الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2972 13
الدرس السادس

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نكمل وإيَّاكم ما بدأناه في شرح الفتوى الحمويَّة الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الإخوة جميعًا.
{في هذه الحلقة نكمل ما وصلنا إليه عند قول المؤلف: (وَكَلَامُ اَلسَّلَفِ فِي هَذَا اَلْبَابِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، مِثْلَ كِتَابِ" اَلسُّنَنِ" لِلَّالَكَائِيِّ، و"اَلْإِبَانَةِ" لِابْنِ بَطَّةَ، و"اَلسُّنَّةِ" لِأَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، و"اَلْأُصُولِ" لِأَبِي عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيِّ، وَكَلَامِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرّ، و" اَلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " لِلْبَيْهَقِيِّ، وَقَبْلَ ذَلِكَ اَلسُّنَّةُ" لِلطَّبَرَانِيِّ، وَلِأَبِي اَلشَّيْخِ اَلْأَصْبَهَانِيِّ وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَلِأَبِي أَحْمَدَ اَلْعَسَّالِ اَلْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَبْلَ ذَلِكَ" اَلسُّنَّةُ" لِلْخَلَّالِ، و "اَلتَّوْحِيدُ" لِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَكَلَامُ أَبِي اَلْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَالرَّدُّ عَلَى اَلْجَهْمِيَّةِ لِجَمَاعَةٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ" اَلسُّنَّةُ" لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ و"اَلسُّنَّةُ" لِأَبِي بَكْرٍ بْنِ اَلْأَثْرَمِ، و"اَلسُّنَّةُ" لِحَنْبَلٍ، وَلِلْمَرْوَذِيِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ اَلسِّجِسْتَانِيِّ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، و" اَلسُّنَّةُ" لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَكِتَابُ" اَلرَّدِّ عَلَى اَلْجَهْمِيَّةِ" لَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيِّ شَيْخِ اَلْبُخَارِيِّ، وَكِتَابُ" خَلْقِ أَفْعَالِ اَلْعِبَادِ" لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ اَلْبُخَارِيِّ، وَكِتَابُ" اَلرَّدِّ عَلَى اَلْجَهْمِيَّةِ" لِعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلدَّارِمِيِّ، وَكَلَامُ عبدالعزيز اَلْمَكِّيِّ صَاحِبِ اَلْحَيْدَةِ" فِي اَلرَّدِّ عَلَى اَلْجَهْمِيَّةِ، وَكَلَامُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ اَلْخُزَاعِيِّ، وَكَلَامُ اَلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى اَلنَّيْسَابُورِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ، وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ اَلْمُبَارَكِ وَأَمْثَالُهُ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ.
وَعِنْدَنَا مِنْ اَلدَّلَائِلِ اَلسَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا لاَ يَتَّسِعُ هَذَا اَلْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اَلْمُتَكَلِّمِينَ لَهُمْ شُبُهَاتٌ مَوْجُودَةٌ، لَكِنْ لا َيُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي اَلْفَتْوَى، فَمَنْ نَظَرَ فِيهَا وَأَرَادَ إِبَانَةَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ اَلشُّبَهِ فَإِنَّهُ يَسِيرُ.
وَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ-مَقَالَةِ اَلتَّعْطِيلِ وَالتَّأْوِيلِ- مَأْخُوذًا عَنْ تَلَامِذَةِ اَلْمُشْرِكِينَ، وَالصَّابِئِينَ، وَالْيَهُودِ، فَكَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُ مُؤْمِنٍ بَلْ نَفْسُ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ سُبُلَ هَؤُلَاءِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، وَيَدَعَ سَبِيلَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ اَلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بيَّنَ فيما سبقَ من هذه الفتوى الحمويَّة الكبرى مرجع أهل البدع وسندهم الذي يُبيِّن حيرتهم وانحرافهم، ويُبيِّنُ أيضًا الأثر السيء والسلبي للعقيدة الفاسدة التي ورثوها عن المشركين والصابئين والفلاسفة المنحرفين.
ثم بعدَ ذلك وضَّحَ أنَّ التَّأويلات الموجودة في كتب المتأخِّرين هي موافقة للتَّأويلات الموجودة فيما نُقل عن بشر المريسي الذي أطبق السلف على ذمِّه وتضليله، وبعضهم كفَّره، وهذا من الأدلة الكثيرة القويَّة في بيان فساد منهج المتكلمين، وأنهم إذا دافعوا عن أنفسهم بقولهم: نحن نختلف عن الجهميَّة والمعتزلة وهم المتكلِّمون؛ نقول: لا، إنَّما يُقرَّر في كتبكم وكتب مَن تحبُّونهم مماثلٌ لما قرَّره بشر المريسي الذي أجمع الأئمة على تليله، وهو من زعماء المعتزلة الذين أنتم تقولون إنكم تختلفون معهم.
وبعد ذلك قال الشيخ: (وَكَلَامُ اَلسَّلَفِ فِي هَذَا اَلْبَابِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ)، هذا جواب على سؤال: أين نجد كلام السلف.
فقال الشيخ: لا يُمكن أن يُذكر هاهنا منها إلَّا القليل.
وذكر الشيخ هنا مجموعة من الكتب، والحقيقة أن الكتب في هذا الباب كثيرة، ولكن يجب أن تعرف لماذا أُلِّفَت الكتب، وسبب تأليف الكتب، ومتى وُضِعَت هذه الكتب، فإنَّه قبل حدوث مقالة نفي الصِّفات لم يكن يخطر ببال أحد من الصحابة والتابعين أن أحدًا يقول مثل هذا؛ ولهذا لم يُنقل عنهم الرد على المعطِّلة ونُفاة الصِّفات؛ لأنَّهم لم يُوجدوا ولم يُخلَقوا، وإنَّما حدثت هذه المقالة بعدَ المائة وعشرين وما بعدها، وبدأت تنتشر، وظهرت كلمات الأئمة والإنكار عليهم، وحكاها كبار أئمة السنة، كالبخاري والترمذي، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، فهم الذين سمعوا ورأوا، حتى أنَّ وكيع -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: "مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ فَلْيَحْتَسِبْ فِي إِظْهَارِ هَذَا الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ لِأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ يُنْكِرُونَ".
فظهرت هذه الأقوال للسلف لَمَّا ظهرت البدعة، وهذا هو غالبًا سبب تأليف الكتب عند أهل العلم، وهو وجود بعض البدع، فيردونها بهذه الكتب، وتُحفَظ عنهم المقولات.
ذكر الشيخ أمثلة، منها:
- كتاب "السُّنَّة" للَّاكائي، وهو كتاب مطبوع بعنوان: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للَّاكائي، في أربع مجلدات، وهو كتاب جميل مفيد ونافع.
ومن مزايا هذا الكتاب:
* أنَّ الأئمة نقلوا عقيدته، فالبخاري نقل عقيدته كاملة، والشافعي.
* ينقل أقوال العلماء في المسائل، مثل: مَن ينفي الصفات، مَن ينفي العلو، مَن ينفي أنَّ القرآن كلام الله، وهكذا..
- كتاب "الإبانة" لابن بطة العكبري، وهذا مطبوع -ولله الحمد- ومتداول.
- كتاب "السُّنَّة" لأبي ذر الهروي، وقد نقل منه الشيخ، وفيما أعلم أنه ليس بموجود كاملًا، ولكن الشيخ حفظ منه في بعض مؤلفاته.
وهناك كتب ليست موجودة الآن، لكن محفوظة في كتب أخرى، مثل كتاب "التَّنبيه والرَّد على أهل الأهواء والبدع" للطلمنكي الشافعي، وهذا الكتاب حفظ لنا أجزاء مهمَّة من كتاب "الاستقامة" لخُشَيْش بن أصرم النسائي، وخُشَيْش بن أصْرَم النسائي توفي سنة 253 للهجرة، قريب من وفاة البخاري، وهو من علماء السلف المتقدمين، ومشهود له بالإمامة، لكن كتابه "الاستقامة" مفقود، ولكن كتاب "التنبيه والرد" للطلمنكي حفظ أجزاءً من هذا الكتاب، ومثل كتاب أبي ذر الهروي حُفِظَ لنا منه ما نقله العلماء.
والشيء بالشيء يُذكر؛ فهناك كتب كثيرة مفقودة، لا توجد لها مخطوطات، ولكن موجودة في كتب أخرى، مثل كتاب: "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" نقل رسالة للحسن بن أيوب، والحسن بن أيوب ردَّ على أخيه علي بن أيوب وهو من النصارى، والحسن كان من النصارى فأسلم، فردَّ على النصارى في هذه الرسالة في حدود 60 صفحة من المطبوعات، رسالة كاملة حفظها ابن تيمية في كتابه.
• كتاب "الأصول" لأبي عمرو الطلمنكي، وهذا لا أعلم عنه.
• كتاب "التمهيد" و"الاستذكار"، لابن عبد البر، وهو من أئمَّة المالكيَّة.
• كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي، وهو كتاب مطبوع، والبيهقي من أئمة الشافعية.
• كتاب "السنَّة" للطبراني.
• كتاب السُّنَّة" لأبي عبد الله بن منده.
• كتاب السُّنَّة" لأبي الشيخ الأصبهاني.
• كتاب السُّنَّة" لأبي العسال الأصبهاني.
• كتاب السُّنَّة" للخلَّال، وهو مطبوع ومحقق في سبعة أجزاء.
• كتاب "التَّوحيد" لابن خزيمة، وهو مطبوع ومحقَّق.
ثم قال الشيخ: (وَكَلَامُ أَبِي اَلْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ)، ما قال: كتاب؛ لأنه منقول له كلام.
وكتاب "الرَّد على الجهمية" لجماعة، فهناك عدد من أهل العلم ألَّفوا كتبًا بعنوان: "الرَّد على الجهميَّة"، مثل:
* كتاب "الرد على الجهمية والزَّنادقة فيما شكَّت فيه من تأويل القرآن" لأحمد بن حنبل، وهذا كتابٌ عظيمٌ محقَّق بتحقيق الدكتور دغش بن شديد العجمي -جزاه الله خيرًا- وهو تحقيق بديع ومفيد.
* كتاب "خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التَّعطيل".
* في بعض نُسَخ صحيح البخاري كتاب "التوحيد والرد على الجهميَّة".
* كتاب "الرد على الجهمية" للجعفي -شيخ البخاري.
- كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد بن حنبل.
- كتاب "السنن" لأبي داود السجستاني، ذكر "كتاب السنة" في المجلد الأخير.
- مصنَّف أبي شيبة، وله كتاب مستقل أيضًا.
- كتاب "السنة" لأبي بكر بن عاصم.
- كتاب "الرد على الجهمية" لعثمان بن سعيد الدارمي، وله كتاب آخر "الرد على بشر المريسي".
- كتاب "الحيدة" لأبي عبد العزيز المكِّي، وبعض الناس يشككون فيه، وذكر ابن تيمية وأهل العلم له يدل على ثبوته.
ونعيم بن حماد الخزاعي -شيخ البخاري- كان جهميًّا ضالًّا، فهداه الله، وصار من أشد الناس على الجهميَّة، فعذَّبوه ونكَّلوا به، حتى استشهد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ولم يُصلِّ عليه أحد، وتوجَّع العلماء لِما حلَّ به، وترحَّموا على نعيم بن حماد، وذمُّوا المعتزلة والجهميَّة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَلَامُ اَلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ)، منثور في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة، وفيما نقله أصحابه من المسائل عنه.
وكلام إسحاق بن راهويه، وهو مشهور، ومن فقهاء أهل الحديث، وكذلك يحيى بن سعيد، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وعبد الله بن المبارك، وأمثالهم.
إذًا؛ أسماء الكتب وأسماء العلماء كثير جدًّا، ولهذا يقول الشيخ: (وَعِنْدَنَا مِنْ اَلدَّلَائِلِ اَلسَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا لاَ يَتَّسِعُ هَذَا اَلْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ).
ثم ذكر الشيخ مسألة، فيقول: (وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اَلْمُتَكَلِّمِينَ لَهُمْ شُبُهَاتٌ مَوْجُودَةٌ، لَكِنْ لا َيُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي اَلْفَتْوَى)؛ لأن الفتوى هذه التي نقرأها الآن كاملة من أولها لآخرها كُتبت في جلسة واحدة بين الظهر والعصر، فيقول الشيخ: إن الوقت لا يتسع لأن أرد على الشبهات التي يُثيرها هؤلاء، ولكن إذا احتيج إلى ذلك بيَّنته، وقد فعل ذلك -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في مُؤلفات أخرى.
وأهم شيء أن تعرف: أنَّ هذا الطريق الذي عليه المتكلمون طريق فاسد وغير صحيح، والطريق الذي عليه أهل السنة والجماعة، السلفيون الذين ساروا على منهاج الصحابة والتابعين؛ هذا هو الطريق الصحيح، فهذا هو الذي يجب على المسلم أن يسلكه.
{فضيلة الشيخ؛ ما سبب كثرة المؤلفات حول الرد على الجهميَّة؟ وهل يدل ذلك على شيءٍ معيَّن؟}.
هذا يدل على أن الله -عَزَّ وَجلَّ- ينصر هذا الدين ويؤيِّده، ويدل على أنَّ الدين محفوظ، ويدل على أن أئمة السنة قاموا بما أوجب الله عليهم، فرحمهم الله، وجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
وهذا يدل على دلالة أخرى باللازم على أنَّ هذه البدع انتشرت في المائة الثانية، وظهرت ظهورًا كبيرًا في المائة الثالثة، وهو زمان دولة المعتزلة، فظهروا ظهورًا بيِّنًا.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ: اَلْقَوْلُ اَلشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا اَلْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اَللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
ثُمَّ اَلْقَوْلُ اَلشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا اَلْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اَللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ اَلسَّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ لاَ يُتَجَاوَزُ اَلْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ.
قَالَ اَلْإِمَامُ أَحْمَدُ-رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: "لا َيُوصَفُ اَللَّهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُتَجَاوَزُ اَلْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ".
وَمَذْهَبُ اَلسَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اَللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا وُصِفَ اَللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ لُغَزٌ وَلَا أَحَاجِي بَلْ مَعْنَاهُ يُعْرَفُ مِنْ حَيْثُ يُعْرَفُ مَقْصُودُ اَلْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ اَلْمُتَكَلِّمُ أَعْلَمَ اَلْخَلْقِ بِمَا يَقُولُ، وَأَفْصَحَ اَلْخَلْقِ فِي بَيَانِ اَلْعِلْمِ، وَأَنْصَحَ اَلْخَلْقِ فِي اَلْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ اَلْمُقَدَّسَةِ اَلْمَذْكُورَةِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، فَكَمَا يُتَيَقَّنُ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَلَهُ أَفْعَالٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَكَذَلِكَ لَهُ صِفَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَهُوَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٍ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا فَإِنَّ اَللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ اَلَّذِي لاَ غَايَةَ فَوْقَهُ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اَلْحُدُوثُ، لِامْتِنَاعِ اَلْعَدَمِ عَلَيْهِ، وَاسْتِلْزَامُ اَلْحُدُوثِ، سَابِقُهُ اَلْعَدَمُ، وَلِافْتِقَارِ اَلْمُحْدَثِ إِلَى مُحْدِثٍ، وَلِوُجُوبِ وَجُودِهِ بِنَفْسِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمَذْهَبُ اَلسَّلَفِ بَيْنَ اَلتَّعْطِيلِ وَبَيْنَ اَلتَّمْثِيلِ، فَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ اَللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، كَمَا لَا يُمَثِّلُونَ ذَاتَهُ بِذَاتِ خَلْقِهِ، وَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُعَطِّلُونَ أَسْمَائَهُ اَلْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ اَلْعُلَى، وَيُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ)
}
يقول -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ: اَلْقَوْلُ اَلشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا اَلْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اَللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
ثُمَّ اَلْقَوْلُ اَلشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا اَلْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اَللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ اَلسَّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ لاَ يُتَجَاوَزُ اَلْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ)
.
يعني: القاعدة التي تضم جميع أفراد هذا الموضوع وهذا الباب أنَّنا نصف الله -عَزَّ وَجلَّ- بما وصف به نفسه، ونصف الله -عَزَّ وَجلَّ- بما وصفه به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأحاديث الصِّحاح الثابتة التي تلقَّتها الأمَّة بالقبول، وكذلك بما قاله واعتقده السابقون الأولون، ولا يُمكن أن السابقين الأولين يتجاوزون القرآن والحديث، فإن المصدر للسابقين الأولين هو القرآن والحديث، ولكنهم أعلم باللغة وبالمراد، فكلامهم وإجماعهم حق، ولهذا لا نتجاوز القرآن والحديث، ونسير على منهاجهم.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قَالَ اَلْإِمَامُ أَحْمَدُ-رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: "لا َيُوصَفُ اَللَّهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُتَجَاوَزُ اَلْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ")، وكفى بهما هدايةً وتوفيقًا.
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَذْهَبُ اَلسَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اَللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ).
هذه محاذير أربعة يجب على المتحدِّث فيما يصف الله -عَزَّ وَجلَّ- وفيما يُضاف إلى الله أن يحذر منها؛ لأنَّ القرآن والسنَّة قد حذَّروا من هذه الأربعة، لأنَّ هذه أوديةُ ضلالة:
الأول: التَّحريف، قال الله -عَزَّ وَجلَّ- عن كفرة اليهود: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: 46].
الثاني: التَّعطيل، وهو الإنكار والتَّكذيب، فيقول: إنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- ليس سميعًا، ولا يسمع، وأن الله لم يستوِ على العرش، ونحو ذلك.
الثالث: التَّكييف، وهو التَّخيُّل بالذِّهن، فيتخيَّل بذهنه ويتصوَّر بقلبه أشياء، ويقول: إن الله على هذا النَّحو الذي تخيَّلته، وهذا من أعظم المحرمات ومن القول على الله بغير علم، والله -عَزَّ وَجلَّ- يقول: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾ [طه: 110]، ولما ذكر المحرمات قال: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، فهو قولٌ على الله بغير علم، ولا تُحيط العقول بالله -عَزَّ وَجلَّ- فالتَّكييف باطل وضلال.
الرابع: التَّمثيل، وهو أن يجعل إثبات صفات لله -عَزَّ وَجلَّ- مماثلة لصفات المخلوقين، أو يجعل المخلوقين فيهم من العظمة والتَّقديس مثل ما لله، فيقول: إن المخلوق يعلم الغيب، ويقدر على إجابة الدعاء، فهذا جعل المخلوق مثل الله، والله -عَزَّ وَجلَّ- هو الذي انفرد بذلك، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
فهذه هي طريقة السلف، أنَّهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غير هذه المحاذير الأربعة: التَّحريف، والتَّعطيل، والتَّكييف، والتَّمثيل؛ ولابد أن يعرفها طالب العلم وكل مسلم، حتى يحذر منها.
فلا يُحرِّف ويأتي عند قول الله -عَزَّ وَجلَّ- ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ويقول: لم يستوِ؛ بل استولى ومَلَك؛ فهذا تحريف معنوي، وهناك تحريف لفظي وهو قليل في الأمَّة، ويُوجَد عند غُلاة الرافضة والباطنيَّة، وهؤلاء ينكشفون بسهولة؛ لأنَّ القرآن محفوظٌ، وكان التَّحريف اللفظي موجودًا عند اليهود، فكانوا يُحرفون التَّوراة.
وأمَّا التَّعطيل فهو: الإنكار وعدم الإثبات، فيقول: الله لا يُوصَف بأنَّه يرحم، ولا يُوصَف بأنه استوى على العرش، ولا يوصَف بأنَّه ينزل إلى سماء الدنيا.
وأمَّا التَّكييف فهو: أن يتخيَّل ويتصوَّر، وهذا لا يجوز، فقِفْ وأَمسكْ واستغفرْ ولا تخُض في هذا، لأنَّ هذا لا يُمكن أن تحيط به، فلا تقل على الله ما لا تعلم، ولا تفتري على الله الكذب.
والتَّكييف محرَّمٌ، ولهذا قال السلف: "أَمِرُّوا الصفات كما جاءت من غير "كيف" "، فلا تُكيِّف، لأنَّ هذا قولٌ على الله بغير علم، والعقل ينحسر وأحقر وأذل من أن يُحيط بالله -عَزَّ وَجلَّ.
والتَّمثيل هو: أن يُمثِّل الله بخلقه، فيقول: يدُ الله مثل يد الإنسان؛ فمن قال هذا فهو كافر.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا وُصِفَ اَللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ لُغَزٌ وَلَا أَحَاجِي).
هذا ردٌّ على المفوِّضة الذين يقولون: لا ندري ما معناها، فيقولون في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَ﴾ [المجادلة: 1]، لا ندري معنى "يسمع" ونفوض هذا.
ويقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا...»، فيقولون: لا ندري ما هذا!
فهذا ليس لغزًا ولا أحاجي؛ قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَلْ مَعْنَاهُ يُعْرَفُ مِنْ حَيْثُ يُعْرَفُ مَقْصُودُ اَلْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ اَلْمُتَكَلِّمُ أَعْلَمَ اَلْخَلْقِ بِمَا يَقُولُ، وَأَفْصَحَ اَلْخَلْقِ فِي بَيَانِ اَلْعِلْمِ، وَأَنْصَحَ اَلْخَلْقِ فِي اَلْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ)، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن تمام ذلك: أن نفهم ونعلم أنَّ ما دلَّ عليه الكتاب والسنة وهو طريقة السلف؛ أنَّ الله ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة، ولا في أفعاله.
وذكر الشيخ أصل عند العلماء، وهو أن القول في الصفات كالقول في الذات، فقال: (فَكَمَا يُتَيَقَّنُ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ)، فلا تقل هذا مجاز، ولا تقل إن الله ليس له ذات وليس له وجود؛ وكذلك له صفات حقيقيَّة وأفعال حقيقيَّة، وكما أنَّ ذات الله ليس كمثلها شيء فكذلك صفاته ليس كمثلها شيء، ولا تخُض في ذلك بالتَّكييف وبالتَّخيُّل، فهذا محرَّمٌ، ولا تُمثِّل، ولا تعطِّل وتُنكر.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا فَإِنَّ اَللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ حَقِيقَةً)، الحدوث يعني المخلوق، فالله تعالى هو الخالق، وصفاته قائمة -سبحانه وتعالى- وليس منها شيء مخلوق.
قال: (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ اَلَّذِي لاَ غَايَةَ فَوْقَهُ)، يعني: أعلا الكمال، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: 180]، وقال: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [الروم: 27].
قال: (وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اَلْحُدُوثُ)، يعني: يمتنع أنه مخلوق، لأنَّ الله هو الخالق.
قال: (لِامْتِنَاعِ اَلْعَدَمِ عَلَيْهِ، وَاسْتِلْزَامُ اَلْحُدُوثِ، سَابِقُهُ اَلْعَدَمُ)، فهذا ممتنع، لأنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- هو الحي الذي لا يموت، وهو الأول والآخر.
قال: (وَلِافْتِقَارِ اَلْمُحْدَثِ إِلَى مُحْدِثٍ)، لو جاز عليه الحدوث لافتقر إلى غيره، فهذا كله باطل، وما جاء في الكتاب والسنة لا يستلزم هذه المعاني كما يظن مَن لا يقدر الله حق قدره.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَذْهَبُ اَلسَّلَفِ بَيْنَ اَلتَّعْطِيلِ وَبَيْنَ اَلتَّمْثِيلِ، فَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ اَللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، كَمَا لَا يُمَثِّلُونَ ذَاتَهُ بِذَاتِ خَلْقِهِ)، فكما تقول في الذات فقل في الصفات.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
ثم قال: (فَيُعَطِّلُونَ أَسْمَائَهُ اَلْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ اَلْعُلَى، وَيُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ)، هنا يتكلم عن المعطِّلة؛ لأنهم إذا نفوا عطَّلوا، فإذا قالوا: الله -عَزَّ وَجلَّ- ليس له أسماء ولا صفات؛ فهم بذلك عطَّلوا.
والذي ينفي الصفات وينفي الأسماء وقع في عدَّة محاذير:
الأولى: أنَّه عطَّل الله عن صفات الكمال.
الثانية: أنَّه مثَّل الله بخلقه من المعدومات ونحوها.
الثالثة: أنَّه تجرَّأ على هذه النُّصوص فنفاها عن مدلولها.
الرابعة: أنَّه قال على الله ما لا يعلم.
فهذه كلها من المحاذير الخطيرة التي تجنَّبها السلف، فهؤلاء بين التَّعطيل وبين التَّمثيل، يُثبتون الصفات لله إثباتًا بلا تمثيل، وينزِّهون الله تنزيهًا بلا تعطيل.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فَرِيقَيْ اَلتَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ اَلتَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ.
أَمَّا اَلْمُعَطِّلُونَ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ أَسْمَاءِ اَللَّهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا مَا هُوَ اَللَّائِقُ بِالْمَخْلُوقِ، ثُمَّ شَرَعُوا فِي نَفْيِ تِلْكَ اَلْمَفْهُومَاتِ فَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ اَلتَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ، مَثَّلُوا أَوَّلًا، وَعَطَّلُوا آخِرًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ مِنْهُمْ لِلْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِالْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَاءِ خَلْقِهِ وَصِفَاتِهِمْ، وَتَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ اَلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ اَللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)
}.
هنا الشيخ يشرح مسألة مهمَّة، وهي أنَّ الذين وقعوا في التَّمثيل -وهم المشبِّهة- والذين وقعوا في التَّعطيل؛ كلا الطَّائفتين جمعت بين التَّعطيل والتَّمثيل.
فبدأ الشيخ بالحديث عن المعطِّلة، كيف أنَّ المعطل الذي يقول: لا نثبت الصفة كذا وكذا؛ يقع في التمثيل؟
قال الشيخ: (أَمَّا اَلْمُعَطِّلُونَ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ أَسْمَاءِ اَللَّهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا مَا هُوَ اَللَّائِقُ بِالْمَخْلُوقِ، ثُمَّ شَرَعُوا فِي نَفْيِ تِلْكَ اَلْمَفْهُومَاتِ)، فهم لَمَّا سمعوا قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربنا إلى سماء الدني»، هجَمَ إلى قلوبهم وإلى عقولهم أنَّ النزول المذكور في الحديث مثل نزول المخلوق، فهذا التَّمثيل الذي توهَّموه ذهبوا ينفونه، فهم وقعوا في التَّمثيل، وهو محذور، ويجب أن يُنزِّهوا قلوبهم عنه، فلما يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ينزل ربن»، أضاف النزول إلى الله -عَزَّ وَجلَّ-، وهذه الإضافة تقتضي أن هذا يليق بالله -عَزَّ وَجلَّ- وبكماله المقدس، ولا يُمكن للعقول أن تحيط به، ولا يُمكن للعقول أن تقدِّرَ شيئًا أنَّه مثل المخلوق، فإذا قدَّرت هذه العقول هذا الشيء فهذا تمثيل محرَّم.
إذًا؛ هذا النزول يليق بجلاله وكماله، ولا يُماثل نزول المخلوقين، وأما "كيف" فاتركها على جنب واحذر منها، لأن "كيف" تصلح لك أنت أيُّها المخلوق، كيف تفعل أنت؟ كيف تأكل أنت؟ كيف تنزل أنت؟ أمَّا الخالق فلا تدخل أنت بعقلك وتقول "كيف".
ولهذا لما قال رجلٌ للإمام مالك: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، كيف استوى؟ غضب الإمام مالك وعلاه العرق وقال: "الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وألا أراك إلَّا مبتدعًا"، وأمر به فأُخرج.
فهذه أول جريمة حذَّر منها الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهي أنَّ الإنسان يسمح لنفسه أن يظن أن ما ذكر في النص -الحديث أو الآية- مماثل للمخلوق، فأول خطأ هو التَّمثيل.
وهذا المعطِّل في ظنه أنه يقوم بالواجب، فيقول: أنا أنفي الصفة كلها! فجمع بين التَّمثيل والتَّعطيل.
التَّمثيل: من جهة أنَّه توهَّم أنَّ النَّص يدلُّ على مماثلة الخالق للمخلوق.
ونحن نقول: النص يدل على كمال الرب، وأنَّه ليس كمثله شيء، وهذا هو معنى الإضافة، فيُضاف المعنى، أو تُضاف الصفة، أو يُضاف الفعل؛ فإنَّ العاقل يفهم الكلام بأي لغةٍ كانت، فلما أقول: يد، فأنت لا تدري أي يد، لكن لما أقول: يد الإنسان، مباشرة تتخيل يد الإنسان. وإذا قلت: يد الفيل؛ فلا يُمكن أن نقول إنَّ يد الإنسان مثل يد الفيل، وكأنه يعرف يد الفيل، يتخيَّلها ويعرفها ورآها. ولو قلت: يد البعوضة، تتذكرها في دقَّتها.
إذًا تعرف الصفة بحسب المضاف، فإذا أُضيفت الصفة إلى مَن ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير؛ هنا يقفْ ويؤمن بها، ويثبتها لله، لأنَّ الله هو الذي أثبتها، ويؤمن بأنه ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، وليس له ند، ولا يضرب لله الأمثال، ولا يتكلم بغير علمٍ، فإذا ذُكرَت اليد وأُضيفت إلى الله ثم مثلها بيد المخلوق فهذه جريمة، وهذا هو أول سلم الغلط، وهو أول محذور، لأنَّه ظُنَّ بالله -عَزَّ وَجلَّ- ما لا يليق بكماله، فأمسكْ عمَّا لا علم لك به.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَمَّا اَلْمُعَطِّلُونَ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ أَسْمَاءِ اَللَّهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا مَا هُوَ اَللَّائِقُ بِالْمَخْلُوقِ، ثُمَّ شَرَعُوا فِي نَفْيِ تِلْكَ اَلْمَفْهُومَاتِ، مَثَّلُوا أَوَّلًا، وَعَطَّلُوا آخِرًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ مِنْهُمْ لِلْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِالْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَاءِ خَلْقِهِ وَصِفَاتِهِمْ، وَتَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ اَلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ اَللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى).
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ اَلْقَائِلُ: لَوْ كَانَ اَللَّهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ لَلَزِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ اَلْعَرْشِ، أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِيًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ اَلْكَلَامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اَللَّهِ عَلَى اَلْعَرْشِ إِلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ، وَهَذَا اَللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا اَلْمَفْهُومِ، أَمَا اِسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِ اَللَّهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ اَللَّوَازِمِ اَلْبَاطِلَةِ اَلَّتِي يَجِبُ نَفْيُهَا كَمَا يَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ الأَجْسَام)}.
هنا الشيخ يضرب مثالًا فيقول: لما يأتي بعض المعطلة في قوله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ويقول القائل منهم: (لَوْ كَانَ اَللَّهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ لَلَزِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ اَلْعَرْشِ، أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِيًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ اَلْكَلَامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اَللَّهِ عَلَى اَلْعَرْشِ إِلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ، وَهَذَا اَللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا اَلْمَفْهُومِ)، فننازعه ونقول له: انتبه! هذا أوَّلُ الغلط:
أولًا: الله -عَزَّ وَجلَّ- أكبر من كل شيء، أكبر من العرش ومما دونه، ومن أسمائه "الأكبر"
ثانيًا: هذه التَّقديرات التي تفرضها وتتخيلها أوقعتك في أول محذور، فإنَّه عندما يُضاف الاستواء إلى الرب -سبحانه وتعالى- فهذا الاستواء يليق بجلاله، فلا تقِسْ عليه ما تراه من المخلوقات، ولا تتوهَّم ما تراه في المخلوقات في ربِّ العالمين، فهذه أوَّل المحاذير التي زلَّت قدمك بها، أمَّا الاستواء الذي يليق بجلال ويختص به فلا يلزم منه هذه اللوازم التي تفرضها، وهذه اللوازم التي تفرضها أنت تلزم في المخلوقات، ويُمكن أن لا تلزم، لكن لا يجوز أن تقول إنَّها تلزم في حق الل -عَزَّ وَجلَّ.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَصَارَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ اَلْمُمَثِّلِ: إِذَا كَانَ لِلْعَالِمِ صَانِعٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا، أَوْ عَرَضًا، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ: إِذَا لاَ يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا هَذَانِ، أَوْ قَوْلِهِ: إِذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى اَلْعَرْشِ فَهُوَ مُمَاثِلٌ لِاسْتِوَاءِ اَلْإِنْسَانِ عَلَى اَلسَّرِيرِ أَوْ اَلْفُلْكِ، إِذْ لاَ يُعْلَمُ اَلِاسْتِوَاءُ إِلَّا هَكَذَا، فَإِنَّ كِلَاهُمَا مَثَّلَ وَكِلَاهُمَا عَطَّلَ حَقِيقَةَ مَا وَصَفَ اَللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَامْتَازَ اَلْأَوَّلُ بِتَعْطِيلِ كُلِّ مُسَمًّى لِلِاسْتِوَاءِ اَلْحَقِيقِيِّ، وَامْتَازَ اَلثَّانِي بِإِثْبَاتِ اِسْتِوَاءٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ اَلْمَخْلُوقِينَ)}.
الشيخ يذكر الطَّرف الثَّاني وهم الممثِّلة، كيف جمعوا بين التَّمثيل والتَّعطيل، والممثِّل الذي يقول: إنَّ الله مثل خلقه؛ حكمهم عند السلف أنَّهم كفار؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11].
ومن أقوال الممثِّلة التي ذكرها الشيخ: (إِذَا كَانَ لِلْعَالِمِ صَانِعٌ)، يعني: خالق. قال: (فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا، أَوْ عَرَضً)، الجوهر: الذات. والعرض: الصفة. وهذه مصطلحات المتأخرين من الكلام.
قالوا: (وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ: إِذَا لاَ يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا هَذَانِ)، فيزعمون أنَّ الله مثل هذا أو هذا؛ وهنا مثَّل وعطَّل؛ لأنَّه نفى صفات الكمال عن الله -عَزَّ وَجلَّ- وهذا الذي يُمثِّل الله بخلقه كافر، فالله هو الخالق وليس بمخلوق، والله -عَزَّ وَجلَّ- له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
ثم ذكر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا آخر من كلام الممثِّلة: (أَوْ قَوْلِهِ: إِذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى اَلْعَرْشِ فَهُوَ مُمَاثِلٌ لِاسْتِوَاءِ اَلْإِنْسَانِ عَلَى اَلسَّرِيرِ أَوْ اَلْفُلْكِ)، وهذا القول كفر.
يقول الممثل: (إِذْ لاَ يُعْلَمُ اَلِاسْتِوَاءُ إِلَّا هَكَذَ)، نقول: كونك لا تعلم لا يعني أنَّك تحكم بجهلك.
قال الشيخ: (فَإِنَّ كِلَاهُمَ)، يعني المعطل والممثِّل (مَثَّلَ وَكِلَاهُمَا عَطَّلَ حَقِيقَةَ مَا وَصَفَ اَللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ).
قال: (وَامْتَازَ اَلْأَوَّلُ بِتَعْطِيلِ كُلِّ مُسَمًّى لِلِاسْتِوَاءِ اَلْحَقِيقِيِّ، وَامْتَازَ اَلثَّانِي بِإِثْبَاتِ اِسْتِوَاءٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ اَلْمَخْلُوقِينَ)، وهي ميزات سوءٍ ولا شك.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْقَوْلُ اَلْفَاصِلُ: هُوَ مَا عَلَيْهِ اَلْأُمَّةُ اَلْوَسَطُ، مِنْ أَنَّ اَللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ اِسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ كَمَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبَتَ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ خَصَائِصُ اَلْأَعْرَاضِ اَلَّتِي كَعِلْمِ اَلْمَخْلُوقِينَ وَقُدْرَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ وَلَا يَثْبُتُ لِفَوْقِيَّتِهِ خَصَائِصُ فَوْقِيَّةِ اَلْمَخْلُوقِ عَلَى اَلْمَخْلُوقِ وَمَلْزُومَاتِهَ)}.
لَمَّا نظرنا في قول المعطِّلَة وقول الممثِّلة وأنَّهم جمعوا بين التَّعطيل والتَّمثيل؛ فإنَّ القول الفصل هو قول أهل السُّنَّة والجماعة المتَّبعون للسَّلف الصَّالح وهو أنَّ الله مستوٍ على عرشهِ استواءً يليق بجلاله وكماله، وهذا الاستواء الذي يليق بجلال الله وكماله يختص بالله، لا يُمكن أن يشاركه في الأمر الذي اختصَّ به أحدٌ من الخلق.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كَمَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، يعني صفة العلم. قال: (وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي صفة القدرة. قال: (وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبَتَ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ خَصَائِصُ اَلْأَعْرَاضِ اَلَّتِي كَعِلْمِ اَلْمَخْلُوقِينَ وَقُدْرَتِهِمْ)، فما اختص الله -عَزَّ وَجلَّ- هو الكمال المطلق، وما عند المخلوق هو النَّقص والعجز والفقر الدائم والانقطاع، فهو مسبوقٌ بعد، ويلحقه زوال وفناء، والله -عَزَّ وَجلَّ- هو الحي الذي لا يموت، وهو الذي له الأسماء الحسنى وله المثل الأعلى، فكذلك استوائه على عرشه وفوقيَّته.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ وَلَا يَثْبُتُ لِفَوْقِيَّتِهِ خَصَائِصُ فَوْقِيَّةِ اَلْمَخْلُوقِ عَلَى اَلْمَخْلُوقِ وَمَلْزُومَاتِهَ)، فكل اللوازم والأشياء التي تراها في المخلوقين لا يجوز أن تثبتها للخالق، فخصائص المخلوقين لنقصهم وعجزهم، فما اختص الله به يليق بكماله.
هذا كلام الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في إبطال مذهب المعطلة وإبطال مذهب الممثِّلة، وبيان أنَّ المعطل جمع بين التَّمثيل والتعطيل، وأن الممثِّل جمع بين التَّمثيل والتَّعطيل أيضًا، وأنَّ السَّلف نزَّههم الله وبرَّأهم من التَّعطيل والتَّمثيل.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ فِي اَلْعَقْلِ اَلصَّرِيحِ، وَلَا فِي اَلنَّقْلِ اَلصَّحِيحِ مَا يُوجِبُ مُخَالِفَةَ اَلطَّرِيقَةِ اَلسَّلَفِيَّةِ أَصْلًا لَكِنَّ هَذَا اَلْمَوْضِعَ لاَ يَتَّسِعُ لِجَوَابٍ عَنْ اَلشُّبُهَاتِ اَلْوَارِدَةِ عَلَى اَلْحَقِّ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ وَأَحَبَّ حَلَّهَا فَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرُ.
ثُمَّ اَلْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ اَلْأُمَّةِ-مِنْ اَلْمُتَأَوِّلِينَ لِهَذَا اَلْبَابِ- فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ اَلرُّؤْيَةَ، يَزْعُمُ أَنَّ اَلْعَقْلَ يُحِيلُهَا، وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهَا إِلَى اَلتَّأْوِيلِ، وَمَنْ يُحِيلُ أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً، وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنَّ اَلْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ فَاضْطَرَّ إِلَى اَلتَّأْوِيلِ، بَلْ مَنْ يُنْكِرُ حَقِيقَةَ حَشْرِ اَلْأَجْسَادِ، وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ اَلْحَقِيقِيَّ فِي اَلْجَنَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ اَلْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى اَلتَّأْوِيلِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ اَلْعَرْشِ: يَزْعُمُ أَنَّ اَلْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى اَلتَّأْوِيلِ.
وَيَكْفِيك دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاعِدَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِيمَا يُحِيلُهُ اَلْعَقْلُ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اَلْعَقْلَ جَوَّزَ أَوْ أَوْجَبَ مَا يَدَّعِي اَلْآخَرُ أَنَّ اَلْعَقْلَ أَحَالَهُ.
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ اَلْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَرَضِيَ اَللَّهُ عَنْ اَلْإِمَامِ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: "أَوَكُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِجَدَلِ هَؤُلَاءِ")
}.
يقول -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مبيِّنًا فساد طريقة المتكلِّمين: (وَاعْلَمْ أَنْ لَيْسَ فِي اَلْعَقْلِ اَلصَّرِيحِ، وَلَا فِي اَلنَّقْلِ اَلصَّحِيحِ مَا يُوجِبُ مُخَالِفَةَ اَلطَّرِيقَةِ اَلسَّلَفِيَّةِ)، عبَّر بالطريقة السلفية، لأن المقصود بالسلف الصَّالح في باب الأسماء والصفات وفي غيره من الأبواب: الصحابة والتابعين، والواجب اتباع طريقتهم؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- يقول: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100].
ثم قال الشيخ: (لَكِنَّ هَذَا اَلْمَوْضِعَ لاَ يَتَّسِعُ لِجَوَابٍ عَنْ اَلشُّبُهَاتِ اَلْوَارِدَةِ عَلَى اَلْحَقِّ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ وَأَحَبَّ حَلَّهَا فَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرُ)، يعني: مَن قامت بقلبه بعض الشُّبهات؛ فالحل والجواب سهلٌ ويسيرٌ -ولله الجمد.
والشيخ يُبِّه على أمرٍ فيقول: (ثُمَّ اَلْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ اَلْأُمَّةِ-مِنْ اَلْمُتَأَوِّلِينَ لِهَذَا اَلْبَابِ)، أي: الذين يتأوَّلون الأسماء والصفات أو بعضها. قال: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)، يعني: مضطرب.
قال: (فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ اَلرُّؤْيَةَ، يَزْعُمُ أَنَّ اَلْعَقْلَ يُحِيلُهَ)، يعني يبني على العقل، فيقول: أنا أُنكر الرؤية لأن العقل يُحيل ذلك، وأنا مضطر أن أُوِّل النُّصوص التي فيها الرؤية إلى العلم، لأنَّي لو أثبتَّ الرؤية لخالفت العقل ووقعت في الكفر والتشبيه، إلى آخره...
ومن أهل الكلام مَن يُثبت العلم والقدرة والصفات السبع كأغلب الأشاعرة، فإذا جئت عند المعتزلة الذين يُنكرون الصفات يقول: العقل يُحيل إثبات العلم والقدرة والحياة والكلام والسمع والبصر!
ولهذا يقولون: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله لم يتكلَّم، وأنا مضطرٌ إلى ذلك لأن العقل يحيل صفة الكلام!
والشيخ ذهب إلى أبعد من هذا في كلامه، فذكر مَن يُنكرون الحشر والبعث، ويقولون: إنَّ هذا خيالات، ومنهم ابن سينا وجماعة من الفلاسفة؛ لأن العقل يُحيل ذلك.
وهؤلاء الذين يحملون خطابهم يقولون: العقل يُحيل أن الله استوى على العرش، ويُحيل أن الله فوق العرش؛ وأنا مضطرٌ للتَّأويل؛ فيقول الشيخ لهم: (وَيَكْفِيك دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاعِدَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِيمَا يُحِيلُهُ اَلْعَقْلُ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اَلْعَقْلَ جَوَّزَ أَوْ أَوْجَبَ مَا يَدَّعِي اَلْآخَرُ أَنَّ اَلْعَقْلَ أَحَالَهُ)، فحتَّى أصحاب المذهب الواحد يختلفون، بعضهم يقول: هذا يُجوزه العقل، وبعضهم يقول: العقل يُحيله. وبعضهم يقول: العقل يوجبه!
يقول الشيخ: (فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ اَلْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ)، استحضَر الشيخ كلمة عظيمة للإمام أنس إمام دارة الهجرة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فقال: (فَرَضِيَ اَللَّهُ عَنْ اَلْإِمَامِ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: "أَوَكُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِجَدَلِ هَؤُلَاءِ").
فهذه نصيحة من الإمام مالك بن أنس لكل مَن تلوَّث بهذه العلوم الكلاميَّة، أن يتركها ويُقبل على الكتاب والسنة، وإلى ما كان عليه سلف هذه الأمة، نسأل الله-جل وعلا- للجميع الهداية والسَّداد والتوفيق.
وفيما يستقبل من القراءة في الكتاب بيان الرد على زعمهم أنَّ العقل يُحيل هذه الأشياء وما اضطربوا فيه من العقل، ويكون هذا في الدرس القادم بحول الله تعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ على ما قدمتَ، وجعله الله في موازين حسناتك.
وفي ختام هذه الحلقة نستودعكم الله أعزاءنا المشاهدين، إلى حلقةٍ أخرى منه برنامجكم "البناء العلمي"، إلى ذلكم الحي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك