الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2108 13
الدرس الحادي عشر

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون ضيفنا فضيلة الشَّيخ الأستاذ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التَّدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإيَّاكم العلم النَّافع والعمل الصالح.
{في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- فيما نقله عن ابن خفيف}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
حتى نربط الدرس الماضي بهذا الدرس الذي سنبدأ به -إن شاء الله تعالى- نقول: الحمويَّة رسالة أُلِّفت في بيان عقيدة السلف الصَّالح والرَّد على المتكلِّمين الذين سلكوا مسالك التَّعطيل والإنكار لأكثر الصفات، وكان شيخ الإسلام قد ردَّ عليهم وبيَّن غلطهم ومخالفتهم للكتاب والسَّنَّة، ثم بيَّن مخالفتهم للصَّحابة والتَّابعين بالأقوال الكثيرة التي سبق ذكرها.
ثم ذكر من أقوال مَن يُحبُّونهم من أهل الكلام، ومَن يقدِّمونهم ويرون أنَّ لهم مكانة، فذكر أقوال المحاسبي وعمرو بن عثمان المكي، ومن العلماء المقدَّمين عندهم ابن خفيف الذي قد قرأنا كلامه في الدرس الماضي، وهو من العلماء المشهود لهم بالإمامة، وقد توفي سنة 371 للهجرة، فهو عالم ومن مشايخ التَّصوُّف عندهم، لكنَّه على السنَّة، ويُقرِّر مذهب أهل السنَّة في الأسماء والصفات، ويرد على المعطِّلة.
ومن ضمن كلام ابن خفيف أنَّه نقل كلام ابن جرير الطبري، ومعروف أنَّ ابن جرير الطبري هو شيخ المفسرين، وله التفسير المشهور، وله كتاب في التاريخ، وله كتب معروفة، وتوفي ابن جرير سنة 310 للهجرة، والجميع يعرف فضله ومكانته -رَحِمَهُ اللهُ-، وله كتاب اسمه "التَّبصير في أصول الدين" وهو كتاب في العقيدة، ولله الحمد مطبوع ومُتداول، وحُقِّق بتحقيق الدكتور علي الشبل، وهذا الكتاب يُمكن الحصول عليه.
وهنا سينقل عنه ابن خفيف ما قاله في هذا الكتاب، ثم يكمل تقريراته، ثم يختم الشيخ ابن تيمية، وسنستمع الآن لِما يذكره ابن خفيف عن ابن جرير الطبري.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ: وَقَرَأْت لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "التَّبْصِيرَ" كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى أَهْلِ طبرستان فِي اخْتِلَافٍ عِنْدَهُمْ؛ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَنِّفَ لَهُمْ مَا يَعْتَقِدُهُ وَيَذْهَبُ إلَيْهِ؛ فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ اخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ عَنْ طَائِفَةٍ إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَنَسَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلَى الصُّوفِيَّةِ قَاطِبَةً لَمْ يَخُصَّ طَائِفَةً، فَتبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جَهَالَةٍ مِنْهُ بِأَقْوَالِ الْمُخْلَصِينَ مِنْهُمْ؛ وَكَانَ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ -بَعْدَ أَنْ ادَّعَى عَلَى الطَّائِفَةِ- ابْنِ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَحِلِّهِ عِنْدَ الْمُخْلَصِينَ؛ فَكَيْفَ بِابْنِ أُخْتِهِ، وَلَيْسَ إذَا أَحْدَثَ الزَّائِغُ فِي نِحْلَتِهِ قَوْلًا نُسِبَ إلَى الْجُمْلَةِ، كَذَلِكَ فِي الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا فِي الْفِقْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يُنَاسِبُ ذَلِكَ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ "الصُّوفِيَّةِ" وَعُلُومَهُمْ تَخْتَلِفُ فَيُطْلِقُونَ أَلْفَاظَهُمْ عَلَى مَوْضُوعَاتٍ لَهُمْ، وَمَرْمُوزَاتٍ وَإِشَارَاتٍ تَجْرِي فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَمَنْ لَمْ يُدَاخِلْهُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَنَازَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ رَجَعَ عَنْهُمْ وَهُوَ خَاسِئٌ وَحَسِيرٌ)
}.
يعني بكلامه: أنَّ من الصُّوفيَّة مَن يقول -والعياذ بالله- بالحلول، ويقول إنَّه يرى الله في الدنيا كما يُرَى في الآخرة، وهذا كذب، فثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أخبر عن الدجال وحذَّر منه؛ لأنَّ الدَّجال يدَّعي الرُّبوبيَّة، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّهُ أعْوَرُ، وإنَّ ربَّكُمْ عَزَّ وجلَّ لَيْسَ بأعْورَ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمُوا أنَّكُم لَنْ تَرَوا رَبَّكُم حَتَّى تَمُوتُو»؛ فهذا يدل على بطلان هذه العقيدة من هذه الطَّائفة من الصُّوفيَّة.

وابن خفيف يقول: إنَّ هؤلاء من أراذل وضالي الصُّوفية، وليس كل الصُّوفيَّة على هذا؛ لأنَّ الصُّوفيَّة أنواعٌ شتَّى، فكل مَن سلكَ مسالك العبادة وذهب إلى بعض الشيوخ يتعلم منهم الأخلاق والسلوك والآداب يُسمَّى مُتصوِّفًا في العرف القديم، فمنهم مَن كان على الكفر كالقول بالحلول والاتِّحاد ووحدة الوجود، ومنهم مَن هو على بدعة، والبدع هذه أنواع شتَّى، فلا يكادون يسلمون من البدعة.
ولأنَّه -رَحِمَهُ اللهُ- من الصُّوفية فيقول: إن مشايخ الصُّوفيَّة لا يقولون بهذا القول القبيح، وهو أن الله يُرَى في الدنيا، وأنَّ هذا القول قول فاسد، ولكن هناك عبارات ورموز قد تُفهِم هذا، ولكن الصُّوفيَّة لا يُريدون هذا، فهو يُحاول أن ينزِّههم، وعلى كل حالٍ فإننا ندور مع الحق حيثُ دارَ، فمَن كان من الصوفية أصاب ولم يقل بهذا القول فنحن نقول: أحسنت، ومَن كان من الصوفية وقال إنَّ الله يُرَى في الدنيا؛ فنقول: ضللتَ عن سواء السَّبيل، سواء انتسب للتَّصوُّف أو لم ينتسب للتَّصوُّف، لكن الغالب على مَن يسلك هذه المسالك أنَّه يبتعد عن العلم، ويبتعد عن نور الكتاب والسنَّة فتزل به القدم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ ذَكَرَ إطْلَاقَهُمْ لَفْظَ "الرُّؤْيَةِ" بِالتَّقْيِيدِ. فَقَالَ: كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ رَأَيْت اللَّهَ يَقُولُ. وَذَكَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَوْلُهُ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ رَأَيْت اللَّهَ حِينَ عَبَدْته؟ قَالَ رَأَيْت اللَّهَ ثُمَّ عَبَدْته. فَقَالَ السَّائِلُ كَيْفَ رَأَيْته؟ فَقَالَ: لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ بِتَحْدِيدِ الْأَعْيَانِ؛ وَلَكِنْ رُؤْيَةُ الْقُلُوبِ بِتَحْقِيقِ الْإِيقَانِ)}.
وهذا الكلام إن صحَّ عن جعفر -رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ عنه- فهو فيه نظر؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ»، يعني: لا يُمكن أن تراه، فنحن نطلب من المسلمين أن يُعبِّروا بنفس التَّعبيرات التي في القرآن والسنَّة ولا يخرجوا عنها؛ لأنَّ الخروج عنها يُوهم، فقد يسمعك رجل جاهل أو متوسط العلم وأنت تقول: أنا رأيتُ الله ثم عبدته؛ فالجاهل قد يتوهَّم أنَّك رأيتَ الله حقيقةً، فلهذا لا ينبغي التَّعبير بهذه الألفاظ، فهذا من الأغلاط، ولكنه -رَحِمَهُ اللهُ- إن صحَّ عنه هذا القول "رَأَيْت اللَّهَ ثُمَّ عَبَدْته" فيكون بمعنى: أنِّي عرفت أسماءه وعرفت صفاته، وليس المراد الرؤية التي بالعين؛ لأنَّ هذه إنَّما تكون في الآخرة، فلم يثبت عن جعفر أنَّه قال إنَّه رأى الله في الدنيا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ قَالَ: "وَإِنَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". هَذَا قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا دُونَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ فِينَ)}.
أهل الغباوة لا تقل لهم الكلمات الموهمة، فهؤلاء الجُهَّال أخذوا بظاهر الكلام وضلُّوا، فالكلمات الموهمة تحتاج إلى توضيح، ولهذا فنحن نُنكر هذه العبارات، فلو قال واحد: "أنا رأيتُ الله" وسكت؛ فننكر عليه، ولا نقول: إن مراده كذا أو كذا! لأنَّ هذا غلط، ولهذا قال جعفر: "وَإِنَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فهذا حقٌّ، ويُشكَرُ على هذا، ولكن يُستنكَر منه العبارة الموهمة التي تضرُّ الجُهَّال من النَّاس إذا سمعوها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَبْلُغُ مَعَ اللَّهِ إلَى دَرَجَةٍ يُبِيحُ الْحَقَّ لَهُ مَا حُظِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ -إلَّا الْمُضْطَرَّ عَلَى حَالٍ يَلْزَمُهُ إحْيَاءٌ لِلنَّفْسِ لَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مَا بَلَغَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَاتِ- فَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ وَقَائِلٌ ذَلِكَ قَائِلٌ بِالْإِبَاحَةِ وَهُمْ المنسلخون مِنْ الدِّيَانَةِ)}.
هؤلاء هم ملاحدة الصُّوفيَّة والباطنيَّة، فهم يقولون: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أحلَّ لنا كذا، الصَّلوات هذه عليكم وليست علينا، أسقطَ الله عنَّا التَّكاليف، وأنا بلغت منزلة اليقين، ويقول: إنَّ الله أباح لنا ما حظر على الناس، فأباح الله أن أجلس مع المردان وأن أقبلهم، وأباح لي الجلوس مع النساء، وأباح لي أن أترك الصَّلاة!
فهؤلاء كفار ملاحدة، فمن نواقض الإسلام: أن يعتقد الشَّخص أنه يسعه الخروج عن شريعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ تَرْكُ إطْلَاقِ تَسْمِيَةِ "الْعِشْقِ" عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِاشْتِقَاقِهِ وَلِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ. وَقَالَ: أَدْنَى مَا فِيهِ إنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ وَفِيمَا نَصَّ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَبَّةِ كِفَايَةٌ)}.
لفظ "العشق" ليس في النُّصوص الشرعية، وهو لفظٌ يُراد به الحب، ولكنه مع شهوةٍ، ولهذا يُعتبر هذا اللفظ مذموم ولا يُقال في حق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، حتى المخلوق الذي يُقال عنه إنَّه يعشق ففيه نقص، فلا نصف الله إلَّا بما وصف به نفسه، فذكر تعالى أنَّه يُحب المؤمنين، ويُحب المحسنين، يحبهم ويُحبونه، فنؤمن بهذا، ونؤمن بالخُلَّة، وأنَّ الله اتَّخذ إبراهيم خليلًا، والخُلَّة أعلى من المحبَّة، لكن "العشق" لفظ لم يرد، فهذا لفظٌ لا يجوز إطلاقه على الله -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَرْئِيَّاتِ وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ حَيْثُ مَا تُلِيَ وَدُرِسَ وَحُفِظَ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَاِتَّخَذَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلِيلًا وَحَبِيبًا، وَالْخُلَّةُ لَهُمَا مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ الْخُلَّةَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ)}.
