوحي، فقال له: «ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي»، وقد قال ﷺ: «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، أي: بحسب قوة الإيمان.
فأقول: إن هذه القصص نعتبر بها، وعلينا أن نثبت في دعوتنا وفي طلبنا للعلم، وفيما يأتينا من الأذى، نسأل الله -عز وجل- أن يجنبنا وإياكم الأذى، وأن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار.
{قال -رحمه الله-: (خامسًا: ترغيب المؤمنين في الإيمان بالثبات عليه والازدياد منه، إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين، وانتصار من أمروا بالجهاد، لقوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧])}.
هذا الحكمة الخامسة، وهي ترغيب المؤمنين في الإيمان، والمراد بالإيمان هنا: الدين، اثبت على دينك، لأن الإسلام والإيمان إذا ذكر أحدهما دون الآخر شملهما، وإذا ذكر الإيمان والإسلام صار الإسلام للأعمال الظاهرة، مثل: الصلاة، الشهادتان، الزكاة، الصوم، الحج، وصار الإيمان للأعمال القلبية، مثل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.
يقول: (ترغيب المؤمن في الإيمان) يعني: في الدين، (بالثبات عليه والازدياد منه).
قال: (إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين، وانتصار من أمروا بالجهاد) انظر ماذا حصل لمن سبق؟ المؤمن مبتلى، المؤمن منصور من الله -عز وجل-، ولكن لا تتعجل؛ لأن بعض الناس يقول: لماذا لا ينصرنا الله؟ لماذا لا يدمر الله الكافرين؟ نقول: لست أنت من يتحكم، وعليك أن تعمل ما أمرت به، وإذا أتاك البلاء فاصبر، ولذا قال ﷺ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» .
إذن فاصبر، والله -عز وجل- سوف ينصر دينه، ويعلي كلمته، وقد قال ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»
{قال المؤلف -رحمه الله-: (سادسًا: تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم، لقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد:١٠])}.
هذه من الحكم في إيراد القصص، أنَّ الكافر إذا سمع القصة فإنه يخاف ويحذر، فإن قيل: وهذا الكفار يسمعون القرآن؟ نقول: نعم، تقدم قبل قليل أنهم قد يسمعون إما بأنفسهم أو بمؤمنين يقرأون عليهم!
ألا تعلم أنه في بعض إذاعات الكفار الآن يفتتحون الإذاعة بالقرآن! نعم هناك من يفتتح بالموسيقى أو بالأغاني، ولكن بعض الإذاعات غير المسلمة يفتتحون بالقرآن. لماذا؟ لأنهم وجدوا فيه راحة نفسية، وهذا يدلك على أنَّ المكذب والكافر والمعاند يرتاح للقرآن، لكلام رب العالمين، هذا أنس وطمأنينة وبركة، ولذا فبعضهم يفتتح الإذاعة بالقرآن.
وقد يسمع العرب المسلمون فإذا سمعوه اهتدوا واعتبروا، إذن ففيه تحذير لهم من الاستمرار في كفرهم.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (سابعًا: إثبات رسالة النبي ﷺ فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود:٤٩]، وقوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم:٩])}.
هذا من الحكم، وآخر ما ذكره شيخنا -رحمه الله- في الحكم من القصص في القرآن، إثبات رسالة النبي ﷺ، ووجه ذلك أنه ﷺ يخبر بما حصل في الأمم السابقة، وغير المسلمين يعرفون ذلك، إما بالكتب التي في أيديهم، مثل: اليهود والنصارى، فإن قيل: أليست التوراة والإنجيل محرفة؟ نقول: بلى هي محرفة، ولكن مع ذلك لا يزال فيها أشياء صحيحة لا سيما القصص، لأن أكثر ما تم تحريفه في الكتب هو ما يتعلق بالعقيدة، أو بالأحكام، أو بما يتعلق بأخبار النبي محمد ﷺ القادمة.
وهناك أشياء لم يحرفوها، ولذلك نحن الآن منهيون عن قراءة هذا الكتب -التوراة والإنجيل- لماذا؟ قال العلماء: لئلا تصدق أو تكذب، فقد تصدق بشيء فيها يكون مما أدخله اليهود أو النصارى، أحبارهم، وقد تكذب مما هو أصل من كلام الله وهو باق، ولذلك نمتنع عن ذلك، والحمد لله عندنا القرآن يكفينا.
إذن وجه إثبات رسالة النبي ﷺ من القصص السابقة أنه يأتي في هذا القرآن الذي هو وحي من الله بما يُطابق ما عند أولئك إما في كتبهم، أو مما تناقله الناس، والناس من القديم يتناقلون القصص، مثل: عقوبة ثمود، عقوبة عاد، عقوبة حتى قوم -عليه السلام- وإن كانوا قديماً، إلا أن مع ذلك الأخبار تتناقل، فإذا جاء النبي ﷺ بما يطابق تلك الأخبار عرف الناس أنه ما يأتي بشيء من عنده، وإنما هو وحي يوحى.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (تكرار القصص.
من القصص القرآنية ما لا يأتي إلا مرة واحدة، مثل: قصة لقمان وأصحاب الكهف، ومنها ما يأتي متكرراً حسب ما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة، ولا يكون هذا المتكرر على وجه واحد، بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة، وذِكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر)}.
هذا موضوع آخر وهو: (تكرار القصص) ومعنى التكرار: الإعادة، وقد ذكر الشيخ أن هناك قصصًا لم تتكرر، مثل: قصة لقمان -عليه السلام-، وهو رجل صالح، ولا بأس أن نقول: عليه السلام، أو أصحاب الكهف، وهم الغلمان الذين فارقوا قومهم، ثم أطبق الكهف عليهم في القصة المعروفة.
وهناك قصص تكرر، ومن أكثر القصص المتكررة قصة موسى -عليه السلام-، ومثل قصة عيسى -عليه السلام-، ونوح، وثمود، وعاد، تكررت كثيراً ليست عبثاً، وإنما لحكم.
ثم تكرارها ليس متطابقاً، يعني: ما نجد قصة موسى -عليه السلام- مثلاً في سورة الشعراء هي نفسها في سورة القصص، ولا في سورة الأعراف، وإنما بأشكال وأنواع مختلفة لحكم.
يقول شيخنا -رحمه الله-: (بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة وذكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر).
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ومن الحكمة في هذا التكرار؟
أولاً: بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها.
ثانيًا: توكيد تلك القصة لتثبت في قلوب الناس.
ثالثًا: مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها، ولهذا تجد الإيجاز والشدة غالبا فيما أتى من القصص في السور المكية، والعكس فيما أتى في السور المدنية.
رابعًا: بيان بلاغة القرآن في ظهور هذه القصص على هذا الوجه وذاك الوجه على ما تقضيه الحال
خامسًا: ظهور صدق القرآن، وأنه من عند الله تعالى، حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض)}.
هذا ما ذكره شيخنا -رحمه الله-، ولكنه أضاف في الشرح أيضاً: (صدق النبي ﷺ، فإنه إنما يأتي لما أنزل عليه)، فلو كان ﷺ يختلقها من عنده، كان تعود نفسها مرة ثانية.
فضلا أعد مرة ثانية.
{(أولاً: بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها)}.
تأمل قصة موسى -عليه السلام- وكذا قصة عيسى، ونوح، يعني هذه مهمة جداً، بيان ما سبق، وما حصل لهم، وما حصل لأممهم، وما حصل لعقوباتهم.
إذاً فهذه قصة مهمة، فتكرار القصة في عدة مواضع يدل على أهميتها والعناية بها.
{(ثانياً: توكيد تلك القصة لتثبت في قلوب الناس)}.
نعم لأن التكرار يثبت الشيء، ولذلك أمرنا بالفاتحة لأننا في حاجة لها دائماً، الفاتحة هذه السورة العظيمة التي هي أعظم سور القرآن، فيها التوحيد، وفيها العمل، وفيها نفي الشرك، ﴿إياك نعبد﴾؛ لأن ﴿إياك نعبد﴾ فيها تقديم المفعول وهذا يدل على النفي، يعني: نعبدك ولا نعبد غيرك.
فيها بيان الصراط المستقيم، المنعم عليهم، فنحتاج لها دائماً فتكرار القصة إذن يثبتها في القلوب، فينتفع الناس بها.
وانظر مثلاً لو أني وصفت لك الوضوء مرة واحدة، وبعد أسبوع أعدته عليك، فإنه يثبت مرة ثانية، ولذلك ينبغي تكرار الأمور التي يحتاجها الناس دائماً، مثلاً بعض الخطباء أصحاب الفضيلة، وربما الدعاة، أحياناً يلقي كلمة في مسجد، وبعد مدة لا يرضى بتكرارها أو إعادتها، وتراه يقول: لقد ألقيتها من قبل، أو هذا الحكم علمته للناس من قبل. نقول: لا، بل علم الناس.
رمضان يتكرر كل سنة، ومع ذلك فكل عام يسمع الناس من الخطباء ومن الدعاة ومن العلماء أحكام رمضان ويستفيدون منها.
إذن تكرار القصة يثبت الشيء في قلوب الناس بما فيها من العبر.
{(ثالثا: مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها، ولهذا تجد الإيجاز والشدة غالبا فيما أتى من القصص في السور المكية والعكس فيما أتى في السور المدنية)}.
(مراعاة الزمن وحال المخاطبين) هذا أيضا يستفيد منه الدعاة إلى الله -عز وجل-، ونقول: الدعاة، والأصل في الدعوة العلماء وطلاب العلم، هم الدعاة، وأما الجاهل فلا يدعو، فإذا قلت: دعاة، يعني: العلماء وطلاب العلم.
وأوجه كلامي لطلاب العلم لا العلماء، لأن العلماء يعرفون ماذا يفعلون، ولكن الكلام مع طلاب العلم، نقول: اعلم أن لكل حال مقال، ففي العهد المكي كانت القصص قصيرة، لماذا؟ الناس ما يسمعون الكلام في الغالب، وهذا بعكس المدينة، فالناس في المدينة مؤمنون، ويردون السماع، فتجد القصة مفصلة مبينة، يعني: مبين فيها مواضع ومراحل كثيرة.
انظر مثل إلى قصة موسى -عليه السلام- في سورة القصص، فقد بين الله -عز وجل- ما كان عليه فرعون وجنوده وهامان، ثم كيف أن موسى -عليه السلام- أخذته امرأة فرعون وكيف أصبح فوائد أم موسى فارغًا، ﴿إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ ثم كيف رجع إليها، ﴿فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ﴾، ثم قتل القبطي إلى آخر القصة، وهي كما تراها مفصلة، هل لو وجد مثل هذا في مكة، هل يسمعه الناس؟ لا، لا يسمعونه، ولذا تجد القصص قصيرة في العهد المكي، أي: تُعطي الزبدة.
وأمَّا في المدينة فتجد التكرار والتطويل، وقد مر معنا أيضاً المكي والمدني، أن في المدينة البسط في السور، والطول في الآيات، وهذا بعكس مكة، فتجد فيها القصر والاختصار.
{(رابعًا: بيان بلاغة القرآن في ظهور هذه القصص على هذا الوجه وذاك الوجه على ما تقتضيه الحال)}.
هذا يدل على بلاغة القرآن، والقرآن في غاية بلاغة في اللغة العربية، واللغة العربية أجمل اللغات وأحسنها، وأمرها عظيم، فالقرآن في غاية البلاغة، لأنه نزل بلغة العرب حتى تعجبوا به، ومن الناس منذ أن سمع القرآن تعجب منه وأسلم.
{(خامسا: ظهور صدق القرآن، وأنه من عند الله تعالى، حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض)}.
هذا أيضا يدل على صدق القرآن، تأتي القصة في سورة وفي أخرى والأحداث قد تكون غيرها، ولكن ليس بينها تناقض ولا تعارض، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ فما كان من عند الله كان متسقاً ومنتظماً.
وأيضاً قلت: إن الشيخ -رحمه الله- قال: (وفيها) يعني: في تكرار القصص صدق النبي ﷺ، وأنه إنما يأتي بما أنزل عليه، ووجه ذلك أنه لو كان يختلقه ﷺ كان يأتي بنفس القصة ولم يغيرها، أو يغير شيئًا بسيطًا، ولكن تغيير كامل يعني سياق آخر، فهذا يدل على أنه ما يأتي بشيء من عنده، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (الإسرائيليات.
الإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل من اليهود وهو الأكثر، أو من النصارى. وتنقسم هذه الأخبار إلى ثلاثة أنواع)}.
الإسرائيليات مأخوذة من إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب -عليه السلام- ولذلك يخطئ بعض الناس حينما يسبون إسرائيل، هم يسبون ويقصدون هذه الدولة -كفانا الله شرهم- ولكن نقول: هذا خطأ، ولكن يمكنك أن تدعو الله -عز وجل- أن يرد كيد أعداء الدين، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، وأن يكفينا الله شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن ينصر المسلمين ويحفظهم، وأن يكفهم شر من يريد بهم السوء.
ولكن كلمة إسرائيل ينبغي أن نعلم أنها اسم يعقوب -عليه السلام-، وذلك جاء في القرآن كثيرا، ﴿يا بني إسرائيل﴾ ما معنى بني إسرائيل؟ يعني: أبناء يعقوب -عليه السلام- إذن فكلمة إسرائيل أصلاً يراد بها: يعقوب.
وقيل معنى إسرائيل: عبد، يعني مثل: عبد الله، عبد الرحمن، فإسرائيل مثلها في لغتهم.
ثم إن بني إسرائيل نقول: يهود ونصارى، واليهود هم من يزعمون اتباع موسى -عليه السلام-، وسموا يهوداً إمَّا من قولهم إنا هدنا إليك، ومعنى هدنا: أي تبنا.
أو نسبة إلى يهوذا، وهو ابن يعقوب الأكبر.
وأما النصارى فهم من يزعمون اتِّباع عيسى -عليه السلام-، ونقول هنا: يزعمون؛ لأنهم لو اتبعوا عيسى -عليه السلام- حقاً أو اتبعوا عيسى -عليه السلام- حقاً سوف يقبلون رسالة محمد ﷺ، لأنهم جميعًا بَشَّروا به، وأتى ﷺ بما يصدقهم، ولكنهم ما فعلوا، وهذا في غالبهم.
نقول: النصارى إما مأخوذة من قولهم: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ حينما قال عيسى -عليه السلام-: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [آل عمران:52].
أو مأخوذة من بلدة الناصرة التي كانوا يأوون إليها أو كانوا فيها، فسموا بذلك نصارى.
ثم إنه نقلت إلينا أخبار كثيرة منهم، وهذه الأخبار كما قسمها شيخنا -رحمه الله- هنا وسبق العلماء كابن كثير وغيره في تفسيره، وقد قسموها إلى ثلاثة أقسام:
- ما جاء به شرعنا، وجاء به كتاب الله -عز وجل-، أو سنة النبي ﷺ، فنقبله.
- ما عارض القرآن أو السنة فإننا نرده.
- ما لم يأت في شرعنا تصديقه أو تكذيبه فهذا لا نصدقه ولا نكذبه، ولنا أن نخبر به على سبيل العبرة، وهذا لا بأس به، كما سيأتي الآن.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وتنقسم هذه الأخبار إلى ثلاثة أنواع:
الأولى: ما أقره الإسلام، وشهد بصدقه فهو حق.
مثاله: ما رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ: «﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:٦٧]»)}.
هذا القسم الأول، وهو (ما أقرّه الإسلام وشهد بصدقه فهو حق) أي: نقبله، ومن ذلك ما جاء من هذا اليهودي، قال: (يا محمد إنا نجد) يعني: عندنا في التوراة، (أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر إلى آخره) هنا إثبات الأصابع لله -عز وجل-، وهذه من الصفات الذاتية الخبرية التي نقر بها، بل يجب أن نقر بها؛ لأن السنة قد جاءت بها.
واعلم أنَّ صفات الله -عز وجل- نوعان: منفية، وثبوتية، وسبق الكلام عن المنفية.
وأمَّا الثبوتية، فنقول: تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- صفات ذاتية معنوية.
- صفات ذاتية خبرية.
- صفات خبرية.
الصفات الذاتية المعنوية مثل: العلم، القدرة، الرحمة.
والصفات الذاتية الخبرية، مثل: الوجه، واليدين، والعينين، والأصابع، والقدم، والساق.
الصفات الفعلية مثل: الغضب، والنزول، والاستواء، والضحك، ونقول: كلها نقر بها. لماذا؟ نقول: لأنه قد جاء بها الكتاب والسنة، ونحن نقول: آمنا وصدقنا وقبلنا، ليس لنا اعتراض، ولكن يجب في الصفات الثبوتية أن نثبت الصفة على ظاهرها بمقتضى لغة العرب، وبما يليق بالله -عز وجل-، مع نفي التمثيل. هذا مهم جدًا.
إذن نقول: نقر بها على ظاهرها، ما معنى ظاهرها؟ جاء فذا الحديث مثلا: الأصابع، فنقول لله أصابع. وجاء في الحديث («بيمينه») فنقول: لله يد يمين، ولا نحرف ولا نذهب يمينا ويسارًا أبدا.
وكذلك وجه الله، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ فنقول: لله وجه، من الذي قال ذلك؟ نقول: ربنا -عز وجل- ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾، فلا ينبغي أن نقول: تبقى ذات الله، هذا غلط، الله -عز وجل- يقول: ﴿وَجْهُ﴾ والوجه ما تحصل به المواجهة في لغة العرب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
إذن نُقِرُّ بالوجه، ونأخذ الآية على ظاهرها، ثم نقول: بما يليق بالله -عز وجل-، فنأخذ على الظاهر بما تقتضيه لغة العرب وبما يليق بالله عز وجل.
ما معنى بما يليق بالله؟
يعني بما يستحق الله -عز وجل-، يعني الصفة تتحدد بما تضاف إليه، وهؤلاء يقولون: أنتم مُمَثِّلَة! قلنا: كيف ممثله؟ قالوا: لأنكم تقولون: لله يد ووجه وأصابع وساق وقدم، فماذا بقي عليه أن يكون إنسانًا؟ وقلتم كذلك: يضحك، وينزل، ويروح، ويجيء، ويأتي. نقول: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا قُلْنَا هَذَا مِنْ قِبِل أَنْفُسِنَا!
إذن من الذي قاله؟
قلنا: إمَّا الله -عز وجل- في كتابه، أو رسولُه ﷺ.
ألم يقل ﷺ: «يَضْحَكُ اللَّهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أحَدُهُما الآخَرَ يَدْخُلَانِ الجَنَّةَ» رسولُنا ﷺ أعلم الخلق وأفصح الخلق وأبين الخلق وأنصح الخلق للخلق، يقول: «يَضْحَكُ اللَّهُ»، إذن نقول: يضحك الله، ولكن يجب أن ننفي المماثلة.
خذ مثالا: الله -عز وجل- يقول: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ فالله -عز وجل- أثبت لنفسه يدين اثنتين، ولكننا لا نمثل الله بخلقه، ونقول: انتبه لأن الإنسان له يد، والأسد له يد، والذئب له يد، والفيل له يد، والنملة لها يد، بل والباب له يد! وليس هناك عاقل يتخيل أن يد الباب كيد الإنسان، أو أن يد النملة أو غيرها كيد الإنسان.
وهكذا إذا قلنا: إن لله يد، فليس هناك عاقل يتصور أن يدي الله كأيدينا، ونقول: إذا كانت أيدي المخلوقين تتفاوت تفاوتاً عظيماً، هل يد الإنسان كيد النملة؟ أو كيد الفيل؟ وهكذا نقول في صفات الله -عز وجل-.
نقول: هل الله تعالى موجود أم لا؟
إن قالوا: ليس موجودًا قلنا: قد كفرتم، لأنه ليس من أحد إلا ويقول: الله موجود.
نقول: هل الإنسان موجود؟ نعم موجود. فيقولون: نعوذ بالله أنتم ممثلة، لأنكم مثلتم، أنتم ممثلة، أنتم حشوية على رأيكم، فنقول: لا، وجود الله غير وجود المخلوق، وجود الله ما يسبق بعدم، ووجود الله واجب، ووجد الله -عز وجل- يبقى، فوجود الله معروف وهو بخلاف وجود المخلوق.
قلنا: كذلك إذاً يد الله غير يد المخلوق، ووجه الله غير وجه المخلوق، وضحك الله غير ضحك المخلوق، وغضب الله غير غضب المخلوق، وهكذا.
هنا إثبات الأصابع، هل نثبت لله الأصابع؟
نعم نثبت لله الأصابع، لأن الذي أقر بذلك هو النبي ﷺ، بل بالعكس ضحك النبي ﷺ ضحك على كلام اليهودي العجيب.
والعجيب أن هؤلاء إن أتاهم الدليل إن استطاعوا تضعيفه ضعفوه، وإن كان ثابتاً حرفوه، وهذا الحديث في الصحيحين، في البخاري ومسلم، فما استطاعوا تضعيفه، ولذلك حرفوه وقالوا: الحديث فيه أن النبي ضحك حتى بدت أنيابه، وهذا يعني أن النبي ضحك على كلام اليهودي وكأنه قال: لم يصب الحق أو يضحك تكذيبا له.
نقول له: سبحان الله، أأنتم أعلم أم ابن مسعود رضي الله عنه؟ ابن مسعود كان حاضرًا القصة، وابن مسعود قال: (فضحك النبي ﷺ تصديقا لقول الحبر).
ثم هل النبي ﷺ يكتفي بالضحك على الإنكار؟ ألا تعلم أنه يغضب غضباً لا يقام له عند الإنكار؟ ثبت في الصحيحين أن أسامة بن زيد -رضي الله عنه وعن أبيه- شفع في امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي ﷺ بقطع يدها، فهؤلاء أهمهم أمر المخزومية، ولكنهم ما استطاعوا الكلام معه ﷺ، فأتوا إلى أسامة؛ لأن النبي يحبه ﷺ، حتى إنه في آخر حياته أَمَّرَه، فأرادوا أن يشفع، وكان صغير السن، فكان عمره ستة عشر سنة أو سبعة عشر سنة عند وفاته ﷺ.
إذن أسامة كانت له منزلة عند النبي ﷺ، فجاء ليشفع في المخزومية، ماذا فعل النبي ﷺ؟
هل ضحك النبي عليه منكرًا ذلك؟
نقول: غضب النبي وقال له: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب وقال: «فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها» . هذا هو الإنكار.
إذن هذا الرجل يصف الله بالأصابع وفي زعمكم أن الله ليس أصابع، ثم يضحك النبي عليه! إذن هذا من تحريف الأدلة، ولذا نقول: نقر أنَّ لله -عز وجل- أصابع، ونقول: لكن لا نمثل، فأصابع الله غير أصابع المخلوق تماما.
أصبع لله -عز وجل- يجعل السماوات عليه، وأصبع يجعل البحر عليه، وأصبع يجعل الثرى عليه، والأشجار عليه، ونقول: هذه تشبه أصابع المخلوق! لذا كان كل هذا من الباطل والفاسد.
{قال المؤلف -رحمه الله- (الثاني: ما أنكره الإسلام وشهد بكذبه فهو باطل، مثاله: ما رواه البخاري عن جابر -رضي الله عنه- قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها، جاء الولد أحول؛ فنزلت: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة:٢٢٣])}.
هذا النوع من الإسرائيليات المروية مما أنكره الإسلام، وذلك أنه عندهم أنَّ الرجل إذا أتى زوجته، أي: جامعها من الخلف في موضع الحرث لا في الدبر، عافنا الله وإياكم؛ لأن الجماع في الدبر من كبائر الذنوب، قال النبي ﷺ: «لا ينظرُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- إلى رجُلٍ أتى رجُلًا أو امرأةً في دُبُرِهَا» ، وقال: «مَلعونٌ من أتى امرأةً في دُبرِها» .
لكن الكلام هنا أن يأتيها من الخلف في موضع الحرث، أي: في الفرج، واليهود يقولون: لو أتاها من الخلف في موضع الحرث، فالمولود سواء كان ولدًا أو بنتًا يولد مصابا بالحول، فجاء القرآن، فقال سبحان وتعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ﴾، وقوله: ﴿حَرْثَكُمْ﴾ أي: موضع الحرث، أي: موضع الولد وهو الفرج.
أما كما قلنا الدبر فهذه من كبائر الذنوب.
قال المؤلف -رحمه الله-: (الثالث: ما لم يقره الإسلام، ولم ينكره، فيجب التوقف فيه، لما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «لا تُصَدِّقوا أهلَ الكتابِ، ولا تُكَذِّبوهم و ﴿قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ [العنكبوت:٤٦] الآية» ، ولكن التحدث بهذا النوع جائز، إذا لم يخش محذور؛ لقول النبي ﷺ: «بلِّغوا عنِّي ولو آيةً وحدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرجَ ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَهُ من النَّارِ» .
وغالب ما يروى عنهم من ذلك ليس بذي فائدة في الدين كتعيين لون كلب أصحاب الكهف ونحوه)}.
هذا النوع الثالث من أنواع الإسرائيليات، وهي القصص المروية عن بني إسرائيل كما تقدم، ونقول: هذا لم يقر به الإسلام ولم ينفه، فهنا نتوقف فيه، ويجوز لنا أن نحكيه، ومع ذلك يقول شيخنا -رحمه الله-: وغالب هذا ما فيه فائدة، مثل: ما لون الكلب حق أصحاب الكهف؟ هل كان أسود اللون أو أبيض اللون أو أحمر اللون؟ نقول: ما في فائدة من هذا!
الشجرة التي أكل منها آدم -عليه السلام-؟ ما فيها فائدة.
أيضاً البقرة التي أمر موسى -عليه السلام- أصحابه أن يذبحوها، كانت عند من؟ ما اسمه، ما عمره؟ هل عنده أولاد؟ ما هي الفائدة من هذه الأسئلة؟ المقصد العبرة وقد حصلت، ومع ذلك يقول شيخنا -رحمه الله-: التحدث بهذا النوع جائز إذا لم يخش العبد الوقوع في محذور.
ومن المحاذير أن الناس يتركون قصص القرآن وصحيح السنة ويقبلون عليها، وهذا في الواقع موجود الآن، انظر مثلا القصاص، أو بعض الناس يسمونهم: "اليوتيوبرز"، بعضهم يحكي قصصًا وغير ذلك، وتجد أن المشاهدات مثلا: 2 مليون 500 ألف، ثم يأتي عالم حبر بحر يذكر قصة من قصص القرآن، فتكون مشاهداته قليلة!
إذن مما يجب أن نتواصى به أن نأخذ العبر من القصص، وأن نقبل عليها، وأن نجبر أنفسنا عليها؛ لأن قصص القرآن والسنة جد نافعة، ولك أن تنظر مثلا إلى قصة الذين أووا إلى الغار ثم توسلوا إلى الله بأعمالهم.
فتوسل الأول بالعفة من الزنا، والثاني: ببر والديه، والثالث: بحفظ حق العامل، مخالفا لما تعارف عليه البعض من أكل حق العمال.
فهؤلاء الثلاثة حفظهم الله بسبب أسباب بذلوها لله تعالى ومنها حفظ أحدهم لحف بعض عماله. إذن هذه قصص مفيدة في القرآن والسنة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وأما سؤال أهل الكتاب عن شيء من أمور الدين، فإنه حرام لما رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّه والله: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي» .
وروى البخاري عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كيفَ تَسْأَلُونَ أهْلَ الكِتَابِ وكِتَابُكُمُ الذي أُنْزِلَ علَى نَبِيِّهِ ﷺ أحْدَثُ الأخْبَارِ باللَّهِ، تَقْرَؤُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وقدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أنَّ أهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا ما كَتَبَ اللَّهُ وغَيَّرُوا بأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ، فَقالوا: هو مِن عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا به ثَمَنًا قَلِيلًا؟! أفلا يَنْهَاكُمْ ما جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عن مُسَاءَلَتِهِمْ؟! ولَا واللَّهِ ما رَأَيْنَا منهمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الذي أُنْزِلَ علَيْكُم» )}.
هذا حكم سؤال أهل الكتاب عن أمور الدين، هذا ما يجوز، الحمد لله عندنا كتاب ربنا -عز وجل- وسنة رسولنا ﷺ تغنينا عن ذلك.
في هذا الحديث حديث البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ردّ لمن قال: إن ابن عباس يأخذ الإسرائيليات، حتى ربما شككوا في بعض ما ينقل -رضي الله عنه- إذا فابن عباس -رضي الله عنهما- ينهى عن الأخذ من بني إسرائيل.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (موقف العلماء من الإسرائيليات.
اختلفت موافق العلماء، ولا سيما المفسرون من هذه الإسرائيليات على ثلاثة أنحاء:
أ- فمنهم من أكثر منها مقرونة بأسانيدها، ورأى أنه بذكر أسانيدها خرج من عهدتها، مثلُ: ابن جرير الطبري.
ب- ومنهم من أكثر منها، وجردها من الأسانيد غالبا، فكان حاطب ليل مثل: البغوي الذي قال شيخ الإسلام ابن تيميه عن تفسيره: إنه مختصر من الثعلبي، ولكنه صانه عن الأحاديث الموضوعية والآراء المبتدعة، وقال عن الثعلبي: إنه حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.
ج- ومنهم من ذكر كثيرا منها، وتعقب البعض مما ذكره بالتضعيف أو الإنكار مثل: ابن كثير.
د- ومنهم من بالغ في ردها ولم يذكر منها شيئا يجعله تفسيرا للقرآن كمحمد رشيد رضا)}.
ختم الشيخ -رحمه الله- هذا المبحث في الإسرائيليات، بهذا المبحث وهو: (موقف العلماء من الإسرائيليات) والمراد بالإسرائيليات هنا النوع الثالث؛ لأن النوع الأول لا يوجد أراء فنقبله لأن ديننا أقر به.
والثاني نرده؛ لأن ديننا رده، ولكن كلامه على الثالث إلا القصص التي لم يأت ديننا بإقرارها ولا بنفيها وتكذيبها.
هؤلاء العلماء المتحدث عنهم لهم مواقف:
منهم من أكثر منها، ولكنه قال: (مقرونة بأسانيدها) ورى أن ذكر الإسناد يغنيه وأنه بذلك خرج من العهدة، يعني ما عليه لوم، وكأنه قال: هذا الإسناد أمامك فما صح منه اقبله، وما لم يصح لا تقبله، ومن هؤلاء: ابن جرير الطبري رحمه الله.
الثاني: من جردها من أسانيدها، أي: ما ذكر الأسانيد، تراه ذكر القصة الإسرائيلية فقط، وهذا غير طيب؛ لأنه لم يذكر السند فيرجع إلى السند ليبحث وينظر فيه، ولم يتعقبها بتضعيف أو تصحيح فتقبل.
النوع الثالث من المفسرين: من ذكرها بأسانيدها وتعقبها، كابن كثير، أو ربما بدون إسناد، ولكنه يذكرها بالتضعيف أو الإنكار أو الرد، وربما ذكر العبرة إذا كانت صحيحة.
ومنهم من بالغ في رده ولم يذكر منها شيئا كمحمد رشيد رضا المصري -رحمه الله-.
إذن هذا في النوع الثالث، وهذا كما تقدم مما لا نصدقه ولا نكذبه، ولكن مع ذلك ما فيه فائدة، ومع ذلك فقد يكون في هذا القصص شيء من الفوائد اللطيفة، منها: التسلية، فأحياناً الإنسان يحتاج إلى شيء من القصص والتواريخ من أجل أن يروح عن نفسه، وهذا في الجاد، وهذا قد ذكر العلماء، فالإنسان الجاد في طلب العلم أو في القراءة أو في التمحيص والتحقيق، أحيانا يحتاج إلى راحة، وإلى أشياء مثل: القص هذه المسلية، التي لا تحتاج لصفاء الذهن، فلا بأس أيضاً بذكرها.
{إذا نصل إلى ختام هذه الحلقة، شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما قدمتم وأفدتم، وجزاكم الله كل خير}.
نُذَكِّرُ الطلاب أن يأتوا بالمصاحف معهم في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
{والشكر موصول لكم أيضًا أيها الإخوة والأخوات، نلقاكم في حلقة قادمة بمشيئة الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
7914 12