الدرس التاسع
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء
العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن
سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أهلًا
ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا، نسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل
الصَّالح.
{في الحلقة الماضي توقفنا عند قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى هُوَ أَيْضًا
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اَللَّهِ اَلرَّازِيَّ- صَاحِبَ
مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَسَنِ، قَاضِيَ اَلرَّيِّ- حَبَسَ رَجُلاً فِي اَلتَّجَهُّمِ،
فَتَابَ فَجِيءَ بِهِ إِلَى هِشَامٍ لِيُطْلِقَهُ فَقَالَ: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ
عَلَى اَلتَّوْبَةِ، فَامْتَحَنَهُ هِشَامٌ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اَللَّهَ
عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اَللَّهَ عَلَى
عَرْشِهِ، وَلَا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. فَقَالَ "رَدُّوهُ إِلَى
اَلْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ")}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعدُ؛ يواصل شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- نقل أقوال سلف هذه
الأمَّة، وقد نقل جملةً من هذه الأقوال السلفيَّة الدَّالَّة على إثبات الصِّفات،
وإبطال مذهب أهل التَّجهُّم والتَّعطيل، ولا زلنا نقرأ في هذه الآثار، وسنقرأ
كثيرًا منها في هذا الدرس -إن شاء الله- ولن نقف على كثيرٍ من العبارات، ولكن
نُبيِّن أنَّه يُريد -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ إثبات الصفات هو منهج السلف، وليس
التعطيل، وليس مذهب أهل الكلام.
على سبيل المثال: هنا محمد بن الحسن وهشام بن عبيد الله؛ فهؤلاء من كبار العلماء
المتقدِّمين، وكان هشام قاضيًا، فحبسَ رجلًا على التَّجهُّم.
إذًا؛ التَّجهُّم وإنكار الصفات واتباع مذهب الجهم محلَّ سوءٍ وعيبٍ عند أهل العلم،
ويوجب الحبس والعقوبة حتى يتوب، فلمَّا أُطلق أرادوا أن يتأكَّدوا من سلامته فقيل
له: " أَتَشْهَدُ أَنَّ اَللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ:
أَشْهَدُ أَنَّ اَللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ
خَلْقِهِ".
وكلمة "بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ يريد بها العلماء -ومنهم هذا القاضي- أن يؤكِّدوا
عليها لأنَّهم يريدون أن يُبطلوا مذهب الحلوليَّة، فالحلوليَّة يقولون: إن الله في
كل مكان، حالٌّ في كل الأمكنة، فوق العرش وهو معنا في كل مكان مختلطٌ بنا!
وهذا كفرٌ مبينٌ، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس حالًّا في خلقه، وخلقه منفصلون،
وبالتَّالي يكون معنى قول السلف "بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ"، أي: على عرشه فوق خلقه
ليس حالًّا فيهم.
فلمَّا قال الرجل هذه الكلمة " أَشْهَدُ أَنَّ اَللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا
أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ". فَقَالَ "رَدُّوهُ إِلَى اَلْحَبْسِ
فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ اَلرَّازِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اَللَّهَ عَلَى اَلْعَرْشِ بَائِنٌ مِنْ اَلْخَلْقِ، وَقَدْ
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، لَا يَشُكُّ فِي
هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ إِلَّا جَهْمِيٌّ رَدِيءٌ ضِلِّيلٌ، وَهَالِكٌ مُرْتَابٌ،
يَمْزُجُ اَللَّهَ بِخَلْقِهِ وَيَخْلِطُ مِنْهُ اَلذَّاتَ بِالْأَقْذَارِ
وَالْأَنْتَانِ".
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ اِبْنِ اَلْمَدِينِيِّ لَمَّا سُئِلَ مَا قَوْلُ أَهْلِ
اَلْجَمَاعَةِ قَالَ: "يُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ، وَأَنَّ اَللَّهَ
فَوْقَ اَلسَّمَاوَاتِ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوَى، فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾
[المجادلة: 7] فَقَالَ: اِقْرَأْ مَا قَبْلَهَا ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ").
يعني: أنَّ معيَّة الله -سبحانه وتعالى- وقوله: ﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ ، أي:
معهم بعلمه، وقال: اِقْرَأْ مَا قَبْلَهَا ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ ؛
فكان هؤلاء الصُّوفيَّة قد اشتبه عليهم الأمر فقالوا: إنَّ الله في كل مكان، فردَّ
عليهم العلماء وقالوا: إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- معنا بعلمه، وهذا معنى قوله:
﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ ، يعني: بعلمه وإحاطته وسمعه وبصره وقدرته، أمَّا ذاته
فهو فوق العرش -سبحانه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيسَى اَلتِّرْمِذِيِّ قَالَ:
"هُوَ عَلَى اَلْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، وعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ
وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ".
وَرَوَى عَنْ أَبِي زُرْعَةَ اَلرَّازِيِّ أَنْ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ
تَعَالَى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]. فَقَالَ: " تَفْسِيرُهُ
كَمَا تَقْرَأُ، هُوَ عَلَى اَلْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، مَنْ قَالَ
غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اَللَّهِ".
وَرَوَى أَبُو اَلْقَاسِمِ اللاَّلِكَائِيُّ -صَاحِبُ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينيِّ- فِي "أُصُولِ اَلسُّنَّةِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
اَلْحَسَنِ- صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ- قَالَ: "اِتَّفَقَ اَلْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ
مِنْ اَلْمَشْرِقِ إِلَى اَلْمَغْرِبِ عَلَى اَلْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ
وَالْأَحَادِيثِ اَلَّتِي جَاءَ بِهَا اَلثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صِفَةِ اَلرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ غَيْرِ
تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَمَنْ فَسَّرَ اَلْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ فَقَدَ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ اَلنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَفَارَقَ اَلْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ
يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ أَفْتَوْا بِمَا فِي اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ
سَكَتُوا، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ اَلْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُ
وَصَفَهُ بِصِفَةِ لَا شَيْءَ")}.
كلام محمد بن الحسن هذا يؤكِّد أنَّ أبا حنيفة وأصحابه كانوا على السنة، وليس كما
انتحلت هذه الفِرَق التي جاءت بعدُ وانتسب لأبي حنيفة، ونسبت أغلاطها لأبي حنيفة،
وهنا يُبيِّن لهم أنَّ الفقهاء كلهم ومنهم أبو حنيفة -وهو صاحبه- كانوا على
السُّنَّة.
وقوله: "مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ"، أي: تفسير الجهميَّة؛ لأنَّ النُّصوص لها معاني
معروفة في اللغة العربية، وقد عرفها الصحابة، فجاء الجهميَّة وفسَّروها بالتفسيرات
المبتدعة، فحذَّر العلماء من تفسيراتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَسَنِ أَخَذَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَطَبَقَتِهِمَا مِنْ اَلْعُلَمَاءِ- وَقَدْ حَكَى عَلَى هَذَا
اَلْإِجْمَاعَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اَلْجَهْمِيَّةَ تَصِفُهُ بِالْأُمُورِ
اَلسَّلْبِيَّةِ غَالِبًا أَوْ دَائِمًا.
وَقَوْلُهُ: "مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ" أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ اَلْجَهْمِيَّةِ
اَلْمُعَطِّلَةِ اَلَّذِينَ اِبْتَدَعُوا تَفْسِيرَ اَلصِّفَاتِ بِخِلَافِ مَا
كَانَ عَلَيْهِ اَلصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ اَلْإِثْبَاتِ")}.
إذًا؛ إذا قال العلماء: "بلا كيف ومن غير تفسير"؛ أي: المعنى الذي أحدثه المبتدعة،
أو التفسير الذي أحدثه المبتدعة.
أمَّا التفسير الذي يُعرَف من كلام العرب، ويُعرف مما قرَّره الصحابة، ومن النصوص
الأخرى؛ فهذا لم يردوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى اَلْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ
عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ اَلْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: "هَذِهِ اَلْأَحَادِيثُ
اَلَّتِي يَقُولُ فِيهَا، «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ
غِيَرِهِ»، وأَنَّ جَهَنَّمَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اَلْجَبَّارُ قَدَمَهُ
فِيهَا، وَالْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ اَلْقَدَمَيْنِ - وَهَذِهِ اَلْأَحَادِيثُ فِي
اَلرُّؤْيَةِ هِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ حَمَلَهَا اَلثِّقَاتُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ،
غَيْرَ أَنَّا إِذَا سُئِلْنَا عَنْ تَفْسِيرِهَا وَلَا نُفَسِّرُهَا، وَمَا
أَدْرَكْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهَا "اهـ.
أَبُو عُبَيْدٍ أَحَدُ اَلْأَئِمَّةِ اَلْأَرْبَعَةِ اَلَّذِينَ هُمْ:
"اَلشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَلَهُ مِنْ
اَلْمَعْرِفَةِ بِالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالتَّأْوِيلِ مَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْ
أَنْ يُوصَفَ، وَقَدْ كَانَ فِي اَلزَّمَانِ اَلَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ اَلْفِتَنُ
وَالْأَهْوَاءُ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا أَدْرَكَ أَحَدًا مِنْ اَلْعُلَمَاءِ
يُفَسِّرُهَا -أَيْ تَفْسِيرَ اَلْجَهْمِيَّةِ.
وَرَوَى اللاَّلِكَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ اَلْمُبَارَكِ
أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَكْرَهُ
اَلصِّفَةَ -يَعْنِي صِفَةَ اَلرَّبِّ- فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ
اَلْمُبَارَكِ: "أَنَا أَشَدُّ اَلنَّاسِ كَرَاهَةً لِذَلِكَ وَلَكِنْ إِذَا نَطَقَ
اَلْكِتَابُ بِشَيْءٍ قُلْنَا بِهِ، وَإِذَا جَاءَتْ اَلْآثَارُ بِشَيْءٍ جَسَرْنَا
عَلَيْهِ" وَنَحْوُ هَذَا.
أَرَادَ اِبْنُ اَلْمُبَارَكِ: أَنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَبْتَدِئَ بِوَصْفِ اَللَّهِ
مِنْ ذَاتِ أَنْفُسِنَا حَتَّى يَجِيءَ بِهِ اَلْكِتَابُ وَالْآثَارُ)}.
وهذه هي الطريقة الصَّحيحة التي دلَّ عليها القرآن والسُّنَّة، قال تعالى: ﴿وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]،
فابن المبارك لما قال له رجل: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَكْرَهُ
اَلصِّفَةَ -يَعْنِي صِفَةَ اَلرَّبِّ- فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ
اَلْمُبَارَكِ: "أَنَا أَشَدُّ اَلنَّاسِ كَرَاهَةً لِذَلِكَ وَلَكِنْ إِذَا نَطَقَ
اَلْكِتَابُ بِشَيْءٍ قُلْنَا بِهِ، وَإِذَا جَاءَتْ اَلْآثَارُ بِشَيْءٍ جَسَرْنَا
عَلَيْهِ"، يعني: وجبَ علينا أن نقول مثل ما قال الله وقال رسوله، وهذا هو الواجب.
وهذا هو معنى قول العلماء: "باب الأسماء والصفات توقيفي"، يعني نتوقَّف فيه على
النُّصوص، وهذا من الأدب الواجب مع الله، وهو أنَّك لا تتكلَّم في الله إلَّا بما
بيَّن سبحانه، وبما بيَّن أعلم الخلق به وهو رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وتُمسك عما سوى ذلك، فهذا هو الأدب الواجب، أن تصف الله بما وصف به
نفسه، فلا تنفِ ما وصف به نفسه، ولا تُمثِّل أو تُكيِّف.
وابن المبارك أمير المؤمنين في الحديث، ومنزلته عظيمة، وكذلك أبو عبيد القاسم بن
سلام، فهؤلاء الأئمَّة الأعلام كلُّهم يُشهَد لهم بالإمامة، أنتركهم ونترك الكتاب
والسنَّة قبل ذلك، ونتَّبع أئمَّة الكلام المنحرفين؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ
بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ عَنْ اِبْنِ اَلْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بِمَاذَا
نَعْرِفُ رَبَّنَا قَالَ: "بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ
مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ اَلْجَهْمِيَّةُ: إِنَّهُ هَهُنَا فِي
اَلْأَرْضِ، وَهَكَذَا قَالَ اَلْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ)}.
وهذا يُبيِّنُ لنا أنَّ الجهميَّة القدماء كانوا يقولون بالإنكار والتَّعطيل،
وكانوا يقولون بالحلول في نفس المقام.
فمنهم حلوليَّة يقولون: إنَّ الله هنا في الأرض -تعالى الله عما يقولون علوًّا
كبيرًا.
وهذا يُبيِّنُ لنا قول بعض السلف: "إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق عرشه، بائنٌ من
خلقه".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ-
اَلْإِمَامِ- سَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ اَلْجَهْمِيَّةَ
فَقَالَ: "إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ شَيْءٌ")}.
حمَّاد بن زيد إمام كبير معروف، فـ "الحمَّادان": حمَّاد بن زيد، وحمَّاد بن سلمة؛
معروفان في الإمامة والثِّقة والدِّيانة.
يقول حماد بن زيد: "إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ
شَيْءٌ"، يعني يَدُورُونَ على مسألةٍ واحدة وهي: أنَّه ليس في السماء خالق، وهذا هو
حقيقة الإنكار والتَّعطيل الذي سلكوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وروى ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهميَّة عن سعيد بن
عامر الضبعي، إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من شيوخ الإمام أحمد، أنَّه ذكر عنده
الجهميَّة فقال: "هم أشر قولًا من اليهود والنصارى"، وقد اجتمع اليهود والنصارى
وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وهم قالوا: ليس على شيء.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ- إِمَامُ اَلْأَئِمَّةِ: "مَنْ
لَمْ يَقُلْ: إِنَّ اَللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ
خَلْقِهِ وَجَبَ أن يُسْتَتَابَ' فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ
أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِنَتَنِ رِيحِهِ أَهْلُ
اَلْقِبْلَةِ، وَلَا أَهْلُ اَلذِّمَّةِ" وَذَكَرَهُ عَنْهُ اَلْحَاكِمُ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ اَلْعَوَّامِ
اَلْوَاسِطِيِّ- إِمَامِ أَهْلِ وَاسِطٍ، مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ اَلشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ- قَالَ: " كَلَّمْتُ بِشْرَ اَلْمِرِّيسِيَّ، وَأَصْحَابَ بِشْرٍ
فَرَأَيْتُ آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ
شَيْءٌ".
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ- اَلْإِمَامِ اَلْمَشْهُورِ- أَنَّهُ
قَالَ: "لَيْسَ فِي أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ شَرٌّ مِنْ أَصْحَابِ جَهْمٍ،
يَدُورُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ
أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يُوَرَّثُوا".
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ ِبْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ "اَلرَّدِّ عَلَى
اَلْجَهْمِيَّةِ" عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: " أَصْحَابُ
جَهْمٍ يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ اَللَّهُ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى،
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ شَيْءٌ، وَأَنَّ اَللَّهَ
لَيْسَ عَلَى اَلْعَرْشِ، أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا
قُتِلُوا")}.
وهذا يدلُّ على أنَّ السَّلف عرفوا مقاصد هؤلاء، وما تؤول إليه مقالتهم الشَّنيعة.
والجهميَّة في زمنهم لم يقولوا: "إنَّ الله ليس بشيء" صراحةً، لكنهم ينفون الأسماء
وينفون الصفات، ولهذا كفَّروهم وضلَّلوهم.
وهنا يتبيَّن لك فقه السَّلف، مثل: عبَّاد بن العوام، وهو من شيوخ أحمد، وهؤلاء
معروف فضلهم عند المتأخرين من الأئمة الأربعة، فهؤلاء شيوخهم، وهكذا شيوخ الشافعي،
وعبد الرحمن بن مهدي، وهو أمير المؤمنين في الحديث، وسبق كلام حمَّاد بن زيد؛
فتطابقت أقوال السلف في التَّحذير من هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ اَلْأَصْمَعِيِّ قَالَ: "قَدِمَتْ اِمْرَأَةُ جَهْمٍ
فَنَزَلَتْ اَلدَّبَّاغِينَ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهَا: اَللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ،
فَقَالَتْ: مَحْدُودٌ عَلَى مَحْدُودٍ، وَقَالَ اَلْأَصْمَعِيُّ: هي كَافِرَةٌ
بِهَذِهِ اَلْمَقَالَةِ")}.
عبد الملك الأصمعي من أئمَّة اللغة ومعروف في السُّنَّة، وهذه المرأة زوجة الخبيث
جهم بن صفوان، يقول: إنَّها نزلت بالدَّباغين -وهو حي من الأحياء يكون فيه
الدَّبَّاغون- فتكلَّم رجل وقال: الله على العرش استوى. فقالت: "مَحْدُودٌ عَلَى
مَحْدُودٍ" تريد بذلك إنكار الاستواء على العرش، ووصف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بما
يتنزَّه عنه.
ولهذا نقول عنهم: إنَّهم ممثِّلة، فهم كيَّفوا وتخيَّلوا أولًا ثم هربوا إلى
التَّعطيل.
وهذه المرأة ورثت هذا الضَّلال من زوجها الخبيث، والله تعالى يقول: ﴿الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾ [النور: 26]، وهذا يُبيِّن لنا
أنَّ المؤمن لا يضع موليَّته عند أحد من هؤلاء، ولا المؤمنة ترضى بأحدٍ من هؤلاء؛
لأنَّه يضرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ- شَيْخِ أَحْمَدَ
وَالْبُخَارِيِّ وَطَبَقَتِهِمَا- قَالَ: "نَاظَرْتُ جَهْمًا، فَتَبَيَّنَ مِنْ
كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَنَّ فِي اَلسَّمَاءِ رَبًّا".
وَرَوَى اَلْإِمَامُ أَحْمَدُ، ثَنَا سُرَيْجُ بْنُ اَلنُّعْمَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ
عَبْدَ اللهِ بْنَ نَافِعٍ اَلصَّائِغَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ
يَقُولُ: "اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا يَخْلُو
مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ".
وَقَالَ اَلشَّافِعِيُّ: "خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَقٌّ
قَضَاهَا اَللَّهُ فِي سَمَائِهِ وَجَمَعَ عَلَيْهِ قُلُوبَ عِبَادِهِ.
وَفِي اَلصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ
عَلَى أَزْوَاجِ اَلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَقُولُ:
"زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اَللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ"،
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ اَلشَّافِعِيِّ.
وَقِصَّةُ أَبِي يُوسُفَ -صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ- مَشْهُورَةٌ فِي اِسْتِتَابَةِ
بِشْرٍ اَلْمِرِّيسِيِّ حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ لَمَّا أَنْكَرَ اَلصِّفَاتِ
وَأَظْهَرَ قَوْلَ جَهْمٍ، قَدْ ذَكَرَهَا اِبْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ)}.
كل هذه الآثار تدلُّ على أنَّ الشافعي ومالك وأبا حنيفة وأصحابهم والمتقدِّمين من
أصحاب هذه المذاهب على طريقة السلف الصَّالح -رحمة الله عليهم- وأنَّهم يُثبتون
العلو، ولا يُنكرون شيئًا ممَّا وردَ، ولم يقولوا بمقالة أهل الكلام إطلاقًا، وهذا
أعظم حجَّة على المتأخِّرين الذين يُحبُّونهم ويُقدِّمونهم، ولكنهم يوافقون أهل
الكلام؛ فخالفوا أئمتهم من المذاهب الأربعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي زمنين الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ
فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي "أُصُولِ السُّنَّةِ " قَالَ فِيهِ: بَابُ
الْإِيمَانِ بِالْعَرْشِ)}.
هذا الكتاب مطبوع، وابن زمنين من العلماء الكبار -رَحِمَهُ اللهُ- على طريقة
السَّلف الصَّالح، والشيخ نقل كلامه، وفيه إثبات الصفات، وبيان ذم طريقة العطِّلة
والذين ينفون الصفات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ: "وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ
-عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْعَرْشَ وَاخْتَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ
فَوْقَ جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا أَخْبَرَ
عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وَقَوْلُهُ:
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ الْآيَةَ،
فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ فَسَمِعَ النَّجْوَى. وَذَكَرَ
حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ العقيلي؛ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ رَبُّنَا قَبْلَ
أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: «فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ
وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ». قَالَ مُحَمَّدٌ:
الْعَمَاءُ السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْبِقُ -فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ-
وَذَكَرَ آثَارًا أُخَرَ)}.
هذا يُبيِّن لك أنَّه يُثبت علو الله على عرشه، وأنَّه على عرشه استوى، ولم يقل:
هذا مُنافيًا للقواعد الشَّرعيَّة، ولم يقل: هذا مخالف للطَّريقة الصَّحيحة؛ ولم
يُنكر هذا كما يقول أهل الكلام.
وقوله: (فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ فَسَمِعَ النَّجْوَى)، فهو
فوق عرشه، ولكنه قريبٌ من خلقه، يسمعهم ويراهم ويُحيطُ بهم.
ثم ذكر حديث أَبِي رَزِينٍ العقيلي؛ قُال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ رَبُّنَا
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: «فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ
هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ»؛ وهذا
الحديث تكلَّم بعض العلماء في سنده، وبعضهم يرى أنَّه ثابتٌ وصحيحٌ، ولكن كثير من
أهل العلم تكلَّم في سنده، وإن صحَّ الحديث فنحنُ نقول به كما قال السَّلف -رحمة
الله عليهم.
وكلمة «عَمَاءٍ» فُسِّرت بمعنيين:
الأول: كما قيل: السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْبِقُ، "في" هنا بمعنى "على"، والله
-عَزَّ وَجَلَّ- خلق العرش ثم استوى عليه، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54]، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئل
قبل ذلك؟ قال: «فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ».
الثاني: أنَّ العماء ليس بشيءٍ.
وقد ذكر العلماء هذين التفسيرين، ونحن نقول: إنَّ المراد بالعماء: السَّحَابُ
الْكَثِيفُ الْمُطْبِقُ.
وهذه الأمور نُمسك عنها، فلولا أن الحديث جاء لَمَا تكلَّمنا، وفي هذا دليل على
إثبات علو الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنَّه فوق هذا السَّحاب -إن صحَّ الحديث- فنحنُ
ندور كما يدور حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونؤمن بما قاله -عليه
الصلاة والسلام- لا نزيد ولا نفتري على الله، ولا نُكيِّف بعقولنا ونتخيَّل؛ بل
نُمسك عن هذا ونعلم أن الله ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْكُرْسِيِّ قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ
الْكُرْسِيَّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. ثُمَّ
ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِيهِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي
الْآخِرَةِ وَفِيهِ: «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ
عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ يَحُفُّ الْكُرْسِيَّ عَلَى مَنَابِرَ مَنْ ذَهَبٍ
مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوَاهِرِ؛ ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ فَيَجْلِسُونَ
عَلَيْهَ». وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ: يَحْيَى بْنُ سَالِمٍ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ
الْمَشْهُورِ: حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ؛
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"إنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَوْضِعُ
الْقَدَمَيْنِ؛ وَلَا يَعْلَمُ قَدْرَ الْعَرْشِ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُ". وَذَكَرَ
مِنْ حَدِيثِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، قالَ حَدَّثِنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
زِرٍّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَاَلَّتِي
تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ
عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ،
وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ
الْمَاءِ، وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالْحُجُبِ قَالَ: "وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ
السُّنَّةِ: إنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ بِالْحُجُبِ،
فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ﴿كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبً﴾ ، وَذَكَرَ
آثَارًا فِي الْحُجُبِ.
ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالنُّزُولِ: "وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ
أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَحِدُّوا فِيهِ حَدًّا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي وَهْبٌ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّادٍ. قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكْت مِنْ الْمَشَايِخِ
مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَعِيسَى بْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٍ:
كَانُوا يَقُولُونَ: "إنَّ النُّزُولَ حَقٌّ" قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَسَأَلْت
يُوسُفَ بْنَ عَدِيٍّ عَنْ النُّزُولِ قَالَ: "نَعَمْ أُومِنُ بِهِ وَلَا أَحُدُّ
فِيهِ حَدًّا". وَسَأَلْت عَنْهُ ابْنَ مَعِينٍ فَقَالَ: "نَعَمْ أُقِرُّ بِهِ
وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا")}.
الحدُّ هنا: التَّكييف. يعني: لا أحد بعقلي ولا أُكيِّف بعقلي، فهذا هو الحدّ الذي
نَفوه، وإلَّا فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بائنٌ من خلقه ليس مختلطًا بهم، فبعضهم
أثبت الحد في العلو، ولَمَّا سُئل في قوله: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ . بحد؟ قال:
بحد؛ يعني بائن من خلقه ليس مختلطًا بهم.
وهنا لَمَّا قال: "وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا"، يعني: لا أُكيِّف، ولا أعتقد أنَّه
كذا وكذا وأُكيِّف بذهني أنَّه على هذه الهيئة أو هذه الكيفيَّة! أؤمن بالنُّزول
وبالاستواء على العرش، وأؤمن بالصِّفات.
وقوله: (الْحُجُبِ)، حجابه النور كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى
إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ، فهذا كله نؤمن به.
وهذا ابن زمنين المتوفى سنة 399 للهجرة من أئمَّة المالكيَّة يروي هذه الآثار عن
سلف الأمَّة من غير نكيرٍ، فدلَّ هذا على صحَّة الطَّريقة السلفية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ وَهُوَ
أَيْضًا بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ تَعَالَى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ
السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ . وَقَالَ تَعَالَى:
﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ
تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبً﴾ . وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ . وَقَالَ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ . وَقَالَ
تَعَالَى: ﴿يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ﴾ . وَقَالَ: ﴿بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ . وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ قَوْلَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْجَارِيَةِ: «أَيْنَ اللَّهُ؟» قَالَتْ:
فِي السَّمَاءِ. قَالَ: «مَنْ أَنَا؟» قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ:
«فَأَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤمِنَة».
قَالَ: وَالْأَحَادِيثُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فَسُبْحَانَ مَنْ عِلْمُهُ
بِمَا فِي السَّمَاءِ كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ، لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي باب: الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ
اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ: "وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ
وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَرَوْنَ الْجَهْلَ بِمَا لَمْ
يُخْبِرْ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا وَالْعَجْزَ عَنْ مَا لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ
إيمَانًا")}.
يعني: إذا جهلتَ بما لم يُخبر الله به فهذا هو العلم، فما دام أنَّه لم يُخبر به
فاسكت عنه، ولا تتكلَّف فيه.
وليست حقيقة العلم أنَّك تخوض في أشياء ما أخبر الله بها، وتقول إنَّ الله على هذه
الكيفيَّة، فهذا هو الجهل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال: "وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ
وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَرَوْنَ الْجَهْلَ بِمَا لَمْ
يُخْبِرْ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا وَالْعَجْزَ عَنْ مَا لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ
إيمَانًا، وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ
وَأَسْمَائِهِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ")}.
وهذا هو الحق، وهذا هو معنى قول السلف: إن الأسماء والصفات توقيفية، وهذا يدل على
فقه ابن أبي زمنين وأئمَّة السلف وأدبهم مع الله، وتعظيمهم لله، فيرون الجهل بما لم
يُخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به عن نفسه علمًا، فلا يجوز أن نخوض في كونه جسمًا أو
ليس بجسم، أو عرض أو ليس بعرض؛ كلمات من هذا القبيل من الألفاظ المحدثة، فإنَّ
الجهل بهذه الأمور علم، وإنَّما نتكلَّم بما أخبرنا به الله -عَزَّ وَجَلَّ- به.
قوله: (وَالْعَجْزَ عَنْ مَا لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ إيمَانً)، يعني: الشيء الذي ما
دعانا الله -عَزَّ وَجَلَّ- إليه ولا كلَّفنا أن نبحث عنه وننقِّر عنه، فالإيمان أن
نتركه ونتعاجز عنه ونبتعد عنه، مثل علم الكلام المذموم، والعلم الذي يقودنا غلى
الضَّلالات والحيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ تعالى -وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: ﴿كُلُّ
شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ﴾ . وَقَالَ: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً
قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ . وَقَالَ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ
نَفْسَهُ﴾ . وَقَالَ: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ . وَقَالَ:
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَ﴾ . وَقَالَ: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ . وَقَالَ:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ . وَقَالَ: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ: ﴿إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ
وَأَرَى﴾ . وَقَالَ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾ . وَقَالَ تَعَالَى:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ: ﴿اللَّهُ لَا إلَهَ
إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ ؛ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَهُوَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ
نَفْسِهِ، وَلَهُ وَجْهٌ وَنَفْسٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ،
وَيَسْمَعُ وَيَرَى وَيَتَكَلَّمُ، هُوَ الْأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ،
وَالْآخِرُ الْبَاقِي إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرُ
الْعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْبَاطِنُ بَطَنَ عِلْمُهُ بِخَلْقِهِ؛ فَقَالَ:
﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، قَيُّومُ حَيٌّ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ.
وَذَكَرَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ ثُمَّ قَالَ: "فَهَذِهِ صِفَاتُ رَبِّنَا الَّتِي
وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُ بِهَا نَبِيُّهُ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَحْدِيدٌ وَلَا تَشْبِيهٌ وَلَا
تَقْدِيرٌ؛ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، لَمْ تَرَهُ
الْعُيُونُ فَتَحُدُّهُ كَيْفَ هُوَ؟ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ فِي حَقَائِقِ
الْإِيمَانِ" ا هـ.
وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَطْوَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَسَعَ
هَذِهِ الْفُتْيَا عُشْرَهُ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ النَّاقِلِينَ لِمَذْهَبِهِمْ)}.
نقلَ الشَّيخُ كلامَ ابن زمنين -رَحِمَهُ اللهُ- وعقيدته، وأنَّه نقل كلام السلف
الصالح، فالمؤمن وأهل العلم قاطبة وجميع المسلمين يجب عليهم أن يسلكوا مسلك الكتاب
والسنَّة، وما سار عليه هؤلاء العلماء، فقول السلف الصالح في أسماء الله وصفاته ليس
ببدعٍ من القول، وليس بقولِ تجسيمٍ ولا تشبيهٍ، ولا بقولٍ فيه كفر وضلال كما يزعم
مَن تأخَّر وخالف وركب مذهب أهل الكلام، فنحن نطلب منهم أن يرجعوا إلى الكتاب
والسنة، وما كان عليه سلف هذه الأمَّة، والحمد لله هذا المذهب ليس مذهبًا حادثًا أو
مذهب قال به فلان -ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب-؛ بل إنَّ هذا كلام السَّلف قاطبة،
والآن ننقل من كتبهم المعظَّمة المعروفة المشهود لها، وهم ينقلون عن علماء أجلَّاء،
كلهم ينقلون هذه الطريقة السلفيَّة، فلا يسع الإنسان أن يترك هؤلاء ويخرج عن
سبيلهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرً﴾ [النساء: 115]، فالحذر الحذر لكل مُسلم
ومُسلمة أن يطرق طرائق أهل البدع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي فِي
رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي "الغنية عَنْ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ")}.
يقول الشيخ: إنَّ كلام الأئمة كثير، وكلام النَّاقلين لأئمَّة السَّلف كثير أيضًا.
وسيذكر أمثلة ممَّن نقل مذهبهم، كالخطَّابي والمحاسبي، وابن خفيف، وسيذكر مجموعة من
العلماء نقلوا كلام السلف الصالح، وبدأ الشيخ بكلام الإمام محمد بن إبراهيم
الخطَّابي، وهذا من كبار شُرَّاح الحديث، وأغلب شُراح هم عالةٌ على كلماته
-رَحِمَهُ اللهُ- فهو إمام، ولكن وقع في شيءٍ من الأخطاء في بعض التَّأويل، ولكنه
نقل مذهب السَّلف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ: "فَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا
جَاءَ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ
إثْبَاتُهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَنَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ
وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا، وَقَدْ نَفَاهَا قَوْمٌ فَأَبْطَلُوا مَا أَثْبَتَهُ
اللَّهُ، وَحَقَّقَهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُثْبِتِينَ فَخَرَجُوا فِي ذَلِكَ إلَى
ضَرْبٍ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ)}.
إذًا؛ مذهب أهل السُّنَّة وسط، لا نُمثِّل الله بخلقه، ولا نُعطِّل ما وصف الله به
نفسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ("وَإِنَّمَا الْقَصْدُ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقَةِ
الْمُسْتَقِيمَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْغَالِي
فِيهِ وَالْجَافِي وَالْمُقَصِّرِ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْكَلَامَ
فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، وَيُحْتَذَى فِي ذَلِكَ
حَذْوُهُ وَمِثَالُهُ")}.
هذه القاعدة ذكرها الخطَّابي، وهي "أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى
الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ"، وقد ذكرها شيخ الإسلام في التَّدمريَّة، فبعض الناس يظن
أنَّ ما قاله ابن تيمية هو أول مَن تكلَّم به، ولا يدرون أنَّ هذا قاله السلف
قبلهم، حتَّى قبل الخطَّابي قاله علماء السَّلف.
وقوله: "أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ"،
فكما أنت تثبت الذَّات من غير تشبيه ولا تكييف، فكذلك أثبت الصفات من غير تشبيه ولا
تكييف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ("فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ إثْبَاتَ الْبَارِي
سُبْحَانَهُ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ
إثْبَاتُ صِفَاتِهِ، إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَحْدِيدٍ
وَتَكْيِيفٍ. فَإِذَا قُلْنَا: يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَمَا أَشْبَهَهَا؛
فَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ أَثْبَتَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ؛ وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّ
مَعْنَى الْيَدِ الْقُوَّةُ أَوْ النِّعْمَةُ وَلَا مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ
الْعِلْمُ. وَلَا نَقُولُ إنَّهَا جَوَارِحُ، وَلَا نُشَبِّهُهَا بِالْأَيْدِي
وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ جَوَارِحُ وَأَدَوَاتٌ لِلْفِعْلِ.
وَنَقُولُ: إنَّمَا وَجَبَ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ
بِهَا، وَوَجَبَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ السَّلَفِ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ" هَذَا
كُلُّهُ كَلَامُ الخطابي)}.
وهذا فيه الرد على الأشعريَّة، لأنَّهم قالوا: إنَّ "اليد" هي القوَّة والنعمة.
كما ردَّ على المعتزلة في قولهم: إنَّ "السمع والبصر" هو العلم، فنفوا السمع والبصر
وردُّوه إلى العلم. وهذا هو كلام الخطابي الإمام المقدَّم عند الجميع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَكَذَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ فِي
رِسَالَةٍ لَهُ أَخْبَرَ فِيهَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا
الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الخطابي قَدْ نَقَلَ نَحْوًا مِنْهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ
مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ،
وَالْإِمَامِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ السجزي، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي
إسْمَاعِيلَ الهروي، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ،
وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النمري إمَامِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني صَاحِبُ "الْحِلْيَةِ" فِي عَقِيدَةٍ لَهُ قَالَ
فِي أَوَّلِهَا: "طَرِيقَتُنَا طَرِيقَةُ الْمُتَّبِعِينَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ
وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ؛ قَالَ فَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي
ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْعَرْشِ
وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ يَقُولُونَ بِهَا، وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ
وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ
وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ، لَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ،
وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ وَخَلْقِهِ".
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ "مَحَجَّةُ الْوَاثِقِينَ
وَمَدْرَجَةُ الْوَامِقِينَ" تَأْلِيفُهُ: "وَأَجْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ
سَمَوَاتِهِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ لَا مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ كَمَا
تَقُولُ الجهمية إنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ")}.
هذا كلام أبي نعيم، يقول فيه: "اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ
مُسْتَوٍ عَلَيْهِ لَا مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ الجهمية"، نسبَ هذه
المقولة إلى الجهميَّة، ليحذر كل مسلمٍ أن يسلك هذا المسلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ("كَمَا تَقُولُ الجهمية إنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؛ خِلَافًا
لِمَا نَزَلَ فِي كِتَابِهِ: " ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ، وقوله:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ . وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى﴾ لَهُ الْعَرْشُ الْمُسْتَوِي عَلَيْهِ وَالْكُرْسِيُّ الَّذِي وَسِعَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ﴾ . وَكُرْسِيُّهُ جِسْمٌ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَالسَّمَوَاتُ
السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ، وَلَيْسَ
كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ كَمَا قَالَتْ الجهمية؛ بَلْ يُوضَعُ كُرْسِيُّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - يَجِيءُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا
صَفًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ﴾
وَزَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ تَعَالَى
وَتَقَدَّسَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مُذْنِبِي الْمُوَحِّدِينَ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ﴾ . وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَد الأصبهاني -شَيْخُ
الصُّوفِيَّةِ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي بِلَادِهِ- قَالَ:
"أَحْبَبْت أَنْ أُوصِيَ أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ مِنْ السُّنَّةِ وَمَوْعِظَةٍ مِنْ
الْحِكْمَةِ وَأَجْمَعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ بِلَا
كَيْفٍ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين
قَالَ فِيهَا: "وَإِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا
تَشْبِيهٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ فِيهِ مَجْهُولٌ.
وَأَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ
وَالْخَلْقُ مِنْهُ بَائِنُونَ، بِلَا حُلُولٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ
وَلَا مُلَاصَقَةٍ، لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الْبَائِنُ مِنْ الْخَلْقِ الْوَاحِدُ
الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ. وَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- سَمِيعٌ، بَصِيرٌ،
عَلِيمٌ، خَبِيرٌ، يَتَكَلَّمُ، وَيَرْضَى، وَيَسْخَطُ، وَيَضْحَكُ، وَيَعْجَبُ،
وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا، وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ
إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ فَيَقُولُ: «هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ
لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ
عَلَيْهِ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»، وَنُزُولُ الرَّبِّ إلَى السَّمَاءِ بِلَا
كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. فَمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أَوْ
تَأَوَّلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَسَائِرُ الصَّفْوَةِ مِنْ الْعَارِفِينَ
عَلَى هَذَا " ا ه)}.
كما ترى الآن، الشيخ يحتج بأقوال حتى مَن عندهم بعض الملحوظات، مثل الصُّوفيَّة،
وهذا كله ليُبيِّن أنَّ هذه الطريقة معروفة ومشهورة عن السلف الصَّالح، حتى مَن
انتسب إلى التَّصوُّف، والمراد بالتَّصوُّف هنا: التَّصوُّف القديم ليس الذي خالط
كثيرًا من البدع، فهؤلاء يشهدون بالطريقة السلفيَّة ويُبيِّنونها للناس.
{كيف يُميِّز طالب العلم بين التَّصوُّف المحمود وغير المحمود إذا ورد في كتب أهل
العلم؟}.
العبرة بأعماله وأقواله، فما وافق الكتاب والسنة فهو مقبول، وما خالفها فهو مردود،
فالأقوال والأحوال والعبادات والأذكار؛ كلـها مردها إلى الكتاب والسنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِه "السُّنَّةِ" ثِنَا أَبُو بَكْرٍ
الْأَثْرَمُ حَدَّثِنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ -يَعْنِي الْعَبَّادِيَّ-
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْن يَحْيَى قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْعَثِ -
قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ صَاحِبُ الفضيل - قَالَ: سَمِعْت الفضيل بْنَ عِيَاضٍ
يَقُولُ: "لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ فِي اللَّهِ كَيْفَ هُوَ؟ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ فَأَبْلَغَ فَقَالَ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ
الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ؛
فَلَا صِفَةَ أَبْلَغُ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَكُلُّ هَذَا النُّزُولِ
وَالضَّحِكِ، وَهَذِهِ الْمُبَاهَاةِ، وَهَذَا الِاطِّلَاعِ؛ كَمَا يَشَاءُ أَنْ
يَنْزِلَ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يُبَاهِيَ، وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يَضْحَكُ، وَكَمَا
يَشَاءُ أَنْ يَطَّلِعَ؛ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ كَيْفَ وَكَيْفَ؟ فَإِذَا
قَالَ الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ. فَقُلْ: بَلْ
أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ")}.
الله أكبر! رحم الله الفضيل، قال: "فَإِذَا قَالَ الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ
يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ"، فهذا من أساليب الجهميَّة لتشويه مذهب الحق وما جاء في
الكتاب والسُّنَّة إذا سمعوا النُّصوص، فيقولون: نحنُ لا نُقرُّ بها، وهذا فيه
تنقُّص!
قال الفضيل: "فَقُلْ: بَلْ أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ"، لكن لا أقول
بكيفٍ، ولا أُمثِّل الله بخلقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَنَقَلَ هَذَا عَنْ الفضيل جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
الْبُخَارِيُّ فِي "أَفْعَالِ الْعِبَادِ". وَنَقَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ "الْفَارُوقِ" فَقَالَ: حَدَّثِنَا يَحْيَى بْنُ
عَمَّارٍ حَدَّثِنَا أَبِي حَدَّثِنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثِنَا حرمي بْنُ
عَلِيٍّ الْبُخَارِيُّ وَهَانِئُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ الفضيل)}.
يُبيِّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الفضيل بن عياض معروف أنَّه متقدِّم، ويشهد له
الجميع بالإمامة والفضل والعبادة، وغالب الطَّوائف تُقرُّ له بذلك، وهذا الإسناد
ثبت عنه من عدَّة طُرق، والشيخ ذكرها هنا، فهي ثابتة عن الفضيل، ورواها الأئمَّة
كلهم عن الفضيل، وهذا لا يُبيِّن لك صحَّة الطريقة السَّلفيَّة.
فلا زال الشيخ يذكر الآثار السَّلفيَّة في بيان إثبات الصفات، والإنكار على مَن
تعرَّض لها بالتَّحريف، أو بالتَّأويل والرَّد لها، أو بالتَّكييف والتَّشبيه؛ فكل
هؤلاء مذهبهم فاسد باطل، والسلف خالفوهم.
هذا ما تيسَّر في هذا اللقاء، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم للعلم
النافع والعمل الصالح، وأن يهدينا صراطًا مستقيمًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم وأفدتم، سائلين الله أن يبارك فيكم، والشكر
موصول لكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات على طيب المتابعة، إلى حلقةٍ أخرى من حلقات
البناء العلمي، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12520 18
-
16335 9
-
34042 6
-
2991 13
-
3090 12
-
4110 11
-
5523 12