{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، نحن وإياكم في سلسلة جديدة من هذا البرنامج، نشرح فيها كتاب "أصول في التفسير" لفضيلة الشيخ/ محمد العثيمين -رحمه الله-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ محمد بن مبارك الشرافي الداعية المتعاون في وزارة الشؤون الإسلامية.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، فأهلاً وسهلاً بكم}.
الله يحييك، ويحيي السادة المشاهدين، ونسأل الله -عز وجل- لنا ولكم التوفيق والسداد، والهداية والرشاد.
{اللهم آمين.
شيخنا في مطلع هذه الحلقات لعله يَحسن الحديث عن فضل هذا العلم الذي نتدارسه ونشرع فيه، فلو حدثتمونا مشكورين عن فضل العلم، وما جاء فيه من آيات وأحاديث وأخبار السلف، لعل الله ينفع بها طلاب العلم}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد، فأشكر الله -عز وجل- أولاً وآخراً، وظاهراً وباطنًا، على ما مَنَّ به عليَّ وعليكم من هذه الدروس، والتي أسأل الله -عز وجل- أن ينفع بها، ثم أدعو الله -عز وجل- أن يحفظ هذه البلاد، وأن يحفظ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، وأن يُسدد خطاهما، وأن ينفع بهما البلاد والعباد.
ثم إني أشكر هذه الجمعية الموفقة على نشر العلم، وقد بلغنا عنها شيء من التعليم عن بعد، وهذا أمر طيب جداً، وذلك لأنَّ الناس يحتاجون إلى التعليم، وقد لا يتيسر لأكثر الناس الحضور عند العلماء وعند المشايخ، ومثل هذه البرامج الطيبة النافعة ينفع الله -عز وجل- بها البعيدين والقريبين، وأيضاً المعاصرين، وربما بعد ذلك، والله -عز وجل- بركته عظيمة.
وأمَّا العلم فلا شك أنه أفضل ما يُطلب، وأعظم ما يُبحث عنه، وقد أمر الله -عز وجل- به، ورغَّب فيه، بل أمر به خير خلقه محمد ﷺ، فقال له: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:19].
فتأمل كيف أنه رسول الله ﷺ والذي يأتيه الوحي، ومع هذا أمره الله -عز وجل- بذلك، بل ما أمره الله -عز وجل- أن يطلب زيادة من شيء إلا من العلم، فقال له: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، ثم إنَّ الله -عز وجل- أثنى على العلماء ورفع شأنهم، فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]، أي أنَّ الذين يخافون من الله الخوف الواجب والخوف الصحيح هم: العلماء.
أيضاً قال الله -عز وجل- ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]، وتأمل كيف نَكَّرَ "درجات"، فقال: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ ولم يقل: {الدرجات}، والتنكير أحياناً يأتي للتعظيم، وهو كذلك هذه الآية.
أما الأحاديث عن نبينا ﷺ فهي كثيرة، ومنها:
قوله ﷺ: «طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ»[1]، ومعنى الفريضة: الأمر الواجب، ووجه الدلالة في فضل العلم في هذا الحديث: أنه فرض، والفرض يؤجر الإنسان عليه، بل إن الأجر على الفريضة خير من أجل النافلة، على أن العلم فيه ما هو فرض، وفيه ما هو نافلة. والفرض هو ما يقوم به دين الإنسان من عقيدة وعمل.
أيضا قال ﷺ: «مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ»[2]، وقال ﷺ: «وَإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ»[3].
وقد جاء عند الحاكم بسند صحيح أن أبا هريرة -رضي الله عنه- دخل السوق فصاح في الناس، أنتم هاهنا وميراث محمد ﷺ يُقسم في المسجد! فقال الناس: ميراث وإرث؟ ما وقع في قلوبهم إلا المال. ثم مال النبي ﷺ هذا أعظم ما يكون. فانْجَفَلَ الناسُ الى المسجد، أي: ذهبوا، فلما دخلوا المسجد لم يجدوا مالاً ولا درهمًا ولا بضاعةً، فتعجب الناس وقالوا: يا أبا هريرة -يرحمك الله- أين الميراث؟ فقال: هذه الحلقات التي بها علماء يدرسون للطلاب، هذا ميراث النبي ﷺ.
ولا شك أنَّ العلم هو موروث النبي ﷺ، ومن منَّا لا يريد أن يأخذ حظاً مما وَرَّثه النبي ﷺ، وهو العلم.
والعلم طريقه الطلب، فالعلم ما يُؤخذ بالتحلي ولا بالتمنّي ولا حتى بالوراثة، يعني: كم رجل من الناس كان أباه عالِمًا وهو لا يتعلم، وكم رجل من الناس لم يكن أبوه عالِمًا ولكنه أخذ العلم.
أيضًا مما يحث على طلب العلم ما جاء عن السلف وهو كثير، والمقام ليس مقام بسط ولكن نأخذ نتفًا، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "قيمة كل امرئ بما يحسن". وقال العلماء: هذه من أحسن ما قيل في العلم، فبما تُحسنه أنت كذلك، فإذا أحسنت العلم الشرعي فقيمك ترتفع؛ لأن الله -عز وجل- يقول: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]. ومَنْ أَحسن أمور الدنيا فهو كذلك بأمور الدنيا، ولهذا كانت هذه كلمة عظيمة.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما أذكره الآن: "تَدَارُسُ الْعِلْمِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، خَيْرٌ مِنْ إِحْيَائِهَا"[4]، وقال ابن عمر -رضي رعنهما-: "مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة" قد يقال: كيف هذا؟ يقول: لأنَّ العلم يُراد لغيره ويصحح العبادة، وكم من الناس عنده تعبد وعنده اجتهاد ولكنه على غير هدى، وانظر إلى الخوارج، فقد قال النبي ﷺ فيهم: «تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مع صَلاتِهِمْ، وصِيامَكُمْ مع صِيامِهِمْ، وعَمَلَكُمْ مع عَمَلِهِمْ، ويَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»[5]، ما الذي منعهم؟
ليس عندهم علم، ولم يأخذوا به، نعم عندهم اجتهاد في العبادة، ولكن ما عندهم علم، ولذا كان العلم ذا شأن عظيم وكبير.
ثم إنَّ العلم أيضاً فيه أُنسٌ ولذة لمن أقبل عليه وصدق، حتى يستغني عن الناس وعن كثير من الأمور التي انهمك الناس فيها الآن، ولا سيما الجوّال، فالآن الجوّال قد حرم كثيراً من الناس من العلم، بل من العبادة، بل قل: من اللذة الحقيقية في العلم، القرآن، السنة، الحفظ، المراجعة، التسميع، الحضور، دروس العلم، بحث المسائل، كل هذا فيه لذة.
يقول الإلبيري -رحمه الله- في قصيدته المعروفة:
فالعلم له لذة وله طرب في النفس، ولكن متى؟ متى صدق الإنسان فيه، وصبر عليه، فالعلم بل كل شيء عالٍ يحتاج إلى صبر.
ما معنى العلم؟ العلم هو: قال الله، قال رسوله ﷺ، فالله -عز وجل- أعظم شيء، ونبينا ﷺ خير الخلق، وكلامه خير كلام البشر، فمنزلته عظيمة جداً، ولذا فهو يحتاج إلى صبر، وإلى مصابرة، وإلى طريق في العلم، ولعلك تنتقل إلى نقطة ثانية.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا لو تحدثنا عن الأسباب المعينة على التحصيل، حيث إن كثيرًا من الناس يسمع عن فضل العلم، وله رغبة في تحصيله، ولكنه لا يعرف الطريق إلى ذلك، وربما يتخبط في منهجيات التحصيل، فما هي الأسباب شيخنا المعينة على تحصيله؟}.
الله المستعان، أولا وآخرا نقول: لا شك أن العلم لعظمه ولأهميته ولفضله، صار ليس لكل أحد أن يحصله، بل لابد له من طرق، ولا بد له من منهجية، ولابد للإنسان من أن يحفل ويهتم به.
نقول: قد ذكر العلماء طرق تحصيل العلم، وأول هذه الطرق النية الصالحة. لماذا تطلب العلم؟ لماذا تتعلم؟ لماذا تحفظ القرآن؟ لماذا تحضر الدروس؟ لماذا تحضر حلقات القرآن؟
إذن لابد من نية صالحة، ونية طالب العلم ينبغي أن تكون أولاً: امتثال أمر الله -عَزَّ وجل- ثم استجابة لأمره، ولأمر النبي ﷺ، وتحصيلًا لفضل العلم.
أيضا أن يطلب الإنسان العلم ونيته هي العمل، وعلامة ذلك أن الإنسان كلما تعلم حكمًا امتثله، فإن كان أمراً أتى به، وإن كان نهياً اجتنبه، وإن كان خبرًا صدَّق به.
أيضاً من أهداف طالب العلم والنية الصالحة في ذلك: أن ينوي به أن يُبَلِّغَ الناس، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: لا شيء يعدل العلم لمن صَحَّتْ نيته، قيل له: وكيف تصح النية يا إمام؟ قال: أن ينوي به رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن غيره، وعلامة ذلك -أي: رفع الجهل عن نفسه- أن يعمل بما يعلم، وعن غيره أن يدعو إلى الله -عز وجل- إذا تأهل لذلك.
ثم إنَّ الإنسان في هذه النية تجد عنده الحرص، وعنده الشغف بتحصيل العلم ليبلغه، وذلك بأمرين:
أن يضبط العلم، وأن يحوي العلم، وأذكر أن شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- لَمَّا كنا عنده كنا نراه يميز بعض الطلاب لماذا؟ لأنه يرى في هذا -الذي يميزه- أنه سيتجه إلى الدعوة إلى الله -عز وجل-، بينما بعض الطلاب ليس كذلك، والناس يتفاوتون، بل حتى التفاوت بين طلاب العلم كبير، فتجد شيخنا -رحمه الله- قد يهتم ببعض الطلاب دون الاهتمام الكامل بالآخرين، مع أنَّ الشيخ -رحمه الله- كان يهتم بالجميع، ويعتني بهم عناية كبيرة، ولكنه يميز بعض الطلاب؛ لأنه يرى فيه أنه أهل، بل رُبَّما يجد الشيخ بعض الدعاة أو المعلمين ممن لهم دروس أو محاضرات في بلدانهم إذا رجعوا، تجد أن الشيخ رحمه الله يميزه، لماذا؟
لأنه يرفع الجهل عن غيره، فهو يُعَلِّم.
فإذا نوى الإنسان هذه النية فإنه يضبط العلم، ويحوى العلم ما استطاع.
حتى إن الشيخ -رحمه الله- وكان مثالا حيًّا في التعليم والتمييز للطلاب، كان أحيانا يقبل بعض الأسئلة من طالب ما يقبلها من آخر، لماذا؟ لأنه وجد أن هذا الذي قبل منه معتنٍ بالعلم، فينشرح له الشيخ ويعطيه سؤاله، بينما الآخر يسأل نفس السؤال أو يسأل سؤالا مماثلا له، ولكن الشيخ لا يهتم به، وربما يقول له: فيما بعد وهكذا.
فالمقصود أنَّ هذه من نيات طالب العلم.
الثاني: وهذا مهم جدا، اللجوء إلى الله دائما، يقول ابن القيم:
فالعلم هذا توفيق من الله -عز وجل- وبركة من رب العالمين، فإذا أصلح الانسان نيته، ثم لجأ إلى الله بالدعاء والإلحاح والافتقار، وأنه لا يعتمد على نفسه، حتى لو كان ذكيًا حافظًا قويًا صابراً، فكم من الناس عنده قوة حفظ واجتهاد وصبر، ولكنه لم يحصل العلم، أو ربما حصله ولكنه لم ينتفع به.
وكم من الناس دونه بمراحل، فهو أقل منه ذكاءً وقوة وحفظًا وصبرًا، وظروفه غير مهيأة، ولكنه مع ذلك حصل العلم، وأذكر بالمناسبة عند شيخنا -رحمه الله- كان يأتي بعض الطلاب خاصة من إفريقيا، والله يا أبا عبد الإله، بعضهم كان إذا جاءنا لا يحسن اللغة العربية، فنكرر عليه الكلام أحيانًا أكثر من مرة لأجل أن يفهم، ثم لا يلبث إلا أن يبرز عند شيخنا -رحمه الله-.
ملحظ مهم: كلمة "يبرز" هذه ما تنبغي، وبعض المشايخ سئل فقيل له: ما الذي يحتاجه طالب العلم ليبرز؟ فقال: هل البروز هذا هدف؟ لكن البروز أحيانا يكون من لازم طالب العلم.
إذن المقصود أنهم يأتون بعلم قليل، ولَمَّا كان عندهم من الصبر والجلد، ثم -فيما يظهر- نية صالحة، وصدق في اللجوء إلى الله -عزَّ وجل- يحصل العلم.
إذن اللجوء إلى الله والدعاء يساعد في تحصيل العلم، ولذا ألم تسمع قول الله تعالى لنبيه: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، وكان النبي ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا»[6]، ويقول: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا»، فالدعاء إذن نافع، الدعاء في السجود، الدعاء قبل السلام، بين الأذان والإقامة، آخر الليل، قبل الإفطار في الصيام، وأنت خالٍ بنفسك.
فإذا وجد الإنسان عنده تعلقاً بالله، رقةً في القلب، فهذه فرصة عظيمة، ولا سيما مع رفع اليدين يقول النبي ﷺ: «إنَّ ربَّكم حييٌّ كريمٌ يستحيي من عبدِه أن يرفعَ إليه يدَيْه فيرُدَّهما صِفرًا»[7]، فأسأل الله لي ولكم وللمشاهدين وللسامعين العلم والعمل الصالح.
الثالث: لابد من وجود شيخ معلم، والأصل في العلم أن يُؤخذ من العلماء الكبار، وطلاب العلم علماء ولكنهم صغار، فنقول: متى ما حصلت العالم الكبير فهذا هو الأصل فيه، ولكن إن لم يتيسر إما لظروف الإنسان، أو لبعده، أو لظرف أو لآخر، فنقول: عليك بطلاب العلم فهم قد أخذوا من العلماء، وطلاب العلم هم في الواقع علماء، ولكنهم في الطريق، فيأخذ الإنسان منهم، ويتوصل بهم إلى فهم كلام العلماء.
إذًا لا بد من معلم، ولذلك من قواعد العلم: أن من دخل العلم وحده خرج وحده، أي: من دخل العلم بلا مُعلم خرج بلا علم، وكل شيء في الدنيا لا بد له من معلم، ولذا أرسل الله -عز وجل- الرسل ليعلموا الناس، بل إنَّ الرسول ﷺ قال له الله -عز وجل-: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ﴾، ومعنى: ﴿ضَالًّا﴾ أي لم يتعلم العلم، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت:48]، وقال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾، ولذلك من تعلم العلم بغير مُعلم ما ينجح، إمَّا أنه يضل في العلم، أو أنه يطول عليه الطريق، ولذلك العالم يختصر لك، وطالب العلم المحصل يختصر لك الطريق، ويعلمك ويجعلك تأخذ خطوات للأمام، وهذا على العكس إذا ما تعلم الإنسان وحده.
ولذلك قالوا: من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، ولذلك لابد من المعلم.
عند من يتعلم طالب العلم؟
يتعلم عند من كان معروفًا بالعلم والإخلاص، فإذا كان الرجل معروفا بالعلم فما يحتاج إلى استشارة، فمثلا لو قال أحدهم: ما رأيكم في أن أدرس عند الشيخ الفوزان -حفظه الله- نقول: وهل هذا يستشار فيه؟! نعم قد تستشير مثلا في وقت الشيخ، في دروسه التي عنده، ولكن أخذ العلم من العالم هذا أمر مفروغ منه، ولكن من لا يعرف العلماء أو ما يعرف طلاب العلم في بلده، فهذا عليه أن يستشير من يثق في علمه وأمانته، هل أدرس عند هذا الشيخ أو لا؟ أو طالب العلم هذا أو لا؟
والانسان قد يضطر إلى التعلم عند العلماء أو طلاب العلم من غير اختيار متى يكون؟ نقول: في أمرين، إما في الدراسات الشرعية كمن في الجامعة أو غيرها، وبالمناسبة كم من أساتذة الجامعات عندهم علم مؤصل وقوة، ولكنهم غير مشهورين، وكم من طلاب العلم الأذكياء النجباء ممن دخل الجامعات واستفاد منهم.
وهذا بعكس ما يقوله بعض الناس الآن، يقولون: العلم في المساجد فقط، والجامعة ما فيها خير، وليس فيها بركة. نقول: على العكس من ذلك فالجامعات من دخلها جاداً وعند شيء من الأصول استفاد استفادة عظيمة؛ لأن الجامعات -خاصة عندنا جامعة الإمام محمد بن سعود، الجامعة الإسلامية، كلية الحديث في مكة، وغيرها، تجد فيها منهجية، وخلال أربع سنوات تمر على علوم كثيرة، فإذا ركز إنسان عليها، وضبط نفسه واستفاد من أساتذته واحترمهم وأجلهم؛ لأن من مفاتيح العلم إجلال المعلم، فإذا احترم طالب العلم المعلم وأظهر الاحترام والتقدير استفاد منه استفادة عظيمة، استفاد أولا من علمه، وربما أفاده الشيخ وخصه بإفادة غير هذا.
ومن اللطائف أنهم ذكروا أنَّ أبا حنيفة -رحمه الله- كان له ثلاثة طلاب مشهورون، وهم: أبو يوسف، ومحمد بن حسن، وزفر. قالوا: لقد استفاد أبو يوسف ومحمد بن حسن من أبي حنيفة فائدة عظيمة، وأمَّا زفر فقد استفاد ولكن استفادته ليست كبيرة؛ لأن زفر كان يُشغب عليه، يعني: يستشكل ويسأل وربما عاند، ولذلك لم يخصه أبو حنيفة -رحمه الله- كما خصَّ أبا يوسف ومحمد بن حسن.
إذن من المفاتيح أيضًا احترام الشيوخ المعلمين في الجامعة، يعني: بعض الناس ربما شَغَّبَ على أساتذته في الجامعة، يعني ربما رجح بعض الآراء أو رجح شيخًا وأخذ عنه، ثم يخالف أستاذ الجامعة ثم يشغب عليه، ويقول: قال الشيخ فلان كذا وكذا.
ولذلك كان السبب الرابع من أسباب تحصيل العلم: التأدب في أخذ العلم، في نفس الانسان، في نفسه وفيمن يتعلم عنده. وهذا مهم جدا ففي نفس الإنسان قد تقدم، فيفتقر إلى الله -عز وجل-.
أيضا ممن يتعلم عنده احترامه، والدعاء له، حتى كان بعض طلاب العلم وقد صاروا علماء، كانوا إذا ذهبوا إلى الشيوخ قالوا: اللهم اكتم عني عيبه، أي لا تظهر لي عيبه أو نقصه؛ لأنك إذا رأيت النقص في معلمك ما أخذت منه، ولذلك من المهم جدا عند الإنسان أن يحترم ويجل من يتعلم عنده، وبهذا يحصل العلم.
ولذلك أهل العلم ذكروا آداباً عجيبة في أخذ العلم عن العلماء، مثل: جلسة طالب العلم، كلام طالب العلم مع المعلم، خطابه له، استشكاله، فلا يقل له مثلا: أنت قلت كذا وكذا؛ لأن هذا من سوء الأدب.
أيضاً من الأدب أن تدعو الله -عز وجل- لمعلمك، وكم من الناس مات ولا يزال يدعو لمن تعلم عنده، وهذا من حق العلماء، فإذا كان هذا من حق المؤمنين عموماً، فكيف بحق العالم الذي عندك، الله -عز وجل- يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر:10]، فسبقونا بالإيمان سواء ممن مات، أو من أكبر منك سنا، والشيخ أكبر منك سنًا.
إذًا الآداب هذه مهمة جداً، وهناك كتب كثيرة كتبت في آداب طالب العلم، ومنها كتب للمعاصرين، ومنها: كتاب شيخنا -رحمه الله- هذا كتاب مهم، واسمه كتاب "العلم"، والشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- لم يخطه ويكتبه بيده، وإنما الشيخ الدكتور/ فهد السليمان -حفظه الله في أي مكان كان- جمعه من كلام ومحاضرات ودروس وكتب الشيخ العثيمين -رحمه الله- وجعل لنا هذا الكتاب النافع، "كتاب العلم".
وأيضا من الكتب كتاب الشيخ/ بكر أبو زيد -رحمه الله-، واسمه "حلية طالب العلم"، وقد عَلَّقَ عليه الشيخ العثيمين في اثني عشر درسًا، وهو كتاب نافع جدًا.
إذاً العلماء كتبوا كثيراً في آداب طالب العلم، حتى كُتِبَ "تعليم المتعلم طريقة التعلم"، وفيه كيف يطلب العلم؟ وكيف يحفظ؟ وكيف؟ وكيف؟
الخامس: من أساب تحصيل العلم، "الصبر" وهذا مهم جدًا، فالصبر في كل شيء حتى في التعلم، والتعلم لا شك أنه رفيع، وكلما كان الشيء رفيعًا، كان الطريق إليه أصعب، والحاجة إلى الصبر فيه أعظم، يصبر الطالب على العلم عمومًا، يصبر على الحفظ وعلى التكرار وعلى ترك الشهوات والملذات التي تصرف عن طلب العلم.
بعض الناس قد يغرق في المباحات التي تصرف عن طلب العلم، ومن ذلك مثلاً -وهذا نبه عليه لأهميته- أنَّ الانسان يستفتح يومه بالجوال، فينظر للرسائل والروابط والمقاطع التي وصلته.
والجوال لا نحرمه، بل صار الجوال ضرورة، ولكن نتكلم عمن يعاين أشياء غير مهمة وغير ضرورية. لماذا؟ لأن بداية اليوم وخاصة بعد النوم ينبغي على الإنسان أن يستفتح يومه بالصلاة، أو قيام الليل، أو صلاة الفجر، ولذلك كان من السنة أن الإنسان إذا قام الليل يستفتح بركعتين خفيفتين، ولعل من الحكمة أيضاً -والله أعلم- أنَّ سُنَّةَ الفجر تكون بركعتين خفيفتين أيضاً؛ لأنَّ كثيرًا من الناس لا يقوم الليل، فإذا قام ليصلي الفجر فعليه أن يستفتح أيضاً بركعتين خفيفتين، ينشط بهما نفسه.
ولكن بعض الناس ربما يقوم من فراشة فيتناول الجوال، ما نقول هذا حرام، ولكن من كان يريد تحصيل العلم، فعليه أن يترك الجوال، بل إني أنصح طلاب العلم أن يأخذوا معهم الجوال المسمى -الكشاف- لاستقبال المكالمات المهمة، وأما الجوال الذكي فيشغلك.
إذن إذا أردت العلم فهذا طريقه حفظ الوقت.
السادس: الحفظ، نقول: طالب العلم يحفظ ثلاثة:
أولاً: احفظ الله يحفظك.
ثانيًا: احفظ وقتك.
ثالثا: احفظ العلم.
أما الأول: فقد قال النبي ﷺ لابن عباس -رضي الله عنهما- وقد كان رديفه على حمار: «يَا غُلامُ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ»[8]، ولذا نقول: والله لا يحصل العلم النافع إلا من حفظ الله -عز وجل-، يحفظ الله بتعظيم الله، بإجلال الله، بتوحيده -عز وجل-، بإفراده بالعبادة، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وتعظيم ما عظَّمه الله، وتعظيم القرآن، وتعظيم المسجد، وتعظيم العلماء، وقبل ذلك تعظيم النبي ﷺ، كأن يكون عنده هيبة وإجلال واحترام لكل شعائر الله -عز وجل-، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32].
من حفظ الله: أن يحفظ الإنسان الواجبات وأن يأتي بها، كالصلوات الخمس، الزكاة، الصوم، الحج.
من تعظيم الله ومن حفظ الله: بر الوالدين، صلة الرحم، حفظ البصر، حفظ اللسان، حفظ الآذان، هذا هو الطريق الواجب أصلا، وهو طريق للعلم.
الثاني: حفظ الوقت، ولا يمكن أن تحصل العلم إلا بحفظ الوقت، حتى قال العلماء: إذا أعطيت العلم كلك، أعطاك بعضه، فلذلك من أراد ن يكون طالب علم بحق فلا بد له من الإقبال والصدق والقوة في تحصيل الوقت، ولذلك كتب العلماء أيضا في حفظ الوقت، وبينوا قيمة الزمن عند العلماء، وكيف يحفظ الانسان وقته، وطرق حفظ الوقت.
وعلى عجالة نقول: يحفظ الإنسان وقته بالدعاء، وتنظيم نفسه، وترتيب أموره، وتكثر ما استطعت من الجلوس في المسجد، وهذا مهم جدا، فالمسجد هذا أحب الأماكن إلى لله بركة، ثم إذا كنت بعد فريضة أو تنتظر فريضة فالملائكة تدعو لك، قال ﷺ في الحديث: «لا يَزالُ أحَدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ»[9].
وقال أيضًا: «إنَّ الملائكةَ تصلي على أحدكم ما دامَ في مصلَّاهُ اللهم اغفِرْ لهُ اللهم ارحَمْه ما لم يُحْدِثْ»[10].
فلو أنَّ إنسانا دعا لآخر لكان شيئًا طيبا، فما بالك لو دعا لك عالم أو دعت لك الملائكة الذين ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6]، بل الله أمرهم بذلك، وهذه وظيفتهم تدعو لك الملاكة في المسجد، ولذلك ترى البركة والخير في المسجد، ولذا نقول: والله ما أشد حرمان من ترك المسجد، مسكين والله من ترك المسجد، مسكين من صلى في بيته ولربما أعرض عن طاعة الله -عز وجل-.
نقول: اجلس في المسجد ونظم نفسك، رتب نفسك.
أيضا من حفظ الوقت أن يُرتب النوم، تنام مبكرا، والأصل أن تنام بعد العشاء، يقول أبو برزة الأسلمي -رضي الله عنه-: «كانَ النَّبيُّ ﷺ يكرَهُ النَّومَ قبلَ العِشاءِ، والحديثَ بعدَها»[11]، وأكثر الناس الآن لا يبدأ يومه إلا بعد العشاء، يقول: نمت بالأمس مبكرًا، نمت الساعة الثانية عشرة ليلا!
على كل حال ترى هذا مهم جدا، وكم من طلاب العلم أُختُرِموا بسبب حفظ الوقت، وكم ممن حفظ نفسه ووقته فاق غيره وسبق، يعني لحق من سبقه بحفظ الوقت.
الثالث: الحفظ، وما يحفظ ثلاثة:
القرآن هذا نُفرده، فهو أعظم شيء، وهو كلام رب العالمين، يقول الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت:49]، وعلى التفسيرين في الآية أنه محفوظ في صدور العلماء.
والقول الثاني: أنه يَبين في صدور العلماء، أي: يفهمونه، والقول الأول قوي جداً، أن القرآن يحفظ، وهذا هو الأصل.
واعلم أن الله -عز وجل- قد يسر حفظ القرآن لمن أقبل عليه بصدق، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر:22] هل من أحد يريد أن يتذكر؟ يريد أن يتعلم؟
وجل الصحابة -رضي الله عنهم- حفظ القرآن خلافاً لِمَا يُرُوجه بعض الناس ممن كَسُلَ وأراد ألا يُعاب عليه، وكسَّل غيره، فتراه يقول: أهم شيء الفهم، وابن مسعود يقول كذا وكذا!
ألا تعلم أن سبعين من أصحاب النبي ﷺ الذين قُتلوا في بئر معونة كلهم كان يحفظ القرآن!
وفي معركة اليمامة قُتل ما يقرب من خمسمائة من حفاظ القرآن.
جُل الصحابة كانوا حفظة، كالخلفاء الراشدين، ابن مسعود، وغيرهم، ومن أقبل على الحفظ والتحق بمعلم أو بحلقة تعليم، ولو عن بعد؛ حفظ بإذن الله -عز وجل-، ولكن عليه أولاً أن يحفظ الله، ثم يحفظ وقته.
الثاني مما يحفظ: المتون، والمتون هي الكتب المؤلفة في الفنون، في فنون العلم، فالقرآن لا نقول عنه متنًا، بل هو كلام رب العالمين، ولكن غيره يعد متنًا، كالأصول الثلاثة للشيخ الإمام محمد عبد الوهاب -رحمه الله-، ومتن القواعد الأربع، وكتاب التوحيد، فهذه الكتب الثلاثة ضرورية لطالب علم العقيدة.
أيضا يلحق بها بعدها الواسطية، وأنا أرشح كتابًا لشيخنا ابن العثيمين -رحمه الله- للبدء به قبل الواسطية، وهو: عقيدة أهل السنة والجماعة.
وطالب العلم إن بدأ بهذا أو ذاك فكل ذلك يعد طيبا، ولكن في نظري أن الإنسان يبدأ أولا بكتاب شيخنا -رحمه الله- عقيدة أهل السنة والجماعة، وإن استطاع حفظه فالحمد لله، وإلا يفهمه ويعرف شرحه ويحفظ الواسطية.
وفي الحديث نقول: الأربعون النووية، فيبدأ بها، وهي أحاديث أصول في عدة أبواب، حتى إن النووي -رحمه الله- ذكر في مقدمة الكتاب أن من العلماء من أَلَّف في الجهاد مثلاً، ألف في القرآن، ألف في كذا وكذا، وقال: جمعت أربعين حديثًا تحوي هذا كله، ولذا كان جل أحاديث الأربعين النووية تعد من أصول العلم التي ينبغي لطالب العلم أن يبدأ بها فيحفظها.
وينتقل بعدها إلى العمدة أو إلى بلوغ المرام، ولا شك أن بلغ المرام أوسع، ولكن ربما لا يسعف الإنسان الوقت، أو ربما السن، أو أيضا في الدروس التي عنده والمشايخ، فالعمدة كتاب مفيد جدا، وإن كان قد فاته الكثير من الأحاديث؛ لأنه اشترط أن تكون الأحاديث في الصحيحين، ولذا كان جل أحاديث العمدة في الصحيحين، وربما خرَّج أحيانا للبخاري فقط، ولكن جلها في الصحيحين.
على كل حال كان الكتاب الأول هو الأربعين النووية، ثم العمدة، ثم البلوغ، ولو انتقل من الأربعين إلى البلوغ فأيضا طيب.
ثم بعض الناس ربما يسمع الأصول الثلاثة، الأربعين النووية، وكتاب التوحيد، ويقول في نفسه متى أنتهي؟
نقول: العلم يؤخذ حديثاً وحديثين، وقبل ذلك آية، وآيتين، والعلم إنما يؤخذ مع الأيام والليالي، بالزمن -بالأيام والليالي- والإنسان إذا قلل واستمر وكرر كثيراً حفظ، هذه بعض قواعد الحفظ.
التقليل ثم الاستمرار، ثم كثرة التكرار، والرابع المراجعة، حتى قال الحسن البصري -رحمه الله-: عليك بالمراجعة فلولا المراجعة لكثر العلماء! ما معنى كلام الحسن؟ نقول: معنى كلام الحسن أن الإنسان يراجع علمه، فإذا لم تراجع العلم طار، ولذا فكثير من الناس يحفظ ولا يراجع، فلا يبقى مع العلم. يقول لو كان العلم يبقى وينفع بدون مراجعة كان هناك علماء كثيرين! لأنه كم من أناس في الجامعات؟ كم من أناس حضروا الدروس عند العلماء الكبار، أمثال: الشيخ ابن باز -رحمه الله-، والشيخ الفوزان حفظه الله، والشيخ ابن عثيمين؟
ألوف من الناس حضروا لديهم، ولكن كثير منهم لم يراجع ولم يضبط العلم فذهب العلم، وصار عامياً.
إذن الحفظ يحتاج إلى ضبط ومراجعة.
إذن قلنا: أول شيء هو حفظ القرآن، والثاني هو حفظ المتون، ومن المتون التي تحفظ في الفقه: شروط الصلاة للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وهذا كتاب صغير ومفيد جدا، والغالب أن كتب الشيخ/ محمد عبد الوهاب نافعة؛ لأنه ألفها لحاجة الناس، وحاجة الناس في الواقع هي حاجتنا اليوم، فالشيخ -رحمه الله- ألف للحاجة، ولذلك ألف الأصول الثلاثة للحاجة، والقواعد الأربع للحاجة، وكشف الشبهات وكتاب التوحيد كذلك للحاجة، فهي نافعة جداً.
وشروط الصلاة أيضاً مما يحفظ، وبعده ينتقل الإنسان إلى كتب الفقه المؤلفة، منها مثلاً: زاد المستقنع، وزاد المستقنع قوي جداً، ولذلك من درسه وحفظه حصَّل -بإذن الله عز وجل، ولكنه يحتاج إلى صبر، وإلى مدة، وإلى أن تأخذ شيئاً فشيئاً.
وأذكر الآن أن طالب علم من بلدي بدأ في حفظ القرآن، ووالله ما كان يحسن قراءة القرآن، فقراءته للقرآن كانت بحاجة إلى التصحيح، ولكنه كان مثابراً بمعنى الكلمة، وكانت وظيفته في منطقة أخرى وكنا نحسبه مخلصًا -زاده الله من فضله، فحفظ القرآن وكان يأتي إلى شيخ عندنا ثم يقرأ عليه ليصحح التلاوة، ثم يذهب ويحفظ ثم يرجع، فختم القرآن، وختم بلوغ المرام، وكتاب التوحيد، وزاد المستقنع، وأظن أنه ختم حتى الألفية.
هل تأملت ذلك؟! والله ما كان يحسن القراءة، وهكذا يكون طالب العلم، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل:78].
بعض الناس يريد أن يأخذ العلم جملة، والعلم يؤخذ شيئاً فشيئاً بالتدرج مع الأيام والليال، والعلماء من السلف يقولون: إنما يُؤخذ العلم حديثاً وحديثين، شيئاً فشيئاً فالتدرج.
أيضاً من المتون التي تحفظ: أصول العلم، فمثلاً في المصطلح: تحفظ نخبة الفكر، ومن قبلها البيقونية.
وفي أصول الفقه تحفظ الورقات، وهكذا لا يكاد فن من فنون العلم إلا وله متون صغيرة، وعلى طالب العلم أن يسأل عنها ليحفظها.
بقي واحدة في الحفظ وهي مهمة جدا، وهي الضوابط والقواعد في العلم، وهذه نافعة جداً، بل لا ينفع حفظ المتون إن لم يعرف الإنسان القواعد والضوابط! ما معنى القواعد والضوابط؟ نقول: في كل علم ضوابط وقواعد بينها العلماء، وجعلوا لها متوناً، خذ مثلاً في النحو، نقول: من ضوابط أو من قواعد النحو: أن الجملة نوعان: جملة فعلية، وأخرى اسمية والفعلية أركانها: الفعل والفاعل أو نائب الفاعل، والإسمية أركانها: المبتدأ والخبر، ما في جملة في الدنيا إلا بهذه الطريقة، فهذه قاعدة.
أيضًا الفاعل دائما يكون مرفوعًا، والفاعل هو الاسم المرفوع الذي يأتي بعد فعله، غلا يأتي قبله، فلو قلنا: "محمد أكل التفاحة" من الفاعل؟ الفاعل معروف وهو: محمد، نقول: الفاعل في النحو هو الضمير بعد أكل.
فتكون الجملة: "محمد أكل هو" فهذه قاعدة، وهذه هي الضوابط التي تحفظ.
مثلا في التفسير وفي الحديث أيضا: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وهكذا.
مثلا في الفقه: "المشقة تجلب التيسير" إذن القواعد والضوابط مهمة جدا، والعلماء ألفوا فيها، ومن أصغر المؤلفات فيها: منظومة الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- في اثنين وأربعين بيتًا، والشيخ ابن سعدي -رحمه الله- شرحها وعلق عليها، والعلماء بعده أيضًا قاموا بشرحها.
هناك أيضًا منظومة لشيخنا -رحمه الله-، وهي: "منظومة القواعد والأصول" في مائة واثنين بيت، وقد شرحها شيخنا -رحمه الله- شرحاً مفصلاً نافعاً. هذه من الأصول.
أيضاً طالب العلم بنفسه، وهو يدرس ويتعلم يجد ضوابط وقواعد ربما ما تكتب ولكنه قد يحتاجها، فضوابط وقواعد تقيدها أنت فتكون لك نافعة.
والإنسان حينما يقرأ كتابا من أوله إلى آخره يستفيد، ولكن حينما يُقيد ويقرأ ويخطط ويزين يزداد فهمه، وهذا مثال لي، فقد قرأت كتاب شيخنا -رحمه الله- في الأصول، فانظروا فما تكاد صفحة إلا وضعت أو خططت بها شيئا، بل قمت بتلخيص الكتاب بعدما قرأته، وذلك حتى تسهل المراجعة، وكلما راجعت استفدت أيما استفادة.
ولذا فالمقصود أن يحفظ الإنسان الضوابط والقواعد إذا ما أراد تحصيل العلم.
إذن نقول: الحفظ ثلاثة: احفظ الله يحفظك، احفظ وقتك، احفظ القرآن والحديث والمتون العلمية ثم القواعد والضوابط في كل علم بحسبه.
{أحسن الله عليكم شيخنا.
لعلنا -إن شاء الله- فيما بقي من الوقت نتكلم عن علم التفسير الذي هو شأننا في هذه الحلقات، فلو حدثتمونا عن علم التفسير، ما تعريفه؟ وما أهميته لطالب العلم؟}.
أولا: تعريف التفسير سوف يأتي فيه كلام شيخنا -رحمه الله- فنرجئه إلى وقته، ولكن من العموم هو: علم يوصلك إلى فهم معاني كلام الله، وهو مأخوذ من الفسر، وهو: التوضيح والإيضاح.
ثم إنَّ العناية بعلم التفسير وأهمية التفسير مهمة جدا:
أول ذلك: أنه من أهم العلوم إن لم يكن أهمها، وذلك أن العلم يشرف بالمعلوم، وعلم التفسير يعتني بكلام الله -عز وجل-، الذي هو القرآن، والقرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، فلا شك أنَّ العناية بالتفسير، بتفهم كلام الله، هي أشرف العلوم، أو من أشرف العلوم، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: دراسة التفسير هي امتثال لأمر الله -عز وجل-، فالله -عز وجل- يقول: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص:29]، ومعنى التدبّر: التأمل والتفكر في معاني كلام الله -عز وجل- لمعرفتها، ولأن المراد بقراءة كلام الله -عز وجل- وسماع كلام الله -عز وجل- أن نفهمه وأن نعمل به.
فإذا سمعت الكلام وأنت لم تفهمه فكيف تعمل به؟ ولذلك أنكر الله -عز وجل- على من يقرأون الكتب السابقة ولا يفهمونها، قال الله -عز وجل-: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة:78]، أي: يقرأون بدون فهم، هذا مما لا ينبغي.
إذن فالعناية بالتفسير امتثال لأمر الله -عز وجل-.
أيضاً العناية بالتفسير هي اتباع لهدي النبي ﷺ، فإنه تعلم القرآن من جبريل -عليه السلام- حروفه ومعانيه، ولذلك كان جبريل -عليه السلام- ينزل الى النبي ﷺ في رمضان، نزولاً خاصًّا لتدارس القرآن معه، قال العلماء: يعرضه عليه ويتدارس معه المعاني، حتى إنه في السنة الأخيرة التي توفي بعدها النبي ﷺ قد عرض القرآن عليه مرتين.
إذن النبي ﷺ تعلم الحروف -يعني القرآن- حفظاً، وتعلم المعاني، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: «كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»[12].
ما معنى يدارسه القرآن؟ أي: حروفه ومعانيه.
أيضا من عناية النبي ﷺ بالقرآن عدة أمور منها:
أنه فسّر القرآن بنفسه، يقول عقبة بن عامر -رضي الله عنه- سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ وَهو علَى المِنْبَرِ يقولُ: «﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال:60]، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ»[13]. كررها ثلاثا، فالنبي ﷺ فَسَّر القوة هنا بالرمي مع أن القوة يدخل فيها غير الرمي، ولكن الرمي أهم شيء، أو أقوى شيء، وهذا تفسير النبي ﷺ.
أيضاً تقول عائشة -رضي الله عنها-: «كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ بعد نزول سورة الفتح، يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ»[14]، والتأويل بمعنى التفسير ومعنى العمل.
إذن كانت حياة النبي ﷺ أيضاً تفسيرًا للقرآن، بل إنه فسر قول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ بِالْعَمَلِ.
الآن في القرآن، هل تجد في القرآن عدد الركعات؟ ما تجد ذلك، إذن كيف عرفنا ذلك؟ عرفنا ذلك من فعل النبي ﷺ، فالنبي ﷺ فَسَّر القرآن بعمله، حتى إنه ﷺ قال: «صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي»[15]، وثبت عنه ﷺ أنه صَلَّى ذات مرة على المنبر، فقام عليه واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فكَبَّرَ، وقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ ورَكَعَ ورَكَعَ النَّاسُ، خَلْفَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى، فَسَجَدَ علَى الأرْضِ، ثُمَّ عَادَ إلى المِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى حتَّى سَجَدَ بالأرْضِ»، فلما انتهى تعجب الصحابة -رضي الله عنهم- فقال لهم: «إنما فعلت ذلك لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي».
لكن هنا مشكلة، ما هي؟
يقول بعض الناس كيف يصلي على المنبر؟
نقول: رويدك رويدك، المِنبر في عهد النبي ﷺ درجات عند المحراب، فهذا المحراب وهذا المِنبر درجات، وهو مثل المحراب المسجد النبوي، فكان يصعد عليه كي يراه الناس.
إذن فهو ﷺ قد فسر القرآن بالعمل أيضاً.
وكذلك في الحج، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران:77]. كيف عرفنا الحج؟
عرفناه من فعل النبي ﷺ، ولذلك حج النبي ﷺ في السنة العاشرة مع أن الحج فرض في السنة التاسعة، قال العلماء: لعدة حكم منها:
من أجل أن يجتمع الناس فيأتموا به، ولذلك يقول جابر -رضي الله عنه-: فنودي في الناس أنَّ رسول الله ﷺ هذا العام، يقول: فاجتمع خلق كثير، حتى قال الزهري: حج مع النبي ﷺ مئة ألف وأربعة عشر ألفا، كلهم سمعوا منه، كلهم يقتدون به.
إذن النبي ﷺ فسر القرآن بالعمل أيضًا.
{شيخنا لعل الوقت قد أزف، فإن أذنتم لنا أن نكمل في حلقة قادمة}.
على خير إن شاء الله، نسأل الله -عز وجل- الإعانة.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
في ختام هذا الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] خرجه ابن ماجه (224).
[2] أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715).
[3] أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715).
[4] رواه الدارمي (271) من طريق حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وهو موقوف عن ابن عباس.
[5] رواه البخاري (5058).
[6] أخرجه ابن ماجه (925)، والنسائي في السنن الكبرى، 6/ 31، (9850).
[7] ابن ماجه.
[8] رواه الترمذي.
[9] أخرجه البخاري (659)، ومسلم (649).
[10] أخرجه البخاري (659)، ومسلم (649).
[11] أخرجه البخاري (547)، ومسلم (647).
[12] أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).
[13] رواه مسلم (1917).
[14] أخرجه البخاري (4968)، ومسلم (484).
[15] رواه البخاري