الدرس الثاني عشر
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء
العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون ضيفنا فضيلة الشَّيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن
سليمان الفهيد، عضو هيئة التَّدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة،
أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى
بهداه.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن الأقوال والنقول التي يُعزِّز فيها مذهب السلف
الصالح ويُبيِّن صحَّته أقوال بعض الذين عُرفوا بالكلام، وبعض الناس يعظِّمهم، ولهم
منزلة عندهم، فذكر مجموعة من العلماء عليهم بعض المؤاخذات في العقيدة وغيرها،
ثم ذكر كلام أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري مرَّ بتقلُّبات في حياته، فعاش
أول حياته على عقيدة المعتزلة؛ لأنَّه تربَّى عند زوج أمِّه وكان مُعتزليًّا، وجلس
على هذه العقيدة أربعين سنة، ثم تابَ من ذلك، وأعلن توبته، وبعد ذلك رجعَ إلى مذهب
أهل الحديث، ولزم أهل الحديث، وجالسهم واستفاد منهم كثيرًا، وصنَّفَ كتبًا بعدَ
ذلك، وقرأنا في الدرس الماضي كلامه -رَحِمَهُ اللهُ- في: "مقالات الإسلاميين
واختلاف المصلين"، وكتابه مطبوعٌ ومتداول، ومعتبر حتى عند جميع أتباعه، وصرَّح فيه
بمقولة أصحاب الحديث وأهل السُّنة، ثم قال: (وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ).
وهنا سيذكر الشيخ ابن تيمية أقوالًا له في كتبٍ له أخرى، فيها نُصرة مذهب أهل
الحديث وأهل السُّنَّة والجماعة المثبتين للصِّفات، وهذا يُبيِّن لنا أنَّ أبا
الحسن مرَّ بأطوار، بعض العلماء يقول: هما طوران:
الأول: الاعتزال.
والثاني: طريقة أهل الكلام.
وهو يُحب أهل الحديث، لكن لم يفهم مذهبهم جيدًا.
وبعضهم يقول: ثلاثة أطوال:
الأول: الاعتزال.
الثاني: طريقة أهل الكلام.
الثالث: في آخر حياته لزم طريقة أهل الحديث تمامًا.
لكنَّ كثيرًا من الناس أخذوا عنه المرحلة الوسط، وعلى كل حال فنحن يهمُّنا الحق،
فندور معه حيثما دارَ، ولسنا مُعظِّمين لرجلٍ مهما كان إذا خالف الكتاب والسُّنَّة
وإجماع السلف الصالح، وأبو الحسن الأشعري نترحَّم عليه، ونُثني عليه لرجوعه إلى
الحق، ونثني عليه بهذه الكلمات التي صرَّح فيها بطريقةِ أهل السُّنَّة والجماعة
والسلف الصالح، ومدح أصحابها، وأثنى على الإمام أحمد وعلى أئمَّة الإسلام، وبيَّن
أنَّ هذا هو الحق، وهو إثبات الصفات، وليس على طريقة بعض مَن اتَّبعه وخالفه في ما
قرَّره هو، فالشيخ ينقل من كلام بعض أهل الكلام مَا فيه رد على أتباعهم، ويقول: هذا
الذي تتبعونه يقول لكم كذا وكذا...، فهذا فيه عبرة، فالمسلم يدور مع الحق حيثما
دارَ، ولا يتعصَّب لشخصٍ مهما كان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي "اخْتِلَافِ أَهْلِ
الْقِبْلَةِ فِي الْعَرْشِ" فَقَالَ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ
الْحَدِيثِ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ؛ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ كَمَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ،
وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ؛ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى
بِلَا كَيْفٍ وَإِنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ . وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ كَمَا قَالَ: ﴿خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ﴾ ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَ﴾ ،
وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ كَمَا قَالَ: ﴿وَجَاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ﴾ . وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا إلَّا مَا وَجَدُوهُ فِي
الْكِتَابِ أَوْ جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى
اسْتَوْلَى وَذَكَرَ مَقَالَاتٍ أُخْرَى)}.
هذا ممَّا قرَّرَه أبو الحسن، وفيه إثبات العلو والرَّد على المعتزلة؛ لأنَّه كان
خبيرًا بمذهب المعتزلة، حتى في كتابه "مقالات الإسلاميين" تجد أنَّه لَمَّا ينقل
أقوال الفِرَق لا يذكرها مثلما يذكر المعتزلة ويتوسَّع في تفاصيل دقيقة عن
المعتزلة؛ لأنَّه كان معهم وحافظًا لطريقتهم، ثم تابَ منها، فرحمه الله.
وهذه العبارة التي قالها هنا: (إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ)، فيها إشكال؛ لأنَّها
تعتبر من الألفاظ المحدثة، فكلمة "جسم" لم ترد في كتاب الله، ولم ترد في سنَّة رسول
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفيًا ولا إثباتًا.
وطريقة أهل السُّنَّة وطريقة المحقِّقين هي أنَّ هذه الألفاظ الواردة في غير الكتاب
والسُّنَّة وتسمَّى "الألفاظ المحدثة" وتسمى أيضًا "الألفاظ المجملة" طريقتهم فيها
من جهتين:
الجهة الأول: من جهة اللفظ لا تُقبَل؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا نصفه إلَّا
بما وصف به نفسه، لا نفيًا ولا إثباتًا.
الجهة الثانية: جهة المحتوى، والمعنى الذي تدل عليه هذه الكلمة، فيُستَفسَر ويُسأَل
عن المعنى، ما الذي يُريده بقوله: (إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ)؟ أو أنَّ بعض
الناس يقول: إنَّ اللَّهَ جسْمِ؛ فكلا الكلمتين غير مقبولتين عند المحققين من أهل
السنَّة والجماعة من جهة اللفظ، ولكن من جهة المعنى يقولون: ماذا تريد بقولك هذا؟
هل تريد نفي ما وصف الله به نفسه عندما تقول: "إنَّ الله ليسَ بجسمٍ"، هل تريد
أنَّه ليس له يد؟ هل تريد أنَّه ليس له وجه؟ هل تريد أنَّه لم يستوِ على العرش؟
إن قال: نعم؛ فقــل: نفيُكَ هذا مردودٌ عليك، ولو سمَّيتَه جسمًا أو ليس بجسم فهذا
لا يضر الحق شيئًا.
والإمام أحمد في كتابه المشهور "الرد على الجهمية" يقول: "لا نردُّ ما في كتاب الله
لشناعةٍ يُشنِّعها أهل البدع"، فيُسمُّون الحق بأسماء مُنفِّرَة حتَّى يستبشعه قلبك
ونفسك فترد الحق! ونحن لا نرد الحق الذي في الكتاب والسنَّة.
فإن قال: أنا لا أريد نفي ما في الكتاب والسُّنَّة؛ ولكني أريد ما هو مماثل لأجسام
العباد والمخلوقين، مثل الشَّحم واللحم والدَّم والشَّعر ونحو ذلك مما في
المخلوقين.
فنقول: نفيُكَ لهذا حق، لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس كمثله شيء، واستعِضْ عن هذا
اللفظ المحدَث باللفظ الشَّرعي، كقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾
[الإخلاص: 4]، قال تعالى: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: 74]،
وقال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادً﴾ [البقرة: 22]، وقال: ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، وقال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ [مريم: 65]،
وأمثال ذلك.
فهذا هو الحق في هذه الألفاظ المحدثة.
ونحن نظنُّ بمن أطلق هذه الكلمة ممَّن عُرفوا بالسُّنَّة وتعظيم الله -عَزَّ
وَجَلَّ- خيرًا، لكن ننبه على هذا الخطأ، فنقول: لعلَّ مرادهم من قول: (إنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ) هو المعنى الثاني وهو: ما يقتضي مماثلة المخلوقين؛ وهذا
من تعبيرهم الذي أخطأوا فيه، ولهذا أخطأوا في نسبة هذا الكلام لأهل الحديث، فهو
نسبه لأهل الحديث، ولعل السبب في ذلك أنَّه عاشَ مع المعتزلة مدَّة طويلة،
والمعتزلة كانوا يتَّهمون أهل السُّنَّة والجماعة وأهل الحديث بأنَّهم مجسِّمَة
-أي: يقولون: إنَّ الله جسم- فربما جلس مع أهل الحديث وسمع كلام بعضهم: نحن لا نقول
إنَّ جسم، يعني باعتبار تمثيل الخالق بالمخلوق؛ فظنَّ أنَّ أهل الحديث كلهم يقولون:
(إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ)، فأطلق هذه المقالة إحسانًا بالظَّنِّ بهذا العالم
-رَحِمَهُ اللهُ- وإلَّا فالعبارة خطا نفيًا وإثباتًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي
كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ "الْإِبَانَةَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ" وَقَدْ ذَكَرَ
أَصْحَابُهُ أَنَّهُ آخِرُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُونَ فِي
الذَّبِّ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْهِ)}.
كثُرَ الطَّعن على الأشعري من بعض الناس في المائة الرابعة والخامسة؛ فإذا أراد
أتباعه أن يدافعوا عنه، قالوا: اُنظر ماذا قال في "الإبانة"، فكان كتاب "الإبانة"
محل اتِّفاق أنَّه من كلام أبي الحسن الأشعري، ولم يأتِ مَن يُنكر هذا الكتاب إلَّا
في المتأخرين فقط، فقالوا: إنَّ هذا الكتاب لا يثبت أنه لأبي الحسن، وهذا غير صحيح،
فهذا الكتاب معروف لأبي الحسن، ونسبه له كبار أتباعه من المذهب، فكتاب "الإبانة عن
أصول الديانة" معروف للأشعري، وعبارات مقاربة لعقيدته التي رجع إليها، وهي عقيدة
أهل الحديث في الجملة، لأنَّ هناك عبارات أخطأ فيها مثل ما تقدَّم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَقَالَ: فَصْلٌ فِي إبَانَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ
وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ
وَالْقَدَرِيَّةِ والجهمية والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ؛
فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا
تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي
نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّكُ بِكَلَامِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ
الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ -نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ
دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ- قَائِلُونَ وَلَمَّا خَالَفَ قَوْلَهُ
مُخَالِفُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ؛ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ؛ الَّذِي
أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَدَفَعَ بِهِ الضَّلَالَ؛ وَأَوْضَحَ بِهِ
الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ
وَشَكَّ الشَّاكِّينَ؛ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ
وَجَلِيلٍ مُعَظَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ. وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا أَنَّا نُقِرُّ
بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا
إلَهَ إلَّا هُوَ، فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا؛ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ،
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ
ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ ، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ:
﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، وَكَمَا قَالَ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: ﴿تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَ﴾ ، وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُهُ كَانَ
ضَالًّا، وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَ فِي الْفَرْقِ، إلَى أَنْ قَالَ:
وَنَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ
إيمَانًا، وَنَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ
أَصَابِعِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَضَعُ السَّمَوَاتِ
عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ، كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ
الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ،
وَنُسَلِّمُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَدْلًا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى
يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلَى أَنْ قَالَ: وَنُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ
النَّقْلِ مِنْ النُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ الرَّبَّ عَزَّ
وَجَلَّ يَقُولُ «هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟»، وَسَائِرُ مَا
نَقَلُوهُ وَأَثْبَتُوهُ، خِلَافًا لِمَا قَالَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالتَّضْلِيلِ:
وَنُعَوِّلُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إلَى كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا
وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا نَبْتَدِعُ فِي دِينِ
اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَنَا بِهِ، وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
نَعْلَمُ.
وَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: ﴿وَجَاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ﴾ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ
كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ،
وَكَمَا قَالَ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ .
إلَى أَنْ قَالَ: وَسَنَحْتَجُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا وَمَا بَقِيَ
مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ بَابًا بَابًا، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَنْ وَقَفَ فِي
الْقُرْآنِ وَقَالَ لَا أَقُولُ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَرَدَّ
عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ. فَقَالَ: إنَّ قَالَ
قَائِلٌ مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: نَقُولُ إنَّ اللَّهَ
مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ،
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى:
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ ،
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ
مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ ، كَذَّبَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ
فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ، فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ فَلَمَّا كَانَ
الْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ قَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ،
لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، وَكُلُّ مَا
عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ، فَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَوَاتِ وَلَيْسَ إذَا قَالَ
﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ؛ وَإِنَّمَا
أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ
-عَزَّ وَجَلَّ- ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُورً﴾ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْقَمَرَ يَمْلَؤُهُنَّ وَأَنَّهُ فِيهِنَّ
جَمِيعًا، وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا
دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ
السَّمَوَاتِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا
أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ كَمَا لَا يَحُطُّونَهَا إذَا دَعَوْا إلَى
الْأَرْضِ.
ثُمَّ قَالَ: فَصْلٌ: وَقَدْ قَالَ الْقَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والجهمية
والحرورية إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ؛ أَنَّهُ
اسْتَوْلَى وَقَهَرَ وَمَلَكَ، وَأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كُلِّ مَكَانٍ،
وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ،
وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ، فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ
كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى
الْحُشُوشِ وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا
عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ -وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوْلٍ عَلَى
الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا- لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ
وَعَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَقْذَارِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى
الْأَشْيَاءِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ
كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ
اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ والأخلية؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي
الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ يَخْتَصُّ
الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَذَكَرَ دَلَالَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْبَصَرِ
وَالْيَدَيْنِ، وَذِكْرِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَى الْمُتَأَوِّلِينَ
لَهَا بِكَلَامِ طَوِيلٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِحِكَايَتِهِ؛ مِثْلُ
قَوْلِهِ: فَإِنْ سُئِلْنَا أَتَقُولُونَ لِلَّهِ يَدَانِ؟ قِيلَ: نَقُولُ ذَلِكَ
وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ ،
وقَوْله تَعَالَى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ
بِيَدِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ
وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ»، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ
بِيَدِهِ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ
وَغَرَسَ شَجَرَةَ طُوبَى بِيَدِهِ»، وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَا
فِي عَادَةِ أَهْلِ الْخِطَابِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: عَمِلْت كَذَا بِيَدِي
وَيُرِيدَ بِهَا النِّعْمَةَ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا خَاطَبَ الْعَرَبَ
بِلُغَتِهَا، وَمَا يَجْرِي مَفْهُومًا فِي كَلَامِهَا، وَمَعْقُولًا فِي
خِطَابِهَا، وَكَانَ لَا يَجُوزُ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْبَيَانِ أَنْ يَقُولَ
الْقَائِلُ: فَعَلْت كَذَا بِيَدِي وَيَعْنِي بِهَا النِّعْمَةَ؛ بَطَلَ أَنْ
يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ﴿بِيَدَيَّ﴾ النِّعْمَةَ. وَذَكَرَ كَلَامًا
طَوِيلًا فِي تَقْرِيرِ هَذَا وَنَحْوِهِ)}.
هذا من الشواهد على الحق، فإنَّ الحق -ولله الحمد- عليه نور الكتاب والسُّنَّة،
ويكفي هذا، فكيف وقد أجمع عليه الصحابة والتابعون وأتباعهم وأئمة الإسلام وأئمَّة
أهل السنة؛ فكلهم أثبتوا الصِّفات، حتَّى مَن وقع في شيءٍ من الكلام واتَّبعه مَن
اتَّبعه يقول هذه الكلمات، فالشيخ ابن تيمية نقل عن الأشعري ما في "مقالات
الإسلاميين" موضعين، ونقل عنه من كتاب "الإبانة" كلامًا طيِّبًا، وإن كان بعض
العبارات تحتاج إلى تعليق، وبعضها ليس على إطلاقه.
وعلى كل حال؛ فجُملَة العبارات فيها رد على مَن يُحرِّف الصفات، فمن أشهر الأمور:
أنَّ المتأخرين من أتباعه يقولون: إنَّ "استوى" بمعنى: استولَى. وهو يقول: استوى
على العرش بلا كيف، ومن قال إن: "استوى" يعني استولى وقهر؛ فهذا قول أهل الزَّيغ
والضَّلال من المعتزلة والجهميَّة والحروريَّة، وتقدَّم أنَّ نسبة هذا المذهب
للحروريَّة إنَّما هو للمتأخرين منهم الذين تأثَّروا بمذهب الجهميَّة، أمَّا
أوائلهم فلم يُعرَف عنهم أنَّهم خاضوا في هذا الكلام، ولا خاضوا في نفي الصفات.
فالمقصود: أنَّ هذه الكلمات من هذا الرجل المقدم عند قومه وأتباعه تردُّ على
أتباعه، فنحنُ نفرح بهذا ونشكر له هذا، وندعو له، ونأخذُ بما أصابَ، ونترحَّم عليه،
ونقول لأتباعه: اتقوا الله، أنتم تتعصَّبون لهذا المذهب، وهذا إمام المذهب يُثبت
الصفات وينفي الكيفيَّة، وينفي مماثلة الله بخلقه، ويوافق السلف الصالح، فهذا موجبٌ
لكم أن تتركوا نفي الصفات وتعطيلها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ
الباقلاني الْمُتَكَلِّمُ -وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ
إلَى الْأَشْعَرِيِّ؛ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ- قَالَ
فِي "كِتَابِ الْإِبَانَةِ" تَصْنِيفُهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدًا؟ قِيلَ لَهُ قَوْلُهُ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ ، وقَوْله تَعَالَى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدًا.
فَإِنْ قَالَ: فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً إنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ وَجْهًا وَيَدًا إلَّا جَارِحَةً؟ قُلْنَا لَا يَجِبُ
هَذَا كَمَا لَا يَجِبُ إذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا
أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-،
وَكَمَا لَا يَجِبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ
جَوْهَرًا؛ لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمْ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا
إلَّا كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لَهُمْ إنْ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
عِلْمُهُ وَحَيَاتُهُ وَكَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِ ذَاتِهِ
عَرَضًا وَاعْتَلُّوا بِالْوُجُودِ. وَقَالَ: فَإِنْ قَالَ فَهَلْ تَقُولُونَ
إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ قِيلَ لَهُ: مَعَاذَ اللَّهِ؛ بَلْ مُسْتَوٍ عَلَى
عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى﴾ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ ، وَقَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ . قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي
كُلِّ مَكَانٍ لَكَانَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَالْحُشُوشِ
وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا؛ وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ
بِزِيَادَةِ الْأَمْكِنَةِ إذَا خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ وَيَنْقُصُ
بِنُقْصَانِهَا إذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ؛ وَلَصَحَّ أَنْ يَرْغَبَ إلَيْهِ
إلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى خَلْفِنَا وَإِلَى يَمِينِنَا وَإِلَى شِمَالِنَا
وَهَذَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ: صِفَاتُ ذَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا
يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا: هِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ
وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَالْبَقَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ
وَالْيَدَانِ وَالْغَضَبُ وَالرِّضَ)}.
هذا في كتاب "الإبانة" وهو كتاب مفقود للباقلَّاني، وتوفي سنة 403 للهجرة، وهو كما
وصفه ابن تيمية: رجلٌ له قدرٌ جليل، وله مواقف في نصرة الدين والرَّد على النصارى
وغيرهم، ولكن هو كغيره قد وقع في شيء من الأخطاء في مسائل الكلام، واتبع طريقة أهل
الكلام، لكن الشيخ ينقل من كلامه ومن كتبه ما فيه ردٌّ على المتأخرين الذين يُنكرون
الصفات.
هنا يُبت الوجه، ويُثبت العينين، ويُثبت اليدين، ويُثبت الغضب والرضا، مثل ما يثبت
الحياة والعلم والقدرة، والصفات السبع التي يُثبتها الأشاعرة، ويُثبت أيضًا العلو،
قال: (فَإِنْ قَالَ فَهَلْ تَقُولُونَ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ قِيلَ لَهُ:
مَعَاذَ اللَّهِ؛ بَلْ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ)، وهذا يُنكره المتأخرون.
والشيخ ابن تيمية ينقل من كلامه ما فيه ردٌّ على المتأخرين، وليس معناه أنَّه
يوافقه على كل ما قرَّره في كتاب الإبانة.
ويقولون: إنَّ كتاب "الإبانة" مفقود، ولكن ذكره مَن ترجم له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ فِي كِتَابِ "التَّمْهِيدِ" كَلَامًا أَكْثَرَ مِنْ
هَذَا، وَكَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مِثْلِ هَذَا
الْبَابِ كَثِيرٌ لِمَنْ يَطْلُبُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُسْتَغْنِينَ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ)}.
هذا هو الصَّحيح، وهذه قاعدة مهمَّة، فلمَّا ينقل الشيخ هذه الكلمات زِنْهَا بهذه
القاعدة (وَإِنْ كُنَّا مُسْتَغْنِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ
السَّلَفِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ)، فما الفائدة من نقل كلمات هؤلاء؟
الفائدة: إقامة الحجَّة على مَن يتَّبعهم ويعظِّمهم ويُخالفهم، فهذا هو الهدف، وليس
القصد أنَّ هؤلاء قد أصابوا في كل ما قالوا، فكتاب "التَّمهيد" مطبوع وموجود، وذكر
في الكتاب كلامًا في الصفات أكثر ممَّا نقله الشيخ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِلَاكُ الْأَمْرِ: أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ
حِكْمَةً وَإِيمَانًا بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ حَتَّى يَفْهَمَ
وَيَدِينَ، ثُمَّ نُورُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُغْنِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؛
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ صَارَ مُنْتَسِبًا إلَى بَعْضِ طَوَائِفِ
الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمُتَوَهِّمًا
أَنَّهُمْ حَقَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ غَيْرُهُمْ؛ فَلَوْ
أَتَى بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعَهَا حَتَّى يُؤْتَى بِشَيْءِ مِنْ كَلَامِهِمْ)}.
معنى كلام الشيخ: أنَّ بعض الناس مهما أتيت له من كلام السلف؛ فلا يقبله.
حتَّى أنِّي رأيتُ كثيرًا من المتأخرين من هؤلاء إذا رأوا كلام السلف قال: هؤلاء
قصدهم الجهميَّة الذي يُنكرون الأسماء والصفات، وليس قصدهم كذا وكذا؛ يحاولون أن
يحرفوا الكلام.
فيقول الشيخ: إنَّ بعض هؤلاء المنتسب لهذه الطُّرق فيهم من العناد واتباع الهوى
الشيء العجيب، فلو جئته بآية أو حديث لا يقبله، وإذا جئته بكلام المحققين قد يندهش
ويحار ويحتار؛ فلأجل هذا ساق الشيخ هذه الكلمات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا مُخَالِفُونَ لِأَسْلَافِهِمْ غَيْرُ
مُتَّبِعِينَ لَهُمْ؛ فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْهُدَى الَّذِي يَجِدُونَهُ
فِي كَلَامِ أَسْلَافِهِمْ؛ لَرُجِيَ لَهُمْ مَعَ الصِّدْقِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ
أَنْ يَزْدَادُوا هُدًى، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا مِنْ طَائِفَةٍ
مُعَيَّنَةٍ؛ ثُمَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الْحَقِّ فَفِيهِ
شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ،
فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَا نُؤْمِنُ إلَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ، أَيْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ
يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَا لَمَّا جَاءَتْكُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُكُمْ
تَتَّبِعُونَ، وَلَا لَمَّا جَاءَتْكُمْ بِهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ تَتَّبِعُونَ،
وَلَكِنْ إنَّمَا تَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَكُمْ فَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ
الْحَقَّ لَا مِنْ طَائِفَتِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَعَ كَوْنِهِ يَتَعَصَّبُ
لِطَائِفَتِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ وَلَا بَيَانٍ)}.
وهذا شيء واضح عند كفرة اليهود، فلمَّا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم: ﴿وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَ﴾ ، فقال الله لهم: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ ، أي: هل
مما أُنزل عليكم أنَّكم تقتلون أنبياءكم؟! فلا أنتم قبلتم ما أُنزل عليكم
واتبعتموه، ولا اتبعتم ما جاءكم به محمد وسائر الأنبياء! إنَّما تتبعون أهواءكم.
وهكذا نقول لبعض أهل الكلام: بعض أئمة أهل الكلام الذين تدَّعون أنَّكم تتبعونهم ما
قبلتم كلامهم، مثل كلامهم في الاستواء وإثبات العلو؛ ولا قبلتم كلامهم في إثبات هذه
الصفات الخبرية، ذهبتم إلى خلافه بعنادٍ منكم، ولا قبلتم ما جاء به الكتاب
والسُّنَّة والسلف الصَّالح، إنَّما أنتم تتبعون أهواءكم، وهذه من الخطورة بمكان.
ومثل هذا لَمَّا ينقل بعض العلماء كلام أئمَّة الشافعية والمالكيَّة والحنبليَّة،
وغيرهم من علماء الإسلام في الرَّد على المشركين في وجوب إخلاص العبادة لله، فيأتي
بعض المجادلين عن الشرك من المعاصرين ويقول: إنَّ هؤلاء يقولون عن المتقدمين إنَّهم
لا يقررون توحيد العبادة، ثم يقولون: جهود الشافعيَّة وجهود المالكية في تقرير
توحيد العبادة! فهذا لا أخذ بنور الكتاب والسنة وما أجمع عليه المسلمون من إخلاص
العبادة لله، وأنَّ مَن صرف العبادة لغيره فهو مُشرك، ثم إذا لَما جئناه بمَن يرى
أنَّهم معظَّمين؛ وقلنا إنَّهم قرَّروا هذه المسألة؛ لــم يقبل هذا! وهذا هو اتباع
الهوى، فالعبادة هي التي خُلقنا لأجلها، فتأتي تلف يمينًا وشمالًا حتى تقول للناس:
مَن سجد لغير الله ومَن استغاث بغير الله لا حرج عليه، ومَن استغاث بالأموات لا حرج
عليه، أو أنَّه شيء مكروه أو محرم! إنَّما يُشرك إذا اعتقدَ أنَّ مع الله رب!
نقول: إذا اعتقدَ أنَّ مع الله رب فهو مشرك حتَّى ولو لم يدعُ غيره، ولكن النصوص
الشرعية دلَّت على أن صرف أي نوع من أنواع العبادة فهو مشرك، وعلى هذا تتابعت أقوال
أئمَّة الإسلام من الصحابة والتابعين، قوبل ذلك نصوص الكتاب والسنَّة، بعض الناس
يتَّبع هواه، وقد أشبه اليهود في هذا -نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجويني)}.
الجويني من كبار المتوسطين في الأشاعرة، توفي سنة 478 للهجرة، وله كلمات جيدة،
ومنها ما نقله ابن تيمية، وله أخطاء أخرى، وأعلن توبته في آخر حياته -رَحِمَهُ
اللهُ.
والجويني من جهة الترجيح في مذهب الشافعيَّة لا يُؤخَذ بقوله حتى عند الشافعية، ومن
جهة التَّصحيح والتَّضعيف لا يُؤخَذ بقوله، لكنهم يأخذون بقوله في العقيدة عن
المتأخرين في الأشاعرة، وله أقوال جيدة لا يأخذون بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجويني فِي كِتَابِهِ
"الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ" اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ
الظَّوَاهِرِ؛ فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا وَالْتَزَمَ ذَلِكَ فِي آي
الْكِتَابِ وَمَا يَصِحُّ مِنْ السُّنَنِ وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إلَى
الِانْكِفَافِ عَنْ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا
وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إلَى الرَّبِّ. فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا
وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقِيدَةً: اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَالدَّلِيلُ
السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَهُوَ حُجَّةٌ
مُتَّبَعَةٌ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ
لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا -وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ والمستقلون
بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ
الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ
إلَيْهِ مِنْهَا- فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوَّغًا أَوْ
مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ
بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ
عَلَى الْإِضْرَابِ عَنْ التَّأْوِيلِ؛ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ
فَحَقٌّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ
الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ، وَيَكِلُ مَعْنَاهَا
إلَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَلْيُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ. وَقَوْلُهُ
﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ﴾ ، وَقَوْله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَ﴾ ، وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ
الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
قُلْتُ: وَلْيَعْلَمْ السَّائِلُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ ذِكْرُ
أَلْفَاظِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَقَلُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي هَذَا
الْبَابِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ قَوْلِهِ -مِنْ
الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ- يَقُولُ بِجَمِيعِ مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا
الْبَابِ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ يُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ؛
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ فِي كَلَامِهِ.
الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ: "اقْبَلُوا الْحَقَّ
مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - أَوْ قَالَ فَاجِرًا -
وَاحْذَرُوا زيغة الْحَكِيمِ". قَالُوا: كَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرَ يَقُولُ
كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: "إنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا" أَوْ قَالَ كَلَامًا هَذَا
مَعْنَاهُ. فَأَمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَإِمَاطَةُ مَا يَعْرِضُ مِنْ
الشُّبَهِ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهٍ يَخْلُصُ إلَى الْقَلْبِ مَا
يَبْرُدُ بِهِ مِنْ الْيَقِينِ، وَيَقِفُ عَلَى مَوَاقِفِ آرَاءِ الْعِبَادِ فِي
هَذِهِ الْمَهَامِهِ فَمَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى، وَقَدْ كَتَبْت
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا، وَخَاطَبْت بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ
يُجَالِسُنَا، وَرُبَّمَا أَكْتُبُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ
بِهِ الْمَقْصُودُ)}.
الشيخ يقول كلمات مُهمَّة هنا، وينبغي لكل مَن قرأ الحمويَّة أن يتأمَّل هذا، وهي
أنَّ النُّقول المتأخرة -خصوصًا الأخيرة- عن بعض أهل التَّصوُّف، أو عن بعض أهل
الكلام، وآخرهم الجويني؛ ليس كل كلام الجويني أو كلام الباقلَّاني يقول بكلام
السَّلف؛ بل إنَّ هؤلاء وقعوا في أخطاء كبيرة، وخالفوا مذهب السلف في مسائل معروفة،
لكن نحن نذكر من أقوالهم التي وافقوا فيها الحق، والحق يُقبَل ممَّن جاء به، ومعاذ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "وَاحْذَرُوا زيغة الْحَكِيمِ"، وقال: "إنَّ عَلَى
الْحَقِّ نُورًا"، يعني يُعرف بموافقته للكتاب والسُّنة.
على سبيل المثال: ذكر الجويني التَّفويض، وتفويض المعنى ليس من مذهب السَّلف، ولكن
تفويض الكيفيَّة أمرٌ مُجمَع عليه، فالمعنى معروف، والصفات معانيها معلومة، لكن
يُستفاد من كلام الجويني: أنَّ التَّأويل الذي درج عليه المتأخرون ُحرَّم، وصرَّح
بهذا، وأنَّه لو كان سائغًا لكان أولى مَن يقول به الصحابة، ولَبيَّنه الرسول
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم؛ فعُلِمَ أنَّه باطل، وليس كما يقول أوائلهم
من المتكلمين: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم؛ بل إنَّ مذهب السلف أسلم
وأعلم وأحكم، وما يسمونه تأويلات هو تحريفات وليس معها دليل، وحججهم فيها واهية.
ثم إنَّك قد تستفيد من بعض ردود أهل الكلام على بعضهم أو من بعض تقريراتهم في إبطال
مذهب أهل الكلام، وهذه الطريقة يسلكها أهل العلم، وهذا من أنواع الجهاد في سبيل
الله، فتشغل المبتدع -أو المخطئ- بخطئه، وتقول له: شيخك وصاحبك يقول إنَّ هذا خطأ،
فيبدأ يُفكِّر في نفسه جيِّدًا.
والشيخ يقول: ليس الغرض من كتاب "الحمويَّة" أن أُفصِّل المسائل واحدة واحدة،
وأشرحها كلمة كلمة، وأُفنِّد ما نقلته من الأقوال، وأُبيِّن لك كل الكلمات؛ فهذا قد
بيَّنه سابقًا، فقد كتب الشيخ كتبًا جيدة، مثل: "العقيدة الواسطية"، كذلك "العقيدة
التدمرية" ففيها ردودٌ مفصَّلة، وإذا أراد التَّوسُّع فهناك كتب أخرى سوف يهتدي
إليها -إن شاء الله- مع القراءة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْهُدَى وَالنُّورِ لِمَنْ تَدَبَّرَ
كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَصَدَ
اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَأَعْرَضَ عَنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ
وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.
وَلَا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا
الْبَتَّةَ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ
أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ . وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إذْ قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ»، وَنَحْوُ
ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً وَهُوَ
فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي
الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ﴾ )}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ)، يعني: الخُلاصَة التي يجب
على طالب العلم -بل يجب على كل مسلم ومسلمة- أن يعتقد أنَّ كمال الهُدى وكمال
النُّور هو في كتاب الله وفي سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليس
في كتب المتأخرين مهما كانوا، فمن تدبَّر كتاب الله وسنَّة رسوله طالبًا الهدى
منهما تبيَّن له طريق الحق.
إذًا؛ لابـد من أمرين:
الأول: الاجتهاد في البحث عن الكتاب والسُّنَّة، ماذا دلَّا عليه.
الثاني: القصد الحسن والنِّيَّة الطَّيِّبَة الصَّادقة في طلب الحق من عند الله
-عَزَّ وَجَلَّ.
{شيخنا -أحسن الله إليكم- ذكر المؤلف قول الأشعري في "اختلاف أهل القبلة" في قول
المعتزلة: إن معنى قوله: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أي: استولَى. فهذا القول مشهور
عن الأشاعرة، فلماذا نسبه للمعتزلة؟}.
أولًا: مذهب الأشاعرة تكوَّنَ بعدَ أبي الحسن الأشعري، فالأشاعرة يُنسَبون إلى أبي
الحسن، فلم يُعرَف في زمن الأشعري أنَّ هناك أشاعرة، بل ما كان المذهب المعروف إلا
مذهب المعتزلة، وكان هناك طائفة انتحلوا الحديث ولكن بقيت عندهم بقايا، مثل عبد
الله بن السعيد بن كُلَّاب، وأتباعه مثل أبي علي القلانسي والحارث المحاسبي وغيرهم،
ومن تلامذة أتباعه أبو الحسن الأشعري، فأبو الحسن الأشعري لا يُمكن أن يقول إنَّ
هذا كلام الأشاعرة، فإنَّه يُريد مذهب الحديث، فيُبطل هذا القول؛ بل هذا النَّص من
كتاب "مقالات الإسلاميين"، أمَّا كتاب "الإبانة" فيشككون فيه.
إذًا؛ هذه العبارة: أن "استوى" بمعنى: استولى؛ هي قول للمعتزلة، أخبرُ النَّاسِ
بالمعتزلة هو الأشعري -رَحِمَهُ اللهُ- لأنَّه تابَ وتركَ مذهبهم.
وهذا فيه تنبيهٌ لكل مسلم أن يترك مثل هذه البدع، ويعرف أنَّها مذهب مَن لا
يُرتضونَ أبدًا، وهم أهل الضَّلال، ولهذا نطلب من إخواننا الذين تأثَّروا بهذه
الطُّرق أن يتَّقوا الله وينظروا في هذا الكلام، فهذا الكلام حجَّة في بيان الحق،
وفي بيان طريقة أهل السُّنَّة والجماعة، فإذا جاءنا شخص يقول: إن الله -عَزَّ
وَجَلَّ- يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، أي: استولى. نقول
له: اتَّقِ الله، فهذا كلام باطل، والذي أبطله شيخُ المذهب أبو الحسن الأشعري في
كتاب "مقالات الإسلاميين"، وذكر أنَّ هذا قول المعتزلة.، وبالتَّالي يظهر بطلان هذا
القول وأنَّه تحريف، حتى أنَّ الشيخ ذكر تعليلات في كتاب "الإبانة" لأنَّ الله
-عَزَّ وَجَلَّ- ملكَ كلَّ شيء واستولى على كل شيء.
وكلمة "استولى" قد توهم معنًى فاسدًا؛ لأن ما جاءت النصوص بها، فالاستيلاء على
الشيء يكون بعدَ مُنازعةٍ، والله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُنازعه أحدٌ في مُلكه -سبحانه
وتعالى.
{عند قول المؤلف: (وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ
إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ)، هذا استدلالٌ بأيِّ دليلٍ؟}.
هذا من كلام أبي الحسن الأشعري في كتاب "الإبانة"، فيقول: (وَرَأَيْنَا
الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ؛
لِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ)، فهذا يُبيِّن
فيه إثبات العلو.
وقال بعد ذلك: (فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا
أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ كَمَا لَا يَحُطُّونَهَا إذَا دَعَوْا إلَى
الْأَرْضِ)، هل رأيتَ داعٍ يدعو يحطُّ يديه إلى الأرض؟! فكل العباد إذا دعوا يرفعون
أيدهم إلى السماء، لأنَّهم يعلمون أنَّ الله فوق كل شيء -سبحانه وتعالى.
فقوله هنا: (وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ)، هو
استدلال بدليل الفطرة، واستدلال بدليل الإجماع، فهو يحكي إجماع المسلمين على هذا.
إذًا؛ مَن يقول إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس في العلو، ولا يُثبت لله -عَزَّ
وَجَلَّ- صفة العلو؛ قـد خرج عن هذا الإجماع، وعليه أن يتوب إلى الله، ويرجع إلى
الكتاب والسُّنَّة، وما كان عليه المسلمون.
{جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ، وأحسن الله إليكم}.
هذا ما تيسَّر الدرس، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرقنا وإيَّاكم العلم النافع،
والعمل الصالح، وأن يثبتنا وغياكم على صراطه المستقيم، وصلَّى الله وسلَّم وبارك
على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين}.
{اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد.
شكر الله لكم فضيلة ما قدمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر
موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلقاكم في حلقاتٍ
قادمة من برنامجكم "البناء العلمي"، إلى ذلكم الحين نستوعكم الله الذي لا تضيع
ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12469 18
-
16292 9
-
33972 6
-
2976 13
-
3064 12
-
4088 11
-
5498 12