يعني أنَّنا نُثبت الخُّلة، وأنَّ الله اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ونبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: « فإنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن أُمَّتي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخوة الإِسْلَام وَمَوَدتُه»، فنحن نعتقد هذا.
والخُلَّة هي كمال المحبَّة، فالله يُحب إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ويُحب نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا نثبته ونؤمن به، ولا نقول: إن الخُلَّة من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لربه -عَزَّ وَجَلَّ- أو من إبراهيم لربه -عَزَّ وَجَلَّ- بمعنى الفقر والحاجة؛ لأنَّ الافتقار إلى الله عبادة، قال موسى -عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: 15]، فالافتقار عبادة جليلة، وافتقار القلب إلى الله واجب على كل مسلم، أن يحس بفقره وحاجته إلى ربِّه -عَزَّ وَجَلَّ.
فجاء المعتزلة والمبتدعة وقالوا: لا نثبت الحبَّ لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا نثبت أن الله اتَّخذ إبراهيم خليلًا، وإنَّما المراد: أنَّهم مفتقرون إلى الله.
نقول: هذا معنًى صحيح، وهم أعظم الناس قيامًا بهذا الافتقار والعبادة والرغبة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ولكن هناك معنى أثبتته النُّصوص وهو محبَّة الله لهما، ومحبتهما لله -عَزَّ وَجَلَّ-، بل كمال المحبة وهي الخُلَّة، وهذا خاصٌّ بهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إلَى أَنْ قَالَ: "وَالْخُلَّةُ وَالْمَحَبَّةُ صِفَتَانِ لِلَّهِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِمَا، وَلَا تَدْخُلُ أَوْصَافُهُ تَحْتَ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، وَصِفَاتُ الْخَلْقِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ جَائِزٌ عَلَيْهَا الْكَيْفُ؛ فَأَمَّا صِفَاتُهُ تَعَالَى فَمَعْلُومَةٌ فِي الْعِلْمِ وَمَوْجُودَةٌ فِي التَّعْرِيفِ، قَدْ انْتَفَى عَنْهُمَا التَّشْبِيهُ، فَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَاسْمُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ سَاقِطٌ)}.
يعني أنَّ هذا ممَّا باينَ فيه أهل السنَّة أهل الكلام وأهل التَّعطيل، وأوَّل شخصٍ أعلنَ هذا التَّعطيل هو الجعد بن درهم، وقتله ولي الأمر بسبب قولته البشعة التي يُنكرها كل مسلم "إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يُكلِّم موسى تكليمًا"؛ فنحن نُثبت هذا لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا ننفيه كما قال الجعد وأمثاله وأتباعه، وأيضًا ننفي التَّشبيه والتَّمثيل والتَّكييف -وهو التَّخيُّل- فإنَّ الله ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْمَكَاسِبَ وَالتِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْغِشَّ وَالظُّلْمَ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ؛ إذْ لَيْسَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ وَالْغِشُّ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْفَسَادَ؛ لَا الْكَسْبَ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَائِزٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِأَكْلِ الْحَلَالِ ثُمَّ يُعْدِمُهُمْ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ لِأَنَّ مَا طَالَبَهُمْ بِهِ مَوْجُودٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَالْمُعْتَقَدُ أَنَّ الْأَرْضَ تَخْلُو مِنْ الْحَلَالِ وَالنَّاسَ يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرَامِ؛ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ إلَّا أَنَّهُ يَقِلُّ فِي مَوْضِعٍ وَيَكْثُرُ فِي مَوْضِعٍ؛ لَا أَنَّهُ مَفْقُودٌ مِنْ الْأَرْضِ.
وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّا إذَا رَأَيْنَا مَنْ ظَاهِرُهُ جَمِيلٌ لَا نَتَّهِمُهُ فِي مَكْسَبِهِ وَمَالِهِ وَطَعَامِهِ؛ جَائِزٌ أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامُهُ وَالْمُعَامَلَةَ فِي تِجَارَتِهِ؛ فَلَيْسَ عَلَيْنَا الْكَشْفُ عَمَّا قَالَهُ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ؛ جَازَ إلَّا مِنْ دَاخِلِ الظُّلْمَةِ. وَمَنْ يَنْزِعُ عَنْ الظُّلْمِ وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ بِالْبَاطِلِ وَمَعَهُ غَيْرُ ذَلِكَ: فَالسُّؤَالُ وَالتَّوَقِّي؛ كَمَا سَأَلَ الصِّدِّيقُ غُلَامَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَاخْتَلَطَا فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ وَلَا الْحَرَامُ إلَّا أَنَّهُ مُشْتَبَهٌ؛ فَمَنْ سَأَلَ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ. وَأَجَازَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ التَّبِعَةُ وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ وَالدِّينُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)
}.
هذا من التَّوسُّع الذي نقله الشيخ عن ضُلَّال الصوفية، وأنَّهم يحرمون الحلال، ويشددون على أنفسهم وعلى غيرهم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سمع من بعض الصحابة يقول: لا آكل اللحم، فخطب الناس وقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم...، أما إني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني» ، وهؤلاء يحرمون التجارات، ويقولون: كلها فيها شبهات، والكسب كله شبهات؛ وإذا جاؤوا عند الناس لا يأكلون من طعامهم، ولا يأكلون اللحوم، ويشككون في كل شيء! وهذا غلط، كيف أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يأمر عباده بأن يأكلوا من الطَّيِّبات، ثم لا يُوجده لهم! فهذا معنى كلام الشيخ هنا.
والأصل أنَّك تعمل بالظَّاهر ولا تُنقِّب، إلَّا مَن داخل الظَّلمة، مثل واحد يعيش بين أهل الربا، ويتعامل وسطهم، يُرابي ويأكل مشتريات من لحم الخنزير ومن الخمور؛ فهذا توقى منه، وأمَّا لو كان شخص معروف بالظُّلم ويأخذ الأموال بالباطل؛ فهنا تتوقى عن هذا الشخص بعينه وليس كل الناس، وفي القصة المشهورة للصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما توقى الغلام الذي قال له: هذا الأكل الذي أكلته من كهانةٍ تكهنتها في الجاهلية؛ فقاء الصديق ما في بطنه، ثم قال: اللهم لا تؤاخذني بما اختلط في العرق واللحم.
ولو لم يفعل هذا التوقِّي فليس عليه حرج، ففعل الصديق من باب الكمال، ولهذا ابن مسعود وسلمان قال: كُلْ منه واتبع عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ أَحْكَامُ الدَّارِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى الْأَمْنَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ، وَقَدْ أَفْرَدْت كَشْفَ عَوارِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ)}.
يعني أنَّ الإنسان يجمع بين الخوف والرجاء، ولا يقول: أنا آمن ولا أخاف، أنا في الجنة. أو يقول: أنا في النار وأخاف، ويبكي الليل والنهار؛ بل يجمع بين الخوف والرجاء، فيرجو فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويستغفر لذنوبه، ولا يصر على ذنبٍ ويتوب، ويخشى عقوبته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَنَعْتَقِدُ: أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ مَا عَقَلَ وَعَلِمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، مُميِّزًا عَلَى أَحْكَامِ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ؛ إذْ لَمْ يُسْقِطْ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ إلَى فَضَاءِ الْحُرِّيَّةِ بِإِسْقَاطِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُرُوجِ إلَى أَحْكَامِ الأحدية الْمُسْدِيَةِ بِعَلَائِقِ الآخرية: فَهُوَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ؛ إلَّا مَنْ اعْتَرَاهُ عِلَّةٌ أَوْ آفَةٌ؛ فَصَارَ مَعْتُوهًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مبرسمًا، وَقَدْ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ، أَوْ لَحِقَهُ غَشْيَةٌ يَرْتَفِعُ عَنْهُ بِهَا أَحْكَامُ الْعَقْلِ، وَذَهَبَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ وَالْمَعْرِفَةُ؛ فَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ مُفَارِقٌ لِلشَّرِيعَةِ)}.
هذا أيضًا من ضلالات الصوفية، وهؤلاء من أنواع الكفار الذين يقولون إنَّ جميع العبادات والتكاليف تسقط عنهم، ويزعمون أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، فيزعمون أن اليقين هو منزلة يصلون إليها تقف عندها العبادة، ولا يدرون أن اليقين هنا يعني الموت، أو أنَّهم يتجاهلون هذا؛ فهؤلاء ما دام الواحد منهم عنده عقله فلا تسقط عنه التَّكاليف، إذا ذهب العقل فهذا معذور، مثل المجنون ونحوه كالمغمى عليه، فهذا معنى قوله: (وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ إلَى فَضَاءِ الْحُرِّيَّةِ بِإِسْقَاطِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُرُوجِ إلَى أَحْكَامِ الأحدية الْمُسْدِيَةِ بِعَلَائِقِ الآخرية ) يعني يزعمون أنَّه اتَّصل بالله، وأنَّ الله حلَّ فيه، أو اتَّحد به، فهم يعتقدون أنَّهم سقطت عنهم التَّكاليف، وأنَّ الخالق اتَّصل بهم وحلَّ فيهم، وأنَّ الخالق والمخلوق شيء واحد، فهؤلاء كفار ولا محالة، وهذا هو حكم أهل العلم فيهم قاطبة.
قال: (إلَّا مَنْ اعْتَرَاهُ عِلَّةٌ أَوْ آفَةٌ)، كأن يكون مجنونًا، أو به مرض أو آفة، أو مبرسمًا، فهذه أنواع الجنون:
العته: نوع من الجنون، يفقد عقله قليلًا ويرجع.
المجنون: هو مَن أطبق عليه الجنون.
المبرسم: يعني المجنون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ زَعَمَ الْإِشْرَافَ عَلَى الْخَلْقِ: يَعْلَمُ مَقَامَاتِهِمْ وَمِقْدَارَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ -بِغَيْرِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَوْلِ رَسُولٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَآلَ الْخَلْقِ وَمُتقَلَّبَهُمْ وَعَلَى مَاذَا يَمُوتُونَ عَلَيْهِ، وَيُخْتَمُ لَهُمْ - بِغَيْرِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ - فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبِ مِنْ اللَّهِ)}.
هذا أيضًا من كلمات بعض ضُلَّال الصُّوفيَّة، وهذا من الكفر والخروج عن الإسلام؛ لأنَّه لا يعلم الغيب إلا الله -سبحانه وتعالى- ولا يعلم أحوال الخلق إلَّا خالقهم -عَزَّ وَجَلَّ-، فبعضهم يقول: أنا أعرف مآل الناس، والكلمات المنقولة عن ضُلَّال الصوفية كثيرة جدًّا؛ وموقف أهل العلم منهم هو التكفير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْفِرَاسَةُ حَقٌّ عَلَى أُصُولِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا رَسَمْنَاهُ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ -وَيُشِيرُ فِي ذَلِكَ إلَى غَيْرِ آيَةِ الْعَظَمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ- وَأَشَارَ إلَى صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ الْقَدِيمَةِ: فَهُوَ حُلُولِيٌّ قَائِلٌ بِاللَّاهُوتِيَّةِ وَالِالْتِحَامِ وَذَلِكَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ)}.
الفِراسة: هي التَّدبُّر والتَّأمُّل في الأمور وفي وجوه النَّاس، فيعرف بعض الأمور من خلال النَّظر، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75]، قال أهل العلم في تفسيرها: المتفرِّسين.
والفراسة حق، وهي أنواع ثلاثة:
- فراسة خَلقيَّة، وتكون من جهة النَّظر إلى خَلق الإنسان وصفات عينه ووجهه.
- فِراسة إيمانيَّة، وهي نور يقذفه الله في قلب الموحِّد الذي يُعظِّم الكتاب والسُّنَّة، فيعرف المبتدع من السُّنِّي، ويعرف صاحب الحق من المجادل بالباطل، ونحو ذلك.
- فراسة رياضيَّة -بالتَّدرُّب- مثل بعض الأطباء إذا رأى مريضًا، قال: هذا المريض مرضه مخوف، أو هذا ليس مريضًا، يعرف هذا من خلال الرياضة والتَّدرُّب والتَّمرُّس.
هذه الفراسة حق، وليس فيها علم للغيب، والمؤمن لا يدَّعي أنَّه يعلم الغيب ويعلم أحوال الخلق، ويعلم ما يكتمون، لا؛ إنَّما هذا من كذبات الصوفيَّة وضلالهم ويحملونها على الفراسة، فالفراسة ليس فيها ادِّعاء علم الغيب، فمَن أشار إلى نفسه أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حلَّ فيه فهو كافرٌ بالإجماع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَمَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ النَّصَارَى -النسطورية- فِي الْمَسِيحِ وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْعَبْدِ؛ أَوْ قَالَ بِالتَّبْعِيضِ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ؛ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا حَالٍّ فِي مَخْلُوقٍ؛ وَأَنَّهُ كَيْفَمَا تُلِيَ وَقُرِئَ وَحُفِظَ: فَهُوَ صِفَةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَيْسَ الدَّرْسُ مِنْ الْمَدْرُوسِ، وَلَا التِّلَاوَةُ مِنْ الْمَتْلُوِّ، لِأَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُلَحَّنَةَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَأَنَّ الْقَصَائِدَ بِدْعَةٌ.
وَمَجْرَاهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَالْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَإِظْهَارِ نَعْتِ الصَّالِحِينَ وَصِفَةِ الْمُتَّقِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ، وَالْعِلْمِ أَوْلَى بِهِ وَمَا جَرَى عَلَى وَصْفِ الْمَرْئِيَّاتِ وَنَعْتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَاسْتِمَاعُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ)
}.
قوله: (عَلَى اللَّهِ)، يعني في نسبته إلى الله.
فهو يتكلم عن بعض أمور التَّصوُّف، فمن أمور الصُّوفيَّة أنَّهم يُكثرون السَّماع الْمُلحَّن، واستماع القصائد، ويقولون: إنَّها ترقق القلوب، ويُعرضون عن القرآن، فأهل العلم بيَّنوا لنا أحكام الإنشاد والشِّعر، ويردُّون على المتصوفة، والشيخ يتكلَّم عن أن الاستماع للقصائد الدِّينيَّة والتَّعبُّد بهذا الاجتماع والاستماع بدعة، وليس من فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إنَّما كان على عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُلقَى القصائد ويستمع إليها، ولكن ليس على وجه التَّعبُّد.
وهذه القصائد تختلف:
- منها ما فيه ذكر الله، وذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالثَّناء عليه بغير غلو، وذكر الصَّحابة، وذكر أهل العلم، وذكر مسائل العقيدة؛ فهذه أهون، ولكن تركها والإقبال على القرآن وعلى العلم والحديث أولى، لا تشغل قلبك بهذا.
- أمَّا لو كان فيها نعوت الخلق على الخالق -وهو القول بالحلول- ورمي الكلمات التي فيها تشبيه الخالق بالمخلوق، أو أنَّ الله حلَّ في المخلوق، مثل قول القائل:

لَهَا صَلَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا ... وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ

يعني: يصلي لنفسه.
ويقول الآخر:

العبدُ ربٌّ والربُّ عبدٌ ... فليتَ شِعْري منِ المُكلَّفُ

نستغفر الله ونتوب إليه!
وهذا كفر! ومن قال هذه القصائد فهو كافر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ والرُّبعيات عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ)}.
يعني: تنزيل ذلك على الله والقول بالحلو؛ فهذا كفر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرَّقْصُ بِالْإِيقَاعِ وَنَعْتُ الرَّقَّاصِينَ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ فِسْقٌ، وَعَلَى أَحْكَامِ التَّوَاجُدِ وَالْغِنَاءِ لَهْوٌ وَلَعِبٌ)}.
الصُّوفيَّة أحدثوا الرَّقص، وهو أن يقوم ويهز نفسه، ويسمونه تواجد، ويدوخ ثم يسقط، فهذا إذا كان على أحكام الدين، كأن يذكر شرب الخمر؛ فهذا الرقص في حد ذاته يعتبر فسقًا، وإذا كان على غير أحكام الدين فهو لعبٌ ولهوٌ؛ ففرَّق أهل العلم بين أنواع الرَّقص، فالرَّقص الدِّيني بدعة وفسق وضلال، والرَّقص الذي على أحكام التَّواجد والغناء؛ فهذا لعبٌ ولهوٌ، وكله منهيٌ عنه للرجال، ولا يُرخص فيه شيءٌ للرِّجال، وبالتَّالي لا يتديَّن الإنسان بهذه الأشياء، تجد بعض الصُّوفيَّة يقول: "لا إله إلا الله" ثمَّ يدور ويدور ويتمايل؛ نقول: هذا ليس من هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا الصحابة، وهذا خروجٌ عن طريقهم، وحذَّر منه أئمَّة الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقَصَائِدَ والربعيات الْمُلَحَّنَةَ الْجَائِي بَيْنَ أَهْلِ الْأَطْبَاعِ عَلَى أَحْكَامِ الذِّكْرِ إلَّا لِمَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ؛ وَمَا لَا يَلِيقُ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَيَكُونُ اسْتِمَاعُهُ كَمَا قَالَ: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ الْآيَةَ. وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَقَصَدَ اسْتِمَاعَهُ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى غَيْرِ تَفْصِيلِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ، فَكُلُّ مَنْ جَمَعَ الْقَوْلَ وَأَصْغَى بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، إلَّا لِمَنْ عُرِفَ بِمَا وَصَفْت مِنْ ذَكَرَ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِمَّا لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِينَ فِيهِ نَعْتٌ وَلَا وَصْفٌ؛ بَلْ تَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْوَطُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَالْفِتْنَةُ فِيهَا غَيْرُ مَأْمُونَةٍ. إلى أن قال: واتِّخاذُ المجالس عَلَى اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ. وَالرَّقص بالربعيات بِدْعَةٌ، وَذَلِكَ مِمَّا أَنْكَرَهُ المطلبي وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يُعْرَفُونَ فِي الدِّينِ وَلَا لَهُمْ قَدَمٌ عِنْدَ الْمُخْلَصِينَ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ: إنَّ أَصْحَابَك قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا يُقَالُ لَهُ الْقَصَائِدُ. قَالَ مِثْلُ أيش؟ قَالَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "اصْبِرِي يَا نَفْسُ حَتَّى تَسْكُنِي دَارَ الْجَلِيلِ" فَقَالَ: حَسَنٌ، وَأَيْنَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْت بِبَغْدَادَ فَقَالَ كَذَبُوا -وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ- لَا يَسْكُنُ بِبَغْدَادَ مَنْ يَسْتَمِعُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِمَّا نَقُولُ -وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا- إنَّ الْفَقِيرَ إذَا احْتَاجَ وَصَبَرَ وَلَمْ يَتَكَفَّفْ إلَى وَقْتٍ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ كَانَ أَعْلَى، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّبْرِ كَانَ السُّؤَالُ أَوْلَى بِهِ عَلَى قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ» الْحَدِيثَ.
وَنَقُولُ: إنَّ تَرْكَ الْمَكَاسِبِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِشَرَائِطَ مَوْسُومَةٍ مِنْ التَّعَفُّفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ؛ وَمَنْ جَعَلَ السُّؤَالَ حِرْفَةً -وَهُوَ صَحِيحٌ- فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الْحَقِيقَةِ خَارِجٌ.
وَنَقُولُ: إنَّ الْمُسْتَمِعَ إلَى الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ» وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ فَهُوَ فِسْقٌ لَا مَحَالَةَ.
وَاَلَّذِي نَخْتَارُ -قَوْلَ أَئِمَّتِنَا: إنَّ تَرْكَ الْمِرَاءِ فِي الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسِطٌ يُؤَدِّي وَأَنَّ الْمُرْسَلَ إلَيْهِمْ أَفْضَلُ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَمَنْ قَالَ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ كَفَرَ ا ه)
}.
ابن خفيف ذكر أمورًا عند الصُّوفيَّة من الاستماع للقصائد والبدع التي عندهم، وحذَّرَ منها، وذكر أنَّ التَّحذير منها هو طريقة الشافعي، وسمَّاه هنا "المُطَّلبي"، وهو: محمد بن إدريس المطَّلبي الشَّافعي، وكذلك حذَّر من هذه القصائد مالك بن أنس، وسفيان الثوري، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، ثم قال: (وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يُعْرَفُونَ فِي الدِّينِ).
ثم ذكر ما حُكيَ لبشر -وهو من العبَّاد- أنَّ بعض الناس يستمعون للقصائد، مثل هذه القصيدة "اصْبِرِي يَا نَفْسُ حَتَّى تَسْكُنِي دَارَ الْجَلِيلِ". فقال: أين يكون هؤلاء؟ فقيل: في بغداد. فقال: لا؛ كأنَّه كثر في بغداد أهل الشَّر.
مسألة: متى يجوز السُّؤال؟
الأفضل أنَّ الإنسان يتعفَّف ولا يسأل، لكن عند الضَّرورة يجوز، والمسلم يُحاول أن يتكسَّب ويجتهد، كما أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُم أَحبُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِي بحُزْمَةٍ مِن حَطَبٍ عَلى ظَهْرِهِ فَيَبيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّه بِهَا وَجْهَهُ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَن يَسأَلَ النَّاسَ: أَعْطَوْهُ، أَوْ مَنَعُوهُ» .
ثم رجع إلى مسألة الاستماع للغناء، وبيَّن أنَّه فسقٌ حتَّى في غير التَّعبُّد، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوً﴾ [لقمان: 6]، قال عبد الله بن مسعود: "والله الذي لا إله إلَّا هو إنَّ لهو الحديث لهو الغناء".
والنَّقلُ طويلٌ عن ابن خفيف، والشاهد منه: بيان طريقة أهل السُّنَّة والجماعة، وأنَّ هذا من كبار الصُّوفيَّة، وصحَّحَ طريقة أهل السُّنَّة والجماعة في إثبات الصِّفات ونفي طريقة المتكلِّمين، والتَّحذير منها، وطريقة الحلوليَّة، فجزاه الله خيرًا على ما بيَّنَ. فهذا هو مراد ابن تيمية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الجيلاني)}.
أبو صالح الجيلاني من الحنابلة المشهورين، ومن متأخري الصُّوفيَّة، إذا قلنا إنَّ ابن خفيف توفي سنة 371 للهجرة، فهذا أيضًا من متأخري الصُّوفيَّة، وتوفي بعد ابن خفيف سنة 561 للهجرة، ومع ذلك مع كثرة الضَّلال والانحراف في المتصوفة إلَّا أنَّ هذا الجيلاني ردَّ على ضُلَّال المتصوفة حتَّى في مسألة الأسماء والصِّفات، وردَّ على المتكلمين، والجيلاني على السنَّة، ولكن عنده بعض التَّجاوزات نُبِّه عليها، ولكنَّها قليلة، وبعد موته غلا فيه بعض الناس فصار يُعبَد من دون الله، حتَّى يقول بعض المشركين ممَّن ينتسب للإسلام: "يا عبد القادر يا جيلاني.. يا متصرِّف في الأكوانِ"، ويستغيثون به من دون الله، يقولون: يا جيلاني يا جيلاني؛ وهذا عبدٌ من عباد الله لا يجوزُ أن يُعبَد، فهو رجل صالح، ولا يجوز الغلو فيه ولا في غيره. وكتابه "الغُنيَة" مطبوع وموجود ومتداول ومُحقَّق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ فِي كِتَابِ "الغنية": أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ ، ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ بَلْ يُقَالُ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ . وَذَكَرَ آيَاتِ وَأَحَادِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ. قَالَ: وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ: مَذْكُورٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا كَيْفٍ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ وَذَكَرَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ نَحْوَ هَذَ)}.
الجيلاني -رَحِمَهُ اللهُ- كلماته كثيرة في إثبات الصفات، وهو إمام مُقدَّم عند كثيرٍ من هؤلاء المتأخرين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ ذَكَرْت مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا لَطَالَ الْكِتَابُ جِدًّا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَيْنَا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَس وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عيينة والأوزاعي وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ فِي أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ أَوْ جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَهُوَ عِلْمٌ يُدَانُ بِهِ؛ وَمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتُ النَّقْلِ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ - سِوَى هَذِهِ - مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ - وَذَكَرَ بَعْضَ الْآيَاتِ - إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ، لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ : هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَيْضًا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إلَّا إنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ؛ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُونَهَا وَلَا يَحْمِلُونَ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ، وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ، وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ: بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ)
}.
هذا هو كلام أبو عمر بن عبد البر النُّميْري المالكي، قال الشيخ في وصفه: (إمَامِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ)، وصدقَ، فهو من كبار أئمَّة المالكيَّة وأئمَّة أهل السُّنَّة والجماعة، ومن كبار أئمَّة أهل الحديث أيضًا، وله عناية في شرح الموطَّأ، وشرحه مطبوع واسمه: "التَّمهيد"، وله كتب معروفة، مثل: "جامع بيان العلم وفضله"، ومنه نقل الشيخ هنا هذه الكلمات، فهذه الكلمات التي نقلها عن "ابن عبد البر" كلها تؤيِّد مذهب السَّلف الصَّالح.
نعلق على قوله: (وَالْخَوَارِجُ)، أنَّهم يُنكرون الصفات، لعلَّ هذا -والله أعلم- في المتأخرين منهم، وهم "الإباضيَّة" المتأخرون الذين خالطوا المعتزلة، فتأثَّروا بعقيدة الجهميَّة، وإلَّا فالمتقدِّمون لم يحدث في زمنهم إنكار الصفات -أعني الذين خرجوا على علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وإنما كان إنكار الصفات من بعض طوائف الخوارج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي عَصْرِهِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي مَعَ تَوَلِّيهِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَبِّهِ عَنْهُمْ)}.
البيهقي كان في عصر ابن عبد البر؛ لأنَّ ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللهُ- نوفي سنة 463 للهجرة، والبيهقي معاصر له وتوفي قبله بخمس سنوات 458 للهجرة، والبيهقي من أئمَّة الشَّافعيَّة الكبار، وخدم المذهب الشافعي، وخدم أهل العلم، واستفاد منه أهل العلم، وله كتب نافعة سائرة مشهورة، مثل: "دلائل النبوة" وغيرها كثير -رَحِمَهُ اللهُ.
وأبو بكر البيهقي -رَحِمَهُ اللهُ- عليه بعض المؤاخذات، فإنَّه يتولَّى المتكلِّمين -كما قال الشيخ- أي: أصحاب أبي الحسن الأشعري، كالباقلَّاني وأشباهه، ولهذا وقع في كثيرٍ من التأويل، لكنَّه مع هذا كلِّه اُنظر إلى كلامه في إثبات الصِّفات من كتابه: "الأسماء والصفات" وهو كتابٌ مطبوعٌ ومتداول، وفيه ما يُبيِّن هذا النَّقل عن البيهقي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ فِي كِتَابِهِ "الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ": (بَابُ مَا جَاءَ فِي إثْبَاتِ الْيَدَيْنِ صِفَتَيْنِ -لَا مِنْ حَيْثُ الْجَارِحَةِ- لِوُرُودِ خَبَرِ الصَّادِقِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وَقَالَ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ . وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ » وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ » وَفِي لَفْظٍ: «وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ »، وَمِثْلُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَرَسَ كَرَامَةَ أَوْلِيَائِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ بِيَدِهِ » وَمِثْلُ قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ؛ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ ». وَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِثْلَ قَوْلِهِ: «بِيَدِي الْأَمْرُ »، «وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك »، «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ » و «أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ » وَقَوْلُهُ: «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ » وَقَوْلُهُ: «يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟»، وَقَوْلُهُ: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَاحِ. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَهُ: «إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ اخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت. قَالَ: اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ »، وَحَدِيثَ: «إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَدِهِ »، إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ.

ثُمَّ قَالَ البيهقي: أَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَسِّرُوا مَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ؛ مَعَ أَنَّهُ يَحْكِي قَوْلَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ)}.
هذا يُبيِّنُ لكَ أنَّ البيهقي -مع الأسف- قد حكى قول بعض المتأخرين من أهل الكلام -وغلط في هذا-، ولكنَّه صرَّح بتصريحٍ مهم جدًّا، وهو أنَّ سلف هذه الأمَّة والمتقدِّمون لم يفسروا هذه الأحاديث وقبلوها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ "إبْطَالِ التَّأْوِيلِ")}.
كتاب "إبْطَالِ التَّأْوِيلِ" مطبوع، وأبو يعلى حنبلي، وتوفي في نفس السنة التي تُوفي فيها البيهقي 458 للهجرة، وعنده بعض الأخطاء أيضًا، ولكنه أصاب في بعض كلامه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ "إبْطَالِ التَّأْوِيلِ": لَا يَجُوزُ رَدُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَا التَّشَاغُلُ بِتَأْوِيلِهَا وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ سَائِرِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا مِنْ الْخَلْقِ؛ وَلَا يَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فِيهَا؛ لَكِنْ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ.
وَذَكَرَ بَعْضَ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَاللَّيْثِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عيينة والفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَالْأُسُودِ بْنِ سَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري، وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي حِكَايَةِ أَلْفَاظِهِمْ طُولٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ حَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَأْوِيلِهَا وَلَا صَرَفُوهَا عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ سَائِغًا لَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ التَّشْبِيهِ وَرَفْعِ الشُّبْهَةِ)
}.
هذا هو كلام أبي يعلى الحنبلي، وإن كان عليه مؤاخذات في مواضع أُخرى؛ لكن هنا يُبيِّن مذهب الصَّحابة، وأنَّهم لا يقولون بهذه التَّحريفات -التي يسمونها التَّأويل.
والشيخ هنا ينقل عن أبي الحسن الأشعري إمام المتأخرين من الأشاعرة، وأنَّهم يُخالفونه فيما يقوله، وتوفي سنة 320 للهجرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ فِي الْكَلَامِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي "اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ" وَذَكَرَ فِرَقَ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: مَقَالَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ جُمْلَةً. قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وَكَمَا قَالَ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَ﴾ ، وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾. وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُقَالُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ، وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا، كَمَا قَالَ: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ ، وَكَمَا قَالَ: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ﴾ ، وَأَثْبَتُوا لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْقُوَّةَ كَمَا قَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ ، وَذَكَرَ مَذْهَبَهُمْ فِي الْقَدَرِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَالْكَلَامُ فِي اللَّفْظِ وَالْوَقْفِ، مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ وَبِالْوَقْفِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَهُمْ، لَا يُقَالُ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَلَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَرَاهُ الْكَافِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ عَنْ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ ، وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ وَأَشْيَاءَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْهَدُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُنْكِرُونَ الْجَدَلَ وَالْمِرَاءَ فِي الدِّينِ، وَالْخُصُومَةَ فِيهِ، وَالْمُنَاظَرَةَ فِيمَا يَتَنَاظَرُ فِيهِ أَهْلُ الْجَدَلِ وَيَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ، وَيُسَلِّمُونَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَدْلٌ عَنْ عَدْلٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَا يَقُولُونَ كَيْفَ وَلَا لِمَ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ عِنْدَهُمْ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ﴾ ، وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ، إلَى أَنْ قَالَ: وَيَرَوْنَ مُجَانَبَةَ كُلِّ دَاعٍ إلَى بِدْعَةٍ، وَالتَّشَاغُلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَةَ الْآثَارِ وَالنَّظَرَ فِي الْآثَارِ؛ وَالنَّظَرَ فِي الْفِقْهِ مَعَ الِاسْتِكَانَةِ وَالتَّوَاضُعِ؛ وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ؛ وَكَفَّ الْأَذَى وَتَرْكَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسِّعَايَة، وَتَفَقُّدَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. قَالَ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَسْلِمُونَ إلَيْهِ وَيَرَوْنَهُ، وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ؛ وَمَا تَوْفِيقُنَا إلَّا بِاَللَّهِ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ)}.
هذا النَّقلُ عن كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" وهو موجود ومطبوع، ويُصرِّح بأنَّه يتَّبع قول أهل الحديث، فقال في نهاية النَّص: (وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ)، فهذا عبرة لكلِّ أشعري، أن يكون على طريقته في اتِّباعه لمذهب أهل الحديث وأصحاب الحديث، وأهل السُّنَّة والجماعة.
وكل هذه المقولات مقولات جيدة وعظيمة، فقوله -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ)، هذا تصريحٌ منه باتِّباع طريقة أهل الحديث، فالواجب على أتباع الأشعري ومحبِّي أبي الحسن الأشعري -رَحِمَهُ اللهُ- أن يسلكوا مسلكه في اتِّباع أهل السُّنَّة وأصحاب الحديث الذين يذهب إلى قولهم، ويُصرِّح باتِّباعهم، فرحمه الله وجعلنا الله وإيَّاكم من أهل السُّنَّة وأصحاب الحديث متَّبعين لهم، إنَّه سبحانه وتعالى جوادٌ كريم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم ونفع بعلمكم.
وفي ختام هذه الحلقة نشكركم أعزائي المشاهدين والمشاهدات على طيب المتابعة، سائلين الله أن لنقاكم في حلقةٍ جديدة من حلقات البناء العلمي، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك