الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2108 13
الدرس الثامن

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم -أعزائي المشاهدين والمشاهدات- في حلقة جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم ما بدأناه في شرح الفتوى الحمويَّة الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ.
في هذه الحلقة سيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ الأستاذ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{شيخنا -أحسن الله إليك- في الحلقة الماضي ذكر المؤلف قول ابن عباس: "تَفْسِيرُ اَلْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ اَلْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ اَلْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ اِدَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ" فما معنى قوله؟}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تقدَّم أن الشيخ في الدرس الماضي ذكر انقسام المنحرفين إلى ثلاث فئات:
الأولى: أهل التَّخييل.
والثانية: أهل التَّأويل.
والثَّالثة: أهل التَّجهيل.
وسبب انحراف هؤلاء المفوِّضة: غلطهم في ظنِّهم أنَّ المراد بقول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، أنَّ هذا التَّأويل هو الذي يتكلَّم به المتأخرون ممَّن وقعوا في صرف ألفاظ النُّصوص في الصفات إلى معاني أخرى، فظنُّوا أنَّ هذا هو التأويل، وقالوا: لا نتكلَّم في هذا التَّأويل؛ لأنَّه لا يعلم معانيها إلَّا الله، فظنُّوا أنَّ المراد هو المعاني لنصوص الصفات.
وهذا الفهم غير صحيح، ومعارض للقرآن ومعارض للسُّنَّة، ومعارض لما أجمع عليه الصحابة، فكلام ابن عباس "تَفْسِيرُ اَلْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ اَلْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ اَلْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ اِدَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ".
إذا فهمنا هذه الأقسام الأربعة عرفنا الكلمات التي ترد في القرآن جميعًا:
النوع الأول: أمور لا يعلمها إلَّا الله، مثال ذلك: كيفية صفات الله -سبحانه وتعالى- ومتى تقوم الساعة، في أي يومٍ وأي تاريخ؟ وأي سنةٍ؟ فهذا لا يعلمه إلَّا الله، ومَن ادَّعى علمه فهو كاذب.
وأيضًا حقائق وكيفيَّات النعيم أو العذاب في الآخرة، فهذه أمور غيبيَّة، أمَّا المعاني فهي معلومة، فقد أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن طعام أهل الجنة ولباسهم وشرابهم، وأخبر عن أشياء كثيرة في الجنة وكذلك في النار، فهذه المعاني معلومة، ولا أحد يقول إنَّها غير معلومة، ولكن كيفيتها لا يعلمها أحد، فهل العسل الذي في الجنة مثل العسل الذي في الدنيا؟ لا، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في الحديث القدسي: «أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ» ، فنحن رأينا اللبن والعسل في الدنيا وذقناه، فالعسل الذي في الآخرة ليس مثل هذا، فهو شيءٌ أعظم وأعظم، قال: «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ».
إذًا؛ الحقائق والكيفيَّات التي لهذا النعيم لا يعلمها إلَّا الله، وكذلك يُقال في العذاب، فهذه أمور غيبية مَن ادَّعى علمها فهو كاذب.
النوع الثاني: تفسير تعرفه العرب من كلامها، يعني يعرفه أهل اللغة العربية الفصحاء العارفون باللغة كما ينبغي، مثل قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، فيفهم معناه من يعلم اللغة العربية.
النوع الثالث: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾ [البقرة:275]، فيقول: أنا لا أُفرِّق بين البيع والربا، أو يقول: كله حلال! فهذا ما يُعذَر.
ومثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 181]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَ﴾ [المجادلة: 1]، فيقول: الله ما يسمع! فهذا كلامٌ غير مقبول، ولا يعذر أحدٌ بجهالته.
ومثل قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَ﴾ [الإسراء: 32]؛ فلا أحد يُعذر بجهالته.
النوع الرابع: تفسير يعلمه العلماء، مثل أقل مدَّة الحمل، فهذا يعلمه العلماء من خلال الجمع بين النصوص.
وأنواع كثيرة تدخل ضمن هذه الجملة التي قالها ابن عباس، ولكن هذا الكلام يدلُّ على ما قصده الشيخ من توضيح أقسام التأويل، فالتَّأويل الذي بمعنى التفسير يدخل في هذا الباب، والتأويل الذي بمعنى الحقائق التي لا يعلمها إلَّا الله يدخل في هذا، ولهذا صحَّ الوقف عند الجمهور على قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، يعني الحقائق والغيب. ثم قال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: 7].
وأمَّا مَن قرأ بالوقف على ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ، فيكون معنى التأويل الذي يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم الذي ذكره ابن عباس في قوله: "وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ اَلْعُلَمَاءُ".
إذًا؛ على قراءة الوقف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، لا يُعنَى به معاني نصوص الصفات.
ونقول: إنَّ الوقف على الآية ورد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقرأه الصحابة ونُقل عنهم على وجهين:
الأول: الوقف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، ثم يبدأ ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ ، وهذا عليه الأكثرون والجمهور، ويكون معنى التَّأويل هو الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، مثل متى الساعة، وكيفيات صفاته تعالى، وحقائق ما في الجنَّة كيفيَّاته من النَّعيم.
الثاني: الوقف على ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ، ثم يقف.
ومعنى التأويل هنا: أي الذي لا يعلمه إلَّا العلماء، فالله تعالى يعلمه ويُعلِّمه للعلماء فيعلمونه، بخلاف أهل الجهل.
إذًا؛ التأويل له ثلاثة تعريفات تختلف باختلاف المورد:
- فالمتأخرون المتكلِّمون في أصول الفقه وبعض المتكلمين في العقائد من الأشعريَّة وغيرهم يقولون: "التأويل" ويريدون به صرف اللفظ عن المعنى الرَّاجح إلى المعنى المرجوح.
وهذا الكلام لا يُسلَّم به على الإطلاق؛ لأنَّهم يقولو: التأويل هو صرفُ اللفظ عن المعنى الرَّاجح للمعنى المرجوح لقرينةٍ أو لدليل.
نقول: ما هو الدليل؟
إذا نظرتَ إلى طريقتهم في تحريف نصوص الصفات، فإذا كان معهم مجرَّد أدلَّة عقليَّة -وهي في الحقيقة توهُّمات وأدلَّة غير صحيحة- أوَّلوا به.
وهذا التأويل غير صحيح، ولا يجوز أن نصرف اللفظ عن ظاهره لتوهماتكم!
وإذا كان الدليل الذي يذكرونه دليلًا صحيحًا من كتاب الله ومن سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا الدليل مقبول، ويسمى هذا جمعٌ بينَ النُّصوص، قال تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَ﴾ ، فيجمعون بين النُّصوص ويؤلِّفونَ بينها ويوضِّحونها، ويكون التأويل هنا بمعنى التَّفسير.
فهذا هو المعنى الثاني لمعاني التأويل، فالتفسير صحيح وحق إذا كان صحيحًا، أما التفسيرات الباطلة فهي باطلة.
المعنى الثالث: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وقد تقدَّم شرح هذا وذكر الأمثلة عليه.
{شكر الله لكم شيخنا.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا اَلتَّنْبِيهُ عَلَى أُصُولِ اَلْمَقَالَاتِ اَلْفَاسِدَةِ اَلَّتِي أَوْجَبَتْ اَلضَّلَالَ فِي بَابِ اَلْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ مَنْ جَعَلَ اَلرَّسُولَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَعَانِي اَلْقُرْآنِ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَلَا جِبْرِيلُ جَعَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالسَّمْعِيَّاتِ لَمْ يَجْعَلْ اَلْقُرْآنَ هُدًى وَلَا بَيَانًا لِلنَّاسِ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ اَلْعَقْلِيَّاتِ فِي هَذَا اَلْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَجْعَلُونَ عِنْدَ اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتِهِ فِي بَابِ مَعْرِفَةِ اَللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ عُلُومًا عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً، وَهُمْ قَدْ شَارَكُوا فِي هَذَا اَلْمَلَاحِدَةَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِلَى اَلسَّلَفِ مِنْ اَلْجَهْلِ، كَمَا أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ اَلتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلَاتِ اَلْفَاسِدَةِ، وَسَائِرُ أَصْنَافِ اَلْمَلَاحِدَةِ)
}.
هذا عودٌ على الكلام على أهل التَّجهيل، أنَّهم يُنكرون العقليَّات في هذا الباب بالكليَّة، ويقولون: إنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس عنده علوم في هذا الباب لا عقليَّة ولا شرعيَّة، ولا نقول إنَّهم شاركوا الملاحدة متعمِّدين، ولكنهم شاركوهم من حيث لا يشعرون، وهم مخطؤون فيما نسبوه إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى السلف الصالح من الجهل بمعاني نصوص الصفات، كما أخطأ أهل التَّحريف -الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل- فيما نسبوه إلى القرآن والسنَّة من تلك التَّأويلات الفاسدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ أَلْفَاظِ اَلسَّلَفِ بِأَعْيَانِهَا، وَأَلْفَاظِ مَنْ نَقَلَ مَذْهَبَهُمْ، بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا اَلْمَوْضِعُ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَذْهَبُهُمْ)}.
هنا يبدأ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- بنقل أقوال أهل العلم والسلف المتقدمين، وبعض مَن عندهم إصابة وعندهم أخطاء، فينقل أقوالهم ليُبيِّن صحَّة طريقة السلف، فهذه الأقوال التي سترد منها أقوال صحيحة مائة في المائة وهي أقوال السلف، ومنها ما هي أقوال لبعض المتكلمين، لكن يُبيِّن فساد مَن جاء بعدهم ممَّن خالفهم، وبالتالي سنمر على هذه الأقوال مرورًا سرعيًا، ولن نقف عند كل لفظةٍ فيها، لكن نعلق عليها من حيث الجملة.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (رَوَى أَبُو بَكْرٍ اَلْبَيْهَقِيُّ فِي "اَلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ اَلْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: "كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ: إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ اَلسُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ".
فَقَدْ حَكَى اَلْأَوْزَاعِيُّ- وَهُوَ أَحَدُ اَلْأَئِمَّةِ اَلْأَرْبَعَةِ فِي عَصْرِ تَابِعِي اَلتَّابِعِينَ اَلَّذِينَ هُمْ: مَالِكٌ، إِمَامُ أَهْلِ اَلْحِجَازِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامُ أَهْلِ اَلشَّامِ، وَاللَّيْثُ إِمَامُ أَهْلِ مِصْرَ، وَالثَّوْرِيُّ إِمَامُ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ حَكَى شُهْرَةَ اَلْقَوْلِ فِي زَمَنِ اَلتَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اَللَّهَ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، وَبِصِفَاتِهِ اَلسَّمْعِيَّةِ)
}.
هذا النَّص له أهميَّته، لأنَّ عبد الرحمن الأوزاعي أفقه مَن كان في الشام -كما يُقال- وله مذهب معروفٌ ومُتَّبع، وهو إمام عند الجميع ومقبول، توفي سنة 157 للهجرة، يقول: "كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ"، يعني بمشهد من التابعين، ويحكي قول السلف الصَّالح في أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق عرشه، قال: "نَقُولُ: إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ اَلسُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ".
فلو كان هذا الكلام باطلًا لَمَا قاله الأوزاعي، فهذا لا يقبله المتأخرون من أهل الكلام، فعلى أي طريق نسير؟ نسير على طريق الأوزاعي والسلف الصالح، أو نسير على طريق المتكلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ اَلْخَلَّالُ فِي "كِتَابِ اَلسُّنَّةِ" عَنْ اَلْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: " سُئِلَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ اَلْأَحَادِيثِ فَقَالَ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ".
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ اَلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: "سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَسُفْيَانَ اَلثَّوْرِيَّ، وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيَّ عَنْ اَلْأَخْبَارِ اَلَّتِي جَاءَتْ فِي اَلصِّفَاتِ فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا: أَمِرَّهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ".
فَقَوْلُهُمْ-رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ- "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ" رَدٌّ عَلَى اَلْمُعَطِّلَةِ، وَقَوْلُهُمْ "بِلَا كَيْفٍ"، رَدٌّ عَلَى اَلْمُمَثِّلَةِ، وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ هُمَا أَعْلَمُ اَلتَّابِعِينَ فِي زَمَانِهِمْ وَالْأَرْبَعَةُ اَلْبَاقُونَ هُمْ أَئِمَّةُ اَلدُّنْيَا فِي عَصْرِ تَابِعِي اَلتَّابِعِينَ.
وَإِنَّمَا قَالَ اَلْأَوْزَاعِيُّ هَذَا بَعْدَ ظُهُورِ أَمْرِ جَهْمٍ اَلْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اَللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَالنَّافِي لِصِفَاتِهِ، لِيَعْرِفَ اَلنَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ اَلسَّلَفِ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَبَقَتِهِمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَمْثَالُهُمَ)
}.
هذا محل تأمُّلٍ جيد، فالإنسان الذي تلوَّث بمذهب المتكلمين يُناقش نفسه وينظر،
فهذا الإمام مكحول إمام عظيمٌ يشهد له الجميع بالإمامة وأنَّه على السُّنَّة وعلى الطريق الصَّحيح، وهذا الأوزاعي، وكذلك مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، فهؤلاء هم أئمة الدنيا، وكلهم يقولون في تفسير الأحاديث التي جاءت في الصفات: "أَمِرَّهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ"، فهي جاءت ولها معانٍ، ما جاءت مخلَّاة من المعاني، فالمحظور هو التشبيه والتَّكييف، فقالوا: "بِلَا كَيْفٍ"، ويُعلم منه أنَّه بلا مِثل أيضًا، وهذا من باب أولى، ولكن الذي يهج على الإنسان أحيانًا من الشيطان أنَّه يتخيَّل، فقالوا: "بِلَا كَيْفٍ"، فلا تتخيَّل، بل أمرِّها واقبلها كما جاءت.
وهذه الكلمات العظيمات من هؤلاء الأئمَّة قالوها لما انتشرَ كلام جهم بن صفوان، فجهم بن صفوان قُتل سنة 128 للهجرة، وانتشر مذهبه الخبيث في خرسان، ثم بدأ يسري وينشره أهل البدع ومنهم بشر المريسي، فصار هؤلاء يقولون هذه الكلمات العظيمة في قبول نصوص الصفات والإيمان بها ولعدم إنكارها؛ لأنَّ جهمًا كان يُنكرها ويُحرفها.
ولو قال قائل: إنَّ قولهم: "أَمِرَّهَا كَمَا جَاءَتْ"، يعني ليس لها معنى، أمرُّوها قراءة بلا فهم؛ فنقول: لا يُمكن أن يكون هذا مرادهم، ولو كان هذا مرادهم ما صار فيه فائدة لقولهم: "بِلَا كَيْفٍ"، فلا يُتصوَّر الكيفُ إلَّا لما له معنًى، فهم قالوا: أَثبتْ المعنى وأمسك عن الكيفية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (رَوَى أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلزَّجِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ يَدْفَعُ أَحَادِيثَ اَلصِّفَاتِ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " سَنَّ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوُلَاةُ اَلْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا. اَلْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اَللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اَللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اَللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اَللَّهِ تَغْيِيرُهَا وَلَا اَلنَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا، مَنْ اِهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنْ اِسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَلَّاهُ اَللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا".
وَرَوَى اَلْخَلَّالُ بِإِسْنَادٍ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: " سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] قَالَ: " اَلِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنْ اَللَّهِ اَلرِّسَالَةُ وَعَلَى اَلرَّسُولِ اَلْبَلَاغُ اَلْمُبِينُ، وَعَلَيْنَا اَلتَّصْدِيقُ".
وَهَذَا اَلْكَلَامُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو اَلشَّيْخِ اَلْأَصْبَهَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ اَلْبَيْهَقِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، كَيْفَ اِسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلَاهُ اَلرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: اَلِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا مُبْتَدِعًا"، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَخْرُجَ. اهـ.
فَقَوْلُ رَبِيعَةَ بن أبي عبد الرحمن وَمَالِكٍ: "اَلِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ"، مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اَلْبَاقِينَ: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ"، فَإِنَّمَا نَفَوْا عِلْمَ اَلْكَيْفِيَّةِ، وَلَمْ يَنْفُوا حَقِيقَةَ اَلصِّفَةِ.
وَلَوْ كَانَ اَلْقَوْمُ قَدْ آمَنُوا بِاللَّفْظِ اَلْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ لَمَا قَالُوا: "اَلِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ"، وَلَمَا قَالُوا: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ" فَإِنَّ اَلِاسْتِوَاءَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا بَلْ مَجْهُولاً بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ اَلْمُعْجَمِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ عِلْمِ اَلْكَيْفِيَّةِ، إِذَا لَمْ يُفْهَمُ مِنْ اَللَّفْظِ مَعْنًى، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ عِلْمِ اَلْكَيْفِيَّةِ إِذَا أُثْبِتَتْ اَلصِّفَاتُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَنْفِي اَلصِّفَاتِ اَلْخَبَرِيَّةَ، أَوْ اَلصِّفَاتِ مُطْلَقًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: بِلَا كَيْفٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عَلَى اَلْعَرْشِ، لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: بِلَا كَيْفٍ، فَلَوْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ اَلسَّلَفِ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ فِي نَفْسِ اَلْأَمْرِ لَمَا قَالُوا: بِلَا كَيْفٍ.
وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُمْ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. يَقْتَضِي إِبْقَاءَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا جَاءَتْ أَلْفَاظًا دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ، فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَتُهَا مُنْتَفِيَةً لَكَانَ اَلْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: أَمِرُّوا أَلْفَاظَهَا مَعَ اِعْتِقَادِ أَنَّ اَلْمَفْهُومَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ، أَوْ أَمِرُّوا أَلْفَاظَهَا مَعَ اِعْتِقَادِ أَنَّ اَللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يُوصَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ قَدْ أُمِرَّتْ كَمَا جَاءَتْ، وَلَا يُقُالُ حِينَئِذٍ بِلَا كَيْفٍ، إِذْ نَفْيُ اَلْكَيْفِيَّةِ عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتٍ لَغْوٌ مِنْ اَلْقَوْلِ)
}.
هذه الكلمات العظيمات لبعض السلف مثل مالك بن أنس وغيره وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وقبلهم عمر بن عبد العزيز؛ فكان الإمام مالك إذا سُئلَ عن أحاديث الصفات نقل وساق قول عمر بن عبد العزيز، وهذا القول مشهورٌ وذكره البخاري في صحيحه، وهو مُخرَّجٌ في عدد من الكتب، قال: "سَنَّ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوُلَاةُ اَلْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا" يعني: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
قال: "اَلْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اَللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اَللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اَللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اَللَّهِ تَغْيِيرُهَا وَلَا اَلنَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا، مَنْ اِهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنْ اِسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَلَّاهُ اَللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، وهذه الكلمات المباركات من عمر بن عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ- تدلُّ على أمور كثيرة، منها:
- قطع البدع.
- وجوب التَّصديق بما في الكتاب والسنَّة، وعدم رد شيء من ذلك، ومن ذلك نصوص الصفات، ولهذا فإنَّ الإمام مالك كان إذا سُئِلَ عن أحاديث الصفات ذكر هذا القول -رَحِمَهُ اللهُ.
وذكر أيضًا الشيخ ابن تيمية هنا قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن لما سُئِلَ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، كَيْفَ اِسْتَوَى؟ فقال: " اَلِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ"، يعني: معلوم. قال: "وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنْ اَللَّهِ اَلرِّسَالَةُ وَعَلَى اَلرَّسُولِ اَلْبَلَاغُ اَلْمُبِينُ، وَعَلَيْنَا اَلتَّصْدِيقُ"، فرحم الله ربيعة، فهو شيخ الإمام مالك بن أنس.
ونفس الكلام رُويَ عن مالك بن أنس -رَحِمَهُ اللهُ- من عدَّة طرق بهذا المعنى، ولمَّا سأل هذا السائل غضب الإمام مالك وعلاه الرُّحضاء، وقال بعدما أطرق رأسه: "اَلِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، فقوله " وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ" مثل قول ربيعة "وَعَلَيْنَا اَلتَّصْدِيقُ".
يقول مالك: "وَمَا أَرَاكَ إِلَّا مُبْتَدِعًا"، ثم أمر به فأُخرج؛ فهذا كله يدل على طريقة السلف، وأنها مخالفة لطريقة أهل التأويل، ومخالفة لطريقة أهل التَّجهيل.
والشيخ ناقشَ مسألة أنَّ بعض أصحاب مذهب التَّجهيل يقولون: إنَّ هذا تفويض، وإن قولهم "أَمرُّوها كَمَا جَاءَتْ"، يعني: ليس لها معنى.
فيقول الشيخ: لو كان المراد أنَّهم يُؤمنون باللفظ من غيرِ فهمٍ للمعنى لَما قالوا "أَمرُّوها كَمَا جَاءَتْ"، فهي جاءت ألفاظًا عربية لها معنى.
وأهل التَّفويض -وهم في الحقيقة أهل التجهيل- يعلون هذه النُّصوص بمنزلة الكلام الأعجمي الرُّومي أو الفارسي، الذي لا يعرفه العربي، فإذا سمعه لم يدرِ ما هو!
والصواب: أنَّ نصوص الصفات كلام له معنى، ولو كان هذا المعنى فاسدًا لقالوا: أَمرُّوها وأبطلوا المعنى، ولا تعتقدوا ما دلَّت عليه! ولكنَّهم لم يقولوا هذا، بل قالوا: "أَمرُّوها كَمَا جَاءَتْ".
ومَن ينفي العلم بالكيفيَّة إذا لم يفهم شيئًا من اللفظ لا يُحتاج أن يُقال له "بِلَا كَيْف"، فأنت أصلًا ما فهمت شيئًا من النَّص لأنه ليس له معنى، فكيف يُقال لك "بِلَا كَيْف"، وإنَّما يُقال "بِلَا كَيْف" لمَن عقلَ المعنى ويُخشَى عليه من التَّكييف أو التَّمثيل.
فهؤلاء المعطِّلَة هجمَ عليهم التَّمثيل والتَّكيف، وهربوا منه إلى التَّعطيل، فيُقال له: آمن بها بلا كَيف، فلا تُكيِّف ولا تُمثِّل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى اَلْأَثْرَمُ فِي اَلسُّنَّةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي اَلْإِبَانَةِ، وَأَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ وَغَيْرُهُمْ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ- وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ اَلْمَدِينَةِ اَلثَّلَاثَةِ اَلَّذِينَ هُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ- وَقَدْ سُئِلَ فِيمَا جَحَدَتْ بِهِ اَلْجَهْمِيَّةُ: "أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِيمَا تَتَابَعَتْ اَلْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ خَالَفَهَا،فِي صِفَةِ اَلرَّبِّ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ اَلْوَصْفَ وَالتَّقْدِيرَ وَكَّلَتْ اَلْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ، وَانْحَصَرَتْ اَلْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قُدْرَتِهِ، وَرَدَّتْ عَظَمَتُهُ اَلْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَهِيَ حَسِيرَةٌ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خُلِقَ بِالتَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ "كَيْفَ" لِمَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ، فَأَمَّا اَلَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، وَلَمْ يَزَلْ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، فَإِنَّهُ لا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ، وَكَيْفَ يُعْرَفُ قَدْرُ مَنْ لَمْ يَبْدَأْ وَمَنْ لَمْ يَمُتْ، وَلَا يَبْلَى وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى، يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ عَلَى أَنَّهُ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ لَا حَقَّ أَحَقَّ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ أَبْيَنَ مِنْهُ. اَلدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ اَلْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ أَصْغَرِ خَلْقِهِ، لاَ تَكَادُ تَرَاهُ صِغَرًا يَحُولُ وَيَزُولُ، وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ، لَمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ أَعْضَلُ بِكَ وَأَخْفَى عَلَيْكَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ اَلسَّادَاتِ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
اِعْرِفْ-رَحِمَكَ اَللَّهُ- غِنَاكَ عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ اَلرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وُصِفَ مِنْهَا، إِذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وُصِفَ فَمَا تَكَلُّفُكَ عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، هَلْ تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ تَنْزَجِرُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ.
فَأَمَّا اَلَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ اَلرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَقَدْ ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ [الأنعام:71]، فَصَارَ يَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ اَلرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مَنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا فَعَمِيَ عَنْ اَلْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ، وَجَحَدَ مَا سَمَّى اَلرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِصَمْتِ اَلرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمَّ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ اَلشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اَلرَّبِّ-عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:22ـ23] فَقَالَ: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، فَجَحَدَ - وَاَللَّهِ - أَفْضَلَ كَرَامَةِ اَللَّهِ اَلَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنْ اَلنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَنَظْرَتَهُ إِيَّاهُمْ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر:55]. وَقَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ يَنْضُرُونَ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَةَ اَللَّهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ اَلضَّالَّةِ اَلْمُضِلَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا.
وَقَالَ اَلْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اَلشَّمْسِ دُونَهَا سَحَابٌ؟». قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اَلْقَمَرِ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ دُونَهُ سَحَابٌ؟». قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ». وَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْتَلِئُ اَلنَّارُ حَتَّى يَضَعَ اَلْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ قَطْ قَطْ، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ».
وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ-رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ- «لَقَدْ ضَحِكَ اَللَّهُ مِمَّا فَعَلْتَ بِضَيْفِك اَلْبَارِحَةَ».
وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: « إِنَّ اَللَّهَ لَيَضْحَكُ مِنْ أَزَلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إِجَابَتِكُمْ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ اَلْعَرَبِ: إِنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا، فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَمْ نُحْصِهِ. وَقَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، وَقَالَ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَ﴾ [الطور:48]، وَقَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:39]، وَقَالَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:75]، وَقَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:67]
فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إِلَّا صَغُرَ نَظِيرُهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ، إِنَّ ذَلِكَ اَلَّذِي أَلْقَى فِي رَوْعِهِمْ، وَخَلَقَ عَلَى مَعْرِفَةِ قُلُوبِهِمْ، فَمَا وَصَفَ اَللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ r -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ، وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ-لَا هَذَا وَلَا هَذَا-لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ.
اِعْلَمْ رَحِمَكِ اَللَّهُ-أَنَّ اَلْعِصْمَةَ فِي اَلدِّينِ أَنْ تَنْتَهِيَ فِي اَلدِّينِ حَيْثُ اِنْتَهَى بِكَ وَلَا تُجَاوِزْ مَا حُدَّ لَكَ فَإِنَّهُ مِنْ قِوَامِ اَلدِّينِ مَعْرِفَةُ اَلْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارُ اَلْمُنْكَرِ، فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ اَلْمَعْرِفَةُ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ اَلْأَفْئِدَةُ وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي اَلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَوَارَثَ عِلْمَهُ اَلْأُمَّةُ، فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّكَ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ عَيْبًا، وَلَا تُكَلِّفَنَّ لِمَا وَصَفَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا.
وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُك، وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّكَ وَلَا فِي اَلْحَدِيثِ عَنْ نَبِيِّكَ-مِنْ ذِكْرِ رَبِّكَ- فَلَا تَتَكَلَّفَنَّ عِلْمَهُ بِعَقْلِك، وَلَا تَصِفُهُ بِلِسَانِكَ وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ اَلرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ كَإِنْكَارِك مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْتَ مَا جَحَدَ اَلْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ اَلْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا.
فَقَدْ-وَاَللَّهِ- عَزَّ اَلْمُسْلِمُونَ اَلَّذِينَ يَعْرِفُونَ اَلْمَعْرُوفَ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ يُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ اَلْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرَ، وَيَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اَللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ، مَا يَبْلُغُهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ، فَمَا مَرِضَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا وَتَسْمِيَتِهِ قَلْبُ مُسْلِمٍ، وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قُدْرَةٍ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ اَلرَّبِّ مُؤْمِنٌ.
وَمَا ذُكِرَ عَنْ اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمَّى وَمَا وَصَفَ اَلرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ.
وَالرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ-اَلْوَاقِفُونَ حَيْثُ اِنْتَهَى عِلْمُهُمْ، اَلْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، اَلتَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا- لَا يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سَمَّى مِنْهَا جَحْدًا، وَلَا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بَمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا، لِأَنَّ اَلْحَقَّ تَرْكُ مَا تَرَكَ وَتَسْمِيَةُ مَا سَمَّى ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرً﴾ [النساء:115]، وَهَبَ اللهُ لنا ولكم حُكْمًا، وألحَقَنا بالصالحين.
وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ اِبْنِ الْمَاجِشُونَ الْإِمَام، فَتَدَبَّرْهُ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَثْبَتَ اَلصِّفَاتِ وَنَفَى عِلْمَ اَلْكَيْفِيَّةِ مُوَافِقًا لِغَيْرِهِ مِنْ اَلْأَئِمَّةِ وَكَيْفَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَى اَلصِّفَاتِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهَا كَذَا وَكَذَا كَمَا تَقُولُهُ اَلْجَهْمِيَّةُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ عَرَضًا فَيَكُونُ)
}.
هذا النَّص الطَّويل مهمٌّ جدًّا، فالرجل الذي تكلَّم بهذا النَّص هو عبد العزيز بن ماجشون توفي سنة 164 للهجرة، وكان يُقال: لا يُفتي في المدينة إلَّا مالك وابن ماجشون، من شدَّة علمه وإمامته، وثقة الناس في دينه.
وظهور مقالة الجهميَّة كان في ذلك الوقت، بل قبله بقليل، فجهم قتل سنة 128 هـ، وبينه وبين وفاة ابن ماجشون 36 سنة، ففي هذه الفترة حدثت هذه الأقوال السيئة.
وهذا القول الطويل رواه ابن بطَّة في "الإبانة"، والأثرم في "السُّنَّة"، وهذا يُبيِّن لك طريقة السَّلف وطريقة أهل الكلام والجهميَّة، ولو وقفنا على كل جملةٍ لطالَ بنا الحديث، ولكن المراد من هذا النَّص الطويل: الإنكار على مَن تكلم في الصفات بإنكارها، أو إزالتها، أو عدم الإيمان بها، بيان طريقة السلف وهي إثبات الصفات ونفي الكيفيَّة، ومن باب أولى نفي التَّمثيل.
نأخذ بعض الكلمات:
قوله: (أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ)، فكأنَّ هذا جواب على سؤال.
قال: (فِيمَا تَتَابَعَتْ اَلْجَهْمِيَّةُ)، فبدأت مقالة الجهميَّة تنتشر حتى وصل خبرها إلى المدينة.
قال: (فِيمَا تَتَابَعَتْ اَلْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ خَالَفَهَا، فِي صِفَةِ اَلرَّبِّ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ اَلْوَصْفَ...)، إلى أن قال: (اِعْرِفْ-رَحِمَكَ اَللَّهُ- غِنَاكَ عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ اَلرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وُصِفَ مِنْهَ)، أي: حتَّى ما وصفه الله أنت تعجز عن معرفة كيفيتها.
قال: (فَأَمَّا اَلَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ اَلرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَقَدْ ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ [الأنعام:71])، فهذه هي طريقة جهم وأمثاله.
ثم ذكر مسألة الرؤية، وأنَّهم جحدوا الرؤية، وهذا من أشهر ما قالته الجهميَّة والمعتزلة.
ثم تكلَّم عن الصفات، وأوردَ أحاديث الصفات مقرًّا لها، ولم يقل إنَّ هذه الأحاديث باطلة، أو تدل على التَّجسيم؛ بل أثبتها، وبعد ذلك أورد مجموعة من الآيات، ثم يقول: انتهِ حيثُ دلَّك الشَّرع وحُدَّ لك ولا تتجاوزه، قال: (فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّكَ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ عَيْبًا، وَلَا تُكَلِّفَنَّ لِمَا وَصَفَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا.
وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُك، وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّكَ وَلَا فِي اَلْحَدِيثِ عَنْ نَبِيِّكَ-مِنْ ذِكْرِ رَبِّكَ- فَلَا تَتَكَلَّفَنَّ عِلْمَهُ بِعَقْلِك)
، أي: لا تتكلَّم فيه واصمت.
فهذا هو معنى كلامه -رَحِمَهُ اللهُ- وكله يُبيِّن إثبات الصفات وعدم العلم بالكيفيَّات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي كِتَابِ " اَلْفِقْهُ اَلْأَكْبَرُ " اَلْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ اَلَّذِي رَوَوْهُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ " اَلْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ اَلْبَلْخِيِّ " قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ اَلْفِقْهِ اَلْأَكْبَرِ فَقَالَ: لَا تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبٍ، وَلَا تَنْفِ أَحَدًا بِهِ مِنْ اَلْإِيمَانِ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ اَلْمُنْكَرِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَلَا تَتَبَرَّأْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ r وَلَا تُوَالِي أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، وَأَنْ تَرُدَّ أَمْرَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إِلَى اَللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "اَلْفِقْهُ اَلْأَكْبَرُ فِي اَلدِّينِ خَيْرٌ مِنْ اَلْفِقْهِ فِي اَلْعِلْمِ، وَلَأَنْ يَفْقَهَ اَلرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ اَلْعِلْمَ اَلْكَثِيرَ" اهـ.
قَالَ أَبُو مُطِيعٍ: قُلْتُ: "أَخْبِرْنِي عَنْ أَفْضَلِ اَلْفِقْهِ قَالَ: تَعَلُّمُ اَلرَّجُلِ اَلْإِيمَانَ، وَالشَّرَائِعَ وَالسُّنَنَ، وَالْحُدُودَ، وَاخْتِلَافَ اَلْأَئِمَّةِ"، وَذَكَرَ مَسَائِلَ اَلْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ اَلْقَدَرِ، وَالرَّدَّ عَلَى اَلْقَدَرِيَّةِ بِكَلَامٍ حَسَنٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ.
ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ اَلْمُنْكَرِ فَيَتْبَعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ عَلَى اَلْجَمَاعَةِ هَلْ تَرَى ذَلِكَ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَلِمَ. وَقَدْ أَمَرَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ اَلْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ، قَالَ: كَذَلِكَ وَلَكِنْ مَا يُفْسِدُونَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُونَ مِنْ سَفْكِ اَلدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالِ اَلْحَرَامِ.
قَالَ: وَذَكَرَ اَلْكَلَامَ فِي قِتَالِ اَلْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَّنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ فَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ â ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
قُلْتُ: فَإِنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوَى، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي أَلْعَرْشُ فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي اَلسَّمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينِهِ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ- وَفِي لَفْظٍ- سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ، قَالَ: قَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي أَلْعَرْشُ فِي اَلْأَرْضِ أَوْ فِي اَلسَّمَاءِ، قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي اَلسَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ.
فَفِي هَذَا اَلْكَلَامِ اَلْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَفَّرَ اَلْوَاقِفَ اَلَّذِي يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَكُونُ اَلْجَاحِدُ اَلنَّافِي اَلَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فِي اَلسَّمَاءِ أَوْ لَيْسَ فِي اَلْأَرْضِ وَلَا فِي اَلسَّمَاءِ وَاحْتَجَّ عَلَى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، قَالَ وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، يُبَيِّنُ أَنَّ اَللَّهَ فَوْقَ اَلسَّمَاوَاتِ، فَوْقَ اَلْعَرْشِ، وَأَنَّ اَلِاسْتِوَاءَ عَلَى اَلْعَرْشِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اَللَّهَ نَفْسَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوَى، وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ اَلْعَرْشِ فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي اَلسَّمَاءِ أَمْ فِي اَلْأَرْضِ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي اَلسَّمَاءِ لِأَنَّ اَللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاءِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ اَلْحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، فَإِنَّ اَلْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى اَلْإِقْرَارِ بِأَنَّ اَللَّهَ فِي اَلْعُلُوِّ، وَعَلَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ، وَقَدْ جَاءَ اَللَّفْظُ صَرِيحًا عَنْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي اَلسَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَرَوَى هَذَا اَللَّفْظَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ شَيْخُ اَلْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ اَلْأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِ " اَلْفَارُوقِ")
}.
هنا ينقل ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- كلمات عن الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- وهذه الكلمات واضحة في إثبات الصفات، وإثبات علو الله -عَزَّ وَجَلَّ- من عدَّة أوجه، فإنَّه سُئِلَ عمَّن قال: لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض. فقال الإمام: كفرَ.
واحتجَّ أبو حنيفة على هذا بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5]، ثم قال أبو حنيفة: "وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ".
ثم سُئل أبو حنيفة عن شخصٍ آخر يقول: أنا أقول ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، ولكن لا أدري العرش فوق أم أسفل في الأرض؟ فقال أيضًا: كفرَ، لأنَّه أنكرَ أن يكون في السًّماء، ثم ذكر أمرًا فطريًّا، وهو أنَّه يُدعَى من أعلى لا من أسفل، فذكر حجةً شرعيَّة وذكر حجَّة فطريَّة عقليَّة.
وكلام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- المنقول عنه في "الفقه الأكبر" طويلٌ، ومن ضمن هذا الكلام: الإنكار على الخوارج، كما أنكر على الجهميَّة، وأنكر على غيرهم، وأيضًا فيه مسائل في الرَّد على القدريَّة.
فلما قيل له: "فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ اَلْمُنْكَرِ فَيَتْبَعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ عَلَى اَلْجَمَاعَةِ هَلْ تَرَى ذَلِكَ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَلِمَ. وَقَدْ أَمَرَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ اَلْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ، قَالَ: كَذَلِكَ وَلَكِنْ مَا يُفْسِدُونَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُونَ".
والخلاصة: أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية أراد الاستفادة من هذا النَّص الطَّويل في بيان بطلان مذهب أهل التَّأويل، وأنَّ الصَّواب هو مع طريقة السَّلف الصَّالح، وفي هذا بيان أنَّ أبا حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- موافقٌ للسَّلف الصَّالح في إثبات الصفات والرَّد على الجهميَّة والمعطِّلة.
هذا ما تيسَّر في هذا الدرس، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما تفضَّلتم، والشكر موصل لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلقاكم في حلقاتٍ قادمة من برنامجكم البناء العلمي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك