الدرس الثالث

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2991 13
الدرس الثالث

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقة جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإياكم ما بدأناه في شرح "الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التَّدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة.
أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَهَذَا كِتَابُ اَللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ اَلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ثُمَّ كَلَامُ سَائِرِ اَلْأُمَّةِ مَمْلُوءٌ بِمَا هُوَ إِمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو العليُّ الأعلَى، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ اَلسَّمَاءِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مثل قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه﴾ [فاطر: 10]، ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55] ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ • أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبً﴾ [الملك: 16ـ17]، ﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]، ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 4]، ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة: 5]، ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يونس: 3]، في ستة مواضع، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ • أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ [غافر: 36ـ37]، ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]، ﴿مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ [الأنعام: 114]. إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى إِلَّا بِكُلْفَةٍ.
وَفِي اَلْأَحَادِيثِ اَلصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مَا لاَ يُحْصَى إِلَّا بِكُلْفَةٍ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يستكمل بيان الحججِ الشَّرعيَّة في بطلان مذهب المعطِّلة للصَّفات بقسميهم: مَن سَلك مَسلك التَّأويل، ومَن سَلك مسلك التَّفويض.
الشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَبني على ما تقدَّمَ من تلك المقدِّمة التي تقدَّم قراءتها في الدَّرس الماضي، فالمقدِّمة اشتملت على بيان صحَّة طريقة الصَّحابة والتَّابعين، وهم السَّلف الصَّالح وأئمَّة السُّنَّة في إثبات أسماء الله وصفاته من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وتضمَّنت تلك المقدِّمة بطلان مذهب المعطِّلة، وبيان فساده من عدَّة أوجه.
فقال: (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ...)، ثم ذكر مثالًا على صفةٍ يُنكرها المعطِّلة، وهي: علو الله فوق خلقه، فقال: (فَهَذَا كِتَابُ اَللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ اَلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ثُمَّ كَلَامُ سَائِرِ اَلْأُمَّةِ مَمْلُوءٌ بِمَا هُوَ إِمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو العليُّ الأعلَى).
ما الفرق بين النَّص والظَّاهر؟
النَّص: لا يحتمل معنًى ثانٍ.
الظَّاهر: هو الذي قد يتطرَّق إليه الاحتمال، لكنهم يريدون ما هو ظاهر.
وعبَّر الشيخ بهذا؛ لأنَّه في وقت الصحابة ووقت أوائل التابعين لم يكن هناك مَن يُنكر العلو، ولم يكن هناك مَن يُنكر الصفات، وإنَّما حدث بعد مائة سنة، وكان أول من نادى بهذا الجعد بن درهم، وكذلك تلميذه الجهم بن صفوان، وورث عنهم بِشرُ المَرِيسي وأئمة الضلال، ثم المعتزلة، ثم تأثَّر بهم الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أخذوا مذهب التعطيل من هذا المصدر السيء -الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثالهما.
أمَّا النُّصوص الشرعية وكلام الصحاب فمملوء -إمَّا بنص أو بظاهر- أن الله -سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهذا مثال من أمثلة الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة مما يُثبَت لربنا -سبحانه وتعالى.
وصفة العلو ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع وبالفطرة وبالعقل، ولا يُنكرها إلَّا مكابر، حتى هؤلاء المعطِّلة إذا أنكروها فهم في قرارة أنفسهم تأبى نفوسهم خلاف الحق، لكنهم يُكابرون.
وبعض العلماء يقول: في القرآن أكثر من ثلاثمائة دليل. وبعضهم يقول: في القرآن أكثر من ألف دليل على علو الله.
وذكر ابن القيم في كتابه العظيم "إعلام الموقعين" أنواع الأدلة، وكل نوع تحته عدد من الأفراد، فذكر اثنين وعشرين نوعًا من أنواع الأدلة الدَّالَّة على علو الله، وكل نوعٍ من هذه الأنواع يتضمَّن أفرادًا وأمثلةً من الآيات والأحاديث، وفي كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطِّلة والجهميَّة" ساقَ النصوص، ثم ساق بعدَ ذلك أقوال أئمة الإسلام، بدءً من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث وأئمة الفقه إلى آخره.
بعد هذا نترك كلامهم ونذهب إلى مَن لا يُعرف لا بإمامةٍ في الدين ولا بعلم، وإنما عُرِفَ بعلم الكلام المذموم؟!
يقول -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ اَلسَّمَاءِ)، ثم ذكر الأدلة الصريحة الواضحة.
قال: (مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه﴾ [فاطر: 10])
، فالصُّعود يكون من أسفل إلى أعلى، ولا يُمكن أن يكون الصعود من أعلى إلى أسفل، فصعود الكلم دالٌّ على علو الله -سبحانه وتعالى.
ولَمَّا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصلاة: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، قال صحابي: "ربَّنا لَكَ الحمدُ، حمدًا كثيرًا طَيِّبًا مبارَكًا فيهِ" فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الصلاة: «من الذي قال هذا؟»، فسكت ثم قال: "أنا يا رسول الله" فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَقَدِ ابتدرَهَا بِضعةٌ وَثَلاثُونَ مَلَكًا أيُّهُم يَصْعَدُ بِهَ»، فهذا كلام عربي، ولسنا عجم لا نفهم العربية، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفصح مَن نطق بالضاد، فهل يضيف إلى الله ما يكون محالًا كما يقول هؤلاء المعطِّلة؟!
قوله تعالى: ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه﴾ ، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يرفع العمل الصالح، والرفع يكون من أسفل إلى أعلى.
وهل يكون المعنى: أن العمل الصالح يرفع العمل الطيب؟
كلا المعنيين يدل على أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في العلو.
قال تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55]، هذا عيس بن مريم، والوفاة هنا ليست بمعنى الموت؛ لأنَّه لم يمت، بل رُفع إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولم يقتله اليهود كما زعموا، وكما ظنه جهلة النصارى، قال تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: 157].
قال تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ • أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبً﴾ [الملك: 16ـ17].
﴿مَّن فِي السَّمَاءِ﴾ ، يعني: مَن في العلو وهو الله -سبحانه وتعالى- والله هو الذي يُرسل ويخسف، ويُعاقب ويرحم، ويُعطي ويمنع، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يخوفهم بنفسه -سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ، أي: ألم تخافوا منه سبحانه أن يخسف بكم الأرض؟! فوصف الله نفسه بأنه في السماء.
وقال تعالى: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]، هذا في عيسى ابن مريم -كما تقدَّم.
قال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 4]، العروج: هو الصعود.
وهذا يذكرنا بقصَّة الإسراء والمعراج، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُرِجَ به إلى فوق السماء السابعة، وكلمه الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة: 5]، يعني: يصعد إلى الله.
قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]، قال العلماء: "مِن" هنا تمنع المجاز الذي يزعمه هؤلاء، وتثبت حقيقة الفوقيَّة. والمقصود: أن الملائكة يخافون الله؛ لأنه فوقهم وفوق كل شيءٍ سبحانه.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يونس: 3]، في ستة مواضع، وفي موضع آخر ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، فهذا هو الموضع السَّابع أتى به في آية مستقلة.
قال الإمام مالك بن أنس: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسُّؤال عنه بدعة"، قال السلف: الاستواء هو العلو والارتفاع، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- استوى على العرش استواءً يليق بجلاله، ولا يجوز الخوض في الكيفية، فمن خاض فيه فقد هلكَ وضلَّ؛ لأن العقول تنحسر، وهي أقل وأحقر من أن تحيط بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
أمَّا مَن مثَّل وقال: استواء الله كاستوائي؛ فهو كافر، ومن الإفك المبين الذي ينشرونه المعطِّلة أنَّهم يزعمون أنَّ ابن تيمية قال: الله استوى على العرش كاستوائي على هذا المنبر! قبَّحهم الله، فإنَّ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأئمة السلف يرون أنَّ مَنْ شبَّه الله بخلقه فقد كفرَ، وهذا مُصرَّحٌ به في كتبهم، وهكذا يفعلون ليشوِّهوا مذهب أهل السنة بهذه الأكاذيب، وهذا شيءٌ لا يخفى على عاقل ومنصف.
وعلى كل مسلم أن يطلب الحق بدليله، ولا يصدق الأكاذيب التي تُلقَى من أهل البدع وأهل الخرافة، فإنَّ هذا ديدنهم ليشوهوا الحق، كما أن حالهم الآن في تشويه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ويشوهون طريقة أهل السنة والجماعة -الطريقة السلفية- فيشوهونها بأفعال المجرمين من الخوارج، أو بأفعال الضَّالِّين، أو بتصرُّفات الفاسقين.
وقوله تعالى: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ • أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ [غافر: 36ـ37]، كل مَن يفهم الخطاب يُدرك أن فرعون من شدَّة طغيانه واستكباره وعتوِّه يقول لوزيره هامان: ابنِ لي صرحًا -يعني البناء العالي- حتَّى يطَّلع إلى إله موسى، فانظر إلى الطغيان الذي يصل إليه البشر، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6، 7].
ثم قال حكاية عن فرعون: ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ ؛ لأن موسى كان يُخبر الناس أن ربهم فوق كل شيء، فجاء هذا الطاغية فرعون وقال: أريد أن أطلع إلى إله موسى، وأظنُّ موسى كاذبًا!
إذًا؛ موسى -عليه الصلاة والسلام- وجميع الأنبياء والرسل يُخبرون عن علو الله، والمعطِّلة وإمامهم فرعون يجحدون علو الله ويكذِّبون به، فالمسلم يتَّبع أنبياء الله ورسله، ويتَّبع نبي الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويسير على هذه الطريقة النَّبويَّة.
وأمَّا الضَّال التَّائه فنقول له: تُبْ إلى الله، وتمسَّك بطريقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي طريقة جميع الأنبياء والرسل، واترك عنك طرق الجاحدين.
قال تعالى: ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]، يعني القرآن العظيم، وقوله: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ ، يعني أنه نزل من عند الله، والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، والقرآن تكلَّم الله به حقيقة، وسمعه منه جبريل، ثم نزل به جبريل على قلب نبيِّنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193، 194]، فالروح الأمين عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- سمع كلام الله ونزل به، وهذا القرآن العظيم تكلَّم به الله حقيقة، ومنه بدأ -سبحانه وتعالى.
ولهذا نحن نقول: القرآن كلام الله مُنزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، وهو صفة للرب -سبحانه وتعالى- وأمَّا الورق الذي طُبِعَ به المصحف والحبر فهذا مخلوق، ولكن الإشارة إلى القرآن يُراد بها الكلام.
مثال ذلك: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]، هذه يجري عليها أربعة أشياء:
- تسمعها أنت بصوتي، وصوتي مخلوق، ولساني مخلوق، وهذا كل البشر.
- البصر، فأنت تراها ببصرك، والذي يُرى هو الحبر والورق وهو مخلوق، لكن الْمُبْصَر هو الكلام نفسه، فهذا الكلام مُنزَّل من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- والله تعالى هو الذي قال هذا الكلام، لم يقله الرسول ولم يقله جبريل.
- الكتابة.
- الحفظ في الصدور، فالصدور مخلوقة.
إذًا؛ المكتوب والمحفوظ الْمُبْصَر والمسموع هو الكلام، وهو كلام الله بدأ الله به، فإن الكلام إنَّما يُضاف إلى مَن قاله مبتدأً لا إلى مَن قاله مُبلِّغًا مُؤدِّيًا، ولهذا قال العلماء: القرآن كلام الله مُنزَّلٌ غيرُ مخلوق، والله تعالى وصفه بذلك فقال: ﴿مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ [الأنعام: 114]، يعني ابتداؤه من الله، فهو كلامه -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا فيه إبطال لقول المعتزلة الذين قالوا: إن القرآن من ضمن المخلوقات، وأنَّ الله لم يتكلَّم بشيء، فإن المعتزلة يُنكرون جميع صفات الله، ومنها صفة الكلام، وهذه من بدعهم الشنيعة -نسأل الله العافية والسلامة.
والأشاعرة شاركوهم في نصف قولهم، فقالوا: الكلام كلامان:
- نفسي: وهذا لم ينزل.
- عبارات وحروف ومعاني: وهذه مخلوقة.
وهذا كلام فاسد وباطل، وهذا ليس محل إبطال هذا الكلام، ولكن لما كانت الآية تدل على هذا المعنى كما تدل على العلو، فإنَّ النزول يدل على أن الله في العلو، وأن القرآن نزل من عنده.
قال الشيخ: (إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى إِلَّا بِكُلْفَةٍ)، وصدقَ، فإن الآيات كثيرة جدًّا في هذا المعنى، وذكرتُ لك مرجعين فيهما جملة طيبة من جمع هذه النصوص والتعليق عليها من كتاب "إعلام الموقعين"، ومن كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وهنا مُصنَّفات أخرى، مثل: مصنف لابن قدامة اسمه "إثبات العلو"، وكذلك كتاب: "العلو" للذهبي، وكتب أخرى مضمَّنة، مثل: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للَّالكائي، وضمنه هذه المسألة.
ثم بعدما ذكر الشيخ الآيات ينتقل الآن إلى الأحاديث النبوية الصحيحة، فنستمع إلى هذه الأحاديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مِثْلُ قِصَّةِ مِعْرَاجِ رَسُولِ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَبِّهِ، وَنُزُولِ اَلْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَصُعُودِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَوْلِه: «اَلْمَلَائِكَةِ اَلَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَعْرُجُ اَلَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إِلَى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ». وَفِي اَلصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ اَلْخَوَارِجِ: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ اَلسَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً». وَفِي حَدِيثِ اَلرُّقْيَةِ اَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: «رَبُّنَا اَللَّهُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ تَقَدَّسَ اِسْمُك، أَمْرُك فِي اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُك فِي اَلسَّمَاءِ، اِجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي اَلْأَرْضِ اِغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ اَلطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا اَلْوَجَعِ». قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اِشْتَكَى أَحَدٌ مِنْكُمْ، أَوْ اِشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبُّنَا اَللَّهُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ»، وَذَكَرَهُ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اَلْأَوْعَالِ: «وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَهَذَا اَلْحَدِيثُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ اَلسُّنَنِ كَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، فَالْقَدْحُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَقْدَحُ فِي اَلْآخَرِ، وَقَدْ رَوَاهُ إِمَامُ اَلْأَئِمَّةِ اِبْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ اَلتَّوْحِيدِ، اَلَّذِي اِشْتَرَطَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَحْتَجُّ فِيهِ إِلَّا بِمَا نَقَلَهُ اَلْعَدْلُ عَنْ اَلْعَدْلِ، مَوْصُولاً إِلَى اَلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ فِي اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ لِلْجَارِيَةِ: «أَيْنَ اَللَّهُ». قَالَتْ فِي اَلسَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟». قَالَتْ: رَسُولُ اَللَّهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». وَقَوْلُهُ فِي اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ: «إِنَّ اَللَّهَ لَمَّا خَلَقَ اَلْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي». وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ قَبْضِ اَلرُّوحِ: «حَتَّى يُعْرَجَ بِهَا إِلَى اَلسَّمَاءِ اَلَّتِي فِيهَا اَللَّهُ». إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ اَلصَّحِيحَيْنِ. وَقَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اَلَّذِي أَنْشَدَهُ اَلنَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ... وَأَنَّ اَلنَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ اَلْعَرْشَ فَوْقَ اَلْمَاءِ طَافٍ... وَفَوْقَ اَلْعَرْشِ رَبُّ اَلْعَالَمِينَا
وَرُويَ عنه من وجوهٍ صحاحٍ أخرجَه أبُو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"
وَقَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي اَلصَّلْتِ اَلثَّقَفِيِّ اَلَّذِي أُنْشِدَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شِعْرِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ: «آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ»، حيثُ قال:
مَجِّدُوا اَللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ.. رَبُّنَا فِي اَلسَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ اَلْأَعْلَى اَلَّذِي سَبَقَ اَلنَّاسَ... وَسَوَّى فَوْقَ اَلسَّمَاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ اَلْعَيْنِ... يَرَى دُونَهُ اَلْمَلَائِكَة صُورَا
وَقَوْلُهُ فِي اَلْحَدِيثِ اَلَّذِي فِي اَلسُّنَنِ: «إِنَّ اَللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرً»، أي: خالية. وَقَوْلُهُ: «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ». إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْصِيهِ إِلَّا اَللَّهُ، مِمَّا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ اَلْمُتَوَاتِرَاتِ اَللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، اَلَّتِي تُورِثُ عِلْمًا يَقِينِيًّا مِنْ أَبْلَغِ اَلْعُلُومِ اَلضَّرُورِيَّةِ أَنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اَلْمُبَلِّغ عَنْ اَللَّهِ أَلْقَى إِلَى أُمَّتِهِ اَلْمَدْعُوِّينَ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ اَلسَّمَاءِ، كَمَا فَطَرَ اَللَّهُ جَمِيعَ اَلْأُمَمِ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، إِلَّا مَنْ اِجْتَالَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ فِطْرَتِهِ)
}.
الشيخ يذكر مجموعة من الأمثلة، وليس مقصود الشيخ هو حصر الأدلَّة، وما أمامك الآن هو أنواع قليلة جدًّا من الأدلة مما جاء في سنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من ذلك: حديث الإسراء والمعراج.
ومعراج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي: عروجه من بيت المقدس إلى ما فوق السماء السابعة، وهذا أمرٌ أجمع عليه المسلمون، ولم يُنكره إلَّا الكافرون، وحتى أهل البدع لا يُخالفون فيه، فإذا كان قد عُرِجَ به إلى ربِّه -عَزَّ وَجَلَّ- وسمع كلام الله، وكلَّمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفرض عليه الصلوات الخمس؛ فهذا من أوضح ما يكون أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في العلو، وأنه تعالى فوق السماوات السبع، فكيف يقول المبتدعة: إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس في العلو ولا نثبت له العلو؟!
والعلو يُطلق على ثلاثة معاني:
الأول: علوم القدر.
الثاني: علو القهر.
وهذان المعنيان لا يُنازع فيهما المبتدعة.
الثالث: علو الذات، وهو العلو الحسي، ومعناه: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق السماوات.
الفرق بين علو القدر وعلو القهر:
علو القدر: كأن تقول إنَّ العالم أعلى من الجاهل، يعني: قدر العالم أعلى من الجاهل؛ فهذا يسمَّى علو القدر.
علو القهر: يتضمَّن السُّلطة والقوة، مثل أن تقول: الْمَلِك أعلى من الرّعيَّة، فليس معناه أنه جالس في مكانٍ أعلى.
علو الذات: مثل أن تقول في المخلوقين: أنا في السطح أعلى من الذين في الأسفل، ولكن لَمَّا نأتي إلى صفات الرَّب لا نقيسه بخلقه، ولا نضرب له الأمثال، فالله تعالى أخبرنا أنه العلي الأعلى.
وعروج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى السماء السابعة يدل على أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق الخلق، وهذا الذي يُنازع فيه المبتدعة، حتى إنَّ منهم مَن يقول: لا فرق بين يونس -لَمَّا كان في بطن الحوث في أسفل البحر- وبين محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا عُرِجَ به لأعلى.
والله -عَزَّ وَجَلَّ- قريب ومحيط ويعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهذا المعراج دليل على منزلة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والاختصاص هنا ليس لأجل مسمَّى المعراج، وإنَّما لأنَّه يتضمَّن تكريم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقربه من الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: (وَنُزُولِ اَلْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَصُعُودِهِمْ إِلَيْهِ)، وهذا جاء في الأحاديث، مثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اَلْمَلَائِكَةِ اَلَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَعْرُجُ اَلَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إِلَى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ». فقوله «يَعْرج»، يعني: يصعد.
قال: (وَفِي اَلصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ اَلْخَوَارِجِ).
الخوارج هم فرقة ضالَّة، وهم أوَّل الفِرَق خروجًا، فخرجوا عن الدين ومرقوا منه، وسبب خروجهم هو الغلو والتَّنطُّع، فأول خروجهم كان في زمن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا استنكروا عليه حتى تسبَّبُوا في قتله، ثم خرجوا على علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فهم طائفةٌ خبيثة، ولا تزال تخرج إلى قيام الساعة.
ومذهب الخوارج يقوم على أصلين خطيرين:
الأصل الأول: أنهم يجعلون ما ليس بسيئةٍ من تصرفات ولي الأمر سيئةً، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقسم الغنائم، وكان يتألَّف بعض الناس ويعطيهم أكثر، فقال: اعدل فإنَّك لم تعدل؛ فجعل ما ليس بسيئة سيئة، ويتَّهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وهكذا قالوا في عثمان وعلي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- وهكذا يقولون في جميع الحكَّام، ثم يرتِّبون على ذلك كُفر الحاكم، ثم كُفر مَن معه، واستحلال دمه ودم مَن معه.
الأصل الثاني: الخروج، فيحملون السَّيف والسِّلاح ويبدؤون في القتل ويستحلِّون دماء المسلمين.
فهاتان صفتان ملازمتان للخوارج، وقد يكون عند الإنسان الصِّفة الأولى ولا تلحقه الصِّفة الثانية، فليحذر الإنسان من هذه الفِرقَة ومن جميع الفِرَق الضَّالة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ردًّا على هذا الذي قال له: اعدلْ فإنَّك لم تعدل: «ويلك ومَن يعدل إن لم أعدل، أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ اَلسَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً».
من هو الذي في السماء؟
الله -سبحانه وتعالى.
فالمعطِّلة يقولون: الله ليس في السماء، ويُعلنون مخالفتهم لكلام الله وكلام نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويجلس ساعات طوال ويُسوِّد الأوراق بما لا يسوى شيئًا في أن هذا المعنى يُراد به كذا...، وأنَّ هذا مجاز...، وهذا لم يُرَد به كذا...!
والكلام العربي واضح، والفِطَر تقبله بدون تكلُّف، وليس معنى أنه -عَزَّ وَجَلَّ- في السماء أن السماء تظله أو تُقلِّه، بل إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق كل شيء، ومعنى أنَّه في السماء، أي: أنه في العلو.
قال: (وَفِي حَدِيثِ اَلرُّقْيَةِ اَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: «رَبُّنَا اَللَّهُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ تَقَدَّسَ اِسْمُك، أَمْرُك فِي اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُك فِي اَلسَّمَاءِ»).
هذه رقية يُرقَى بها المريض، ينبغي عليك -أخي الكريم- أن تحفظها وتقرأها على نفسك وعلى المريض من أهل بيتك.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبُّنَا اَللَّهُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ»، هذا هو الشاهد، والمعنى: أنه في العلو وفوق كل شيء.
قوله: «تَقَدَّسَ اِسْمُك»، يعني: منزَّه عن كل عيبٍ ونقص.
قوله: «أَمْرُك فِي اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، يعني: إذا أمرتنا يا رب بأمرٍ فإنه ينفذ، فكل مَن في السماء وكل مَن في الأرض تحت تدبيرك.
قوله: «كَمَا رَحْمَتُك فِي اَلسَّمَاءِ»، فمن صفته -عَزَّ وَجَلَّ- الرحيم.
قوله: «اِجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي اَلْأَرْضِ»، فيه توسُّل بصفةٍ من صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يشفي هذا المريض.
قوله: «اِغْفِرْ لَنَ»، قدَّم بين يدي هذا الطَّلب التَّوسُّل، أي: الذُّنوب هي سبب البلايا.
قوله: «حُوبَنَا وَخَطَايَانَ»، أي: الذنوب العظيمة.
قوله: «أَنْتَ رَبُّ اَلطَّيِّبِينَ»، هذا توسُّلٌ بصفة عظيمة من صفات الرَّب.
فهناك ربوبية عامَّة وربوبية خاصَّة:
الربوبيَّة العامَّة: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ربُّ العالمين، وتشمل الرزق والتَّدبير والخلق والإيجاد.
والربوبيَّة الخاصَّة: للأنبياء والرُّسل وأهل الخير وأهل الصلاح، وتشمل الحفظ، والكلاءة، والرعاية، والتَّأييد، والهداية، والشفاء، فتوسَّلَ إلى الله تعالى بقوله «أَنْتَ رَبُّ اَلطَّيِّبِينَ»، فالطَّيبون هم: الأنبياء والرسل والمؤمنون والمسلمون، ويختلف باختلاف حال الإيمان، ولهذا فإنَّ الجنة لا يدخلها إلا الطيبون، قال -عَزَّ وَجَلَّ- في آخر سورة الزمر: ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73].
قوله: «أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ»، هنا الطلب، وكل ما سبق كان توسُّلًا.
وهذا يعلمنا مسألة جديدة ومهمَّة جدًّا، كيف نتوسَّل؟ وبماذا نتوسَّل؟ فلم يُعلمنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نتوسَّل بتوسلات مبتدعة اخترعها بعض المتأخرين؛ بل علَّمنا كيف نتوسَّل بأسماء الله وصفاته، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ [الأعراف: 180].
قوله: «وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا اَلْوَجِعِ». "الوجِع" بكسر الجيم هو المريض. و"الوَجَع" بفتح الجيم هو المرض.
قوله: «فَيَبْرَ»، أي: يبرأ من مرضه، أو يزول الوجع، نسأل الله تعالى أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين.
إذًا؛ هذا فيه توسُّل إلى الله بأسمائه وصفاته، ومن صفاته -عَزَّ وَجَلَّ- أنه في السماء، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبُّنَا اَللَّهُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ»، أي: أنه -عَزَّ وَجَلَّ- فوق كل شيء في العلو.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اِشْتَكَى أَحَدٌ مِنْكُمْ، أَوْ اِشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبُّنَا اَللَّهُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ»، وهذا الحديث له طريقان مشهوران يشد بعضهما بعضًا.
قال: (وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اَلْأَوْعَالِ)، وحديث الأوعال حديث طويل، وفيه ذكر الملائكة وأنهم على صفة الأوعال. الأوعال: جمعُ وعلٍ.
قال ضمن الحديث: «وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ»، وهو حديثٌ معروف عند أهل العلم ولم يستنكره أحد منهم، إنما استنكره المبتدعة فقط، فتبرَّموا وضاقوا ممّا فيه من إثبات لعلو الله على خلقه.
وَقَوْلُهُ فِي اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ لِلْجَارِيَةِ: «أَيْنَ اَللَّهُ». قَالَتْ فِي اَلسَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟». قَالَتْ: رَسُولُ اَللَّهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وهو نص قطعي ثابت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ما ترى الشمس في رابعة النهار.
والآن بعض المبتدعة يُكفِّر من قال هذا الكلام! نعوذ بالله! اِرجع أمرك وراجع نفسك، فهذا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأقل تقدير أن تستحي أن تتكلَّم في هذا الأمر، فكيف يشهد أن محمدًا رسول الله وهو يتبع هواه في هذه التَّكلُّفات والتَّأويلات؛ فهذا الحديث في صحيح مسلم، والبخاري ومسلم هما أصح كتابين، وروى هذا الحديث الصحابة وسمعوه من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنَّ معاوية السُّلَمي لما لطم الجارية فأراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتأكَّد من دينها، فقال له: «أَيْنَ اَللَّهُ». قَالَتْ فِي اَلسَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟». قَالَتْ: رَسُولُ اَللَّهِ، وفي رواية أخرى أنها قالت: فِي اَلسَّمَاءِ، وأشارت. فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»؛ وذكر هذا الحديث الإمام الشافعي في كتابه "الأم"، وهذا الحديث موجود عند أهل العلم قاطبة ولا يردونه.
وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ: «إِنَّ اَللَّهَ لَمَّا خَلَقَ اَلْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»، وهذا الحديث في البخاري ومسلم، وفيه دليل على علو الله لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عِنْدَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ»، والعرش فوق السموات بإجماع المسلمين، حتى المبتدعة يقولون إن العرش فوق السماء، وهو سقف الجنة، ولكن لا يقولون إن الله فوقه، وهذا من جهلهم، فإن بدعتهم أدَّت بهم إلى هذا التَّحريف.
وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ قَبْضِ اَلرُّوحِ: «حَتَّى يُعْرَجَ بِهَا إِلَى اَلسَّمَاءِ اَلَّتِي فِيهَا اَللَّهُ»، يعني في العلو.
وهذا شعرٌ أنشده عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- للنَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ ولم يُنكره، قال:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ... وَأَنَّ اَلنَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ اَلْعَرْشَ فَوْقَ اَلْمَاءِ طَافٍ... وَفَوْقَ اَلْعَرْشِ رَبُّ اَلْعَالَمِينَا
فهذا الكلام دلَّت عليه الأحاديث، ففوق السماوات ماء، وفوق الماء عرش رب العالمين، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه.
قال: (وَقَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي اَلصَّلْتِ اَلثَّقَفِيِّ)، هذا زعيم كبير من ثقيف في الطائف، وهو الذي أُشير إليه في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، الرجلين هما: أبو جهل وأمية بن الصلت، فكأن الكفار يقترحون أن الرسالة تكون لأحدهما! والله -عَزَّ وَجَلَّ- يصطفي مَن يشاء، ويخلق ما يشاء ويختار، فاصطفى أفضل البشر وأوحى إليه وجعله الرسول -صلوات الله وسلامه عليه.
وكان أميَّة بن الصلت رجل يقرأ ويدرس، فكان مما تعلمه وتلقاه من أهل الكتاب إثبات علو الله، وكان يقول فيه شعر، وليس هو الشاهد؛ لأننا لا نعتد بما في الكتب السابقة؛ لأنها منسوخة ولا ندري صحتها، وكذلك كلام العرب ليس فيه احتجاج، وإنما الاحتجاج أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُنْشَدُ هذا الشعر أمامه ويقول: «هيه»، وهذا اللفظ في صحيح مسلم، والمعنى أنه كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستحسنه ولا يُنكره.
فكان من ضمن شعره:
مَجِّدُوا اَللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ.. رَبُّنَا فِي اَلسَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ اَلْأَعْلَى اَلَّذِي سَبَقَ اَلنَّاسَ... وَسَوَّى فَوْقَ اَلسَّمَاءِ سَرِيرَا
يعني أنَّ العرش فوق السماء.
قال:
شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ اَلْعَيْنِ... يَرَى دُونَهُ اَلْمَلَائِكَة صُورَا
ومعنى "شَرْجَعًا" أي: رفيعًا فوق هذه السماوات.
فهذا مما تلقَّفه من الكتب السابقة، والشاهد هو إقرار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له وعدم إنكاره، وقال: «آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ»؛ لأنه لم يُسلم.
وَقَوْلُهُ فِي اَلْحَدِيثِ اَلَّذِي فِي اَلسُّنَنِ: «إِنَّ اَللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرً»، أي: إذا رفعت يديك إلى الله تعالى ودعوته فمن كرم الرب -سبحانه وتعالى- أنه ما يردها صفرًا، فإمَّا أن يعطيك سؤالك وحاجتك، وإمَّا أن يصرف عنك من السوء مثلها، وإمَّا أن يدَّخر لك في الآخرة مثلها، ولهذا قال الصحابة: إذًا يا رسول الله نُكثِر. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الله أكثر».
الشاهد من هذا هو قوله «إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ».
وَقَوْلُهُ: «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ومطعمه حرام مشربه حرام، فأنى يستجاب لذلك»، والشاهد في الحديث قوله «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ»، لأن الله في العلو.
قال: (إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْصِيهِ إِلَّا اَللَّهُ، مِمَّا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ اَلْمُتَوَاتِرَاتِ اَللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ)، بعض المبتدعة يقول: هذه أخبار آحاد.
نقول: حتى أخبار الآحاد إذا تلقَّتها الأمَّة بالقبول يجب الإيمان بها، ولكن هذه الأحاديث متواترة تواترًا لفظيًّا وتواترًا معنويًّا، وهذا التواتر ممَّا يُقطَع به في تيقُّن ثبوت الخبر، وعدم تطرُّق أدنى احتمال شك في عدم ثبوته.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (اَلَّتِي تُورِثُ عِلْمًا يَقِينِيًّا مِنْ أَبْلَغِ اَلْعُلُومِ اَلضَّرُورِيَّةِ أَنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اَلْمُبَلِّغ عَنْ اَللَّهِ أَلْقَى إِلَى أُمَّتِهِ اَلْمَدْعُوِّينَ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ اَلْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ اَلسَّمَاءِ)، أي: ألقَى إليهم هذه المعاني، وبيَّنها لفظًا ومعنًى، فبيَّن أن الله فوق العرش، وأنه فوق السَّماء، وأنه -سبحانه وتعالى- في العلو، وهو العلي العظيم.
قال: (كَمَا فَطَرَ اَللَّهُ جَمِيعَ اَلْأُمَمِ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، إِلَّا مَنْ اِجْتَالَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ فِطْرَتِهِ)، فهذا الذي اجتالته الشياطين هو الذي يأبى قبول ما في هذه النصوص الشرعيَّة من الآيات والأحاديث، وقبول ما تدل عليه الفطرة.
إذًا؛ الشيخ هنا يُقرِّر تقريرًا علميًّا شرعيًّا فطريًّا إجماعيًّا أنَّه قد ثبتَ ثبوتًا قطعيًّا علو الله على عرشه، وموقف المعطِّلة خلاف ذلك، لتحريفهم وتفويضهم، وبالتَّالي عرفنا طريقة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطريقة الصَّحابة والتَّابعين بالإثبات والإيمان، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيل، وعرفنا طريقة المبتدعة.
هذا ما تيسر في هذا الدرس، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، ونستكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم، وبالله التوفيق، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{جزاكم الله الله خيرًا فضيلة الشيخ.
شيخنا -أحسن الله إليك:
ما السبب الذي دعا هؤلاء إلى إنكار صفة العلو لله -عَزَّ وَجَلَّ؟}.
الذي دعاهم إلى إنكار صفة العلو عدَّة أسباب، والأغلب على المتأخرين التَّقليد، فهم يُعظِّمون أمثال الرازي والجويني وأشباههم، فيرون أن هؤلاء أتقنوا فيقلِّدونهم، وكثير منهم تكون الشُّبهة عندهم أنَّه يرى أن في إثبات العلو تجسيم لذاته -عَزَّ وَجَلَّ- أو إثبات التركيب، أو التَّمثيل، وهذه شبَهٌ باطلة فاسدة، فنحن عندما نثبت العلو لله -عَزَّ وَجَلَّ- لا نقول إنه يلزم من ذلك ما لا يليق، بل إنَّ النُّصوص تدل على ذلك دلالة قطعيَّة، وتدلُّ على كمال الرَّب وتنزيهه عن مشابهة خلقه، أو عن الحاجة والافتقار، أو عن النقص، فالله منزَّه عن ذلك تمامًا، وهذه الأوهام التي توهَّموها ألقاها عليهم الشيطان، والنفوس مشبعة بهذا الضَّلال، ولبسطِ هذا مكانٌ آخر يُرد على هذه الشُّبه بالتَّفصيل، فلكل شبهة ردودٌ مستقلَّة، وليس هذا محل بسطها.
{في الختام نشكر لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصول لكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلتقي بكم في حلقاتٍ قادمة من حلقات برنامجكم البناء العلمي، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك