الدرس الأول

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2991 13
الدرس الأول

العقيدة الحموية

{السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في برنامج البناء العلمي، في هذه الدورة نستفتح وإياكم شرح "الفتوى الحموية الكبرى"، وسيكون معنا في هذه الدورة فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة. فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا، ونسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يرزقنا وإيَّاكم وجميع إخواننا المسلمين العلم النافع والعمل الصَّالح.
{شيخنا غفر الله لكم وبارك في علمكم؛ لو أعطيتمونا لمحة عن هذه الفتوى العظيمة، فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ؛ فنسأل الله للجميع العلم النَّافع والعمل الصَّالح.
الفتوى الحمويَّة الكبرى رسالة ألَّفها شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بناءً على سؤالٍ وردَ عليه من حماة، وحماة من مدن الشَّام، وهي معروفة إلى الآن، وأرسل السائل -وهو يسكن في حماة- هذا السؤال الذي سوف نقرأه في الرسالة إلى الشيخ تقريبًا سنة 698 للهجرة، يعني: كان عمر الشيخ سبع وثلاثين سنة، فاعتذر الشيخ أولًا، وأحاله إلى غيره من أهل العلم، فألحَّ عليه، فجلس الشيخ يكتب هذه الرسالة ما بين صلاة الظُّهر والعصر، في قعدةٍ واحدةٍ -كما ذكر هذا عن نفسه.
وهذه الرسالة مضمونها: في مخالفة طريقة المتكلِّمين وأهل البدع لطريقة السَّلف الصَّالح في أسماء الله وصفاته، وبيان فساد مسلكهم ومصادرهم، وبيان صحَّة مسلك أهل السُّنَّة والجماعة الذين ساروا على طريقة السَّلف الصَّالح، وبيان سدادهم، وأن مصادرهم هي الكتاب والسُّنَّة والإجماع، وكلامهم هو الموافق للعقل الصَّحيح.
وذكر الشيخ في هذه الرسالة كلمات عظيمات، وردَّ على شبهاتٍ، وبيَّن أخطاء أهل الضَّلالات، وشرح عقيدة أهل السُّنَّة، وبدأ بأمثلةٍ غلط فيها المتكلِّمون، مثل: صفة العلو لربنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وغيرها من الصفات، ونقل من الآيات والأحاديث وكلام الصَّحابة والتَّابعين وأئمة العلم؛ بل وكلام أئمة المتكلِّمين الذين يغتر بهم هؤلاء المتأخرون، فردَّ عليهم من مؤلفات كبارهم، فصارت هذه الفتوى لها واقع كبير، فانتشرت ونُسخِتَ، وطُبِعَت الآن طبعات كثيرة، فلم يكن قبل ذلك مطابع، ولكن كان النَّسخ، فنُسِخَت الفتوى وانتشرَت، وصارَ لها صدَى عظيم، فضاقت صدور أهل البدع، وتبرَّموا من هذا الكتاب، وجرَت محن، واشتكوا الشيخ عند الأمراء والسَّلاطين، وألَّبوا عليه وحرَّضوا عليه القضاة والأمراء، وسعوا في إيذائه، فردَّ عليهم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وبيَّن لهم غلطهم، وصارت بسبب هذه الفتوى محن، لكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال في كتابه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33]، وهذا يُبيِّنُ لك أنَّ صاحب السُّنَّة على خير، وأنَّه لا يخاف في الله لومة لائم، وأنَّه يبقى على الكتاب والسُّنَّة، ولا يضرُّه ما خالف الناس من أخطاء وضلالات.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كلامه واضح في هذه الرسالة التي سوف نقرؤها، وهذه الرسالة غالبها لا يحتاج إلى شرحٍ كثير، وإنَّما الشَّرح تقريب وتعليق وتيسير.
وهذه الرسالة تختلف عن الرسالة الواسطيَّة اختلافًا يسيرًا، فالمؤلِّف واحد وهو ابن تيمية، وتختلف عن الرسالة التَّدمريَّة، فأمَّا العقيدة الواسطيَّة فهي نسبة إلى رجل من واسط سأل الشيخ، والعقيدة التدمرية نسبة إلى رجل من تدمر، وصار هذا كالأعراف العلميَّة، فتُسمَّى الرسائل بأدنى ملابسة، فبعض المشايخ يجيب على أسئلة وصلت له من مصر، فيُقال: الأجوبة المصرية، أو الأجوبة العراقيَّة، فيُنسَب إلى البلد الذي ورد من السائل.
موضوع الفتوى الحموية: في الأصل الكبير الذي عليه أهل السنَّة والجماعة من التَّمسُّك بما في الكتاب والسُّنَّة، وإجراؤها على ظاهرها، وعدم النَّظر إلى تحريفات المبتدعة، وعدم اتِّباع الأهواء والانحرافات، ونظنُّ بالله -عَزَّ وَجلَّ- ما يليق به -جلَّ جلاله- ولا نُكيِّف، ولا نُمثِّل صفاته بصفات خلقه، ولا يُمكن للعقول أن تُدر كنه ذات الله وصفاته، ولا يجوز للعقول أن تتجرأ على كلام الله فتنفيه وتقول: هذا غير صحيح، وهذا نقبله، وهذا ما نقبله! هذه جرأة، وهذا ما وقع فيه المتكلمون المتأخرون.
وعلم الكلام قد أثَّر على الأمة في الحقيقة، فهو علمٌ فاسد ليس منبعه الكتاب والسُّنة، والأئمة الأربعة كلهم حذَّروا من علم الكلام -مالك والشَّافعي وأبو حنيفة وأحمد-، وأئمة الإسلام كلهم حذَّروا من علم الكلام؛ لأنَّه أضرَّ بالجهميَّة أولًا، فأهلكهم وأفسدهم، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة -هداهم الله-، ثم جاء من المتأخرين مَن حاول أن يوفِّق، ولكن هذه التَّوفيقات غير مقبولة.
وذكر الشيخ في هذه الرسالة كلمة مُهمَّة ستأتينا -إن شاء الله- يقول: إن عامَّة التأويلات الموجودة عند ابن فورك -وهو أشعري- وعند غيره من المتأخِّرين؛ هي مأخوذة عن بشر المريسي، الذي أخذها عن جهم بن صفوان، الذي أجمع العلماء قاطبة على ضلالته، فكيف ترتضون مثل هذا؟!
وأمَّا العقيدة الواسطية: فهي على أركان الإيمان الستَّة، وأضاف إليها الكلام عن الصَّحابة، والكرامات، وبعض المسائل في خاتمتها.
وأمَّا التدمريَّة: فموضوعها في أصلين كبيرين، هما:
الأصل الأول: الكلام في الصفات.
الأصل الثاني: في القدر، والجمع بين القدر والشَّرع.
والعقيدة الحموية مُفيدة جدًّا لطالب العلم، ولذلك هي قويَّة على أهل البدع، ونفع الله بها نفعًا عظيمًا -والحمد لله.
واعتنى بالعقيدة الحموية مشايخ أهل السُّنَّة، فطُبعت أولًا في "مجموع الفتاوى"، جمع الشيخ ابن القاسم، واعتنى بها عدد من أهل العلم الكبار، فالشيخ ابن باز له شرح عليها، وكذلك الشيخ محمد بن العثيمين له تقريب وتلخيص للحمويَّة، فأعاد ترتيبها بما يُناسب الطَّلبة، وهذا يُدرَّس في المعاهد العلميَّة التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، وهذا الكتاب مطبوع ومتداول، وكذلك الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- له شرحٌ على الحمويَّة، وكذلك الشيخ عبد العزيز الرَّاجحي له شرح على الحمويَّة مسموع ومطبوع، وكذلك الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- له شرح.
وممَّن اعتنى بها تخريجًا وتحقيقًا: فضيلة الشيخ حمد التويجري، وقد طُبعَت بالتَّحقيق والدراسة والخدمة المفيدة.
فهؤلاء وغيرهم كثير شرح هذه العقيدة، وعامَّة أهل العلم من أهل السنة والجماعة يستفيدون منها ويدرسونها في المقرَّرات، فهي مفيدة جدًّا، وسوف يرى المستمع والمشاهد فائدتها -إن شاء الله تعالى.
فهذه لمحة موجزة عن هذه الرسالة.
{جزاكم الله خيرًا شيخنا وأحسن الله إليكم.
استفتح المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذه الرسالة بقوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ "تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية" -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي "آيَاتِ الصِّفَاتِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: 11]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اَلْآيَاتِ وَأَحَادِيثِ اَلصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ -صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اَلرَّحْمَنِ»، وَقَوْلِهِ: «يَضَعُ اَلْجَبَّارُ قَدَمَهُ فِي اَلنَّارِ». إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اَلْأَحَادِيثِ، وَمَا قَالَتْ اَلْعُلَمَاءُ فيه، وَابْسُطُوا اَلْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ تَعَالَى.
فَأَجَابَ عن ذلك -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، قَوْلُنَا فِيهَا مَا قَالَهُ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وَالسَّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنْ اَلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَاَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم، وَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ اَلْهُدَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ أَجْمَعَ اَلْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اَلْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ اَلْخَلْقِ فِي هَذَا اَلْبَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ اَللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ لِيُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنْ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ بَعَثَهُ دَاعِيًا إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108] .
فَمِنْ اَلْمُحَالِ فِي اَلْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنْ يَكُونَ اَلسِّرَاجُ اَلْمُنِيرُ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَللَّهُ بِهِ اَلنَّاسَ مِنْ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ، وَأَمَرَ اَلنَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ إِلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ اَلْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى اَللَّهِ وَإِلَى سَبِيلِهِ بِإِذْنِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ-مُحَالٌ مَعَ هَذَا وَغَيْرِهِ- أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَابَ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ بِهِ مُلْتَبِسًا مُشْتَبَهًا، فَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ اَلْأَسْمَاءِ اَلْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ اَلْعُلْيَا، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ.
فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَصْلُ اَلدِّينِ، وَأَسَاسُ اَلْهِدَايَةِ، وَأَفْضَلُ وأوْجبُ مَا اكْتَسَبَتْهُ اَلْقُلُوبُ، وَحَصَّلَتْهُ اَلنُّفُوسُ، وَأَدْرَكَتْهُ اَلْعُقُولُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ اَلْكِتَابُ، وَذَلِكَ اَلرَّسُولُ وَأَفْضَلُ خَلْقِ اَللَّهِ بَعْدَ اَلنَّبِيِّينَ لَمْ يُحْكِمُوا هَذَا اَلْبَابَ اِعْتِقَادًا وَقَوْلاً!)
}.
واضحٌ أنَّه -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سُئِلَ عن آيات الصِّفات وأحاديث الصفات، يعني كل الآيات التي ورد فيها ذكر صفات ربنا -عَزَّ وَجلَّ-، وهي آيات كثيرة جدًّا، وذكر الشيخ له أمثلة، مثل قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: 11]، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اَلرَّحْمَنِ» وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يَضَعُ اَلْجَبَّارُ قَدَمَهُ فِي اَلنَّارِ».
وقوله: (وَمَا قَالَتْ اَلْعُلَمَاءُ فيه، وَابْسُطُوا اَلْقَوْلَ فِي ذَلِكَ)، يعني: نبغي فتوى منك، وأن توضِّح لنا ما قاله العلماء، وما هو الحق في ذلك.
فجاء الجواب من الشيخ، فيقول: (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، قَوْلُنَا فِيهَ)، يعني: عقيدتنا.
قوله: (مَا قَالَهُ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وَالسَّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنْ اَلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَاَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم، وَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ اَلْهُدَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ)، فهذا هو المصدر الذي لا يُمكن التَّشكيك في صحَّته، فعقيدتنا في هذه المسائل هي ما جاء في القرآن وما جاء في السُّنَّة، وما كان عليه الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقيَّة العشرة المبشرين بالجنة، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فهؤلاء حطُّوا رحالهم في الجنَّة، وهؤلاء -رضي الله عنهم؛ فلا نبغي إلَّا عقيدتهم ولا نسير إلَّا منهاجهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]، فهؤلاء -رضي الله عنهم، فعقيدتهم حق، والله -عَزَّ وَجلَّ- يُثني عليهم فيقول: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]، الله أكبر! فإذا -رضي الله عنهم- فإن عقيدتهم حق، وقولهم حق، ومنهجهم حق.
قال الشيخ: (هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ أَجْمَعَ اَلْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ)، فهم مَهديُّون.
ومعنى: (وَدِرَايَتِهِمْ)، أي: عندهم علم، وليسوا جُهَّالًا، فهم أعلم هذه الأمَّة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سُئِلَ عن خير الناس فقال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، فهم أعلم الناس بالله وبشرعه وبدينه وبرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثم عقَّب الشيخُ بعد ما بيَّن هذا فقال: (وَهَذَا هُوَ اَلْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ اَلْخَلْقِ)، فالواجب على جميع الخلق أن يدينوا بكلام الله ويعتقدونه، ويدينون بكلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وأن يتَّبعوا ويقتدوا بخير البشر بعد الأنبياء، وهم الصحابة -رضي الله عنهم.
ثم ذكر الشيخ التَّعليلات الوجيهة السَّديدة التي تُبيِّن أن هذا هو المنهج الصحيح، فقال: (فَإِنَّ اَللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ لِيُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنْ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ)، فما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وما دعا إليه هو النُّور، وهو الصِّراط المستقيم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وُصِفَ بأنَّه سراج مُنير، وأنَّه يدعو إلى الله على بصيرةٍ، فإذًا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سراج يُضيءُ للنَّاس، والناس إذا رأوا السِّراجَ عرفوا الطَّريق، وبدون سراج يتخبَّطون هنا وهنا، وهكذا البدع والضَّلالات والكفريَّات والشِّركيَّات والخرافات، فهؤلاء يتخبَّطون، ولا يوجد شيء من أنواع الباطل يُمكن للعقل أن يتخيَّله إلَّا وتجد طائفة من الناس قالته!
والحمد لله أن أرسل الله لنا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سراجًا منيرًا، نسأل الله أن يثبتنا على سنة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَمِنْ اَلْمُحَالِ فِي اَلْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنْ يَكُونَ اَلسِّرَاجُ اَلْمُنِيرُ)، -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الذي وصفه الله -عَزَّ وَجلَّ- بهذه الأوصاف، وأنزل الله عليه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمرَ النَّاس أن يردُّوا ما تنازعوا إليه، وهو يدعو إلى الله على بصيرة؛ محـال أن يكون لم يُعرِّج على معرفة أسماء الله وصفاته، وترك هذا الموضوع مُلتبسًا على الناس، وتركهم لاجتهاداتهم حتى يأتي أنباط العجم، وحتى يأتي المتأخرون بعد خمسمائة سنة أو ستمائة سنة يعلمون الناس ماذا يعتقدون في الله -عَزَّ وَجلَّ- والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ترك هذا الموضوع -كما يقول بعض سفهائهم؛ لأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد!
سبحان الله العظيم! فهذا أعظم شيء يتعلق المسلم به عندما يدخل إلى الإسلام، وهو أن يعرف الله -عَزَّ وَجلَّ-، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحشر: 22- 24]، فاقرأ أول طه، واقرأ سورة الحديد، واقرأ سورة الحج، واقرأ سور القرآن كلها تجدها تُعرِّف بالله -عَزَّ وَجلَّ- وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مُحَالٌ مَعَ هَذَا وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَابَ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ بِهِ مُلْتَبِسًا مُشْتَبَهً)، حتى يأتون إلى المتكلمين والمتأخرين يأخذون عنهم هذه العقائد! فهذا مُحال عقلًا ودينًا.
قال: (فَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ اَلْأَسْمَاءِ اَلْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ اَلْعُلْيَا، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ)، هذه تقسيمات عند أهل الكلام، لكنها من جهة المعنى سليمة، فصفة الحياة صفة كمالٍ، لا يُمكن أن لا يتَّصف بها الخالق -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهي صفة واجبة -بتعبيراتهم-، وكذلك صفة العلم، أمَّا الصفات الفعلية كصفة المجيء للفصل بين عباده، وصفة الاستواء، فهذه صفات جائزة -في تعبيراتهم-، ولكن نحن لا نجعل المعول على هذه التقسيمات، وإنَّما المعول عندنا على كلام الله وكلام رسوله.
والصفات الممتنعة -في تعبيرهم- صفات النقص، مثل: النوم، والجهل، السِّنَة، التَّعب.
ثم ختم الشيخ بقوله: (فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَصْلُ اَلدِّينِ، وَأَسَاسُ اَلْهِدَايَةِ، وَأَفْضَلُ وأوْجبُ مَا اكْتَسَبَتْهُ اَلْقُلُوبُ، وَحَصَّلَتْهُ اَلنُّفُوسُ، وَأَدْرَكَتْهُ اَلْعُقُولُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ اَلْكِتَابُ، وَذَلِكَ اَلرَّسُولُ وَأَفْضَلُ خَلْقِ اَللَّهِ بَعْدَ اَلنَّبِيِّينَ لَمْ يُحْكِمُوا هَذَا اَلْبَابَ اِعْتِقَادًا وَقَوْلاً!)، يُحكِموا: يعني يُتقنوا.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمِنْ اَلْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اَلنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَدْ عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى اَلْخِرَاءَةَ، وَقَالَ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى اَلْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»، وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا: «مَا بَعَثَ اَللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ».
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وَمَا مِنْ طَائِرٍ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي اَلسَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرَ مِنْهُ عِلْمًا".
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مَقَامًا فَذَكَرَ بَدْءَ اَلْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ اَلْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ اَلنَّارِ مَنَازِلَهُمْ، وَحَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ".
مُحَالٌ مَعَ تَعْلِيمِهِمْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي اَلدِّينِ -وَإِنْ دَقَّتْ- أَنْ يَتْرُكَ تَعْلِيمَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَعْتَقِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ فِي رَبِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، اَلَّذِي مَعْرِفَتُهُ غَايَةُ اَلْمَعَارِفِ وَعِبَادَتُهُ أَشْرَفُ اَلْمَقَاصِدِ، وَالْوُصُولُ إِلَيْهِ غَايَةُ اَلْمَطَالِبِ، بَلْ هَذَا خُلَاصَةُ اَلدَّعْوَةِ اَلنَّبَوِيَّةِ، وَزُبْدَةُ اَلرِّسَالَةِ اَلْإِلَهِيَّةِ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِسْكَةٍ مِنْ إِيمَانٍ وَحِكْمَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ بَيَانُ هَذَا اَلْبَابِ قَدْ وَقَعَ مِنْ اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عَلَى غَايَةِ اَلتَّمَامِ، إِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمِنْ اَلْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ أُمَّتِهِ وَأَفْضَلُ قُرُونِهَا قَصَّرُوا فِي هَذَا اَلْبَابِ، زَائِدِينَ فِيهِ أَوْ نَاقِصِينَ عَنْهُ)
}.
هذا تكملة لما سبق، فالآن يذكر أمثلة من كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومن كلام الصحابة تدل على أن هذا الشَّرع قد تمَّ، وأُكمِلَ غاية الإكمال، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى اَلْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» ، وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا: «مَا بَعَثَ اَللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» ، يعني: قام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بهذا الأمر على التَّمام.
وأبو ذر وعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- يقولان هذا الكلام العظيم، فقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وَمَا مِنْ طَائِرٍ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي اَلسَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرَ مِنْهُ عِلْمًا" .
كيف يتركنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على المحجَّة البيضاء ونحن لم نعرف ما يجب لله -عزَّ وجلَّ- حتى ننظر في كلام المتكلمين من المعتزلة، أو مَن جاء بعدهم من المتأخرين! فهذا محال، ونحن في غنًى عن كلام هؤلاء المعتزلة، ونحن في غنًى عن كلام المبتدعة عمومًا، ويكفينا ما في كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فلا نحتاج إلى كلام المتكلمين لا في باب النفي ولا في باب الإثبات، ولا في باب التَّنزيه للرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فقد علمنا الله وعلمنا رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كيف نُنزِّه الرَّب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإذا كان هذا الأمر واضحًا لكل من كان في قلبه أدنى مسكةٍ من إيمان -يعني أدنى جزء من الإيمان- فإنه يفهم ويُدرك هذا، وبطلَ قولُ بعض المتكلمين: أنَّك لا تأخذ الهُدى واليقين في باب الأسماء والصفات من القرآن والسنة مُباشرة ولا من الصحابة؛ بل خذْ كتاب فلان بن فلان -من المتأخرين- سيُفيدك، فإذا أخذتَ كتب أهل السنة صِرْتَ من المشبِّهة أو من المجسِّمة أو صِرْتَ وهَّابيًّا؛ فيُخوِّفونه من الحق، ويرغِّبونه في الباطل!
فنقول لهم: هل الكتاب والسُّنَّة أهملت المسائل التي تتعلق بالله؟
لا يُمكن، فمن عرف القرآن ومَن عرف السنَّة وعرف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ودعوته يُدرك تمامًا أن هذا أهم وأعظم ما في الرسالة.
قال الشيخ: (وَالْوُصُولُ إِلَيْهِ غَايَةُ اَلْمَطَالِبِ، بَلْ هَذَا خُلَاصَةُ اَلدَّعْوَةِ اَلنَّبَوِيَّةِ، وَزُبْدَةُ اَلرِّسَالَةِ اَلْإِلَهِيَّةِ)، لأنَّها كلها تقوم على الإيمان بالله وعبادته، فإذا عرفناه عبدناه، ولهذا جاء الكتاب والسنة بالتَّعريف بربِّنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وأفعاله، فهو الغفور والرحيم والرؤوف وهو الجواد، وهو الذي يرفع ويخفض، ويُعز ويذل، قال الله تعالى عن قول اليهود: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُو﴾ [المائدة: 64]، ما ردَّ الله عليهم وقال: ليس له يدان! بل قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، لكن ما نتخيَّل بعقولنا، ولا نُكيِّف، ولا نُمثِّل الخالق -جلَّ جلاله-؛ بل نعتقد أن الله -عز وجل- كما وصف نفسه، ولهذا فإنَّ المؤمن الموحِّد إذا سمع هذه الآية فإنه يطمع في فضله، قال تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، فيقول: اللهم ارزقني من فضلك، وأعطني من فضلك؛ فهذه النفقات ينفقها الله -عز وجل- منذ خلق السموات والأرض، ولم ينقص مما عند الله شيء، فاسألوا الله من خيري الدنيا والآخرة، خاصَّة العلم والإيمان والهداية، فهذا أعظم ما يُعطاه المؤمن، ثم العافية في الدين أولًا، ثم العافية في البدن، والرزق الواسع، والزوجة الصالحة، والولد، والمال المبارك؛ فيسأل الله من فضله.
المقصود: أن هذا الأمر موضَّح غاية التَّوضيح في الكتاب والسنة، مَن تدبَّر كتاب الله طالبًا الهُدى منه تبيَّن له طريق الحق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ مِنْ اَلْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ اَلْقُرُونُ اَلْفَاضِلَةُ -اَلْقَرْنُ اَلَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ- كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا اَلْبَابِ بِالْحَقِّ اَلْمُبِينِ، لِأَنَّ ضِدَّ ذَلِكَ إِمَّا عَدَمُ اَلْعِلْمِ وَالْقَوْلِ، وَإِمَّا اِعْتِقَادُ نَقِيضِ اَلْحَقِّ وَقَوْلِ خِلَافِ اَلصِّدْقِ. وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ.
أَمَّا اَلْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي اَلْعِبَادَةِ يَكُونُ اَلْبَحْثُ عَنْ هَذَا اَلْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ اَلْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرُ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمُ مَطَالِبِهِ، أَعْنِي: بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اِعْتِقَادُهُ، لَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ اَلرَّبِّ وَصِفَاتِهِ، وَلَيْسَتْ اَلنُّفُوسُ اَلصَّحِيحَةُ إِلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا اَلْأَمْرِ.
وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْوَجْدِيَّةِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا اَلْمُقْتَضَى-اَلَّذِي هُوَ أَقْوَى اَلْمُقْتَضَيَاتِ- أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ اَلسَّادَّةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ، وَهَذَا لاَ يَكَادُ يَقَعُ في أَبْلَدِ اَلْخَلْقِ، وَأَشَدِّهِمْ إِعْرَاضًا عَنْ اَللَّهِ، وَأَعْظَمِهِمْ إِكْبَابًا عَلَى طَلَبِ اَلدُّنْيَا، وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ، فَكَيْفَ يَقَعُ مِنْ أُولَئِكَ !
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ فِيهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ أَوْ قَائِلِيهِ فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَرَفَ حَالَ اَلْقَوْمِ)
}.
هذه الجمل مُؤكِّدة لما سبق، يعني أنَّ الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسانٍ وأتباعهم -وهم القرون المفضلة الثلاثة- ثم دخل النَّقص على الأمة، لكن لا تزال طائفة من الأمَّة على الحق -ولله الحمد-، فهذه القرون المفضَّلة محال وممتنع غاية الامتناع أن يكونوا غير عالمين بطريقة الكتاب والسنة في أسماء وصفاته، وغير قائلين بها، والشيخ يرد شبهة من يقول: إن الصحابة ما تكلَّموا في هذه الأمور لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والفتوحات الإسلاميَّة! وهذا كلام باطل؛ لأنَّ مضمون الكتاب والسنة يدل على إثبات الأسماء والصفات، فكيف لم يتكلموا فيها! فهم يَقرؤون هذه الآيات ومُقرِّين بها ومُؤمنين بها، لم يُنكروها، ولم يُعرف عن أحدٍ منهم أنه قال في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ : لم يستوِ على العرش، ولازمٌ أن نُحرِّف معناه ونقول فيه كذا وكذا! لم يقل أحد من الصحابة ولا تابعيهم هذا!
فيقول الشيخ: (مِنْ اَلْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ اَلْقُرُونُ اَلْفَاضِلَةُ -اَلْقَرْنُ اَلَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ- كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ، وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا اَلْبَابِ بِالْحَقِّ اَلْمُبِينِ)، يعني: محال أن يكونوا جاهلين، أو يعلمون الحق ويسكتون عنه، فلا يُمكن هذا.
وهذه مسألة يُخاطب بها كل من ابتُليَ بعلم الكلام -نسأل الله لنا ولهم الهداية- فإذا جاء عند آيات الصفات، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ﴾ [الفجر: 22]، وهذا يكون يوم القيامة، ومثل قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ومثل قوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول في خطبة الوداع: «ألا هل بلغت؟». فقال الصحابة: نعم. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اللهم اشهد»، يشير بأصبعه إلى السماء؛ نوجِّه له السؤال: هؤلاء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث وسمعوا هذه الآيات وتلوها على الناس، لهم احتمالين:
الاحتمال الأول: إمَّا أنَّهم يجهلون الكلام المذكور، والمتأخرون هؤلاء الذين بعدهم بخمسمائة سنة يفهمون؛ وهذا غير مقبول!
الاحتمال الثاني: أن يكونوا يعلمون أن هذا باطل، ثم سكتوا عن الكلام به، وهذا أبعد وأبعد!
والشيخُ ردَّ هذين الأمر، إذًا لابد أن يكون الكلام المذكور هنا على ظاهره حق يليق بالله -عز وجل-، وليس المعنى أنَّنا ندرك كيفيَّة صافت الله، معاذ الله! ولا الصحابة يقولون بهذا، ولا يُمكن لأحد أن يدرك كيفيَّة صفات الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، بل مَن تكلَّم في هذا المقام أو خطرَ بباله فهو على باطل، وهذا بإجماع السَّلف كلهم.
قال الشيخ: (أَمَّا اَلْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي اَلْعِبَادَةِ يَكُونُ اَلْبَحْثُ عَنْ هَذَا اَلْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ اَلْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرُ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمُ مَطَالِبِهِ)، مثل قول الصحابة: "أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟"، فالإنسان يقبل على الله -عز وجل- ويدعوه، فكيف لا يؤمن بصفاته ولا يؤمن بأسمائه! فلابد أن يعتقد في الله أنه سميع، قريب، مجيب، قوي، قدير، رحيم؛ فهذا مضمونه الإيمان والإقرار بالاسم والصفة، والأثر المترتب على ذلك، ولهذا يسأل الله ويدعوه ويُقبل عليه، فمذهب النُّفاة عكس كل هذا، يُحرفون ويؤولون، وهم على درجات وليسوا في درجةٍ واحدة.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَعْنِي: بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اِعْتِقَادُهُ، لَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ اَلرَّبِّ وَصِفَاتِهِ)، أولًا: لأن معرفة الكيفيَّة محالٌ، قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾ [طه: 110].
ثانيًا: الخوض في هذا من المحرَّمات؛ لأنَّه قولٌ على الله بغير علمٍ، وجرأة وسفَه.
ثالثًا: العقول مهما أوتيت لن تطيق ولن تُدرك، ولا يُمكن لها أن تحيط بكيفية صفات الله -عز وجل.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْوَجْدِيَّةِ)، يعني الإنسان يجدها بفطرته إذا دعا ربَّه، فإنه يدعو ربًّا عظيمًا قادرًا قويًّا رحيمًا يسمعه، فهذا ينتج من إثبات ما علمه من كلام الله ومن كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فلولا الكتاب والسُّنَّة، ولولا أنَّ الله -عز وجل- أخبرنا بذلك؛ فأنَّى لنا أن نُدرك هذا!
إذًا المعوِّل عندنا ليس العقل وليس علم الكلام وليس قواعد المتكلمين؛ بل المعول عندنا هو كلام الله وكلام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والحمد لله هذا هو مذهب السلف، وهو مذهب واضح وسهل وقرب وموافق للفِطَر، أمَّا مذهب الخلف فهو مذهب منغَّصٌ على أصحابه.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا اَلْمُقْتَضَى -اَلَّذِي هُوَ أَقْوَى اَلْمُقْتَضَيَاتِ- أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ اَلسَّادَّةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ، وَهَذَا لاَ يَكَادُ يَقَعُ في أَبْلَدِ اَلْخَلْقِ)، فأبلد واحد في البشر لا يُمكن أن يُوجَد هذا فيه.
ثم ذكر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الاحتمال الثاني، فقال: (وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ فِيهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ أَوْ قَائِلِيهِ فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَرَفَ حَالَ اَلْقَوْمِ)؛ لأن هذا اتَّهام لهم بالنِّفاق والكتمان، وهذا كلام خطير جدًّا.
والحقيقة أنَّ من يقولون هذا الكلام لا زالوا يكرِّرونه، فيقول: الصحابة مُعرِضين عن هذه النصوص وعن هذه الجدليَّات!
نقول: الجدليَّات من عندكم، والصحابة ما كان عندهم جدليَّات، فهم أبعد الناس عن الجدل المذموم.
فهم يقولون: إن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد والفتوحات الإسلاميَّة، وما تفرَّغوا لما تفرَّغ إليه مَن جاء بعدهم!
نقول: هذا كلام خطير جدًّا وباطل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (ثُمَّ اَلْكَلَامُ عَنْهُمْ فِي هَذَا اَلْبَابِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ سَطْرُهُ فِي هَذِهِ اَلْفَتْوَى أَوْ أَضْعَافِهَا، يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ طَلَبَهُ وَتَتَبَّعَهُ)}.
يعني: إذا أردتَّ أن تعرف كلام الصحابة، وكلام التابعين، وكلام أئمة التابعين، وكلام أئمة الإسلام الذين أجمع المسلمون على هدايته؛ فإن هذا كثير جدًّا ولا يُمكن أن أجمعه لك في هذا الكتاب، ولكن إذا أردتَّ أن تعرفه فابحث عنه في مظانِّه، فعلى سبيل المثال:
- تفسير ابن جرير الطبري، فهو تفسير بالإسناد إلى الصحابة والتابعين، يُبيِّنون معاني كلام الله -عز وجل-، وانظر ماذا قالوا في الآيات التي فيها أسماء الله أو صفاته أو أفعاله.
- عندك تفاسير أخرى بالأثر والإسناد للمتقدمين، مثل: تفسير ابن أبي زمنيين، ومثل: البغوي.
- عندك من الكتب المسندة التي تروي بالسَّند عن الصَّحابة، فكثير من الكتب روت عن هؤلاء، مثل صحيح البخاري، فانظر في كتاب التفسير، وكتاب التوحيد، وكتاب العلم، وقد شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري الشيخ عبد الله غنيمان -حفظه الله- شرحًا عظيمًا مطبوع في مجلدين.
- والبخاري له كتاب آخر اسمه "خلق أفعال العباد، والرد على الجهميَّة" من أول الكتاب إلى الأثر رقم (120)، كلها آثار عن الصحابة والتابعين في هذا الباب.
- ومن الكتب: كتاب "السُّنة" لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وكتاب "السُّنة" لمحمد بن ناصر المروزي، وكتاب "الشَّريعة" للإمام الآجُرِّي، وكتاب "الإبانة عن أصول الديانة" لابن بطَّة، وكتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للَّالكائي.
- كذلك كتاب الإيمان في صحيح مسلم.
- كتاب "السنن" المشهور لأبي داود السجستاني، ففي آخر المجلد الخامس "كتاب السُّنَّة والرد على الجهميَّة"، فانظر إلى الآثار التي فيه.
- كتاب "سنن ابن ماجه"، فكل مقدِّمة ابن ماجه في الرد على الجهمية.
- كتاب النُّعوت في "سنن للنسائي".
- مواضع كثيرة في "سنن الترمذي" وضَّح فيها عقيدة السَّلف.
- وكذلك "سنن الدارمي".
فهذه كتب الإسلام نقلت هذه الأقوال عن الصحابة وعن التَّابعين، فمن طلب كلامهم وأراد ان يعرف ماذا يقولون وماذا يعتقدون فسيجد هذا.
وعلى سبيل المثال: صفة العلو، فقد ألَّف ابن القيم كتاب "اجتماع الجيوش الإسلاميَّة على غزو المعطِّلة والجهميَّة"، وهذا الكتاب كله في صفة العلو، بيَّن فيه -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، وأقوال الأئمة الأربعة، وأقوال أئمة الفقه، وأئمة الحديث، وأئمَّة اللغة؛ فارجـع إليه.
ومعنى كلام الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أنه لا يُمكن أن يُسطِّر في هذه الفتوى كل كلام هؤلاء، ولكن أشيرُ إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اَلْخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِنْ اَلسَّالِفِينَ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ اَلْأَغْبِيَاءِ مِمَّنْ لَمْ يَقْدُرْ قَدْرَ اَلسَّلَفِ، بَلْ وَلَا عَرَفَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَقِيقَةَ اَلْمَعْرِفَةِ اَلْمَأْمُورِ بِهَا مِنْ أَنَّ طَرِيقَةَ اَلسَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اَلْمُبْتَدِعَةَ اَلَّذِينَ يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ مِن المتفَلْسِفَة وَمَنْ حَذَا حَذْوهُم عَلَى طَرِيقَةِ اَلسَّلَفِ إِنَّمَا أُتُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَةَ اَلسَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ اَلْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ اَلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ اَلْأُمِّيِّينَ اَلَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: 78]، وَأَنَّ طَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ هِيَ اِسْتِخْرَاجُ مَعَانِي اَلنُّصُوصِ اَلْمَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ اَلْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اَللُّغَاتِ.
فَهَذَا اَلظَّنُّ اَلْفَاسِدُ أَوْجَبَ تِلْكَ اَلْمَقَالَةَ اَلَّتِي مَضْمُونهَا نَبْذُ اَلْإِسْلَامِ وَرَاءَ اَلظَّهْرِ، وَقَدْ كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ اَلسَّلَفِ، وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ اَلْخَلَفِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ اَلْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ اَلسَّلَفِ فِي اَلْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَ اَلْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِتَصْوِيبِ طَرِيقَةِ اَلْخَلَفِ)
}.
هنا تعليق على كلمة بعض المبتدعة، وقالها بعض الفضلاء اغترارًا بهؤلاء، والشيخ حُقَّ له أن يغضب له من هذه الكلمة، وهي كلمة خطيرة جدًّا، وسمَّى مَن يقولها بأنَّه "غبي"؛ لأن فيها غباء حقيقة وغفلة، فيقول: (وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اَلْخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِنْ اَلسَّالِفِينَ)، يعني: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرين بالجنَّة: عبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة، وخديجة؛ فلا يجوز أن نقول: إنَّ الذين في القرن الخامس من علماء الكلام أعلم من هؤلاء الصحابة، ولهذا يقول الشيخ: (كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ اَلْأَغْبِيَاءِ)، فهذه غفلة شديد، وغباوة أكيدة.
قال: (مِمَّنْ لَمْ يَقْدُرْ قَدْرَ اَلسَّلَفِ)؛ لأنَّهم يظنون ظنًّا فاسدًا، وهو أنَّ السلف ما يفهمون هذه النُّصوص، ويقرؤونها بدون فقهٍ لمعانيها، وأنها ألفاظ مجرَّدة ما لها معنًى!
فلما ظنُّوا هذا الظَّن السيء، ثم رأوا بعض المتأخرين يقول: ﴿اسْتَوَى﴾ لهذا ستة عشر معنى، وقال الشاعر فلان كذا...، وقال فلان كذا...؛ فيظن أن هذا عالم!
أنت مسكين لا تعرف! فهذا يُجمِّع الشَّواذ والغرائب ويترك الحق المبين! فهؤلاء الصحابة أعلم من هؤلاء ولا ريب، ولا مقارنة أصلًا بينهم. فبعضهم يغتر بهذا، ويظن أن السلف يُقرون بمجرد اللفاظ.
وهذه المقولة هي: "طَرِيقَةَ اَلسَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ"، يعنون بهذا: أن مذهب السلف أسلم؛ لأنهم يسكتون، يقرؤون النصوص ويسكتون وما يفهمون منها شيئًا، وأمَّا الخلف فهم يفهمون المراد والمطلوب، فعندهم علمٌ وحكمة!
فهؤلاء قال الشيخ عنهم أنهم أغبياء، وحُقَّ له أن يقول فيهم هذه الكلمة؛ فإنَّ مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم.
ثم لطَّف الشيخ العبارة بعد ذلك فقال: (فهذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يُعنَى بها معنًى صحيح)، وقال الشيخ المحقق الدكتور حمد التويجري: إن هذا خطأ، وهذا ليس من كلام الشيخ، وإنَّما أقحِمَت عمدًا أو سهوًا لعدَّة أسباب، وهي جملة باطلة لأن معناها فاسد؛ لأنه ميَّز الخلف عن السلف، وجعل السلف أسلم، والخلف أعلم وأحكم، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ السلامة لابد فيها من علمٍ وحكمةٍ، فمذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، ومذهب الخلف أخطر وأجهل وأسفه وأضل.
فالأسلم أنَّك تؤمن بما قاله الله وبمراد الله -عز وجل- وبالكلام الذي فهمه الصحابة، ولا تأتي عند واحد من المتأخرين في المائة الرابعة أو الخامسة متلوث ببدعٍ عظيمة ويقول لك: هذا يحتمل كذا أو كذا...، فيُضيِّعك، ويجعل النص ليس له قيمة عندك، فهذا أخطر وأجهل وأسفه، أن يترك الحق المبين إلى هذه الاحتمالات الواهية الفاسدة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اَلْمُبْتَدِعَةَ اَلَّذِينَ يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ مِن المتفَلْسِفَة وَمَنْ حَذَا حَذْوهُم)؛ لأنَّ علماء الكلام تأثَّروا بالفلسفة.
في الأصل أن كلمة "فلسفة" هي: طلب الحكمة.
والحكمة مطلوبة، وكل الأقوام لهم حكمة يطلبونها وينشدونها، ولكن اشتهر علم الفلسفة المذموم اشتهر عن اليونانيين، وهم متفاوتون ولهم مدارس مختلفة، ومن أخطرهم أرسطو ومن جاء بعده، وهو الذي عُرف بمقالات سيئة في الإلهيَّات، فهؤلاء المتكلِّمة حذو حذوهم، وسلكوا منهاج هذا الرجل الضَّال، فبالتالي خلطوا علم الكلام بعلم الفلسفة، ففضلوا هذه الطريقة على طريقة الكتاب والسُّنَّة.
يقول الشيخ: كيف تفضِّلون طريقة الخلف المتأثِّرة بالعلم الفلسفي وعلم الكلام على طريقة الكتاب والسنة وطريقة الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؟!
ويقول الشيخ عن السبب في ذلك: (إِنَّمَا أُتُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَةَ اَلسَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ اَلْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ اَلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ)، فهذا ظن فاسد.
قال: (وَأَنَّ طَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ هِيَ اِسْتِخْرَاجُ مَعَانِي اَلنُّصُوصِ اَلْمَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ اَلْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اَللُّغَاتِ.
فَهَذَا اَلظَّنُّ اَلْفَاسِدُ أَوْجَبَ تِلْكَ اَلْمَقَالَةَ اَلَّتِي مَضْمُونهَا نَبْذُ اَلْإِسْلَامِ وَرَاءَ اَلظَّهْرِ)
، نعم هذا نبذٌ للإسلام؛ لأنَّك عندما تعرض عليه كلام السلف، يقول: لا أبغي دراسته ولا تعلمه! وإذا عرضتَّ عليه كلام واحد من المتأخرين متلوث بالخرافات والبدع والضلالات؛ قال: هذا الذي آخذ الحق منه!
أنى لك ذلك! والله ما تجد عنده حق.
قال الشيخ: (وَقَدْ كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ اَلسَّلَفِ، وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ اَلْخَلَفِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ اَلْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ اَلسَّلَفِ فِي اَلْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَ اَلْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِتَصْوِيبِ طَرِيقَةِ اَلْخَلَفِ).
{شيخنا أحسن الله إليكم..
إذا سمعنا هذه العبارة وهي تتردَّد كثيرًا، فهل ننكرها أو نقول بها؟}.
لا نقول بهذه العبارة: "طَرِيقَةَ اَلسَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةَ اَلْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ"؛ بل ننبه على الغلط فيها، ووجه الغلط:
أولًا: أنَّ هذا تنقُّص للسلف الصَّالح، لأنه صار الخلف وأعلم منهم، وهذا لا يقوله من يحترم السلف الصالح.
ثانيًا: لا يُمكن أن تكون السلامة عند الإنسان إلا بناء على العلم والحكمة، فهذا تناقض في العبارة، فكيف يكون أسلم وهم ليس عندهم علم، وكيف يكون أسلم وهم ليس عندهم حكمة؟!
ثالثًا: هذه العبارة ما قالها الصحابة ولا قالها التابعون، بل قالها المتأخرون ليروِّجوا مذهب أهل الكلام فقط، فبالتالي يكون هذا أحرى أن نطَّرح هذه العبارة، ونعرف الغلط الذي ورد فيها.
قد يقول البعض: إن هذه العبارة قيلت عن بعض كبار شُراح الحديث؟
نقول: غفر الله لنا ولهم، فهم قد غلطوا، وقلَّدوا في هذا مَن أحسنوا به الظَّن، ولكن الغلط مردود، وليس عندنا أحدٌ معصومٌ، فبعض شُرَّاح الحديث قد وقع في هذا الغلط، فنقول: غن هذا غلط وننبه عليه، وإذا كان هذا الشَّارح قد عُرِفَ بجودة الشَّرح فنشكره على شرحه، ولكن الغلط مردود على صاحبه، والصواب أن نقول: "طريقة السلف الصالح أسلم وأعلم وأحكم".
وبالله التوفيق، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.
{جزاكم الله خيرًا شيخنا الفاضل على ما قدَّمتم، كما أشكر السادة المشاهدين على طيب المشاهدة والمتابعة، متمنِّيًا للجميع التوفيق والسداد، وإلى حلقةٍ قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك