الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2108 13
الدرس الرابع

العقيدة الحموية

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائيفف المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون معنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
في الحلقة الماضية توقفنا عند إثبات علو الله تعالى وفوقيَّته على عرشه، وتوقفنا عند قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عِنْ اَلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ اَلْأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مِئَاتٍ، أَوْ أُلُوفًا.
ثُمَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ اَلْأُمَّةِ لَا مِنْ اَلصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ اَلدِّينِ- اَلَّذِينَ أَدْرَكُوا زَمَنَ اَلْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ- حَرْفٌ وَاحِدٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ لاَ نَصًّا وَلاَ ظَاهِرًا.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ إِنَّ اَللَّهَ لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ، وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اَلْعَرْشِ، وَلَا أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا أَنَّ جَمِيعَ اَلْأَمْكِنَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَلَا أَنَّهُ لاَ دَاخِلَ اَلْعَالِمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُتَّصِلَ وَلَا مُنْفَصِلَ، وَلَا أَنَّهُ تَجُوزُ اَلْإِشَارَةُ اَلْحِسِّيَّةُ إِلَيْهِ بِالْأُصْبُعِ وَنَحْوِهَا، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي اَلصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ اَلنَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خَطَبَ خُطْبَتَهُ اَلْعَظِيمَةَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ، فِي أَعْظَمِ مَجْمَعٍ حَضَرَهُ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَعَلَ يَقُولُ: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَرْفَعُ أُصْبُعَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «اَللَّهُمَّ اِشْهَدْ»، غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فيُكمل شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الحديث في بيان إثبات صفات الرب -جلَّ وعلا- ووجوب الإيمان بها كما جاء في الكتاب والسُّنَّة من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وقد ساقَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مُقدِّمة طويلة في أول الكتاب، ثم ذكر بعد تلك المقدِّمة مسألة علو الله على خلقه، والتي لا يثبتها أهل البدع من المعطِّلة، وبيَّنَ الأدلَّة من القرآن والأدلَّة من السُّنَّة بذكر أمثلةٍ يسيرةٍ، ثمَّ عقَّب على ذلك بما سنقرأه اليوم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عنْ اَلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ اَلْأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مِئَاتٍ، أَوْ أُلُوفً)، يعني أنَّه قرَّرَ ووضَّح أنَّ القرآن دلَّ على علو الله على خلقه، وأنَّه فوق العرش، والسُّنَّة المطهَّرة وضَّحت هذا أتمَّ توضيحٍ، ثم الصَّحابة وهم سادة هذه الأمَّة وسلفها، العشرة المبشرون بالجنة والمهاجرون والأنصار وأهل بدر وأهل أُحد وأهل بيعة الرضوان، والذين آمنوا قبل الفتح، والذين أسلموا بعد الفتح؛ فهؤلاء خير الناس، وشهد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بذلك وشهد لهم رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم مَن بعدهم من التَّابعين الذين لقوا الصَّحابة وسمعوهم وجالسوهم، واستفادوا منهم، فخير الناس بعد الصَّحابة هم التَّابعون، ثم أتباع التّابعين الذين لقوا التَّابعين ورأوا أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهؤلاء هم خير القرون وهم سلف الأمَّة، فالصَّحابة والتَّابعون وأتباعهم هم قدوة هذه الأمَّة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- أثنى على من اتبعهم بإحسان فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، اتَّبعوهم في الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتقاد، ماذا كانوا يعتقدون وماذا كان يُقرِّرون وماذا كانوا يتكلَّمون.
فهؤلاء هم السَّلف، وفهمهم مُقدَّم، وكلامهم معتَبَرٌ ومُحتَرمٌ وله قيمة، فلا تأتي بكلامٍ لواحد الآن ما رأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا رأى الصحابة ولا ذاق طعم القرآن والسنة ولا عرف الحديث؛ ثم تجعل كلامه ككلام ابن مسعود الذي جالس النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عشرين سنة، فما فيه مقارنة بين هذا الصَّحابي الجليل الذي حطَّ رحاله في الجنَّة وأمثاله من الصَّحابة وبينَ هذا الرجل المتأخر المخالف، ثم إنَّ الذي لقيَ ابن مسعود ولقي أبا بكر وجلس مع عمر وعثمان وعلي؛ لا شكَّ أنَّه حَازَ على علمٍ عظيمٍ، ثم أتباعهم، فمن كبار التابعين حسن البصري، وسعيد بن المسيب، وعشرات لا يتسع المقام لذكرهم، ثم أتباع التابعين، فهؤلاء هم خيرة البشر، قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ ، وإلى يوم القيامة يُعرَف منهجهم ومحفوظ، ولهذا أثنى الله على مَن أحبهم ودعا لهم، قال تعالى في سورة الحشر بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10]، فعندما تحب منهجهم يُصبح هناك أُخوَّة، فالذين خرجوا عن هذا المنهج سواء كانوا خوارج أو شيعة أو قدرية أو مرجئة أو جهميَّة أو المتصوفة الذين ضلُّوا وخرجوا عن منهاجهم؛ فهؤلاء خرجوا عن المنهج بمقدار ما خرجوا عن السنة، فعليهم أن يرجعوا ويتوبوا إلى منهج الصحابة.
قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْ﴾ [البقرة: 137]، والخطاب للصحابة، فنحن مأمورون أن نؤمن بمثل ما آمن به الصحابة، فإذا أردتَّ الهداية فابحث عمَّا كان يعتقد الصحابة، فطريقة السلف هي الطريقة الصحيحة التي أثنى الله عليها، وأثنى عليها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عَنْ اَلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ اَلْأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مِئَاتٍ، أَوْ أُلُوفً)، أي: في إثبات علو الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فتأمَّل في كلمات الصحابة وكلمات التابعين وكلمات أئمة أتباع التابعين، ومئات الكلمات والنقول الصَّحيحة عنهم في هذا المعنى.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ اَللَّهِ)، أي ليس في كتاب الله من أوله إلى آخره.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ليس في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أولها لآخرها على كثرة الأحاديث.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ اَلْأُمَّةِ لَا مِنْ اَلصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ اَلدِّينِ- اَلَّذِينَ أَدْرَكُوا زَمَنَ اَلْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ)، والاختلاف حصل في المائة الثاني، وهو الاختلاف في الأسماء والصفات.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حَرْفٌ وَاحِدٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ لاَ نَصًّا وَلاَ ظَاهِرً)، فما في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة والتابعين حرف يخالف إثبات العلو، وما في نص صريح يقول لا تثبتوا العلو، أو نص محتمل لا يثبت العلو.
ومن المسائل المهمَّة التي يجب على طالب العلم أن يعرفها: أنَّ غالب أهل البدع يتمسَّكون بالمتشابه ويتركون المُحكَم، وليس مع المعطِّلَة للصفات شيء من النصوص يتمسَّكون به، فالخوارج يُشتبه عليهم بعض النصوص، والشيعة يشتبه عليهم بعض النصوص، والقدريَّة يشتبه عليهم بعض النصوص ويتركون المحكم، وكذلك المرجئة، ولكن الجهميَّة ما معهم نص أبدًا، فقوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، لا يدل على مُرادهم؛ لأن هذه فيها صفتي السمع والبصر، وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ لا يدل على نفي الصفات، بل يدل على إثبات الصفات، ونفي التمثيل والتشبيه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ: إِنَّ اَللَّهَ لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ)، وهذه الجملة من أقوال المبتدعة الموجودة والمسطَّرة في كتبهم.
قال: (وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اَلْعَرْشِ)، لم يقل أحد من السلف بهذا، ولكن صرَّح به بعض المبتدعة.
قال: (وَلَا أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ)، وهذا يقوله الصوفية الحلوليَّة منهم، وانتشر هذا القول عندهم، فيقولون: إنَّ الله في كل مكان، وعبد الله بن المبارك وهو إمام من أئمة المسلمين، وكان يُلقَّب بـ "أمير المؤمنين في الحديث"، وثبت عنه أنَّه قال: من قال إنَّ الله في كل مكان فهو كافر. وذكر هذا البخاري في خلق أفعال العباد.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا أَنَّ جَمِيعَ اَلْأَمْكِنَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ)، بعض المعطِّلة كان يقول: ليس هناك فرق بين يونس لَمَّا كان في بطن الحوت في الظلمات في أسفل الأرض، وبين نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا عُرجَ به إلى السماء السابعة! ولم يقل أحد من السلف مثل هذه الكلمات البشعة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا أَنَّهُ لاَ دَاخِلَ اَلْعَالِمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُتَّصِلَ وَلَا مُنْفَصِلَ)، فهذه هي أقوال أهل البدع، وكان يسوقها ابن فورك وبعض الأشاعرة، وتلقوها عن بشر المريسي إمام المعتزلة، وهو من كبار الدهميَّة، فبشر المريسي هلك 198 للهجرة قبل ظهور المعتزلة في زمن المأمون، ولكنه هو المغذِّي لهم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا أَنَّهُ تَجُوزُ اَلْإِشَارَةُ اَلْحِسِّيَّةُ إِلَيْهِ بِالْأُصْبُعِ وَنَحْوِهَ)، فالمبتدعة يقولون: لو أشرتَ إلى الله بالأصبع فأنت كافر! لأنهم يزعمون أنَّ هذا تجسيم وتركيب وتشبيه للرب، وهذا ما قال به أحد من السلف.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي اَلصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ اَلنَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خَطَبَ خُطْبَتَهُ اَلْعَظِيمَةَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ، فِي أَعْظَمِ مَجْمَعٍ حَضَرَهُ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ويُقال إنه حجَّ في هذه السَّنة أكثر من مائة ألف من الصحابة.
قال: (جَعَلَ يَقُولُ: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَرْفَعُ أُصْبُعَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «اَللَّهُمَّ اِشْهَدْ»، ثَلاثً)، فمع هذه النصوص الكثيرة المتكاثرة يأتي هذا فيقول نؤوله على المجاز!
والله إنَّ الإنسان خصيم نفسه -كما يقال- فهذه أفعال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه أقواله، وهذه أقوال الصحابة، أأنت خيرٌ أم هم؟! فهل وسعهم السكون عن هذا؟! وهب أن كلامك في التعطيل صحيح -ونحن لا نقر به- فلماذا وسعهم السكوت؟! ألا يسعك ما وسعهم! ألا تسكت كما سكتوا! لِما لم يقل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تعتقدوا أن الله في السماء، ولا تعتقدوا أنه يجوز الإشارة إليه؟
فلا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه آثار البدع، والقوم ينافحون عنها أشد المنافحة ويتعصَّبون لهذا المذهب السيء في تعطيل صفة العلو وغيرها من الصفات، ويأتون ويهجمون على هذه النصوص، فوالله إنَّ هذا لخطير جدًّا.
والمسألة هذه مُعارضة للكتاب ومعارضة للسنة، ومعارضة لإجماع السلف الصالح، فالإنسان إمَّا أن يختار الطريق الذي رضي الله عنه، أو يختار طريق النفاة.
{ذكرتم طريقة الاقتداء بالسلف، فكيف يتعرَّف طالب العلم على أقوال السلف في هذه القضية}.
أقوال السلف محفوظة، فالبخاري -وهو أصح كتاب بعد كتاب الله- فيه مجموعة من أقوال السلف، في كتاب "التفسير"، وكتاب "الإيمان"، وكتاب "التوحيد"، والإمام مسلم جمعَ جملةً وذكرها في مقدِّمة صحيحه، وكذلك أهل السنن الأربعة.
وهناك كتب مؤلَّفة في هذا، ككتب التفسير، ومنها: تفسير ابن جرير، وتفسير البغوي، وتفسير ابن عطية، وتفسير ابن أبي زمنيين، وتفسير ابن أبي حاتم؛ فكلها تفاسير مسنَدَة، فسَّروا النُّصوص التي فيها صفات الرب بالإثبات، وموجود كلام الصحابة ككلام ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم عشرات من الصحابة، ومئات من التابعين، وألوف من أتباع التابعين.
ومن الكتب المهمة: شرح "أصول اعتقاد أهل السنة" للَّالكائي، وكتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد، و"السنة" لمحمد بن ناصر المروزي، و"السنة" لأبي بكر الخلَّال.
وبالنسبة لصفة العلو يُمكن الرجوع لبعض الكتب في شرحها، مثل: "إعلام الموقِّعين" و"اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية"، وكذلك "إثبات العلو" لابن قدامة، وكذلك "العلو" للذَّهبي؛ وكتب السلف معروفة ومرويَّة بالسَّند.
وكتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري في الرد على الجهميَّة وأصحاب التعطيل، ومن أول الكتاب إلى آخره بالإسناد، ومن أول الكتاب إلى الأثر 120 في إثبات الصفات والرد على الجهميَّة.
وما لم أذكره أكثر بكثير، فهناك مئات الكتب روت هذه الأخبار عن الصحابة، وهذا من نصرة الله تعالى للدين، يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ»، فكيف تترك هذه الكتب وتذهب إلى كتب أهل الكلام، فأحد هؤلاء المعظَّمين عندهم في المائة السادسة يقول عن البخاري ومسلم: لا يؤخذ بهما لأنهما خالفا عقيدته هو! فهو لا يعرف مَن هو البخاري ومَن مسلم، ولا يعرف كيف عمل أهل السنة في الحديث، فيجب معرفة طريقة أهل الحديث، والمشكلة أن كل واحد يتصوَّر الأمور كما هي، فلو جاءنا واحد يتكلَّم عن الأطباء وقال: إن الأطباء لا يفهمون شيء! وخذ العلم مني، وافعل كذا وكذا! فالناس سيقولون: هذا مسكين وجاهل، والجاهل عدو نفسه.
فالذي يتكلَّم عن البخاري وهو لا يعرف طريقة البخاري؛ فهذا في الحقيقة ما ضرَّ إلَّا نفسه، فهو لا يعرف طريقة هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ كَانَ اَلْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ السَّالِبُونَ اَلنَّافُونَ لِلصِّفَاتِ اَلثَّابِتَةِ فِي كِتَابِ اَللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، مِنْ هَذِهِ اَلْعِبَارَاتِ وَنَحْوِهَا دُونَ مَا يُفْهَمُ مِنْ اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى اَللَّهِ ثُمَّ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ عَلَى خَيْرِ اَلْأُمَّةِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ دَائِمًا بِمَا هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ اَلْحَقِّ اَلَّذِي يَجِبُ اِعْتِقَادُهُ وَلَا يَبُوحُونَ بِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّونَ عَلَيْهِ لاَ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا، حَتَّى يَجِيءَ أَنْبَاطُ اَلْفُرْسِ وَالرُّومِ وَفُرُوخُ اَلْيَهُودِ وَالْفَلَاسِفَةِ يُبَيِّنُونَ لِلْأُمَّةِ اَلْعَقِيدَةَ اَلصَّحِيحَةَ اَلَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، أَوْ كُلِّ فَاضِلٍ أَنْ يَعْتَقِدَهَا!)}.
هذا صحيح ومنطقي، على سبيل المثال: الجويني والرازي ومَن جاء بعدهم، فهؤلاء يقولون: لا تشير إلى الله، ولو أشرت إلى الله نقطع أصبعك، لأنك أنت كافر، لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس في العلو!
ومثل ما يقول ابن فورك: الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، ولا يمنه ولا يساره، ولا أمام ولا خلف! يريد نفي كل شيء ورثوا منه هذه الكلمات!
ونحن نقول: الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق العالم.
ويقول الحاكم المشهور محمود بن سبكتكين لابن فورك: صفْ لي العدم بشيء أحسن من كلامك هذا.
يقول الشيخ: (فَإِنْ كَانَ اَلْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ السَّالِبُونَ اَلنَّافُونَ لِلصِّفَاتِ اَلثَّابِتَةِ فِي كِتَابِ اَللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، مِنْ هَذِهِ اَلْعِبَارَاتِ وَنَحْوِهَا دُونَ مَا يُفْهَمُ مِنْ اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى اَللَّهِ ثُمَّ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ عَلَى خَيْرِ اَلْأُمَّةِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ دَائِمًا بِمَا هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ اَلْحَقِّ اَلَّذِي يَجِبُ اِعْتِقَادُهُ وَلَا يَبُوحُونَ بِهِ قَطُّ)، أي: كيف لا يتكلمون ولا يبينون ما يجب اعتقاده من أن الله ليس في العلو وليس فوق العرش، ولا تجوز الإشارة إليه؟! فلماذا لم يُبيِّن الله لنا هذا، ولماذا لم يُبيِّنه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
يقول الشيخ: (حَتَّى يَجِيءَ أَنْبَاطُ اَلْفُرْسِ وَالرُّومِ)، يعني أنتم تلامذة للفُرس، فهؤلاء الذين لا يتكلمون اللغة العربية يأتوننا ليعلمونا العقيدة الصحيحة! والله -عَزَّ وَجَلَّ- ما بيَّنها حتى ننتظركم أنتم تتكلَّمون بها!!
قوله: (وَفُرُوخُ اَلْيَهُودِ)؛ لأن الجعد بن درهم يُقال إنَّه أخذ هذا المذهب عن طالوت -وهو من اليهود- واليهود ضالُّون متنقِّصون للربِّ، وكذلك النصارى ضلُّوا وتأثر بهم مَن تأثَّر، فأرسطو هو زعيم المعطِّلة من الفلاسفة، والرازي صاحب "تأسيس التقديس" يقول: قال أرسطو طاليس...، ثم يذكر كلامه، ثم يقول: وكلامه موافق للنبوة. والحقيقة أنه معطِّل للنبوة، فهو يكذِّب الأنبياء.
نأتي للرزاي وأمثاله ينبهنا على الحق والله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يُعلمنا إياه؟! مئات السنين من جيل الصحابة وجيل التابعين وأتباع التابعين لا يؤثَر عنهم أثر واحد يقول: لا تعتقدوا أن الله في العلو، وهذا من أقوى ما يبين فساد مذهب المعطلة، وفساد مذهب النفاة.
وهبْ أن حديث الجارية لما سألها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أين الله؟». فأشارت في السماء حديث باطل، وهو حديث صحيح ثابت، فالذي رواه صحابي، والذي روى عن الصحابي تابعي، والذي روى عن التابعي تابعُ تابعي؛ فأين العلماء عن إنكار هذا الباطل حتى تأتون أنتم في المائة الرابعة وتقولون هذا باطل.
ثم إنَّ مشهد عرفات الذي كان فيه مئات من الصحابة، فيقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمامهم «اللهم اشهد»، ثم يشير إلى السماء؛ فلماذا لم يقل: لا تعتقدوا أن الله فوق؟!
ثم يأتي بعض الناس من المعطلة إذا قلت: اللهم اغفر لي -وأشرتَ بأصبعك- يقول لك: هذه الإشارة كفر!
يا أخي! أين عقلك؟! فاتق الله في نفسك، فها هو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمام المسلمين ويشير بأصبعه، ولم يأتِ نص واحد لا من القرآن ولا من السنة يقول: لا تعتقدوا هذه العقيدة.
ثم إذا قلنا: إن الله في العلو فلا تظن الظنون الفاسدة، من أن الله تحت السماء، أو أن السماء فوقه، فمن ظنَّ هذا هو ضالٌّ تائه لم يقدر الله حق قدره، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق كل شيء وهو العلي العظيم، وهذا الظن الفاسد -مع الأسف- انتشر في هذه الطرق الكلامية، وهذا مما حذر منه الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا قال: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال ويُطاف بهم في الأسواق، فهذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم أهل الكلام".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَكَلِّمُونَ اَلْمُتَكَلِّفُونَ هُوَ اَلِاعْتِقَادُ اَلْوَاجِبُ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اَلْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا، لَقَدْ كَانَ تَرْكُ اَلنَّاسِ بِلَا كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ أَهْدَى لَهُمْ وَأَنْفَعَ عَلَى هَذَا اَلتَّقْدِيرِ، بَلْ كَانَ وُجُودُ اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي أَصْلِ اَلدِّينِ)}.
المعنى: لئن كان مذهبكم يا من تعطِّلون الصفات وتُنكرونها وتقولون إن صفة العلو لا تثبت لله ولا غيرها من الصفات كالرحمة والاستواء على العرش وصفة اليد، فإنَّنا نجد نصوصًا في الكتاب والسنة على خلاف طريقتكم، فيكون مؤدَّى الكلام ونتيجته أنَّنا إذا أردنا أن نطلب الحق والهدى لا ننظر في الكتاب والسنة، لأنَّ هذا سيضرنا، وإنَّما نطب الحق مما يقرر الرازي والجويني والغزالي وهؤلاء المتأخرون! فكأن وجود الكتاب والسنة ضرر -على زعمكم وتقديركم.
وهذا الكلام هو واقعهم وإن أبته ألسنتهم، فهم يُظهرون الإسلام ويدينون بالإسلام ظاهرًا وباطنًا، لكنهم أتوا من هذه الشبهات، فنسأل الله أن يتجاوز عن مَن ضلَّ وهو طالبٌ للحق ومريدٌ له، ولكنه هو مخطئ خطأ عظيم، وأضرَّ بنفسه وبمَن أتى بعده، ونسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ممن هم على قيد الحياة حتى يعرفوا الحق، ويتركوا عنهم هذه الضلالات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ حَقِيقَةَ اَلْأَمْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ أَنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ اَلْعِبَادِ لَا تَطْلُبُوا مَعْرِفَةَ اَللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ اَلصِّفَاتِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا لَا مِنْ اَلْكِتَابِ وَلَا مِنْ اَلسُّنَّةِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ سَلَفِ اَلْأُمَّةِ.
وَلَكِنْ اُنْظُرُوا أَنْتُمْ فَمَا وَجَدْتُمُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ مِنْ اَلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَصِفُوهُ بِهِ-سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ- وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ فِي عُقُولِكُمْ فَلَا تَصِفُوهُ بِهِ!)
}.
فهذا هو حقيقة قولهم وإن لم يُصرِّحوا به، ومع الأسف هناك مَن صرَّح به -وهم قلَّة- ولكن صرَّحوا به على خُفية، فحقيقة الأمر أنهم يقولون: يا معشر المسلمين إذا كنت تريدون معرفة من هو الله الذي تعبدونه وتلجؤون إليه وتشهدون أن لا إله إلَّا هو وماذا يستحق من الصفات نفيًّا وإثباتًا؛ فلا تطلبوا هذا من القرآن مباشرة ولا من السنة مباشرة، ولا من طريق كلام الصحابة، فإن هذا يضرُّكم؛ وإنَّما انظروا إلى ما كان مستحقًّا له بالعقل فيُوصَف به وما لا يستحقه بالعقل لا يؤخذ به، وإنما يؤخذ بالعقل من كتب المتكلمين، ومن كتب فلان وفلان من المتأخرين!
فهذا هو حقيقة أمرهم، فهم يردُّون الأمر إلى العقل، كعقل أرسطو وعقل الجويني والرازي، وفلان وفلان؛ ثم هم حتَّى في عقولهم مضطربون ومختلفون، فالمتقدِّمون منهم يثبتون أكثر مت أربعين صفة، والمتوسطون يثبتون السبع، وبعضهم ينفي الصفات الخبرية وبعضهم ينفيها، فهم متنازعون أشد التَّنازع فيما بينهم، فكفى بهذا دليلًا على بطلان الاعتماد على مجرد عقولهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ هُمْ هَهُنَا فَرِيقَانِ: أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: مَا لَمْ تُثْبِتُهُ عُقُولُكُمْ فَانْفُوهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تَوَقَّفُوا فِيهِ، وَمَا نَفَاهُ قِيَاسُ عُقُولِكُمْ- اَلَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مُضْطَرِبُونَ اِخْتِلَافًا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ اِخْتِلَافٍ عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ- فَانْفُوهُ، وَإِلَيْهِ عِنْدَ اَلتَّنَازُعِ فَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ اَلْحَقُّ اَلَّذِي تَعَبَّدْتُكُمْ بِهِ، وَمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ قِيَاسَكُمْ هَذَا، أَوْ يُثْبِتُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ عُقُولُكُمْ -عَلَى طَرِيقَةِ أَكْثَرِهِمْ- فَاعْلَمُوا أَنِّي أَمْتَحِنُكُمْ بِتَنْزِيلِهِ لاَ لِتَأْخُذُوا اَلْهُدَى مِنْهُ، لَكِنْ لِتَجْتَهِدُوا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى شَوَاذِّ اَللُّغَةِ، وَوَحْشِيِّ اَلْأَلْفَاظِ، وَغَرَائِبِ اَلْكَلَامِ، أو أَنْ تَسْكُتُوا عَنْهُ مُفَوِّضِينَ عِلْمَهُ إِلَى اَللَّهِ، مَعَ نَفْيِ دَلَالَتِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ اَلصِّفَاتِ، هَذَا حَقِيقَةُ اَلْأَمْرِ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ اَلْمُتَكَلِّمِينَ)
}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يصور لك مذهب التعقيل كما هو، وصدقَ ونصحَ لهم وللمسلمين حتَّى يحذروا من هذا المذهب الخبيث، فيقول: لَمَّا قالوا إن المرجع ليس الكتاب ولا السنة وليس ما أجمع عليه سلف الأمَّة، وإنَّما المرجع ما استحسنته العقول، ما استحسنته عقولكم قولوا به، وما لا فردُّوه.
يقول الشيخ: إنَّهم صاروا فريقين:
الفريق الأول وهو الأكثر، يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، ولابد في إثبات الأمر لله أن يثبته العقل أولًا، فما أثبته العقل قُلْ به، وما لا يقل به العقل فانْفِه مباشرة.
وهذا الفريق لا يتردَّد في النفي، فيأتي إلى النصوص الشرعية ويقول: هذا ننفيه، وهذا ننفيه، لأنَّ العقل عنده ما أثبته.
الفريق الثاني: يتوقَّف، فيقول: ما لا يثبته عقلك فلا تنفه، ويُتوقَّف فيه حتى لو جاء في النصوص، لأن العبرة عنده بالعقل.
ثم بدأ الشيخ ينتقد العقل، ويسوق مذهبهم حتى يكتشفه المستمع له، فقال: (وَمَا نَفَاهُ قِيَاسُ عُقُولِكُمْ)، أي: ما قطع العقل بنفيه بحجج واهية، إمَّا حجَّة التَّجسيم أو التشبيه أو التركيب أو التَّعدُّد.
قال: (اَلَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مُضْطَرِبُونَ اِخْتِلَافًا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ اِخْتِلَافٍ عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ)، وهذا كلام عارفٍ وليس بكلام جاهل، فالشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- متتبِّع لكلامهم وكتبهم ودرسها وعرف ما فيها.
فيقول -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إن اختلافهم فيما ينفيه العقل وحتى فيما يثبته هو اختلاف عظيم جدًّا في نفس المذهب الواحد، فمدرسة الاعتزال فيما بينها مختلفة اختلاف كبير، فالذي يثبته هذا ينفيه هذا، ويكفر بعضهم بعضًا في بعض المواضع، وكذلك الأشاعرة والماتريدية مختلفون فيما ينفيه العقل وفيما يثبته العقل، وأكثر اختلاف على وجه الأرض في هذا.
قال: (وَإِلَيْهِ عِنْدَ اَلتَّنَازُعِ فَارْجِعُو)، أي: إلى العقل.
قوله: (فَإِنَّهُ اَلْحَقُّ اَلَّذِي تَعَبَّدْتُكُمْ بِهِ)، يعني: كأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول لهم إن الحق في عقولكم، وأن تعبَّدتكم به.
طيب ما موقف هؤلاء من النصوص: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، وقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: 27]، وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، وقلوه: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50] ؟
قالوا: إن هذه النُّصوص المذكورة في الكتاب والسنة ممَّا يُخالف قياس العقول أو يثبت ما لا تدركه العقول؛ فإن الله امتحن بها عباده، حتى يرى هل يغترون بها أو يهلكون، أو يتركون هذه النصوص ويأخذون الهدى من غير هذه النصوص، وحتى يجتهدوا في تخريج النصوص على شواذ اللغة ووحشي اللغة!
وبعضهم يقول: إن الاستواء على العرش يحتمل خمسة عشر معنى، وليس فقط العلو، وهم لا يقبلون هذا في أنفسهم، فضلوا في هذا المقام ضلالًا عظيمًا.
فهؤلاء زعموا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزل النصوص لا لأن نتبعها، وإنما ليمتحننا بها حتى نحمل عليها وحشي الألفاظ وغريبها.
قوله: (أو أَنْ تَسْكُتُوا عَنْهُ مُفَوِّضِينَ عِلْمَهُ إِلَى اَللَّهِ)، وهذه طريقة المفوِّضة، أي: يفوضون علم المعاني إلى الله، وهم في تفويضهم ينفون دلالتها على شيءٍ من النصوص، فالتفويض ليس نوع من الاثبات، وإنما هو عدم إثبات، فالمؤوِّلة والمفوضة متفقين على أنه ليس لله صفة في نفس الأمر.
{جزاك الله خيرًا فضيلة الشيخ.
ما لازم قولهم هذا بالنسبة للنصوص في الكتاب والسنة؟ أليس في هذا ردٌّ للنصوص؟}.
لازم كلامهم: أنه لا يؤخذ بالنصوص، وإنما هذه النصوص هي فقط امتحان لنا، وإذا نحن أخذنا بما دلَّ عليه النصوص ضللنا، ولا يقولون: إنَّ المراد من النصوص ما قال به الصحابة والسلف وأقروا به؛ وإنَّما المراد هو البحث عن الكلمات الغريبة.
وهذه التَّخريجات التي نقلها الأشاعرة عن إمامهم ابن فورك هي التي موجودة بعينها في كلام البشر المريسي والتي حذَّر منها السلف وبيَّنوا ضلال طريقته وأمثاله من الجهميَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا اَلْكَلَامُ قَدْ رَأَيْتُهُ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لُزُومًا لاَ مَحِيدَ عَنْهُ)}.
هذه المسألة قد يطول التعليق عليها.
قوله: (وَهَذَا اَلْكَلَامُ قَدْ رَأَيْتُهُ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)، ليس المقصود أنَّه صرَّح باللفظ، وإنما قالوا ما معناه أن هذه النصوص الشَّرعيَّة لا تعطينا اليقين، ولا تعطينا الهدى، وإنما ما نعتمد عليه هو العقل، ولم يتجرؤوا أن يقولوا إنَّ النُّصوص الشرعيَّة أصل الضَّلال، لكن مع مرور السنين والأزمان وتوارث هذا المذهب صرَّحوا حتى باللفظِ، وممَّن صرَّح باللفظ: الصاوي صاحب الحاشية على تفسير "الجلالين"، مات سنة 1241 من الهجرة، يقول في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: 23، 24] : يجوز الاستثناء -يعني يقول: إن شاء الله- إلى يومٍ، وبعضهم قال إلى شهر، وبعضهم قال إلى سنة، وبعضهم قال إلى ما لا حدَّ له، ونقل عن الصحابي كذا...، ثم قال: "ولا يجوز الأخذ بقول الصحابي إذا خالف المذاهب الأربعة، بل ولا يجوز الأخذ بالآية والحديث إذا خالف المذاهب الأربعة، إذِ الأخذ بالظواهر من أصول الكفر".
انظر كيف صرَّحوا به! وهذا الكلام بشع جدًّا، كيف إذا أخذنا بظاهر كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون ذلك من أصول الكفر؟! أن ينزل الله كتابه ويبعث رسوله ويقول للناس ما ظاهره أصول الكفر؟!
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب "أضواء البيان" -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- نبَّه على هذا الضَّلال من الصاوي، وأيضًا الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي، توفي سنة 1423 للهجرة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ألَّف كتابًا بعنوان "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكون من أصول الضلال والكفران"، ردًّا على الصاوي.
فصرَّح متأخروهم بألفاظهم أنَّ ظواهر النصوص من كتاب وسنة من أصول الكفر -نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا اَلْكَلَامُ قَدْ رَأَيْتُهُ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لُزُومًا لاَ مَحِيدَ عَنْهُ)}.
معنى قوله: (لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ)، يعني مَن صرَّح ومَن لم يُصرِّح، فإذا كان يقول إنَّ العقل هو المرجع ولا يجوز الرجوع للنصوص؛ فمعنى كلامه أنَّ النُّصوص هذه تدلُّنا على ما يضرنا، وعقلنا يدلنا على ما ينفعنا، وهذا لا شك أنه كلام فاسد.
{ما هو لازم كلامهم هذا بالنسبة إلى السلف؟}.
يُضلِّون السلف، فالسلف عندهم إمَّا أنَّهم جُهَّال لا يفهمون ولا يحذرون الناس ممَّا يضرهم وساذجون، كما ذكرنا من قوله: أن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد والفتوحات، ولم يكونوا متفرغين لفهم النصوص! فهذا تجهيل للسلف وتسفيه لهم، وكأنهم أهون الناس، فإذا جاء هذا المتأخر الذي إذا جمع عشرين قولًا في اللغة العربية أو عشرين بيتًا من الشِّعر؛ قالوا: هذا المحرَّر المقدَّم عندهم! وأما الصحابي فليس بعالم! فهذا تجهيل للسلف، وتالله ما عرفوا مقدار السلف، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَضْمُونُهُ أَنَّ كِتَابَ اَللَّهِ لَا يُهْتَدَى بِهِ فِي مَعْرِفَةِ اَللَّهِ، وَأَنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْزُولٌ عَنْ اَلتَّعْلِيمِ وَالْإِخْبَارِ بِصِفَاتِ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ اَلنَّاسَ عِنْدَ اَلتَّنَازُعِ لَا يَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اَللَّهِ وَالرَّسُولِ، بَلْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَى مِثْلِ مَا يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْأَنْبِيَاءِ كَالْبَرَاهِمَةِ، وَالْفَلَاسِفَةِ- وَهُمْ اَلْمُشْرِكُونَ- وَالْمَجُوسُ، وَبَعْضُ اَلصَّابِئِينَ)}.
حقيقة كلامهم يتضمَّن أن القرآن لا يُهتَدى به، وأنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما جاء بهذا العلم الذي يتعلق بالله، وأن كلام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معزول، وأن الكلام يؤخَذ مما يقرره المتكلمون، فهذا هو مضمون كلامهم، شاؤوا أم أبوا.
قولهم: (وَأَنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْزُولٌ عَنْ اَلتَّعْلِيمِ وَالْإِخْبَارِ بِصِفَاتِ مَنْ أَرْسَلَهُ)، مضمونه أن تأخذ صفات الله من المتكلِّمين.
قولهم: (وَأَنَّ اَلنَّاسَ عِنْدَ اَلتَّنَازُعِ لَا يَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اَللَّهِ وَالرَّسُولِ)، فمضمون كلامهم أن الناس يُردُّون عند التَّنازع إلى حاشية فلان، وإلى ما قاله فلان، وإلى ما قرَّره فلان، أناس في المائة الثامنة والمائة التاسعة!
يقول الشيخ: (بَلْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ)، فقبائل قريش وغطفان في الجاهلية ما كان عندهم قرآن ولم يكن أرسل إليهم رسول، إلا بواقي نبوة قليلة جدًّا؛ فكانوا إذا تنازعوا ذهبوا إلى أناس عندهم أقوال يحفظونها أو طواغيت كهان، أو ضُلَّا يهود ونصارى محرِّفون لشرائعهم، أو يذهبون إلى فلاسفة؛ فهؤلاء المتكلمون يريدون منَّا أنَّنا نرجع في أسماء الله وصفاته غلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية.
والحقيقة هذا الموضوع متواصل، والكلام الذي قرأناه سيأتي بعده كلام متصل، ولكن لضيق الوقت نقف عند قوله هنا (بَلْ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ)، فكما يعرف الجميع أن الجاهلية ليس عندهم هُدى، وقد جاء الهدى والنور بكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسار على ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلا يحق لنا أن نحيد عن هذا المنهج الصحيح.
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم شيخنا وجزاكم الله خيرًا، ونفع بما قلتم.
والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلقاكم في حلقات قادمة من برنامج "البناء العلمي" والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك