الدرس الخامس

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2991 13
الدرس الخامس

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسٍّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل -بإذن الله- ما بدأناه في شرح الفتوى الحمويَّة الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وسيكون معنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الإخوة جميعًا.
{في الحلقة الماضية توقفنا عند قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ هَذَا اَلرَّدُّ لَا يَزِيدُ اَلْأَمْرَ إِلَّا شِدَّةً وَلاَ يَرْتَفِعُ اَلْخِلَافُ بِهِ إِذْ لِكُلِّ فَرِيقٍ طَوَاغِيتُ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ حَالَ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَكَلِّفِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا • وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا • فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقً﴾ [النساء:60-62])}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ؛ فنسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم وجميع المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، وأن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النَّبيين والصِّدِّقين والشُّهداء والصَّالحين، وحسنُ أولئكَ رفيقًا.
لا زلنا نستكمل القراءة في هذه الفتوى الحمويَّة الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسبق قراءة جملة من الفوائد والمسائل العظيمة، ومن ضمنها: أنَّه بيَّنَ أنَّ طريقة المعطِّلة الذينَ سلكوا مسالك أهل الكلام تقتضي ويلزم منها أن نُعرض عن الكتاب والسُّنَّة، إذ لا يُطلبُ الهُدَى منهما، وأن نُقبل على العقول، ويلزم من مقولتهم أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معزولٌ عن التَّعليم والإخبار بصفات الله -عَزَّ وَجلَّ- وأنَّنا إذا تنازع الناس في هذه الأمور، فلا يرجعون إلى الكتاب والسنَّة؛ بل يرجعون إلى ما كان يرجع إليه الناس في الجاهليَّة، وهذا حالُ الذين لا يؤمنون بالأنبياء، كالبراهمة والفلاسفة، وسائر أهل الشرك، فكانوا يرجعون إلى أهوائهم وعقولهم وإلى استحساناتهم، فأودية الضَّلالة لا تنتهي، فهل نقول للناس بمثل ما كان يفعله أهل الجاهليَّة أن ارجعوا إلى أهوائكم؟!
قال الشيخ: (وَإِنْ كَانَ هَذَا اَلرَّدُّ)، يعني الرَّدُّ إلى غير الكتاب والسُّنَّة من الأهواء والعقول والاستحسانات والآراء التي لا تنتهي.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَا يَزِيدُ اَلْأَمْرَ إِلَّا شِدَّةً)، يعني: إذا رددنا ما نحتاج إلى معرفته من صفات الله وأسمائه، وما الذي نثبته وما الذي ننفيه؛ فإذا رددنا هذا إلى غير الكتاب والسُّنَّة سيزداد الأمر شدَّة، وسيقول هذا: نثبتُ هذا. ويقول هذا: لا نثبت هذا! وهذا يقول: هذا يجوز. وهذا يقول: هذا لا يجوز! فلن يكون عندنا شيء يعصمنا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَرْتَفِعُ اَلْخِلَافُ بِهِ)؛ لأن كل ما معه سُلطانٌ قاهر، فكلٌّ يقول: عقلي أصح من عقلك، وقولي أصح من قولك!
والحق هو ما جاء في الوحي المعصوم المحفوظ، ولهذا قال الشيخ: (وَإِنْ كَانَ هَذَا اَلرَّدُّ لَا يَزِيدُ اَلْأَمْرَ إِلَّا شِدَّةً وَلاَ يَرْتَفِعُ اَلْخِلَافُ بِهِ إِذْ لِكُلِّ فَرِيقٍ طَوَاغِيتُ)، فكل طائفة من طوائف البشر عندهم طواغيت يُريدون أن يتحاكموا إليها، والواجب على المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يتحاكموا إلى شرع الله وإلى كتابه، وإلى سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا قال الشيخ: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ)، يعني: لا يجوز لمن دانَ بدين الإسلام أن يتَّخذ فِرقًا أو طوائف أو أشخاصًا يتحاكم إلى عقولهم وإلى آرائهم، ويترك كتاب الله ويُعرض عنه؛ بل أُمرنا أن نكفر بما يُعارض كتاب الله، ويُخالف كتاب الله.
قال: (وَمَا أَشْبَهَ حَالَ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَكَلِّفِينَ)، وفي نسخة (المُتَكَلِّمين)، وهم وقعوا في التَّكلُّف والتَّنطُّع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾ ).
الطاغوت: هو كل ما عُبدَ من دون الله أو أُطيع في معصية الله، أو شرَّع ما يُخالف تشريع الله، وهذه الآيات نزلت في المنافقين على عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكانوا يكرهون التَّحاكم إلى الرَّسول، وإلى ما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكانوا يُريدون أن يجمعوا بين الأمري، فيقولون: نحن نؤمن بما أنزل الله، ونؤمن بما جاء في الإسلام، وفي نفس الوقت يُريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والله -عَزَّ وَجلَّ- يقول: ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا • وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودً﴾ ، ولهذا يجب على المسلم أن يختبر نفسه في سائر أمور الدين، في الاعتقاد في مسائل الأسماء والصفات، أو في مسائل البيع والشراء، أو في مسائل القضاء، أو في مسائل الأنكحة والطَّلاق، أو في مسائل العبادات، أو في الأمور القلبيَّة والواردات القلبيَّة والأحوال القلبية، أو في المناهج الدَّعويَّة، أو في سائر أمور الدين، فإذا كان النَّظر في القرآن وفي السنَّة وفيما قاله الله وقاله الرسول غير مرغوب عندك ولا تقبله؛ فهذا معناه أنَّك تُراجع إيمانك.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودً﴾ ، أي: يصدُّون عن الرسول، والمؤمن لا يصد عن الرسول؛ بل يفرح بما قاله الرسول، ويُؤمن بما قاله الرسول، ويعمل بما قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهدَّدهم الله فقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقً﴾ ، وسيشرح الشيخ أنَّ هذه حجَّة المنافقين على عهد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتتكرَّر هذه الحجَّة عندَ مَن في قلبه نفاق، فهو يتظاهر بأنَّه يقبل الشرع، ويُريد ما خالف الشَّرع، فإذا أُحرِجَ قال: أريد أن أُوفِّق بين الشَّرع وبين ما خالفه من هذه الأمور، فهذه حجَّة غير مَقبولة، ولو كانت هذه الحجَّة صحيحة لأثنى الله عليهم.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنْ اَلْكِتَابِ وَإِلَى اَلرَّسُولِ- وَالدُّعَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ اَلدُّعَاءُ إِلَى سُنَّتِهِ- أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّا قَصَدْنَا اَلْإِحْسَانَ عِلْمًا وَعَمَلاً بِهَذِهِ اَلطَّرِيقِ اَلَّتِي سَلَكْنَاهَا، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ اَلدَّلَائِلِ اَلْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ.
ثُمَّ عَامَّةُ هَذِهِ اَلشُّبُهَاتِ اَلَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَائِلَ إِنَّمَا تَقَلَّدُوا أَكْثَرَهَا عَنْ طَوَاغِيتِ اَلْمُشْرِكِينَ أَوْ اَلصَّابِئِينَ، أَوْ بَعْضِ وَرَثَتِهِمْ اَلَّذِينَ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ، مِثْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، أَوْ عَنْ مَنْ قَالَ كَقَوْلِهِمْ لِتَشَابُهِ قُلُوبِهِمْ ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء:65]، ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ..﴾ [البقرة:213])
}.
هذه حجَّتهم وهي قولهم: إن أردنا إلَّا إحسانًا وتوفيقًا.
وهنا الشيخ وضَّح أن حتَّى هؤلاء المتأخرين الذين ضلوا في باب الأسماء والصفات إذا دُعوا إلى ما قاله الله وقاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعرضوا، فيقولون: نحن على خير، وطريقتنا أحسن، ويقولون على سبيل المثال: نحن لا نوافق الجهميَّة والمعتزلة، ولكننا أحسن حالًا منهم، فالجهميَّة والمعتزلة أخذوا بالأدلة العقليَّة فقط، أمَّا نحن فقد وفَّقنا بين الأدلَّة العقليَّة والأدلَّة النقليَّة.
فهذه هي طريق المتكلمين، أما طريقة الفلاسفة فلا عبرة عندهم بالأدلة النقلية، وإنَّما المرجع هو العقل، وهذا أخطر، ولا تزال طريقة المتكلمين موجودة وخطرها قائم، وطريقة الفلاسفة موجودة وخطرها قائم، لأنَّها قائمة على نبذ الكتاب والسنة، والفلاسفة أخطر، وكل على ضلال.
والمتكلمون الذين من أهل الإسلام ظنُّوا أنَّ تلك الأدلة العقلية صحيحة، ويجب العمل بها، وأغلبها شبهات حقيقةً.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عَامَّةُ هَذِهِ اَلشُّبُهَاتِ اَلَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَائِلَ)، هي في الحقيقة شبهات.
ومن أسباب انحرافهم: أنَّهم توهَّموا أشياء ظنُّوها دلائل، ولهذا قال الشيخ إنَّ هذه شبهات وليست دلائل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا تَقَلَّدُوا أَكْثَرَهَا عَنْ طَوَاغِيتِ)، يعني هؤلاء الذين دخلوا في علم الكلام من المسلمين -نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين- أصل ضلالتهم التي ظنُّوها دليلًا أخذوها عن شخصٍ ضالٍّ أو كافرٍ من الصَّابئين أو من المشركين، فالشيخ وضَّح هذا لمن أراد التَّوسُّع.
فالجهم بن صفوان سببُ ضلاله أنَّه ناظر طائفةً من كفرة الهند ومن أكبرهم إلحادًا يُقال لهم: "السُّمانيَّة"، ولَمَّا أحرجوه في بعض الأسئلة -وهو قد أعرض عن الكتاب والسنة- ظنَّ أنَّه سيفلجهم إذا قال بعض الكلمات، ولكنه تأثَّر بهم، كما قال الشيخ: (إِنَّمَا تَقَلَّدُوا أَكْثَرَهَا عَنْ طَوَاغِيتِ اَلْمُشْرِكِينَ أَوْ اَلصَّابِئِينَ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ بَعْضِ وَرَثَتِهِمْ، اَلَّذِينَ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ)، يعني ليس الذي قال هذا الدليل الباطل مشرك أو صابئ، وإنَّما ورث هذا من مُشركٍ أو صابئٍ، كالجهم أو بشر المريسي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مِثْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ)، لم يُسمِّهم الشيخ، فالمقصود أنَّ الإنسان يحذر من هذا المسلك عمومًا.
قال: (أَوْ عَنْ مَنْ قَالَ كَقَوْلِهِمْ)، يعني بشر المريسي نفس تعطيلاته وتحريفاته -التي يُسميها بعض الناس تأويلات- أخذها من ابن فورك من الأشاعرة، وعنه توارثوها، فمصدرهم سيء، مصدرهم أشخاص ليسوا على سواء السبيل، ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]، والخطاب هنا للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وها نحن أهل السنة والجماعة من قديم نقول لهؤلاء المتكلمين: نحن لا نوافقكم، شجر بيننا وبينكم نزاع، فأنتم تقولون: لا نثبت لله العلو، لا نثبت لله الاستواء، لا نثبت لله صفة الرحمة؛ شبهات عندكم، ولا يكون الرَّد إلا للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65].
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَازِمُ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ: أَنْ لَا يَكُونُ اَلْكِتَابُ هُدًى لِلنَّاسِ، وَلَا بَيَانًا وَلَا شِفَاءً لِمَا فِي اَلصُّدُورِ وَلَا نُورًا وَلَا مَرَدًّا عِنْدَ اَلتَّنَازُعِ، إِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَكَلِّفُونَ أَنَّ اَلْحَقَّ اَلَّذِي يَجِبُ اِعْتِقَادُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ اَلْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا غَايَةُ اَلْمُتَحَذْلِقِ أَنْ يَسْتَنْتِجَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:4]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ [مريم:65].
وَبِالِاضْطِرَارِ يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ دَلَّ اَلْخَلْقَ عَلَى أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ عَلَى اَلْعَرْشِ، وَلَا فَوْقَ اَلسَّمَاوَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ ، لَقَدْ أَبَعْدَ اَلنُّجْعَةَ وَهُوَ إِمَّا مُلْغِزٌ أَوْ مُدَلِّسٌ، لَكَ يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
وَلَازِمُ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ اَلنَّاسِ بِلَا رِسَالَةٍ خَيْرًا لَهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ، لِأَنَّ مَرَدَّهُمْ قَبْلَ اَلرِّسَالَةِ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا اَلرِّسَالَةُ زَادَتْهُمْ عَمًى وَضَلَالاً.
يَا سُبْحَانَ اَللَّهِ! كَيْفَ لَمْ يَقُلْ اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا مِنْ اَلدَّهْرِ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ اَلْأُمَّةِ: هَذِهِ اَلْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ لاَ تَعْتَقِدُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، لَكِنْ اِعْتَقِدُوا اَلَّذِي تَقْتَضِيه مَقَايِيسُكُمْ، أَوْ اِعْتَقِدُوا كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ اَلْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ فَلَا تَعْتَقِدُوا ظَاهِرَهُ، وَانْظُرُوا فِيهَا فَمَا وَافَقَ قِيَاسَ عُقُولِكُمْ فَاعْتَقِدُوهُ، وَمَا لَا فَتَوَقَّفُوا فِيهِ وَانْفُوهُ)
}.
قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ ، فالنبوة هداية للخلق، وليست سببًا للضلال، والكتاب الذي أنزله الله هداية للخلق وليس سببًا للضلال، وكل ما يختلف الناس فيه فإنهم يرجعون إلى الكتاب وإلى الرسول الذي أُرسل إليهم، قال تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ .
ولازمُ مقالة التعطيل التي تقول: إنَّ الهدى يُطلَب من العقول ومن الأدلة العقلية التي وضعوها هم: أن لا يكون الكتاب هدى للناس ولا نورًا ولا بيانًا، ولا شفاءً لما في الصدور، وإنما المرد هو العقل، أو تقديرات المتكلمين المتأخرين المتكلفين، فصار هؤلاء المتكلِّفون يقولون: اطلبوا الحق من عندنا فقط، وإذا نظرتَ إلى ما جاء في الكتاب والسنة فقد تضل!
فهذا هو لازم مقالتهم، ولهذا قال الشيخ: (أَنَّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَكَلِّفُونَ أَنَّ اَلْحَقَّ اَلَّذِي يَجِبُ اِعْتِقَادُهُ)، فأين هو؟!
ومن الأمثلة أنهم يقولون: إنَّ الله ليس على العرش ولا في العلو ولا فوق السماء، ولا فوق الخلق، ولا فوق العالم، ونحو ذلك من العبارات؛ والأمكنة بالنسبة لله سواء، ونحو ذلك من التَّعطيلات والأقوال؛ فلماذا لم يُبيِّنها الله -سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ: (وَإِنَّمَا غَايَةُ اَلْمُتَحَذْلِقِ -يعني المتذاكي- أَنْ يَسْتَنْتِجَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:4]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ [مريم:65])، والحقيقة أنَّ هذه النصوص لا تدل على تعطيلاتهم، وإنَّما هي إثبات لكمال الرب، ونفي مماثلة المخلوقات له، فهو الكامل سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله، أما المخلوقات فهي ناقصة، وليس شيء في هذه المخلوقات مماثل لله -عَزَّ وَجلَّ-، فالآية تتضمَّن الإثبات، وتتضمَّن نفي المماثلة، ولهذا قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ، ثم قال بعدها: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص]، وذلك لكماله تعالى، ولاتصافه بالأسماء الحسنى والصفات العلا، والأفعال الكاملة.
يقول الشيخ: (وَبِالِاضْطِرَارِ يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ دَلَّ اَلْخَلْقَ عَلَى أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ عَلَى اَلْعَرْشِ، وَلَا فَوْقَ اَلسَّمَاوَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ )، فما وجه الدلالة؟ فإمَّا أن هذا إلغاز أو تدليس! ومعاذ الله وحاشا لله أن يكون هذا في كتاب الله، أو في سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم ذكر الشيخ اللوازم السيئة لهذه المقالة، فقال: (وَلَازِمُ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ اَلنَّاسِ بِلَا رِسَالَةٍ خَيْرًا لَهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ، لِأَنَّ مَرَدَّهُمْ قَبْلَ اَلرِّسَالَةِ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ)، فمردهم قبل وجود الرسالة وبعد وجودها هو ما تقرره عقولهم، فلا حول ولا قوة إلَّا بالله، ما أبشع هذا القول، ولهذا قال الشيخ: (يَا سُبْحَانَ اَللَّهِ! كَيْفَ لَمْ يَقُلْ اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا مِنْ اَلدَّهْرِ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ اَلْأُمَّةِ: هَذِهِ اَلْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ لاَ تَعْتَقِدُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ)، فلم يقل أحد: حرام عليك أن تعتقد هذه النصوص، مع كثرتها في الكتاب والسنة؛ بل اعتقد ما تقيسه عقلك، أو اعتقد ما يقرره فلان وفلان!! فلم يقل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مقاييس عقولكم هي المعيار في الإثبات والنفي!
وهذه اللوازم التي ذكرها الشيخ لو سمعها الإنسان عرف بطلان القول.
وهل لازم القول هو قول للإنسان؟
نقول: إذا عرفه وأقرَّ به وقال أنا ألتزم به حُوسب عليه.
بعض الناس يقول: ألا يُحكم بكفر من يقول هذه الكلمات الخطيرة التي فيها تنقُّصٌ من الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن القرآن وللرب -عَزَّ وَجلَّ؟
نقول: لا، هؤلاء أتو من جهل، ولم يقصدوا مُعارضة الله -عَزَّ وَجلَّ- ومعارضة رسوله، ولو واحد منهم صرَّح بهذا كفر وخرج عن الإسلام، ولكن علماء أهل السنة كابن تيمية يُبيِّن لهم أنَّ قولهم كذا يلزم منه كذا، ولكن هم يقولون: لا نلتزم، وهذا يدل على بشاعة هذا القول.
إذًا؛ لازم القول لا يكون قولًا إلَّا إذا التزم به وقال أنا أقول به، وإذا لم يلتزم به لا يُحاسب عليه، ولكن يُذم بهذا القول الفاسد.
وأمَّا لازم الكتاب والسنة فإنَّه حق، فالله -عَزَّ وَجلَّ- لا يقول إلَّا حقًّا، وما يترتَّب عليه فهو حق، وما يقتضيه كلامه فهو حق، وكذلك رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اَللَّهِ».
وَرُوِيَ عَنْهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ اَلْفِرْقَةِ اَلنَّاجِيَةِ: «هُوَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اَلْيَوْمَ وَأَصْحَابِي».
فهلَّا قال مَن تمسَّك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بِظَاهِرِ اَلْقُرْآنِ فِي بَابِ اَلِاعْتِقَادِ فَهُوَ ضَالٌّ، وَإِنَّمَا اَلْهُدَى رُجُوعُكُمْ إِلَى مَقَايِيسِ عُقُولِكُمْ، وَمَا يُحْدِثُهُ اَلْمُتَكَلِّمُونَ مِنْكُمْ بَعْدَ اَلْقُرُونِ اَلثَّلَاثَةِ، وَهذه المقالة وإِنْ كَانَ قَدْ نَبَغَ أَصْلُهَا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ اَلتَّابِعِينَ)
}.
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بما أوحى الله إليه بما سيكون من أشراط الساعة ومن أمور الأمة، ومن ضمنها: الافتراق، وهذا ليس فقط في الأحاديث، وإنَّما أيضًا في القرآن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159]، قال أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وجماعة من الصحابة والتابعين: "هذه الآية نزلت في أهل الأهواء من هذه الأمَّة"؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو إمام هذه الأمَّة وسيد المرسلين وسيد الخلق أجمعين -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلمَّا يقول الله -عَزَّ وَجلَّ- له: ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ ، يعني مَن ينتسب إليه، فعُلِمَ أنَّ هذه الآية فيمن ينتسب إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا يكون مراده كفار قريش وغيرهم من الكفار؛ لأنهم لم يكونوا ينتسبون إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل كانوا يُعادونه ويتبرَّؤون منه، ويسبونه -صلوات الله وسلامه عليه- فعُلم أنَّ الآية في أهل الأهواء من هذه الأمَّة كما صرَّح به الصحابة كأبي هريرة وغيره.
وهذه الأحاديث من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اَللَّهِ»، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اَلْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»؛ وهذه تُسمَّى أحاديث الافتراق، وحديث الافتراق هو حديث ثابت صحيح مشهور، رواه جمعٌ غفير من الصحابة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بألفاظٍ متقاربة.
ولَمَّا سُئل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الفرقة الناجية قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اَلْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»، وأذكركم بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْ﴾ [البقرة: 137]، ففي الآية: مَن كان على مثل ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهتدي، وفي الحديث وصفه بالنَّجاة.
ثم يُخاطب الشيخ هؤلاء فيقول: فهلَّا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن تمسَّك بالعقل نجا، أو مَن رجع إلى ما يُحدثه المتكلمون منكم نجا!!
فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوحي إليه العليم الخبير، الذي يعلم ما كان وما سيكون، وهو ربُّ العالمين، ولو كان الهُدى في اتِّباع هؤلاء لأمر الله -عَزَّ وَجلَّ- رسوله أن يُبلِّغ الأمَّة أن ارجعوا إلى عقولكم، وارجعوا ما يُقرره المتكلمون.
ثم ذكر الشيخ أنَّ هذه المقالة نبغت مُتأخِّرة، يعني لم تُعرَف هذه المقالة -أعني تعطيل الصفات- في عهد أبي بكر الصديق، ولم تُعرَف هذه المقالة في عهد عمر، ولا في عهد عثمان، ولا في عهد علي، وفي عهد علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خرجت الخوارج والشِّيعة، ولم تُعرَف هذه المقالة في عهد معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبعد وفاة معاوية خرجت مقالة القدريَّة، وبعد مدَّةٍ حوالي خمس عشرة سنة خرجت مقالة المُرجئة، فهذه المقالات المشهورة:
- أولها: الخوارج.
- ثم الشيعة.
- ثم القدريَّة.
- ثم المرجئة.
وبعدَ المائة خرجت مقالة التَّعطيل، وأوَّل مَن عُرف بإنكار الصفات للرب سبحانه هو الجعد بن درهم، فهذا تاريخ ومصدر هذه المقالة، بل ليس مصدرها من الصحابة، فلم يقل صحابي مثل هذا الكلام، ولا تابعي قال هذا الكلام، ولا أحد من أئمة التابعين قال هذا الكلام، وهذا علامة على انقطاعها بالوحي، وأنها لا صلة لها بالوحي، وإنما صلتها بالباطل وأهله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ- مَقَالَةِ اَلتَّعْطِيلِ لِلصِّفَاتِ- إِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ تَلَامِذَةِ اَلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَضُلَّالِ اَلصَّابِئِينَ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ اَلْمَقَالَةَ فِي اَلْإِسْلَامِ هُوَ اَلْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَهَا عَنْهُ اَلْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَأَظْهَرَهَا فَنُسِبَتْ مَقَالَةُ اَلْجَهْمِيَّةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اَلْجَعْدَ أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهَا أَبَانُ عَنْ طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ اَلْأَعْصَمِ، وَأَخَذَهَا طَالُوتُ مِنْ لَبِيدِ بْنِ اَلْأَعْصَمِ اَلْيَهُودِيِّ اَلسَّاحِرِ اَلَّذِي سَحَرَ اَلنَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ اَلْجَعْدُ هَذَا فِيمَا قِيلَ مِنْ أَهْلِ حَرَّان وَكَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ اَلصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، بَقَايَا أَهْلِ دِينِ اَلنَّمْرُودِ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ اَلَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ اَلْمُتَأَخِّرِينَ فِي سِحْرِهِمْ، وَاَلنَّمْرُودُ هُوَ: مَلِكُ اَلصَّابِئَةِ اَلْكَنْعَانِيِّينَ اَلْمُشْرِكِينَ، كَمَا أَنَّ كِسْرَى مَلِكُ اَلْفُرْسِ وَالْمَجُوسِ وَفِرْعَوْن مَلِكُ اَلْقِبْطِ وَالْكُفَّارِ، وَالنَّجَاشِيّ مَلِكُ اَلْحَبَشَةِ اَلنَّصَارَى، فَهُوَ اِسْمُ جِنْسٍ لَا اِسْمُ عَلَمٍ.
كَانَتْ اَلصَّابِئَةُ إذ ذاك إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ إِذْ ذَاكَ عَلَى اَلشِّرْكِ وَعُلَمَاؤُهُمْ اَلْفَلَاسِفَةُ، وَإِنْ كَانَ اَلصَّابِئُ قَدْ لاَ يَكُونُ مُشْرِكًا، بَلْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:62]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [المائدة:69].
لكن كثيًرا منهم -أو أكثرهم- كانوا كفارًا أو مشركين، كما أن كثيرًا من اليهود والنصارى بدَّلوا وحرفوا وصاروا كفارًا أو مشركين، فأولئك الصابئون ـ الذين كانوا إذ ذاك ـ كانوا كفارًا مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل.
وَمَذْهَبُ النُّفَاةِ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي اَلرَّبِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا وَهُمْ اَلَّذِينَ بُعِثَ إِبْرَاهِيمُ اَلْخَلِيلُ إِلَيْهِمْ.
فَيَكُونُ اَلْجَعْدُ أَخَذَهَا عَنْ اَلصَّابِئَةِ اَلْفَلَاسِفَةِ.
وَكَذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ اَلْفَارَابِيُّ دَخَلَ حَرَّان وَأَخَذَ عَنْ اَلْفَلَاسِفَةِ اَلصَّابِئِينَ تَمَامَ فَلْسَفَتِهِ، وَأَخَذَهَا اَلْجَهْمُ أَيْضًا- فِيمَا ذَكَرَهُ اَلْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ- لَمَّا نَاظَرَ اَلسّمْنِيَّةَ بَعْضَ فَلَاسِفَةِ اَلْهِنْدِ- وَهُمْ اَلَّذِينَ يَجْحَدُونَ مِنْ اَلْعُلُومِ مَايُسَمُّونَهُ اَلْحِسِّيَّاتِ.
فَهَذِهِ أَسَانِيدُ جَهْمٍ تَرْجِعُ إِلَى اَلْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْفَلَاسِفَةِ اَلضَّالِّينَ إِمَّا مِنْ اَلصَّابِئِينَ، وَإِمَّا مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ لَمَّا عُرِّبَتْ اَلْكُتُبُ اَلرُّومِيَّةُ واليونانيَّة فِي حُدُودِ اَلْمِائَةِ اَلثَّانِيَةِ زَادَ اَلْبَلَاءُ مَعَ مَا أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ اَلضُّلَّالِ اِبْتِدَاءً، مِنْ جِنْسِ مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ فِي حُدُودِ اَلْمِائَةِ اَلثَّانِيَةِ اِنْتَشَرَتْ هَذِهِ اَلْمَقَالَةُ اَلَّتِي كَانَ اَلسَّلَفُ يُسَمُّونَهَا مَقَالَةَ اَلْجَهْمِيَّةِ بِسَبَبِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ اَلْمِرِّيسِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وَكَلَامُ اَلْأَئِمَّةِ مِثْلُ: مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ اَلْمُبَارَكِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَبِشْرٍ اَلْحَافِي، وَغَيْرِهِمْ، فِي هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ، فِي ذَمِّهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ)
}.
الكلام فيه بيان لمصدر العقيدة عند المتكلمين، وسند هؤلاء المتكلمين، علمنا أنَّ سند الطريقة السلفيَّة هو كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما قاله أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتابعون لهم بإحسان.
أما مقالات هؤلاء التي يعتمدون عليها؛ يُبيِّن الشيخ أنَّ أساسها الأول هو الجعد بن درهم، فهو أوَّل مَن عُرف عنه مقالة التَّعطيل، والجعد بن درهم هذا كان في خرسان من الموالي، وقتل سنة 124 من الهجرة في شهر ذي الحجَّة في يوم العيد، والذي قتله الأمير خالد بن عبد الله القسري، فقال: "أيُّها الناس ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإنِّي مُضحٍ بالجعد بن درهم، زعم أنَّ الله لم يُكلم موسى تكليمًا، ولم يتَّخذ إبراهيم خليلًا، فنزلَ فذبحه".
ومقولة: "إن الله لم يكلم موسى تكليمًا"، فيها نفي الكلام، وتتضمَّن نفي الصفات.
ومقولة "إنَّ الله لم يتَّخذ إبراهيم خليلًا"، فيها نفي المحبَّة والخُلَّة.
وبهذا يُعرَف أن مذهب الجعد هو نفي لجميع الصفات، وكذلك يتضمَّن نفي الأسماء أيضًا، وأخذ الجهم بن صفوان هذه العقيدة عن الجعد، والجهم قُتل سنة 128 من الهجرة، يعني بعد الجعد بأربع سنوات، والذي قتل الجهم بن صفوان هو والي الشرطة في بغداد، واسمه سلمُ بن أحوذ، وذكر هذا الإمام البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد، والرد على الجهمية"، فقال: "قتلَ جهمًا سلمُ بن أحوذ -رحمه الله" يترحَّم على سلْم.
ولما ذكر العلماء قصَّة قتل الجعد بن درهم قالوا:

ولأجل ذا ضحَّى بجعــدٍ خالدُ الْ ... قسريُّ يومَ ذبائح القربـــان
إذ قال: إبراهيـــــمُ ليس خليلَــــه ... كلا ولا موسى الكليم الداني
شكَر الضحيةَ كلُّ صاحب سنَّة ... لله درُّك مِن أخي قربــــــان

فأهل السنة ذكروا هذا، كالبخاري والبيهقي، وجماعات ذكروا هذه القصَّة مستحسنين وشاكرين لصنيع خالد القسري، وكذلك ذكره الآجرِّي والدَّارمي، وغيرهم كثير يُثنون على هذا الصَّنيع.
وإلى اليوم يتضايق المبتدعة من المعطِّلة من فعل خالد القسري، ويترحَّمون على الجعد، وهذا يدل على أنَّ لكل قومٍ وارث.
وأمَّا الجهم فقد أخذَ المقالة ونشرها؛ لأنَّ الجهم كان خطيبًا ومتحدِّثًا بارعًا، وصاحب فتنة، وكان يُظهر الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، حتى إنه خرج مع نصر بن سيَّار على الوالي، وخرج عن جماعة المسلمين، وصاروا يُقاتلون السُّلطان، ويُظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع هذه المقالة البشعة في التَّعطيل، ولَمَّا قُبِضَ عليه أخذ يترجَّى ويقول: اتركني، فقال: "والله لو كنت في بطني، لشققت عن بطني حتَّى أقتلك"، لما قاله عن الله -عَزَّ وَجلَّ.
وكان العلماء يذكرون عن جهم مقالاتٍ كفريَّة بشعة، مثل قوله في سورة طه لما قرأ القارئ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، قال: وددتُّ أن أحُكَّها من المصحف. قبَّحه الله! وهذا يدل على أنهم معرضون عن الكتاب والسنة.
والجهم بن صفوان لم يقل بمقالة التَّعطيل فقط، وإنَّما قال بالإرجاء الشَّديد، وقال بالجبر، فهو يرى أنَّ الإنسان مجبور على عمله، فاجتمعت فيه أربع جيمات:
ج: التَّجهُّم.
ج: الجبر.
ج: الإرجاء.
ج: الخروج.
فلو نظرنا في سيرته وجدنا أنه خرج على ولي الأمر مع الخارجين.
يقول ابن تيمية: إن جهم هو الذي تُنسَب إليه مقالة الجهميَّة.
والجهم بن صفوان له قصَّة مع السُّمانيَّة، سيأتي ذكرها والإشارة إليها، وسند الجهم هو شيخه الجعد.
من أين أخذ الجعد؟
هو لم يأتي بأسانيد محكمَة؛ لأنَّ الأمور غامضة، ولا يُمكن أن يأتي هذا من الوحي، فالجعد لم يُعرَف بالحديث ولا بالسُّنة، قال الشيخ: (أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهَا أَبَانُ عَنْ طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ اَلْأَعْصَمِ، وَأَخَذَهَا طَالُوتُ مِنْ لَبِيدِ بْنِ اَلْأَعْصَمِ اَلْيَهُودِيِّ اَلسَّاحِرِ اَلَّذِي سَحَرَ اَلنَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وهم ضُلَّال.
وذكر الشيخ جانبًا آخر في الجعد بن درهم، فقال: (وَكَانَ اَلْجَعْدُ هَذَا فِيمَا قِيلَ مِنْ أَهْلِ حَرَّان وَكَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ اَلصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، بَقَايَا أَهْلِ دِينِ اَلنَّمْرُودِ)، والنَّمرود هذا هو الذي حاجَّ إبراهيم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]، فهم أهل تعطيل وإنكارٍ.
وأيضًا عندهم السِّحر، وقد صنَّفَ بعض المتأخرين في سحرهم، وكلمة "النَّمرود" ليست اسمًا لشخص.
والشيخ هنا استطرد استطرادًا نافعًا كعادته، فقال: (وَاَلنَّمْرُودُ هُوَ: مَلِكُ اَلصَّابِئَةِ اَلْكَنْعَانِيِّينَ اَلْمُشْرِكِينَ)، فأي ملك من ملوكهم يُسمَّى "نمرودًا"، كما مَن ملكَ الحبشة يُسمَّى "نجاشي"، ومَن ملكَ الفُرس يُسمَّى "كسرى"، ومَن ملك القبط يُسمى "فرعون"، ومَن ملك اليونان يُسمَّى "بطليموس"، ومَن ملك الرُّوم يُسمى "قيصر"، فهذا اسم جنس.
إذًا هذا هو مرجع وخلفيات الجعد، والصَّابئة هم على الشِّرك، وهم الذين بُعث إليهم إبراهيم، وكانوا يعبدون الكواكب ويضعون الهياكل لها، وهؤلاء الصابئة ليس كلهم على الشرك؛ لأن الله -عَزَّ وَجلَّ- قال في موضعين من القرآن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 62]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [المائدة: 69]؛ فعُلم أنَّ فيهم مَن آمنَ وأسلمَ، كما أنَّ في النصارى مَن آمن وأسلم، وكما أنَّ في اليهود مَن آمن وأسلم؛ لكن الكثير منهم على الشرك.
فالشيخ ذكر هذا، وأن مذهبهم المشهور عنهم هو التَّعطيل، والجعد بن درهم أخذ مذهبه عن هؤلاء الصابئة الفلاسفة.
والفارابي من زعماء الفلاسفة، ويسمونه المعلم الثاني، وأمَّا المعلم الأول فهو أرسطو، وهو من رؤساء فلاسفة اليونان، والمعلم الثالث ابن سينا الذي سعى بجهده لنقل الفلسفة للمسلمين، وأضل كثيرًا منهم، وهو من الباطنيَّة؛ كلُّ هؤلاء تأثَّروا بفلسفة الصابئين.
وأمَّا الجهم فقد تأثَّر بكفَرةٍ من فلاسفة الهند يُقال لهم: "السُّمانيَّة"، وهذه الطائفة تنفي ما سوى المعلومات المحسوسة بالسمع والبصر، وأمَّا ما لا يُحسُّ به فلا، وهذا الكلام لا يقبله عاقل حتَّى هم، لكن الجهم ناظرهم فضلَّ وهلكَ بسببهم وشكَّ.
فهذه أسانيد جهمٍ وهذه أسانيد جعد -الشيخ والتلميذ- إمَّا إلى الصابئة، وإمَّا إلى الفلاسفة المشركين، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
بعد ذلك عُرِّبَت الكتب، ونقلت هذه الفلسفة بعلَّاتها، وما فيها من انحرافات، ثم بعد ذلك انتشرت مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي.
والفائدة من ذكر اسم بشر المريسي: أن الأئمة الذين أطبق على الثناء عليهم جميع المسلمين، حتى المتكلمون لا يستطيعون القدح فيهم؛ كلهم بيَّنوا ضلال بشر المريسي وحذَّروا منه أشد التَّحذير، فعُلِمَ أنَّ ما قاله بشر المريسي هو عين ما قاله الجهم، وأنَّ ما يُوجَد في كتب المتأخرين يجب عليهم أن يتبرَّؤوا منه؛ لأنَّه مطابق لما قاله بشر، ولهذا قال الشيخ: (وَكَلَامُ اَلْأَئِمَّةِ مِثْلُ: مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ اَلْمُبَارَكِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَبِشْرٍ اَلْحَافِي، وَغَيْرِهِمْ، فِي هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ، فِي ذَمِّهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ)، وذموا بشر المريسي على وجه الخصوص، إذًا؛ ما يوجد في كتبكم أنتم هو منقول عن بشر المريسي، فاحذروا منه وتجنبوه، فهذا سنده وهذا مرجعه.
إذًا؛ اتَّضحَ لنا مصدر الطريقة السلفية السنية، وأنها إلى السنة والكتاب وإلى ما كان عليه الصحابة، ومصدر طريقة المعطلة وأنها ترجع إلى هؤلاء المنحرفين -نسأل الله العافية والسلامة.
{فضيلة الشيخ أحسن الله إليك.
هل للبيئة والنَّشأة أثر على العالم أو طلب العلم؟}.
لا شك أن البيئة تؤثِّر، وعلى الإنسان أن يُجاهد نفسه في طلب الحق، وعلى البحث عنه في كتاب الله وفي سنة رسوله، مَن تدبَّر كتاب الله والسنة طالبًا الهدى فإنَّه يتَّضح له طريق الحق ويهديه الله، ولهذا عليه أن يلهج بهذا الدعاء الذي كان يقوله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الاستفتاح في صلاة الليل، فعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قام يصلي من الليل قال: «اللهُمَّ! رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذِهِ اَلتَّأْوِيلَاتُ اَلْمَوْجُودَةُ اَلْيَوْمَ بِأَيْدِي اَلنَّاسِ مِثْلُ أَكْثَرِ اَلتَّأْوِيلَاتِ اَلَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِ" اَلتَّأْوِيلَاتِ" وَذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ اَلرَّازِيُّ فِي كِتَابِهِ اَلَّذِي أَسْمَاهُ" تَأْسِيسَ اَلتَّقْدِيسِ"، وَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي كَلَامِ خَلْقٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ، مِثْلِ أَبِي عَلِيٍّ اَلْجُبَّائِيِّ، وعبدالجبار بْنِ أَحْمَدَ اَلْهَمْدَانِيِّ، وَأَبِي اَلْحُسَيْنِ اَلْبَصْرِيِّ، وَأَبِي اَلْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي حَامِدٍ اَلْغَزَالِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، هِيَ بِعَيْنِهَا اَلتَّأْوِيلَاتُ اَلَّتِي ذَكَرَهَا بِشْرٌ اَلْمِرِيسِيُّ اَلَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ رَدُّ اَلتَّأْوِيلِ وَلَهُمْ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي أَشْيَاءَ.
فَإِنَّمَا بَيَّنْتُ أَنَّ عَيْنَ تَأْوِيلَاتِهِمْ هِيَ عَيْنُ تَأْوِيلَاتِ اَلْمَرِيسِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كِتَاب اَلرَّدِّ اَلَّذِي صَنَّفَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ اَلدَّارِمِيُّ أَحَدُ اَلْأَئِمَّةِ اَلْمَشَاهِيرِ فِي زَمَانِ اَلْبُخَارِيِّ، صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ:"رَدُّ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى اَلْكَاذِبِ اَلْعَنِيدِ فِيمَا اِفْتَرَى عَلَى اَللَّهِ فِي اَلتَّوْحِيدِ" حَكَى فِيهِ هَذِهِ اَلتَّأْوِيلَاتِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ بِشْرٍ اَلْمَرِيسِيِّ بِكَلَامٍ يَقْتَضِي أَنَّ اَلْمِرِيسِيَّ أَقْعَدُ بِهَا، وَأَعْلَمُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَأَخِّرِينَ اَلَّذِينَ اِتَّصَلَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ وَجِهَة غَيره، ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ بِكَلَامٍ إِذَا طَالَعَهُ اَلْعَاقِلُ اَلذَّكِيُّ: عَلِمَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ اَلسَّلَفُ، وَتَبَيَّنَ لَهُ ظُهُورُ اَلْحُجَّةِ لِطَرِيقِهِمْ، وَضَعْفِ حُجَّةِ مَنْ خَالَفَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا رَأَى اَلْأَئِمَّةَ- أَئِمَّةَ اَلْهُدَى- قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَمِّ الْمِريسِيَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ كَفَّرُوهُمْ أَوْ ضَلَّلُوهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا اَلْقَوْلَ اَلسَّارِيَ فِي هَؤُلَاءِ اَلْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ مَذْهَبُ الْمِريسِيَّةِ تَبَيَّنَ اَلْهُدَى لِمَنْ يُرِيدُ اَللَّهُ هِدَايَتَهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.
وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ اَلْبَسْطَ فِي هَذَا اَلْبَابِ، وَإِنَّمَا نُشِيرُ إِشَارَةً إِلَى مَبَادِئِ اَلْأُمُورِ، وَالْعَاقِلُ يَسِيرُ فَيَنْظُرُ)
}.
الشيخ لَمَّا وضَّح مصدر التَّأويلات التي عند المتأخرين نصَّ على مسألةٍ مهمَّة، فبعض الناس يقول: المتكلمون والمتأخرون يختلفون عن الجهميَّة الأوائل ويختلفون عن المعتزلة؛ وهذا كثيرًا ما نسمعه من بعض المعاصرين ممَّن يُنافح عن مذهب المبتدعة، فيقول: نحن ضد المعتزلة وضد الجهميَّة، وأما ما نحن عليه فهو الجمع بين العقل والنقل.
الشيخ يقول لهم: لا، مذهبكم الموجود في الجملة مُستفاد من مذهب الجهميَّة والمعتزلة.
والدليل على هذا: أنَّك إذا نظرت في التأويلات الموجودة بأيديكم وأيدي مَن تقدِّمونه وترون فضله كابن فورك، فكتاب "التأويلات" لابن فورك مطبوع باسم "مشكل الحديث وبيانه"، فيذكر أحاديث مكذوبة -وهذا من الفتنة- ثم يأتي بحديث صحيح، ثم يأتي بتحريفات له، ويسمونها تأويلات.
فيقول الشيخ: هذه التأويلات الموجودة في هذا الكتاب، وفي كتاب الرازي محمد بن عمر "تأسيس التقديس"، وهو كتاب مطبوع، وقد نقضه ابن تيمية في "نقض تأسيس الجهمية"، فردَّ على أكثر ما فيه، فهذه التحريفات الموجودة في هذه الكتب هي بعينها التي نقلها عثمان بن سعيد الدارمي -من علماء السلف- وغيره في كتبهم عن بشر المريسي، فإذًا ما في كتبكم هو نفس ما في كتب بشر المريسي الذين أنتم تتظاهرون بأنَّكم تختلفون عنهم، والشيخ أحرجهم بهذا، ويجب على المسلم أن يتبع الحق، ولا يتبع مَن غلط.
ثم ذكر الشيخ أسماءً مثل: الجُبَّاني، والهمداني، والبصري، هؤلاء معتزلة، وأمَّا أبو الوفاء بن عقيل فهذا من الحنابلة وتأثَّر بمذهب الكلام، والغزالي شافعي وتأثَّر بمذهب الصوفية وأهل الكلام، فهذه التأويلات الموجودة في كتب هؤلاء المسمون هنا هي نفسها التأويلات الموجودة في كلام بشر المريسي، وقد ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي، وذكر ابن تيمية أن كلام بشر المريسي من ناحية الضلال أقعد -أي أشد ضبطًا- من كلام المتأخرين، فعُلم ما هي طريق السلف، وما هي طريقة المبتدعة.
فإذا رأيت السلف قد أجمعوا على ذم المريسي والمريسيَّة، وبعضهم كفرهم، وبعضهم ضلَّلهم؛ علم أنَّ هذا القول الموجود في المتأخرين هو مطابق لمذهب المريسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما تيسر في هذا المجلس، والشيخ ختم بهذه الجملة: (وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ اَلْبَسْطَ فِي هَذَا اَلْبَابِ، وَإِنَّمَا نُشِيرُ إِشَارَةً إِلَى مَبَادِئِ اَلْأُمُورِ، وَالْعَاقِلُ يَسِيرُ فَيَنْظُرُ)، أي: ينتفع منها المؤمن العاقل، فيسير وينظر فيعرف الحق.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدمتم، وجعله الله في موازين حسناتكم، والشكر لكم موصولٌ أعزائنا المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقة أخرى من برنامج "البناء العلمي"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك