الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2976 13
الدرس الثالث عشر

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التَّدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{في الحلقة الماضية توقفنا عند قول المؤلف: (وَلَا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا أَلْبَتَّةَ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ . وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذْ قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ»، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ: «وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه إلى يوم الدَّين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذه الفتوى الحموية الكبرى التي قرَّر فيها ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وأجمع عليه سلف الأمَّة من وجوب إثبات أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسُّنَّة، والإيمان بما دلَّت عليه النُّصوص الشَّرعيَّة، والرَّد على طريقة أهل الكلام الذين حرَّفوا وبدَّلوا وغيَّروا معانيها، وردَّ عليهم من أدلة القرآن ومن أدلة السنَّة، ومن كلام الصحابة والتَّابعين، ومن كلام أئمَّة المسلمين، ثم نقل أقوال بعض أهل الكلام التي تضمَّنت الإثبات والرَّد على مَن نفى بعض الصفات، وإن كان في كلامهم بعض الملحوظات، لكن يُستفاد منها الرَّد على هذه الطريقة إجمالًا، وبيان تناقض أصحابها، والرَّد على مَن يتعلق بأشخاصٍ وهو يُخالفهم.
ثم ختم هذا الكتاب بما سنقرأه في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى-، فهو يقول لكل مسلم ومسلم ولكل مؤمن ومؤمنة ولكل طالب علم وطالبة علم: لا تظن أن القرآن والسُّنَّة فيهما تناقض أبدًا، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82].
ومن ذلك أن بعضهم يظن أن ظاهر الآية يدل على معنى فاسد، فهو يظن هذا المعنى الفاسد ويقول: الآية تدل على كذا، ثم يذهب فينفي بعض ما دلَّت عليه النُّصوص الشرعية، وذكر الشيخ مثالًا على هذا، وفي التَّدمريَّة ذكر أربعة أمثلة على نحو هذا المعنى -في القاعدة الخامسة.
وثبت في النُّصوص الشرعيَّة أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق العرش، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، والنَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ، وَيَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» ، فهذا ثبت ثبوتًا قطعيًا، وهو يدل على ثبوت علو الله أيضًا، ثم جاء بعض الذين غلطوا وقالوا: إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4]، ويقول: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7]، فهم ظنُّوا أنَّ معنى قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حالٌّ في كل الأمكنة، وكلام ابن المبارك، وكلام السَّلف، وكلام ابن خفيف الذين ردوا فيه على الحلوليَّة وأثبتوا علو الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهذا الفهم الخاطئ يهجم على أذهان بعض الناس، ومَن كان فهمه سليمًا لم يتبادر إلى ذهنه هذا الشَّيء، كالصَّحابة والتَّابعين، وأغلب المسلمين -والحمد لله- لا يفهمون هذا الفهم السقيم، فقالوا في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ، أي: معكم بعلمه وإحاطته وسمعه وبصره، وهو فوق عرشه -سبحانه وتعالى.
والحلوليَّة ظنُّوا أنَّ الله حالٌّ في كل مكان، وأن هذا يتناقض مع ما ثبت من علوه، فبيَّن الشيخ أنَّ الفهم غلط، وردَّ عليه، وذلك أنَّ الله معنا حقيقة، يعني: معنا بعلمه وسمعه وبصره وقدرته وإحاطته، لا تخفى عليه خافية، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السَّماء، يعلم السَّر وأخفى، ويعلم ما في القلوب، ويعلم كلَّ شيء -سبحانه وتعالى- وهو فوق العرش وفوق خلقه، ولهذا قال الشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَ)، يعني: جمع الله -عَزَّ وَجَلَّ- بينَ علوِّه فوق عرشه واستوائه عليه، وبينَ أنَّه مع خلقه، فقال: -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ، فهذا هو العلو، وهذه فوقيَّته على العرش -سبحانه وتعالى- ثم قال بعد ذلك: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ، فجمع بين علوه وبين معيَّته، ولم يقل -سبحانه وتعالى- إنَّه حالٌّ في الأمكنة، أو أنَّه مختلطٌ بالخلق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ولَمَّا ظنَّ بعضُ الزَّائغين هذا الظَّن؛ قال السَّلف: "إنَّ الله على العرش بائنٌ من خلقه"؛ حتَّى يُبطلوا هذا الفهم السَّقيم.
{قول المؤلف: (وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً)، هل فيه إشكالٌ أو لَبسٌ؟}.
معنى قوله: أنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- معنا حقيقة كما أخبرَ، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق عرشه، ولا يغيب عن خلقه، وسيوضح الشيخ هذه الجملة بعدَ قليل، فإثبات المعيَّة في كل مقامِ بحسبه، وسيأتي تفصيل هذه الجملة، وسيأتي الشيخ بأمثلة تُجلِّي المقام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ "مَعَ" فِي اللُّغَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَلَيْسَ ظَاهِرُهَا فِي اللُّغَةِ إلَّا الْمُقَارَنَةَ الْمُطْلَقَةَ؛ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ مُمَاسَّةٍ أَوْ مُحَاذَاةٍ عَنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ؛ فَإِذَا قُيِّدَتْ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي دَلَّتْ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرَ مَعَنَا أَوْ وَالنَّجْمَ مَعَنَا. وَيُقَالُ: هَذَا الْمَتَاعُ مَعِي لِمَجَامعَتِهِ لَك؛ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ رَأْسِك. فَاَللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ حَقِيقَةً)}.
كلمة "مع" إذا أُطلقت تدل على المقارنة المطلقة، ولا توجب المخالطة ولا الاتِّحاد ولا الحلول، لكن إذا قُيِّدَت بمعنًى من المعاني صارت حسب القيد الذي قُيِّدَت به.
وضرب الشيخُ مثلًا -ولله المثل الأعلى- تقول: ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنا. فهذه كلمة دائرة على ألسنة الناس، فالقمر معنا الآن ما غاب، وهذا لا يعني أنَّه داخل في وسطنا، ولا أحد يفهم هذا.
ولَمَّا نقول: النَّجمُ معنا، أو الشَّمس معنا، ما زلنا نسيرُ والسَّحاب معنا يُظللنا؛ فهذا لا يعني أنَّه مختلط معنا، ولا أحد يفهم هذا الكلام، فالمعيَّة تدلُّ على مُطلق المقارنة، فإذا قُيِّدَت بحسب التَّقييدات، فلما يقول ربنا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ، لا يعني أنَّه حالٌّ في الأمكنة، ولا نقول: إنَّه ليس معنا.
ومعيَّته توجب مراقبته والخوف منه ورجاءه ومحبَّته والطمع في فضله، فلو تصدَّق إنسان بصدقة سر ما أحد يراها؛ فإن الله يعلم ذلك، ولو تكلم بكلمة سر فيها خير فالله يعلمها، حتى لو أخفى عنك أحد من العباد ذلك فإنَّ الله يعلمه، وهذا يدلُّك على وجوب الإخلاص في كل أعمالك، وترجوا ثواب الله، وفي نفس المقام إذا هممت بمعصيةٍ فتذكر مراقبة الله لك، وأن الله يراك، فاستحِ من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكمال الإيمان أن تستحضر هذا المعنى، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ هَذِهِ " الْمَعِيَّةُ " تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ الْمَوَارِدِ فَلَمَّا قَالَ: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ . دَلَّ ظَاهِرُ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ؛ شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ)}.
إذًا؛ المعية الحقيقيَّة معناها: أنَّه مُطَّلعٌ عليكم حقيقة، شهيدٌ عليكم حقيقة، فليس في الصفات مجاز، ما دام أنَّ الله أخبر بذلك نقول: آمنَّــا، ولا نقول إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يجوز أن يحل في خلقه؛ لأنَّ هذا هو قول أهل الضَّلال وأهل الكفر، فمن قال إنَّ الله حالٌّ في خلقه فهو كافر، فنترك الكيْف؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس كمثله شيء، قال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، وقال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾ [طه: 110]، فالله تعالى ليس مثل خلقه حتى تضرب له الأمثال، أو تتخيله العقول، أو تتصوره الأذهان، معاذ الله!
إذًا؛ هذا معنى قول السلف: "إنه معهم بعلمه"، يعني: أنَّه مطَّلعٌ على عباده، شهيدٌ عليهم، مهيمنٌ عليهم، سميعٌ بصير -سبحانه وتعالى.
قوله: (وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ)، أي: ليس ظاهر الخطاب ما فهمه بعضُ الزَّائغين من أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حالٌّ في الأمكنة، وأنَّه موجودٌ بذاته في كل مكان؛ فهذا قولٌ كفر، وإنَّما ظاهر الخطاب أنَّه معهم بعلمه وإحاطته، وأنَّه مطَّلعٌ عليهم وشهيدٌ عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُو﴾ الْآيَةَ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ: ﴿لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾ كَانَ هَذَا أَيْضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ وَدَلَّتْ الْحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ)}.
وهذا واضح، فلمَّا يقول ربُّنا: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ ، معناه: إحاطته وعلمه، ولكنَّه فوق عرشه، عالٍ على خلقه، بائنٌ من خلقه، ليس حالًّا في الأمكنة، ولذلك فأوَّل الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وآخر الآية ﴿أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، فهذا ليس معناه أنَّه -سبحانه وتعالى- حالٌّ في الأمكنة -كما يقول الزَّائغون.
ولما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأبي بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ﴿لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾ ، فهذا حقٌّ على ظاهره، يعني معنا بتأييده وحفظه ونصره، فلا يتسلَّط علينا العدو.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: ﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ . هُنَا الْمَعِيَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ)}.
والمعنى ظاهر من السياق، فقوله: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: ﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ ؛ فهذه المعيَّة تقتضي العلم والإحاطة وأنَّ الله شهيدٌ عليهم وينصرهم، ويكفيهم شرَّ أعدائهم، فهذا هو ظاهر النَّص، وليس ظاهره الحلول كما ظنَّ الزَّائغون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى صَبِيٍّ مَنْ يُخِيفُهُ فَيَبْكِي فَيُشْرِفُ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ فَوْقِ السَّقْفِ فَيَقُولُ: لَا تَخَفْ؛ أَنَا مَعَك أَوْ أَنَا هُنَا؛ أَوْ أَنَا حَاضِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. يُنَبِّهُهُ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْمُوجِبَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ دَفْعَ الْمَكْرُوهِ؛ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَبَيْنَ مُقْتَضَاهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَا. فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ)}.
هذا مثال الناس يستعملونه ويرونه، ولا يقتضي الحلول أو المخالطة، فإذا دخل شخص على صبي يُخيفه ويهدده، فيُشرف عليه أبوه من السَّطح ويقول: لا تخف يا بني أنا معك -وبينهما عشرين مترًا أو ثلاثين- وهو غير مخالط له، بل الآن ربما يكون بالهاتف يقول: يا بني لا تخف أنا معك وأتابعك، فليس المعنى أنَّه جالس معه أو مختلط به، وهذا بين المخلوقين معروف، فكيف يأتي زائغ ويقول إن قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يعني مختلط! فهذا كلام فاسد، وليس هذا هو ظاهر النَّص، فيُعرَف معنى المعيَّة من السياق ومن القرائن المحتفَّة بها،
ولهذا قال الشيخ: (فَفَرْقٌ بَيْنَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَبَيْنَ مُقْتَضَاهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَا. فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ)، يعني: معنى المعيَّة: مطلق المقارنة -وتقدم هذا- أمَّا مقتضاها؛ فقد تقتضي في موضع النصر التأييد، وفي موضع آخر تقضي المتابعة والحفظ والكلاءة، وفي موضع قد تقتضي العقوبة لمن يعاند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يخفى عليه شيء، فهذه المقتضيات التي تقتضيها المعيَّة بحسب السياق وبحسب المقام، فلمَّا يقول ربنا: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْ﴾ ، فهنا تقتضي التأييد والنُّصرة، ولكن لَمَّا يقول للخلق ولكل الناس وكل البشر كافرهم ومؤمنهم: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ، فهنا المعيَّة تقتضي الإحاطة والقدرة، إذًا معنى المعيَّة: مطلقة المقارنة، وهو فوق عرشه -عَزَّ وَجَلَّ- وليس معناه أنَّه مخالطٌ لهم.
قال الشيخ: (وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَ)، يعني: لما تقتضي العلم والإحاطة فيكون معنى المعيَّة هنا: العلم والإحاطة ونحو ذلك، فما اقتضته المعيَّة يجعلونه هو معنى المعيَّة، فيختلف باختلاف المواضع التي جاءت فيه، ولكن هي في لغة العرب لمطلق المقارنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَلَفْظُ "الْمَعِيَّةِ" قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ يَقْتَضِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُمُورًا لَا يَقْتَضِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ؛ فَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ دَلَالَتُهَا بِحَسَبِ الْمَوَاضِعِ أَوْ تَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمِيعِ مَوَارِدِهَا -وَإِنْ امْتَازَ كُلُّ مَوْضِعٍ بِخَاصِّيَّةٍ- فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ- مُخْتَلِطَةً بِالْخَلْقِ حَتَّى يُقَالَ قَدْ صُرِفَتْ عَنْ ظَاهِرِهَ)}.
هذا هو لُب الموضوع، وهو أنَّنا نردُّ على الحلوليَّة القائلين بأنَّ الله حلَّ في الأمكنة، أو قالوا: إنَّ الله اتَّحدَ بها واختلطَ بها، أو قالوا: إنَّ الخالق والمخلوق شيء واحد؛ فهؤلاء كفار، ومَن قال: بهذا فهو كافر معارضٌ للكتاب والسنَّة، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق خلقه، استوى على عرشه، وهو العلي العظيم، ليس حالًّا في المخلوقات.
نأتي إلى جزئيَّة أخرى؛ وهي أنَّ واحدًا أو اثنين أو عشرة من هؤلاء اشتبهت عليهم بعض النُّصوص لجهلهم أو لعجمتهم أو لقلَّة فهمهم باللغة العربية فقالوا: إنَّ قوله تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ أي: أنه مختلط بالخلق؛ فنقول: ليس هذا هو ظاهر النَّص؛ فإنَّ ظاهر النَّصِّ أنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- معهم بعلمه، ثم يُنظَر في المواضع، فقد يقتضي بعضها النُّصرة والتَّأييد، لما يقول -عَزَّ وَجَلَّ- لموسى وهارون لما ذهبا إلى فرعون ﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ ، فهذه هي معيَّة العلم والسَّمع والرؤية والإحاطة والنُّصرة، والحفظ من فرعون فلا يتعدَّى عليهما، فيطمئنُّون ويتوكَّلان على الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فليس مقتضى المعيَّة هنا أنَّ الله بذاته المقدَّسة في الأرض عندهم، فهذا فهمٌ سقيمٌ، لا نقول صُرِفَ اللفظُ عن ظاهره؛ لأنَّ ظاهره لا يدلُّ على اختلاط الرَّب بالمخلوق أبدًا، وظاهر النَّص واضح جدًّا، وهو أنَّ الله معهم بعلمه وقدرته وحفظه ونصره وتأييده.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَنَظِيرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ "الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ" فَإِنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَتَا فِي أَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَلَمَّا قَالَ: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ ؛ كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ لَهَا اخْتِصَاصٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْكَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهُ فَقَدْ رَبَّهُ وَرَبَّاهُ رُبُوبِيَّةً وَتَرْبِيَةً أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرً﴾ ، وَ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلً﴾ . فَإِنَّ الْعَبْدَ تَارَةً يَعْنِي بِهِ الْمَعْبَدَ فَيَعُمُّ الْخَلْقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ ، وَتَارَةً يَعْنِي بِهِ الْعَابِدَ فَيَخُصُّ؛ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فَمَنْ كَانَ أَعْبَدَ عِلْمًا وَحَالًا كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَكْمَلَ؛ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ "مُشَكِّكَةً" لِتَشَكُّكِ الْمُسْتَمِعِ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ وَالْمُحَقِّقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ جِنْسِ الْمُتَوَاطِئَةِ؛ إذْ وَاضِعُ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا مُخْتَصًّا مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ فَلَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهَا بِلَفْظِ)}.
سبق أنَّ المعية تكون عامَّة كما في قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ، وتكون معيَّة خاصَّة.
مما يُشبه المعيَّة من جهة العموم والخصوص: الرُّبوبية، فالرُّبوبيَّة يشترك فيها جميع الخلق، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- هو ربُّ العالمين، وجميع الخلق دون الله -سبحانه وتعالى- كلُّهم مربوبون مخلوقون، قال -عَزَّ وَجَلَّ- عن سحرة فرعون لَمَّا أسلموا قالوا: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ ، فالله ربُّ العالمين، وهو ربُّ موسى وهارون. لماذا هذا التَّخصيص؟
لأنَّها ربوبيَّة خاصَّة، تقتضي معنًى زائدًا مع ما تقتضيه من الرُّبوبية العامة، بأنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- ربَّاهم تربيةً خاصَّة فيها التَّعليم، وفيها النُّبوَّة، وفيها هدايتهم لأحسن الأمور، وإنزال الوحي عليهم، وفيها حفظهم ونصرتهم.
وكذلك العبوديَّة، فالخلق كلهم عباد الله، قال تعالى: ﴿إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ ، وقال في سورة الفرقان: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنً﴾ [الفرقان: 63]، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أكمل الخلق وأشرفهم وأفضلهم، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في وصفه ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلً﴾ ، وقال: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10]، في عدَّة مواضع؛ فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبدٌ لله، وهذه صفته.
وقال -عَزَّ وَجَلَّ- في صفة أهل الجنَّة: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ ؛ وقال في جميع الخلق ﴿إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ ؛ فكل العالمين من الجن والإنس حتى الملائكة عباد الله، ولكن يتمايزون، فأكملهم أكملهم عبادة للربِّ -عَزَّ وَجَلَّ.
إذًا؛ هناك عبوديَّة عامَّة وهي القسريَّة، وهذه يدخل فيها المؤمن والكافر، فالكفار الذين لم يعبدوا الله والملاحدة هم مقهورون مخلوقون مربوبون، فهم عباد له -عَزَّ وَجَلَّ- قهرًا، وهذا ليس معناه أنَّهم عبدوه؛ لكنَّهم مُعبَّدون مربوبون مخلوقون؛ فهذه هي العبوديَّة العامة.
أمَّا العبوديَّة الخاصَّة: فهي التي أقبلَ فيها العبدُ على ربِّه اختيارًا، فأسلم، وأحبَّ الله وعبده؛ وهم يتفاوتون فيها، فأكملهم هم الرُّسل.
وهذا هو معنى قول الشيخ (وَنَظِيرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ "الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ")، أي أنَّ هناكَ معيَّة عامَّة ومعيَّة خاصَّة، وهناك ربوبيَّة عامَّة وربوبيَّة خاصَّة، وهناك عبوديَّة عامَّة وعبوديَّة خاصَّة.
ثم بيَّن الشيخ ما يتعلق بالألفاظ هل هي "مشككة" أو "مشتركة" أو متواطئة؛ وهذه الألفاظ متواطئة، فاللفظ المتواطئ: هو ما يكون أصل المعنى متفق في الجميع، ولكن تتمايز في كل واحد بحسبه، لكن أصل المعنى -أدنى شيء فيه- موجود في الجميع.
{هل هذا المبحث من مباحث اللغة أو من مباحث الكلام}.
هو من مباحث اللغة ومن أصول الفقه، وهو مواضع الإشكالات، ويسبب إشكالات عند بعض الناس فلا يفهمونه جيدًا، ويخلطون بين الألفاظ المتواطئة والألفاظ المشتركة.
مثال: تقول: رأيتُ المشتري.
ممكن واحد يفهم كلامي أنَّني رأيتُ نجمَ "المشتري"، وواحد ثاني يظنُّ أنَّني رأيتُ المشتري الذي اشترى البضاعة. فلفظ "المشتري" مشترك، وما في بينهما أدنى تواطؤ.
ويمثِّلون أيضًا بــ "العين"، فيقولون: العينُ الباصرة، والعينُ الجارية، والعين -أي الجاسوس-؛ ثلاثة معانٍ ليس بينهم تواطؤ في معنى واحد، فهذا يُسمَّى لفظ مشترك.
الألفاظ المتواطئة: هي التي تشترك في أصل المعنى، وتتفاوت بحسب المقام والحال.
مثل: لفظ "الطالب"، فتجد طالبًا في المدرسة الابتدائية أو في الروضة، وتجد أعلم علماء الأمَّة إذا سُئِلَ قال: "أنا طالب" أي: أطلب العلم، فهذا طالب وهذا طالب، لكن بينهما تفاوت، ففي اللفظ تواطؤ في أصل الدراسة، ولكن هذا لا يُماثل هذا، فهذا يُسمى: لفظ "متواطئ" ولا يقتضي التَّماثل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ "الْمَعِيَّةَ" تُضَافُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ -كَإِضَافَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مَثَلًا- وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَ إلَّا لِلْعَرْشِ وَأَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلَا بِالتَّحْتِيَّةِ قَطُّ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا: عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ. ثُمَّ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ فَهُوَ كَاذِبٌ -إنْ نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ- وَضَالٌّ -إنْ اعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ- وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَفْهَمُ هَذَا مِنْ اللَّفْظِ وَلَا رَأْيَنَا أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ وَاحِدٍ، وَلَوْ سُئِلَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ هَلْ تَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ "إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ" إنَّ السَّمَاءَ تَحْوِيهِ؛ لَبَادَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَقُولَ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا؛ فَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يَجْعَلَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ شَيْئًا مُحَالًا لَا يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَأَوَّلَهُ؛ بَلْ عِنْدَ المُسْلِمينَ "أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ" وَاحِدٌ؛ إذْ السَّمَاءُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُلُوَّ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِي الْعُلُوِّ لَا فِي السُّفْلِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كُرْسِيَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ خَلْقًا يَحْصُرُهُ وَيَحْوِيهِ؟)
}.
إذا فهمتَ هذه المعاني علمتَ أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أعظم وأكبر من كل شيء، وأنَّ مَن توهَّم أنَّ السَّماء تحوي الخالق وأنَّ الله داخل السماء، وأنَّ السماء تحيط به؛ فهذا أحد أمرين:
- إمَّا أنَّه نقله عن أحد: وهذا يكون كاذب.
- أو أنَّه يعتقده: فهو ضالٌّ مضل.
ولا يوجد أحد من سلف الأمَّة ولا من أهل التَّوحيد والسُّنَّة يقول بمثل هذا، ولا يُوجَد من المسلمين مَن يعتقد هذا، وهذا لا يُوجد إلَّا في أذهان بعض المعطِّلة الذين يُحاربون منهج السلف الصالح، ويُحاولون أن يشوِّهوه بمثل هذه الأباطيل التي لو رجعوا إلى أنفسهم وإلى فطرتهم لعلموا أنَّها كذب، وأنَّها باطلة، فكيف يأتون إلى النُّصوص، ثم يقولون: إن ظاهر اللفظ أن السماء تُحيط بالخالق؟!
فهذا شيء لا يخطر ببال مسلم، فالمسلمون يعلمون أن الكرسي الذي ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قوله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة: 255]، هو موضع القدمين؛ وما السماوات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة -صحراء- والعرش أعظم من ذلك، والله أعظم من العرش وأكبر من كل شيء، فكيف يأتي هؤلاء ويقولون: إنَّ السماوات تُحيطُ بالله! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، ولا أحد يعتقد هذا من المسلمين.
ومن الضَّلال المبين الذي وقع فيه هؤلاء المعطلة والذين اتَّبعوا طريقة أهل الكلام: أنَّهم زعموا أنَّ ظاهر النُّصوص هذا المحال! فالمسلمون الذين عافاهم الله من هذه الضَّلالات لا يفهمون هذه المعاني الفاسدة، ولا يفهمون أن ظاهر النُّصوص تدل على هذا، ولا يُمكن هذا، فكيف ضلَّ هؤلاء! نسأل الله لنا ولهم الهداية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وَقَالَ: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ؛ بِمَعْنَى "عَلَى" وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَأَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ» الْحَدِيثَ. حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ قِبَلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي؛ بَلْ هَذَا الْوَصْفُ يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَنَّهُ يُنَاجِي السَّمَاءَ أَوْ يُنَاجِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَكَانَتْ السَّمَاءُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَوْقَهُ وَكَانَتْ أَيْضًا قِبَلَ وَجْهِهِ)
}.
قول النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المصلي «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ» حقٌّ ونؤمن به، وليس معناه أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- تحويه السَّماوات، أو أنَّه تحيط به المخلوقات، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق السَّماوات وفوق كل شيء، وهو على العرش استوى.
وحتَّى بعض المخلوقات يُقال في حقها هذا الشيء، فإذا كان هذا يُقال في حق بعض المخلوقات -ولله المثل الأعلى-، فإذا كان الرجل من المشركين يُخاطب السماء ويُناديها -وهذا ما يجوز، ولكن الشيخ ضربه كمثال- فتكون السَّماء في العلو، وكذلك الشَّمس والقمر، فهما مخلوقان من مخلوقات الله، فكيف يُقال في الحديث إنَّه خلاف الظاهر أو أنَّنا نحتاج إلى تأويل!!
الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق العرش، وإذا دخل المصلي في الصلاة فإنَّه يُناجي ربَّه، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قِبَل وجهه وهو فوق عرشه، فيستحضر عظمة الله -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَثَلَ بِذَلِكَ -وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْثِيلِ بَيَانُ جَوَازِ هَذَا وَإِمْكَانُهُ؛ لَا تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ» فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأُنْبِئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ؛ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ»، أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْئِيُّ مُشَابِهًا لِلْمَرْئِيِّ، فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا رَأَوْا رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَاجَوْهُ كُلٌّ يَرَاهُ فَوْقَهُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ كَمَا يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَلَا مُنَافَاةَ أَصْلًا.
وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ؛ يَكُونُ إقْرَارُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ أَوْكَدَ)
}.
ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ» فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأُنْبِئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ»، يعني في نعمه ومخلوقات.
قال: «هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ»، يعني لو كنت على سطح بيتك أو في الشَّارع وحدك ورأيت القمر فإنَّك تراه كأنَّك وحدك، وهو مخلوق، فالله أعلى وأعظم وأجل، ولله المثل الأعلى.
قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ»، هنا تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي، فالله ليس مثل الشمس والقمر، فهو ليس كمثله شيء، لكن كما ترى القمر وأنَّ هذه الرؤية تتضمَّن أنَّك ترفع رأسك فترى القمر في العلو، وتتضمَّن إثبات حقيقة الرؤية، فهي ليست مجازًا، وليست انكشاف علم، وتتضمَّن معاني أخرى، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، ورؤية الله أعظم، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن يراه -سبحانه وتعالى- يوم القيامة في الجنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ إقْرَارُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَهَذَا اللَّفْظُ "مُجْمَلٌ" فَإِنَّ قَوْلَهُ: ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ؛ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ نُعُوتَ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتِ المحدَثين؛ مِثْلُ أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِ "اللَّهِ قَبِلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي" أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يُصَلِّي إلَيْهِ وَإِنَّ "اللَّهَ مَعَنَا" ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إلَى جَانِبِنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنْ أَخْطَأَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ هَذَا الْمُحَالَ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُمْتَنِعُ صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَيَكُونُ الْقَائِلُ لِذَلِكَ مُصِيبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْذُورًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ. فَإِنَّ الظُّهُورَ وَالْبُطُونَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ. وَكَانَ أَحْسَنُ له مِنْ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَعْطَى كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ حَقَّهُ لَفْظًا وَمَعْنًى)
}.
مَن أرادَ التَّوسُّع في هذه المسألة فليرجع إلى الرسالة التَّدمرية، فإنَّ الشيخ ذكرها في إحدى القواعد، فإذا قيل: إنَّ ظاهر النُّصوص مراد أو غير مراد؛ فماذا نقول؛ فإلى الآن فيه من أهل الكلام مَن يقول إنَّ ظاهر النُّصوص غير مراد!
وأهل السُّنَّة والجماعة يقولون: إنَّ ظاهر النُّصوص لا يدل إلا على الحق، ولا يُمكن أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُنزل كتابًا ويُرسل رسولًا ويكون ظاهر كلامه الباطل!
ولَمَّا ابتلينا بقوم يقولون: إنَّ ظاهر النَّص "أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- معنا" أي أنه بجانبنا ومختلطٌ بنا سبحان الله العظيم! هل هذا هو ظاهر النَّص؟! ألا تخاف الله؟! يقول: هكذا أفهم.
مثل هذا نقول له: هذا الظَّاهر الذي فهمته غيرُ مراد قطعًا، وهذا الذي فهمته فاسد وليس هو الظَّاهر، ولا ينبغي لك أن تسميه ظاهرًا.
ويقول الشيخ: إنَّ بعض النَّاس قد يكون عندهم عقول ناقصة حتى حصل منهم هذا الفهم السَّقيم.
ونقول: ظاهر النُّصوص بهذا المعنى غير مراد، وأحسن من هذه اللفظة أن نقول: هذا المعنى الفاسد الذي تزعمونه ليس هذا هو ظاهر النُّصوص، وذلك حتى نعطي كلام الله وكلام رسوله حقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ عَنْ السَّلَفِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِمَّا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ؛ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ، أَوْ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ جَوَازًا ذِهْنِيًّا، أَوْ جَوَازًا خَارِجِيًّا؛ غَيْرَ مُرَادٍ فَهَذَا قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ السَّلَفِ أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ؛ فَمَا يُمْكِنُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ -لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا- أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا يَدٌ حَقِيقَةً)}.
هذا هو الاحتمال الثاني، وهو أن يقول: "الظاهر غيرُ مراد" أي: ما يليق بجلال الله وعظمته مما دل عليه الكتاب والسنة. وأنَّه لا يُماثل صفات المخلوقين، وإذا اعتقد هذا فهو ضال؛ بل نقول: ما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفات المخلوق ولا يماثل المخلوقين فهذا هو الحق والمراد، فنؤمن به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى يَنْتَحِلُهُ بَعْضُ مَنْ يَحْكِيهِ عَنْ السَّلَفِ وَيَقُولُونَ: إنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ -بِمَعْنَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَلَكِنَّ السَّلَفَ أَمْسَكُوا عَنْ تَأْوِيلِهَا والمتأخرون رَأَوْا الْمَصْلَحَةَ فِي تَأْوِيلِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ وَأُولَئِكَ لَا يُعَيِّنُونَ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَذِبٌ صَرِيحٌ عَلَى السَّلَفِ: أَمَّا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ فَقَطْعًا: مِثْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ السَّلَفِ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ -الَّذِي لَمْ يُحْكَ هُنَا عُشْرُهُ- عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُصَرِّحِينَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمْ مَا اعْتَقَدُوا خِلَافَ هَذَا قَطُّ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَدْ صَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَمُطَالَعَةِ مَا أَمْكَنَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ مَا رَأَيْت كَلَامَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَدُلُّ -لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا بِالْقَرَائِنِ- عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى تَقْرِيرِ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا أَنْقُلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إثْبَاتَ كُلِّ صِفَةٍ؛ بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ جِنْسَهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ نَفَاهَا. وَإِنَّمَا يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ وَيُنْكِرُونَ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ؛ مَعَ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ؛ كَقَوْلِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ: "مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا". وَكَانُوا إذَا رَأَوْا الرَّجُلَ قَدْ أَغْرَقَ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ قَالُوا: هَذَا جهمي مُعَطِّلٌ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِهِمْ، فَإِنَّ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةَ إلَى الْيَوْمِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا -كَذِبًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً- حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا وَرَمَى الْأَنْبِيَاءَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ الْأَشْرَسِ مِنْ رُؤَسَاءَ الجهمية: "ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُشَبِّهَةٌ؛ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: ﴿إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ﴾ وَعِيسَى حَيْثُ قَالَ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَ»")}.
هذا يُبيِّنُ لك خطر المذاهب الكلاميَّة، فهذا ثمامة توفي سنة 213 للهجرة، ويُمثل لك آراء لجهمية والمعتزلة، وكلماته بشعة، فهو يسبُّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
يقول ابن المبارك: "إنِّي لأحكي كلام اليهود والنَّصارى، ولا أستطيع أن أحكي كلام الجهميَّة"، وثمامة بن الأشرس من أمثلتهم، وهو عدو للإسلام وتظاهر بالدِّين، وهذه طريقة أهل الكلام.
ومعنى كلام الشيخ: أنَّ مَن زعمَ أن طريقة السلف إمَّا التَّأويل وإمَّا التَّفويض، أو أنَّ الجميع متفقون على نفي الصفات؛ فهذا الكلام باطل، وهؤلاء يجعلون الأوائل مُفوِّضَة، والمتأخرين يقولون: نختار طريقة التَّأويل؛ لأنَّ فيها دقَّة والحاجة إليها، وطريقة التَّفويض أسلم!
فهذا كلامٌ غير صحيح، وكذب على السَّلف الصَّالح، وإنَّما كان السَّلف يُثبتون الصفات، ويُنكرون على المشبِّهة، ويردُّون على الجهميَّة، والجهميَّة والمعتزلة وأمثالهم يسمون مَن يُثبت الصفات "مشبِّهًا" حتى قالوا في أنبياء الله: إنَّهم مشبِّهة، فلا عليكَ يا صاحب السَّنَّة إذا سمعتَ من بعض هؤلاء قولهم عن أهل السنَّة والجماعة أنهم مُشبِّهة أو مُجسِّمة أو حشويَّة، فلا تلتفت إلى هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَتَّى إنَّ جُلَّ الْمُعْتَزِلَةِ تُدْخِلُ عَامَّةَ الْأَئِمَّةِ: مِثْلَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ والأوزاعي وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي قِسْمِ الْمُشَبِّهَةِ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيُّ جُزْءًا سَمَّاهُ: "تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ" ذَكَرَ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَعَانِي هَذَا الْبَابِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ يُلَقِّبُ "أَهْلَ السُّنَّةِ" بِلَقَبِ افْتَرَاهُ -يَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيِهِ الْفَاسِدِ- كَمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُلَقِّبُونَ النَّبِيَّ بِأَلْقَابِ افْتَرَوْهَا. فَالرَّوَافِضُ تُسَمِّيهِمْ "نَوَاصِبَ" وَالْقَدَرِيَّةُ يُسَمُّونَهُمْ "مُجْبِرَةً" وَالْمُرْجِئَةُ تُسَمِّيهِمْ "شَكَّاكًا" والجهمية تُسَمِّيهِمْ "مُشَبِّهَةً" وَأَهْلُ الْكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ "حَشْوِيَّةً وَنَوَابِتَ وَغُثَاءً وَغُثْرًا" إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَارَةً مَجْنُونًا وَتَارَةً شَاعِرًا وَتَارَةً كَاهِنًا وَتَارَةً مُفْتَرِيًا. قَالُوا: فَهَذِهِ عَلَامَةُ الْإِرْثِ الصَّحِيحِ وَالْمُتَابَعَةِ التَّامَّةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا؛ فَكَمَا أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْهُ يُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَذْمُومَةٍ مَكْذُوبَةٍ -وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ- فَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ؛ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوهُ بِبَوَاطِنِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ الظَّوَاهِرِ، وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ بِظَوَاهِرِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ تَحْقِيقِ الْبَوَاطِنِ، وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ فَلَا بُدَّ لِلْمُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِمْ نَقْصًا يَذُمُّونَهُمْ بِهِ وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَكْذُوبَةٍ -وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا- كَقَوْلِ الرَّافضي: مَنْ لَمْ يُبْغِضْ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعُمَرَ؛ فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِعَلِيِّ إلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمَا؛ ثُمَّ يَجْعَلُ مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ناصبيا؛ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي اعْتَقَدَهَا صَحِيحَةً أَوْ عَانَدَ فِيهَا وَهُوَ الْغَالِبُ. وَكَقَوْلِ الْقَدَرِيِّ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ وَخَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ: فَقَدْ سَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارَ وَالْقُدْرَةَ، وَجَعَلَهُمْ مَجْبُورِينَ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا وَلَا قُدْرَةَ. وَكَقَوْلِ الجهمي: مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ: فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ، وَأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مَحْدُودٌ، وَأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِخَلْقِهِ. وَكَقَوْلِ الجهمية الْمُعْتَزِلَةِ: مَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ وَأَنَّهُ مُشَبِّهٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضُ، وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجَوْهَرِ مُتَحَيِّزٍ، وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَرْدٌ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ. وَمَنْ حَكَى عَنْ النَّاسِ "الْمَقَالَاتِ" وَسَمَّاهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ -بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِ الَّتِي هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ فِيهَا- فَهُوَ وَرَبُّهُ وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ)
}.
هذه الجملة تتعلق بالموقف مما يُثيره الأعداء على أهل السنَّة من الألقاب والتَّشنيعات، فلا يُبالي المسلم بذلك، حتَّى الأئمَّة الأربعة -أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة- يرى المعتزلة أنَّهم مشبِّهة ويذمُّونهم، وهناك كتاب "تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ" لابن درباس، توفي سنة 622 للهجرة -رَحِمَهُ اللهُ- دافع فيه عن أئمَّة الإسلام.
وهذا فيه حكمة؛ فالنَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان الكفار يسبونه ويشتمونه، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يعصمه ويحميه، وكل مَن ورث النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتبعه جاءه أعداء الرُّسل وقالوا له مثل ما قيل للرُّسل، فهذا علامة الإرث الصَّحيح -والحمد لله- والشيخ -رَحِمَه اللهُ- يُهددهم، فقال: (فَهُوَ وَرَبُّهُ وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ بِالْمِرْصَادِ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا سِتَّةُ أَقْسَامٍ كُلُّ قِسْمٍ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
قِسْمَانِ يَقُولَانِ: تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وقِسْمَانِ يَقُولَانِ: هِيَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا. وقِسْمَانِ يَسْكُتُونَ.
أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقِسْمَانِ:
 أَحَدُهُمَا مَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَجْعَلُ ظَاهِرَهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةُ وَمَذْهَبُهُمْ بَاطِلٌ أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَإِلَيْهِمْ يَتَوَجَّهُ الرَّدُّ بِالْحَقِّ.
 الثَّانِي: مَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ كَمَا يُجْرِي ظَاهِرَ اسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْمَوْجُودِ وَالذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ ظَوَاهِرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ إمَّا جَوْهَرٌ مُحْدَثٌ وَإِمَّا عَرَضٌ قَائِمٌ بِهِ.
فَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْمَشِيئَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَعْرَاضٌ؛ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ فِي حَقِّهِ أَجْسَامٌ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَوْصُوفًا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَكَلَامًا وَمَشِيئَةً -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَرَضًا؛ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ- جَازَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ اللَّهِ وَيَدَاهُ صِفَاتٌ لَيْسَتْ أَجْسَامًا يَجُوزُ عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَاهُ الخطابي وَغَيْرُهُ عَنْ السَّلَفِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ جُمْهُورِهِمْ وَكَلَامُ الْبَاقِينَ لَا يُخَالِفُهُ؛ وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الصِّفَاتِ كَالذَّاتِ. فَكَمَا أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ فَصِفَاتُهُ ثَابِتَةٌ حَقِيقِيَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَمَنْ قَالَ: لَا أَعْقِلُ عِلْمًا وَيَدًا إلَّا مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْيَدِ الْمَعْهُودَيْنِ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ تَعْقِلُ ذَاتًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ تُنَاسِبُ ذَاتَه وَتُلَائِمُ حَقِيقَتَهُ؛ فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ - الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - إلَّا مَا يُنَاسِبُ الْمَخْلُوقَ فَقَدْ ضَلَّ فِي عَقْلِهِ وَدِينِهِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا قَالَ لَك الجهمي كَيْفَ اسْتَوَى أَوْ كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا أَوْ كَيْفَ يَدَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي ذَاتِهِ؟ فَإِذَا قَالَ لَك لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَكُنْهُ الْبَارِي تَعَالَى غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ. فَقُلْ لَهُ: فَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ لِمَوْصُوفِ لَمْ تَعْلَمْ كَيْفِيَّتَهُ وَإِنَّمَا تَعْلَمُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي لَك؛ بَلْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ فِي الْجَنَّةِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَإِذَا كَانَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّك بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَهَذِهِ الرُّوحُ الَّتِي فِي بَنِي آدَمَ قَدْ عَلِمَ الْعَاقِلُ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهَا وَإِمْسَاكَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا؛ أَفَلَا يَعْتَبِرُ الْعَاقِلُ بِهَا عَنْ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الرُّوحَ فِي الْبَدَنِ وَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ؛ وَأَنَّهَا تُسَلُّ مِنْهُ وَقْتَ النَّزْعِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ لَا نُغَالِي فِي تَجْرِيدِهَا غُلُوَّ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، حَيْثُ نَفَوْا عَنْهَا الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالِاتِّصَالَ بِالْبَدَنِ وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ وَتَخَبَّطُوا فِيهَا حَيْثُ رَأَوْهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَدَنِ وَصِفَاتِهِ فَعَدَمُ مُمَاثَلَتِهَا لِلْبَدَنِ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ ثَابِتَةً لَهَا بِحَسْبِهَا إلَّا أَنْ يُفَسِّرُوا كَلَامَهُمْ بِمَا يُوَافِقُ النُّصُوصَ؛ فَيَكُونُونَ قَدْ أَخْطَئُوا فِي اللَّفْظِ وَأَنَّى لَهُمْ بِذَلِكَ.
وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مُجَرَّدُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالدَّمِ وَالْبُخَارِ مَثَلًا؛ أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَدَنِ وَالْحَيَاةِ وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَجْسَادِ وَمُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْسَادِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةُ كَمَا يَقُولُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ بَلْ نَتَيَقَّنُ أَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ غَيْرَ الْبَدَنِ؛ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهُ؛ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا؛ فَإِذَا كَانَ مَذْهَبُنَا فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ وَصِفَاتِهَا بَيْنَ الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ: فَكَيْفَ الظَّنُّ بِصِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
وَأَمَّا الْقِسْمَانِ اللَّذَانِ يَنْفِيَانِ ظَاهِرَهَا؛ أَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ مَدْلُولٌ هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى قَطُّ وَأَنَّ اللَّهَ لَا صِفَةَ لَهُ ثُبُوتِيَّةً؛ بَلْ صِفَاتُهُ إمَّا سَلْبِيَّةٌ وَإِمَّا إضَافِيَّةٌ وَإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا أَوْ يُثْبِتُونَ بَعْضَ الصِّفَاتِ - وَهِيَ الصِّفَاتُ السَّبْعَةُ أَوْ الثَّمَانِيَةُ أَوْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ- أَوْ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ دُونَ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّونَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ دُونَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ:
- قِسْمٌ يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؛ أَوْ بِمَعْنَى عُلُوِّ الْمَكَانَةِ وَالْقَدْرِ أَوْ بِمَعْنَى ظُهُورِ نُورِهِ لِلْعَرْشِ؛ أَوْ بِمَعْنَى انْتِهَاءِ الْخَلْقِ إلَيْهِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْمُتَكَلِّمِينَ.
- وَقِسْمٌ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهَا؛ لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ صِفَةٍ خَارِجِيَّةٍ عَمَّا عَلِمْنَاهُ:
وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْوَاقِفَانِ:
• فَقَوْمٌ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا الْمُرَادَ اللَّائِق بِجَلَالِ اللَّهِ؛ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
• وَقَوْمٌ يُمْسِكُونَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ مُعْرِضِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ.
فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ عَنْ قِسْمٍ مِنْهَا. وَالصَّوَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا؛ الْقَطْعُ بِالطَّرِيقَةِ الثَّابِتَةِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَوْقَ عَرْشِهِ وَيَعْلَمُ طَرِيقَةَ الصَّوَابِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ؛ دَلَالَةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ؛ وَفِي بَعْضِهَا قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ وَتَرَدُّدُ الْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُؤْتَاهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)
}.
هذه الأقسام الستَّة لطُرق النَّاس من موقف أسماء الله وصفاته ونصوص الصفات:
- القسم الأوَّل: يُجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقات، وهؤلاء هم الممثلة.
- والقسم الثَّاني: يُجريها على ظاهرها مع ما يليق بالله -عَزَّ وَجَلَّ- والقطع بأن الله ليس كمثله شيء، وهذه طريقة أهل الحديث وأهل السنَّة والجماعة.
- القسم الثَّالث: ينفي ظاهرها، ويقول: إنَّ ظاهرها غيرُ مراد، وهؤلاء إمَّا يقولون:
* إنَّ ظاهرها غيرُ لائقٍ بالله -عَزَّ وَجَلَّ- فينفونها.
* وإمَّا يقولون بالتَّأويل، والتأويل عندهم على وجهين:
= إمَّا يعينون المراد، فيقولون: إن "استوى" بمعنى: استولى.
= أو يقولون: لا ندري، والله أعلم، وهذا هو مذهب المفوضة.
- القسم الرَّابع: يقولون يجوز هذا وهذا ونُمسك، وكثير من الفقهاء الذين لم يُحققوا العقيدة.
- القسم الخامس: يُمسكون تمامًا ولا يتكلَّمون في هذا إطلاقًا، ويُعرضون عن الكلام فيه بقلوبهم وألسنتهم.
والطريقة الحقَّة هي ما كان عليه الكتاب والسُّنَّة وسلف هذه الأمَّة، ويُعلَّم يقينًا بدلالة الكتاب والسُّنَّة في أغلب النُّصوص، بعض النُّصوص قد تشبته هل يستفاد منه إثبات الصفة أو لا؛ فهذا يحتاج إلى علم وبصيرة ونظر دائم في الكتاب والسنة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي داود: "أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي صِلَاتِهِ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ".
فَإِذَا افْتَقَرَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ وَدَعَاهُ وَأَدْمَنَ النَّظَرَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ الْهُدَى، ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ خُبِّرَ نِهَايَاتِ أَقْدَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ والمتكلمين فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَرَفَ أَنَّ غَالِبَ مَا يَزْعُمُونَهُ بُرْهَانًا هُوَ شُبْهَةٌ وَرَأَى أَنَّ غَالِبَ مَا يَعْتَمِدُونَهُ يُؤَوَّلُ إلَى دَعْوَى لَا حَقِيقَةَ لَهَا، أَوْ شُبْهَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ، أَوْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا جُزْئِيَّةً، أَوْ دَعْوَى إجْمَاعٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، أَوْ التَّمَسُّكِ فِي الْمَذْهَبِ وَالدَّلِيلِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ إذَا رُكِّبَ بِأَلْفَاظِ كَثِيرَةٍ طَوِيلَةٍ غَرِيبَةٍ عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ -أَوْهَمَتْ الْغِرَّ مَا يُوهِمُهُ السَّرَابُ لِلْعَطْشَانِ- ازْدَادَ إيمَانًا وَعِلْمًا بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالْبَاطِلِ أَعْلَمُ كَانَ لِلْحَقِّ أَشَدَّ تَعْظِيمًا، وَبِقَدْرِهِ أَعْرَفَ إذَا هُدِيَ إلَيْهِ.
فَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيُخَافُ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُخَافُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَعَلَى مَنْ قَدْ أَنْهَاهُ نِهَايَتُهُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَهُوَ فِي عَافِيَةٍ، وَمَنْ أَنْهَاهُ فَقَدْ عَرَفَ الْغَايَةَ فَمَا بَقِيَ يَخَافُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ عَطْشَانُ إلَيْهِ قَبِلَهُ، وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَيَتَوَهَّمُ بِمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْمَأْخُوذَةِ تَقْلِيدًا لِمُعَظِّمَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدُّنْيَا: نِصْفٌ مُتَكَلِّمٌ وَنِصْفٌ مُتَفَقِّهٌ وَنِصْفٌ مُتَطَبِّبٌ وَنِصْفٌ نَحْوِيٌّ هَذَا يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْبُلْدَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْأَبْدَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ اللِّسَانَ)
}.
هنا يُبين الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أن المؤمن يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- ويُكثر من اللجوء والدُّعاء، ويُبيِّن له أنَّه إذا فهم الكتاب والسنَّة وأدمن النَّظر في هذا انفتح له باب الهدى بإذن الله.
المشكلة ليست إلَّا في المتوسطين، أمَّا الذين خبروا ووصلوا للنهاية في علم الكلام فإنَّهم ملُّوه ومجُّوه وعرفوا أنه سراب، وأما المبتدئ فإذا هداه الله فالحمد لله، أما المتوسِّط فهو الذي يظن أنَّه على هدى ويتمسَّك.
ثم ذكر الشيخ هذا المثال العجيب، وهو أنَّ أكثر ما يُفسد الناس نصف المتطبب ونصف النحوي ونصف المتكلِّم ونصف الفقيه، فكلهم يضرون الناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْغَالِبِ ﴿لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ ؛ يَعْلَمُ الذَّكِيُّ مِنْهُمْ وَالْعَاقِلُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَقُولُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَأَنَّ حُجَّتَهُ لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قِيلَ فِيهَا:
حُجَجٌ تهافت كَالزَّجَّاجِ ** تَخَالُهَا حَقًّا وَكُلُّ كَاسِرٍ مَكْسُورٌ
وَيَعْلَمُ الْعَلِيمُ الْبَصِيرُ بِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَحِقُّونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: "حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ".
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ: إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْقَدَرِ -وَالْحَيْرَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهِمْ وَالشَّيْطَانُ مُسْتَحْوِذٌ عَلَيْهِمْ- رَحِمَتْهُمْ وَرَقَقتَ بِهِمْ؛ أُوتُوا ذَكَاءً وَمَا أُوتُوا زكَاءً، وَأُعْطُوا فُهُومًا وَمَا أُعْطُوا عُلُومًا، وَأُعْطُوا سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً، ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ . وَمَنْ كَانَ عَلِيمًا بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ حِذْقُ السَّلَفِ وَعِلْمُهُمْ وَخِبْرَتُهُمْ حَيْثُ حَذَّرُوا عَنْ الْكَلَامِ، وَنَهَوْا عَنْهُ، وَذَمُّوا أَهْلَهُ وَعَابُوهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ)
}.
هذا ختام العقيدة، يُبيِّنُ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- خطر علم الكلام، وأنَّ فيه زُخرفًا، وبعض الناس يغتر به ويغتر بكلامهم ومصطلحاتهم، ومَن كان بصيرًا بهم عرف شدَّة اضطراب أهل الكلام والفلسفة، وتناقض أقواهم؛ بل إنَّ الشخص الواحد منهم يتناقض قوله بشكلٍ عظيم، فهؤلاء كما قال الشاعر:
حُجَجٌ تهافت كَالزَّجَّاجِ ** تَخَالُهَا حَقًّا وَكُلُّ كَاسِرٍ مَكْسُورٌ
فهم من وجه يستحقُّون العقوبة -كما قال الشَّافعي، وكمن وجه آخر إذا نظرتَ لهم بعين القدر -يعني أن الله قدَّر هذه الأمور- ترحمهم على هذه الحال البائسة، ولكن تذمهم وتنهى عن طريقتهم، وتعرف فقه السلف لما نهوا عن علم الكلام.
هذا ختام الفتوى الحموية الكبرى، وكما ترون أنها مليئة بمسائل مفيدة جدًّا، فنسأل الله أن يغفر للشيخ ابن تيمية ويرحمه، ونسأل الله أن يهدينا وسائر إخواننا المسلمين لطريقة أهل الحديث أهل السنَّة والجماعة الذين آمنوا بأسماء الله وصفاته كما جاء في الكتاب والسنة، وكما سارَ عليه الصَّحابة والتَّابعون، نسأل الله أن يثبتنا على طريقتهم، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{اللهم آميــن.
شكر الله لكم فضيلة الشيخ ونفع بعلمكم، ونحمد الله على التَّمام.
والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلقاكم في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك