الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2976 13
الدرس السابع

العقيدة الحموية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقة جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح الفتوى الحمويَّة الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ.
في هذه الحلقة سيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ الأستاذ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{في الحلقة الماضية توقفنا عند قول المؤلف: (وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَخْصُومٌ بِمَا خُصِمَ بِهِ اَلْآخَرُ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: بَيَانُ أَنَّ اَلْعَقْلَ لاَ يُحِيلُ ذَلِكَ.
اَلثَّانِي: أَنَّ اَلنُّصُوصَ اَلْوَارِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ اَلتَّأْوِيلَ.
اَلثَّالِثُ: أَنَّ عَامَّةَ هَذِهِ اَلْأُمُورِ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ بِهَا بِالِاضْطِرَارِ، كَمَا عُلِمَ أَنَّهُ جَاءَ بِالصَّلَوَاتِ اَلْخَمْسِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَالتَّأْوِيلُ اَلَّذِي يُحِيلُهَا عَنْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَأْوِيلَاتِ اَلْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ فِي اَلْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلنُّبُوَّاتُ.
اَلرَّابِعُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ اَلْعَقْلَ اَلصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلنُّصُوصُ، وَإِنْ كَانَ فِي اَلنُّصُوصِ مِنْ اَلتَّفْصِيلِ مَا يَعْجَزُ اَلْعَقْلُ عَنْ دَرَكِ تَفْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا عَقْلُهُ مُجْمَلاً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اَلْوُجُوهِ، عَلَى أَنَّ اَلْأَسَاطِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالْفُحُولَ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اَلْعَقْلَ لاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَى اَلْيَقِينِ فِي عَامَّةِ اَلْمَطَالِبِ اَلْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْوَاجِبُ تَلَقِّي عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ اَلنُّبُوَّاتِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ؛ فتقدَّم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في الفتوى الحمويَّة الكبرى بيان فساد طريقة المتكلمين في اعتمادهم على العقل، وأنَّهم مضطربون في ذلك، ومتفاوتون فيما يثبتون وفيما ينفون، وختمنا الدرس الماضي بقول المؤلف: (فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ اَلْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَرَضِيَ اَللَّهُ عَنْ اَلْإِمَامِ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ:" أَوَ كُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ  لِجَدَلِ هَؤُلَاءِ").
ثم قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَخْصُومٌ بِمَا خُصِمَ بِهِ اَلْآخَرُ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ)، يعني: تجد أن الأشعري يرد على المعتزلي، وتجد أن المعتزلي يرد على الجهمي، وتجد أن الجهمي يرد على الفيلسوف، كل واحد منهم يقول: الذي أثبته بعقلي والذي نفيته بعقلي؛ ثم يجد مَن يُنازعه في هذا.
وكل هؤلاء كما قال الشيخ (مَخْصُومٌ)، يعني: محجوجون، أي أن الحجَّة قائمة عليهم، وقد غلطوا في هذا المسلك، وذلك لوجوه:
الوجه الأول: أنَّ باب أسماء الله وصفاته بابٌ غيبي، والعقل لا يُحيلُ ذلك، فلا مدخل للعقل فيما لا يُحيطُ به.
الوجه الثاني: قال -رَحِمَهُ اللهُ: (اَلثَّانِي: أَنَّ اَلنُّصُوصَ اَلْوَارِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ اَلتَّأْوِيلَ)؛ لأنَّها نصوصٌ ظاهرةٌ في المعنى مُتضافرة يؤكِّدُ بعضها بعضًا، فلا يجوز لنا أن نسلك فيها مسلك التَّأويل، وهي ظاهرةٌ في المعنى، كما تقدَّم في إثبات علو الله خلقه، وفي إثبات استوائه على عرشه، وفي إثبات بقيَّة الصفات.
الوجه الثالث من الأوجه التي تبطل المسلك العقلي القائم على رد النصوص: قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (اَلثَّالِثُ: أَنَّ عَامَّةَ هَذِهِ اَلْأُمُورِ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اَلرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِهَا بِالِاضْطِرَارِ)، يعني: النُّصوص الواردة في القرآن كثيرة جدًّا فيما يتعلق بإثبات الصفات لله، وكذلك فيما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنَّ العلم بها مماثل -إن لم يكن أكثر- من العلم بما جاء به من الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، فإذا كان هؤلاء سمحوا لأنفسهم بأن يتأوَّلوا هذه النُّصوص مع كثرتها؛ فإنَّ هذا مدعاةٌ لأن يقول الخصم لهم من أعداء الملة من الباطنية: حتَّى الصلوات تأوَّلوها، فإنَّ النصوص الواردة في الصلوات ليست بأكثر من النصوص الواردة في الصفات، فكما جوَّزتم لأنفسكم أن تؤوِّلوا تلك النصوص الكثيرة جدًّا في صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- فكذلك أوِّلوا المراد بالصَّلاة بأنها صلةٌ لمشايخنا، والصوم بكتم أسرارنا، إلى آخر تأويلات الباطنيَّة المكشوفة المفضوحة.
الوجه الرابع الذي يُبيِّن فساد المسلك العقلي القائم على رد النصوص: قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (اَلرَّابِعُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ اَلْعَقْلَ اَلصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلنُّصُوصُ)، يعني العقل الصحيح الصريح لا يُعارض النصوص أبدًا، إنَّما العقول التي وقع فيها انحراف وغلطت هي التي يُتصوَّر منها هذا الشيء، وذلك أنَّ النصوص تأتي بتفصيلات قد تعجز العقول عن إدراكها بالتفصيل، وإنَّما تدركها مجملًا، فتدرك كمال الرب مجملًا، وتدرك أن الذي خلق هذه المخلوقات قدير.
مثال ذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]، هذا معلومٌ للمؤمن، ثم قال: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمً﴾ ، فهذه تسمى دلالة اللازم، أي: إذا علمتم أنَّه خلق علمتم أنَّه عالم، وعلمتم أنَّه قدير؛ لأنَّ الخلق المتقَن لا يكونُ إلَّا من عليم، ولا يكون أبدًا من عاجز، وهكذا بقيَّة التفاصيل.
ثم يقول الشيخ: (عَلَى أَنَّ اَلْأَسَاطِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالْفُحُولَ)، يعني الرَّجل المقدم، مَن يزعمون أنَّهم أهل العقول من الفلاسفة والكبار المنتهين من هؤلاء وقد بلغوا شأوًا.
قال: (مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اَلْعَقْلَ لاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَى اَلْيَقِينِ فِي عَامَّةِ اَلْمَطَالِبِ اَلْإِلَهِيَّةِ)، أي: لا مجال للعقل في علم الإلهيات، وأنَّ ما يتعلق بالرَّب سبحانه وكماله وصفاته لا مجال للعقل بأن يخوض فيها، وأن يكون هو المرجع والفيصل فيها.
فالشيخ ختم هذه الأوجه الأربعة بقوله: (وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْوَاجِبُ تَلَقِّي عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ اَلنُّبُوَّاتِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ)، أي: وجبَ على المؤمن والمؤمنة تلقِّي علم الأسماء والصفات فيما يتعلق بالله عن الكتاب والسنة، وعلى ما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْ اَلْمَعْلُومِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، وَأَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا أَخْبَرَهُمْ الله بِهِ مِنْ أُمُورِ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ.
وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ يَتَضَمَّنُ اَلْإِيمَانَ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَهُوَ اَلْإِيمَانُ بِالْخَلْقِ وَالْبَعْثِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:8]، وقال تعالى: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [لقمان:28]، وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم:27]. وَقَدْ بَيَّنَ اَللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَمْرِ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ مَا هَدَى اَللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، وَكَشَفَ بِهِ مُرَادَهُ.
وَمَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْصَحُ لِلْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَفْصَحُ مِنْ غَيْرِهِ عِبَارَةً وَبَيَانًا، بَلْ هُوَ أَعْلَمُ اَلْخَلْقِ بِذَلِكَ، وَأَنْصَحُ اَلْخَلْقِ لِلْأُمَّةِ وَأَفْصَحُهُمْ، وَقَدْ اِجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَالُ اَلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اَلْمُتَكَلِّمَ وَالْفَاعِلَ إِذَا كَمُلَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ: كَمُلَ كَلَامُهُ وَفِعْلُهُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ اَلنَّقْصُ إِمَّا مِنْ نَقْصِ عِلْمِهِ وَإِمَّا مِنْ عَجْزِهِ عَنْ بَيَانٍ عِلْمِهِ، وإِمَّا لِعَدَمِ إِرَادَتِهِ اَلْبَيَانَ.
وَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ اَلْغَايَةُ فِي كَمَالِ اَلْعِلْمِ، وَالْغَايَةُ فِي كَمَالِ إِرَادَةِ اَلْبَلَاغِ اَلْمُبِينِ، وَالْغَايَةُ فِي اَلْقُدْرَةِ عَلَى اَلْبَلَاغِ اَلْمُبِينِ، وَمَعَ وُجُودِ اَلْقُدْرَةِ اَلتَّامَّةِ، وَالْإِرَادَةِ اَلْجَازِمَةِ: يَجِبُ وُجُودُ اَلْمَرَادِ، فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَمْرِ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ حَصَلَ بِهِ مُرَادُهُ مِنْ اَلْبَيَانِ، وَمَا أَرَادَهُ مِنْ اَلْبَيَانِ هُوَ مُطَابِقٌ لِعِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ بِذَلِكَ هُوَ أَكْمَلُ اَلْعُلُومِ، فَكُلُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَ اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ، أَوْ أَكْمَلُ بَيَانًا مِنْهُ، وأَحْرَصُ عَلَى هُدَى اَلْخَلْقِ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ اَلْمُلْحِدِينَ لَا مِنْ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ اَلسَّلَفِ هُمْ فِي هَذَا اَلْبَابِ عَلَى سَبِيلِ اَلِاسْتِقَامَةِ)
}.
هنا يُبيِّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّه بعدما تقرَّرَ فساد الرجوع إلى مجرَّد العقل، خاصَّة المسائل التي يُقرِّرها المتكلمون والفلاسفة؛ انتقل إلى مسألة عظيمة، وهي صحَّة الطريقة المحمَّديَّة النَّبويَّة، وهي الطَّريقة السَّلفيَّة، وذلك ببيان صحَّة المصدر، فالمصدر من الله -سبحانه وتعالى- وهو الحق، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً﴾ [الفتح: 28].
إذًا؛ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسله الله بهذا الهدى وبهذا الدين الحق، وأيضًا اشتمل ما أخبرهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أمرين عظيمين دائمًا يُكرَّر ذكرهما في القرآن الكريم:
الأمر الأول: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا يتضمَّن عدَّة أمور:
الأول: الإيمان بالمبدأ وهو أن الله هو الخالق لهذه المخلوقات -سبحانه وتعالى-، وهو الذي أوجدها.
الثاني: يتضمَّن الإيمان بوجوده وألوهيَّته وبروبيَّته، وأسمائه وصفاته.
الثالث: يتضمَّن الإيمان بالبعث بعدَ الموت، فكما يجب علينا أن نؤمن بالبعث بعد الموت ولا نقبل قول مَن يُحرِّف ويقول إنَّ هذا خيال وليس حقيقة وليس هناك بعث حقيقي كما يقوله الملاحدة الباطنيَّة والكفرة.
وكذلك لا نقبل مَن يقول: إنَّ أسماء الله وصفاته لا حقيقة لها، فهذا أمرٌ مُتناقض، فيجب أن تؤمن بالله، ويجب أن تؤمن باليوم الآخر، والعلم باليوم الآخر أمر واضح جدًّا في الكتاب والسنَّة، ومَن وقع في التحريفات والتَّأويلات كالمعتزلة وغيرهم انكشفَ أمرهم في الأمَّة، حتى الأشاعرة لا يتقبَّلونَ هذا.
وهذا يدعونا لأن نقول: قولوا في باب أسماء الله وصفاته بإثبات ما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وما أخبر به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأمر الثاني: أنَّ كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- أفصح الكلام وأوضح الكلام، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يريد لعباده أن يهتدوا، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 26]، والله -سبحانه وتعالى- جعل رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الموضِّح والمفسِّر، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، فهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفصح الخلق، وأنصح الخلق، وهو أعلم الخلق بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
إذًا؛ اجتمعت مقوِّمات قبول خبره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلا يُوجَد في خبره أدنى شك، فنحن جميعًا نشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجتمع فيه كمال العلم، وكمال القدرة، وكمال الإرادة للنُّصح والهداية، وكمال البلاغ، قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54]؛ فعلم ما قاله في حق الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفي جميع أمور الدين حقٌّ يجب قبوله، ولا يجوز ردُّه بأي وجهٍ من الوجوه.
إذًا؛ مَن ظنَّ أنَّ غير الرسول أعلم من الرسول بالله فهو من الملحدين، ومَن ظنَّ أن غير الرسول أكمل بيانًا من الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو من الملحدين، ومَن أحالَ الناس على غير الرسول وقال: لا ترجعوا إلى كلام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وارجعوا إلى كلام فلان وفلان؛ فهو من الملحدين لا من المؤمنين.
وختم الشيخ هذا الكلام بقوله: (وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ اَلسَّلَفِ هُمْ فِي هَذَا اَلْبَابِ عَلَى سَبِيلِ اَلِاسْتِقَامَةِ)؛ لأنَّهم اعتمدوا اعتمادًا كليًّا على ما قاله الله وما قاله رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اَلْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: أَهْلُ اَلتَّخْيِيلِ، وَأَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ، وَأَهْلُ اَلتَّجْهِيلِ.
فَأَهْلُ اَلتَّخْيِيلِ هُمْ اَلْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَمُتَصَوِّفٍ وَمُتَفَقِّه، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَمْرِ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِلْحَقَائِقِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ اَلْجُمْهُورُ، لاَ أَنَّهُ بَيَّنَ بِهِ اَلْحَقَّ، وَلَا هَدَى بِهِ اَلْخَلْقَ، وَلَا أَوْضَحَ به اَلْحَقَائِقَ.
ثُمَّ هُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَعْلَمْ اَلْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مِنْ اَلْفَلَاسِفَةِ اَلْإِلَهِيَّةِ مَنْ عَلَمِهَا، وَكَذَلِكَ مِنْ اَلْأَشْخَاصِ اَلَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَوْلِيَاءَ مَنْ عَلَمِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مِنْ اَلْفَلَاسِفَةِ أَوْ اَلْأَوْلِيَاءِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ مِنْ اَلْمُرْسَلِينَ، وَهَذِهِ مَقَالَةُ غُلَاةِ اَلْمُلْحِدِينَ مِنْ اَلْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ: بَاطِنِيَّةِ اَلشِّيعَةِ، وَبَاطِنِيَّةِ اَلصُّوفِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَمِهَا لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمَا يُنَاقِضُهَا، وَأَرَادَ مِنْ اَلْخَلْقِ فَهْمَ مَا يُنَاقِضُهَا، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ اَلْخَلْقِ فِي هَذِهِ اَلِاعْتِقَادَاتِ اَلَّتِي لَا تُطَابِقُ اَلْحَقَّ.
وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: يَجِبُ عَلَى اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَدْعُوَ اَلنَّاسَ إِلَى اِعْتِقَادِ اَلتَّجْسِيمِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِلَى اِعْتِقَادِ مَعَادِ اَلْأَبْدَانِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ أَهْلَ اَلْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ دَعْوَةُ اَلْخَلْقِ إِلَّا بِهَذِهِ اَلطَّرِيقَةِ اَلَّتِي تَتَضَمَّنُ اَلْكَذِبَ لِمَصْلَحَةِ اَلْعِبَادِ، فَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي نُصُوصِ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ.
وَأَمَّا اَلْأَعْمَالُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْرِيهَا هَذَا اَلْمَجْرَى، وَيَقُولُ: إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا بَعْضُ اَلنَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَيُؤْمَرُ بِهَا اَلْعَامَّةُ دُونَ اَلْخَاصَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ اَلْبَاطِنِيَّةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ)
}.
بعد أن وضَّح الشيخ انقسام هذه الطرق الفاسدة التي خالفت الطرقة النبوية والطريقة السلفية، قال: (وَأَمَّا اَلْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: أَهْلُ اَلتَّخْيِيلِ، وَأَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ، وَأَهْلُ اَلتَّجْهِيلِ).
فأهل التَّخييل: يزعمون أنَّ هذا الشَّرع وهذا المخبر عن الله خيالات لا حقيقة له.
وهؤلاء أمرهم مكشوف ومفضوح، ولا يقبلهم إلَّا شواذ البشر، فمن يقبلهم هو مثلهم في الكفر والخروج عن الملَّة؛ لأن أمرهم مكشوف جدًّا، وهذه الطَّريقة يتبرَّأ منها حتى الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ويُكفِّرون مَن قال بها.
وذكر الشيخ هذه المسألة ليُبيِّن لك أن طرق المخالفين على جميع أنواعهم لا يخرجون عن هذه الثلاث طوائف: إمَّا أهل تخييل، وإمَّا أهل تأويل، أو أهل تجهيل.
ماذا يقول أهل التَّخييل؟
هم ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول منه يقول: إنَّ كل الكلام الذي قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيالات لا حقيقة لها، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم شيء!
هل هناك مسلم يقول هذا الكلام؟! ما يقوله إلا كافر، ولكن بعض الفرق الباطنية يصرحون بهذا الكفر العظيم.
وبعضهم يقول: من الفلاسفة -أولياؤهم الذين يعظِّمونهم- مَن يعلم، وأن الرسول لا يعلم!
ولا تستغربوا -يا إخواني الكرام- وجود مثل هذه المقالات البشعة، ولا أنها تتكرَّر حتى الآن، بل وُجِدَ وأنا سمعتُ من بعض المعاصرين مَن يطعن في الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمثل هذا ويُظهر للناس أنه يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله! فهؤلاء باطنية ملاحدة.
وأيضًا من غلاة الطرق الصوفية مَن يقول إنَّ بعض أوليائهم الذين يعظِّمونهم أرفع من النبي، وكانوا يقولون ويكرِّرون: أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأخذ من جبريل، وجبريل يأخذ عن الله، أمَّا وليَّه الذي يعظِّمه فيأخذ عن الله مباشرة! فهؤلاء ملاحدة، ويصل بهم الأمر أن يقولون إنَّ كل هذا المذكور خيالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فهؤلاء هم غلاة الشيعة وباطنيَّة الصُّوفيَّة، فالصُّوفيَّة ينقسمون إلى أقسام وطوائف شتَّى.
القسم الثاني يقولون: الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم الحق وكتمه.
وطريقة الباطنيَّة هي السِّريَّة والكتمان، وتقسيم الناس إلى درجات، فيقولون: أنت من العوام لا تدري شيئًا، ويحرُم عليك السؤال، ومَن سأل عن دينه فقد شكَّ، ومَن شكَّ فقد كفر، والدين هذا سر مكتوم، لا يعلم به أحد إلا خاصَّة خاصَّة الخاصَّة! وتترقَّى في المراتب حتى إذا استوثقوا منك وبلغتَ المرتبة العليا كشفوا لك إلحادهم وضلالاتهم العظيمة!
فهؤلاء يظنُّونَ أنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه الطريقة الخبيثة التي هم عليها -قبحهم الله- وحاشا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون هكذا، فاللهم صلِّ وسلِّم عليه، واجعلنا من أتباعه وجميع إخواننا المسلمين.
فلابد من بيان هذه المسالك حتى يعرف المسلمون عِظَم خطر هؤلاء الباطنية الملاحدة، فيقولون: إنَّ الرسول علم الحق -الذي يعتقده هؤلاء- ولكن كتمه لمصلحة الجمهور، لأن الجمهور ما يناسبهم إلا الوعظ، وهذه كلها لا حقيقة لها، فكأنَّهم يصورون الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه رجل سياسي فقط، وأنه يكذب على الناس ويحتال على الجمهور، وكل ما يُخبر به وكل ما يقوله كذب لا حقيقة له!
فهذه هي طريقة الباطنية الملاحدة، والإسماعيلية، ونحوهم مثل النُّصيريَّة، والدُّروز، وأشباهها من الطرق الباطنيَّة التي لا تمت للإسلام بصلةٍ؛ بل هي كما قال العلماء: إنَّ هذه الطرق الباطنيَّة أشدُّ كفرًا من كفر اليهود الذين كذَّبوا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأشد كفرًا من كفر النصارى الذين كذَّبوا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذًا؛ طريقة أهل التَّخييل تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول يقول: إنَّ الرسول لا يعلم الحقائق.
والقسم الثاني يقول: إن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم وكتم، وكل ما يقول ويُخبر به خيالات لا حقيقة لها، وهؤلاء كفرهم واضح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا أَهْلُ اَلتَّأْوِيلَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اَلنُّصُوصَ اَلْوَادِرَةَ فِي اَلصِّفَاتِ لَمْ يَقْصِدَ بِهَا اَلرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَعْتَقِدَ اَلنَّاسُ اَلْبَاطِلَ، وَلَكِنْ قَصَدَ بِهَا مَعَانِيَ وَلمَ يُبَيِّنْ لَهُمْ تِلْكَ اَلْمَعَانِيَ، وَلَا دَلَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرُوا فَيَعْرِفُوا اَلْحَقَّ بِعُقُولِهِمْ، ثُمَّ يَجْتَهِدُوا فِي صَرْفِ تِلْكَ اَلنُّصُوصِ عَنْ مَدْلُولِهَا، وَمَقْصُودُهُ اِمْتِحَانُهُمْ وَتَكْلِيفُهُمْ إِتْعَابَ أَذْهَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ فِي أَنْ يَصْرِفُوا كَلَامَهُ عَنْ مَدْلُولِهِ وَمُقْتَضَاهُ، وَيَعْرِفُوا اَلْحَقَّ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ اَلْمُتَكَلِّمَةِ اَلْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِينَ قَصَدْنَا اَلرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ اَلْفُتْيَا هُمْ هَؤُلَاءِ، إِذْ كَانَ نُفُورُ اَلنَّاسِ عَنْ اَلْأَوَّلِينَ مَشْهُورًا، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ تَظَاهَرُوا بِنَصْرِ اَلسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَهُمْ فِي اَلْحَقِيقَةِ لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا، وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُو)
}.
أهل التَّأويل هم مَن يُحرِّفون النَّصوص، وسيأتي كلام الشيخ في المراد بالتَّأويل في الكتاب والسنَّة، والمراد بالتَّأويل عند المفسرين، والمراد بالتَّأويل عند المتأخرين، والمراد هنا: التَّأويل عند المتأخرين.
هؤلاء يقولون: هذه النصوص التي فيها ذكر أسماء الله وصفاته لم يُقصَد بها أن نُؤمن بها كما هي، ويزعمون أنَّ الإيمان بمدلولها يتضمن باطلاً، والذي قُصِدَ أن يُمتحَن الناس ويُختبرون، فالله أراد أن يختبر الناس في أنهم يُتعبوا أذهانهم ويكدُّوا عقولهم في التَّفكير في معنى غير المعنى الظَّاهر منها، فالمعنى الظاهر منها باطل، والمعنى الذي تدل عليه باطل، فالمقصود أن يفكِّرون حتى يصرفوها عن معناها إلى معاني أخرى هم وضعوها. فهذه هي طريقة أهل التأويل.
وكلامهم باطل، فكثير منهم يقول: إن المقصود أن يُختبر الناس في أن لا يؤمنون بما هو ظاهر من المعاني، ولكن يجتهدون في البحث عن معاني أخرى غير هذا المعنى الذي ظهر لهم، والذي تدل عليه اللغة العربية والذي يليق بالله.
يقول الشيخ: (وَلَكِنْ قَصَدَ بِهَا مَعَانِيَ وَلمَ يُبَيِّنْ لَهُمْ تِلْكَ اَلْمَعَانِيَ، وَلَا دَلَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرُوا فَيَعْرِفُوا اَلْحَقَّ بِعُقُولِهِمْ، ثُمَّ يَجْتَهِدُوا فِي صَرْفِ تِلْكَ اَلنُّصُوصِ عَنْ مَدْلُولِهَا، وَمَقْصُودُهُ اِمْتِحَانُهُمْ وَتَكْلِيفُهُمْ إِتْعَابَ أَذْهَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ)، فإذا أثبتوها صاروا مجسِّمة ومشبِّهة -بزعمهم- وإذا لم يثبتوها سلموا، فيتعبون حتى يصلوا إلى يجدون معاني، فيصير لهم أجر في هذا التَّعب!
قال الشيخ: (وَهَذَا قَوْلُ اَلْمُتَكَلِّمَةِ اَلْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ)، يقصد الأشاعرة والماتريدية، لأن الأشاعرة والماتريدية أقل منهم في عدد التَّحريف للنصوص، فالأشاعرة كلهم يثبتون الأسماء، والمتقدمون منهم يثبتون كثيرًا من الصفات، ولكن شاركوا المعتزلة في شيءٍ من ذلك.
قال الشيخ: (وَاَلَّذِينَ قَصَدْنَا اَلرَّدَّ عَلَيْهِمْ)، يعني المقصود من الفتوى الحموية الكبرى هو الرَّد على أهل التَّأويل، لأنَّ أهل التَّخييل كفرهم واضح، والجميع يتبرَّأ منهم، وضلالهم ونُفرة الناس عنهم مشهورة، لكن الذين يلتبس أمرهم على الناس هم أهل التَّأويل، فتجد بعض أهل التَّأويل ألَّف مؤلَّفات في الرَّد على النَّصارى، وبعضهم ألَّف مؤلَّفات في الرَّد على الملاحدة، وبعضهم ألَّف مؤلَّفات في الرَّد على كفرة الفلاسفة؛ فهذه المؤلَّفات التي وضعوها مرادهم فيها حق، ويُشكَرون على هذه النِّيَّة، ويُشكرون على ما قاموا به من خير وأصابوا فيه الحق، لكن خلطوها بشيءٍ من المسائل الكلاميَّة والعقليَّة، فتسلَّط عليهم العدو من الباطنيَّة والملاحدة وأمثالهم، وقالوا: أنتم قلتم كذا في الصفات؛ إذًا شاركونا في كذا وكذا -من الكفر الذي عندهم- فهم كما قال الشيخ: (لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا، وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُو)
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَكِنَّ أُولَئِكَ اَلْفَلَاسِفَةَ أَلْزَمُوهُمْ فِي نُصُوصِ اَلْمَعَادِ نَظِيرَ مَا ادَّعُوهُ فِي نُصُوصِ اَلصِّفَاتِ.
فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ اَلرُّسُلَ جَاءَتْ بِمَعَادِ اَلْأَبْدَانِ، وَقَدْ عَلِمْنَا فَسَادَ اَلشُّبَهَ اَلْمَانِعَةَ مِنْهُ.
وَأَهْلُ اَلسُّنَّةِ يَقُولُونَ لِهَؤُلَاءِ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ اَلرُّسُلَ جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ اَلصِّفَاتِ، وَنُصُوصُ اَلصِّفَاتِ فِي اَلْكُتُبِ اَلْإِلَهِيَّةِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ نُصُوصِ اَلْمَعَادِ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَعْلُومٌ أَنَّ مُشْرِكِي اَلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ اَلْمَعَادَ، وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَى اَلرَّسُولِ وَنَاظَرُوهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ اَلصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ اَلْعَرَبِ. فَعُلِمَ أَنَّ إِقْرَارَ اَلْعُقُولِ بِالصِّفَاتِ أَعْظَمُ مِنْ إِقْرَارِهَا بِالْمَعَادِ، وَأَنَّ إِنْكَارَ اَلْمَعَادِ أَعْظَمُ مِنْ إِنْكَارِ اَلصِّفَاتِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ اَلصِّفَاتِ لَيْسَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ اَلْمَعَادِ هُوَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَأَيْضًا: فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ r قَدْ ذَمَّ أَهْلَ اَلْكِتَابِ عَلَى مَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اَلتَّوْرَاةَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ ذِكْرِ اَلصِّفَاتِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا حُرِّفَ وَبُدِّلَ لَكَانَ إِنْكَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوْلَى، فَكَيْفَ وَكَانُوا إِذَا ذَكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ اَلصِّفَاتِ يَضْحَكُ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ وَتَصْدِيقًا وَلَمْ يَعِيبْهُمْ قَطُّ بِمَا تَعِيبُ النُّفَاةُ لِأَهْلِ اَلْإِثْبَاتِ، مِثْلُ اَللَّفْظِ اَلتَّجْسِيم وَالتَّشْبِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ عَابَهُمْ بِقَوْلِهِمْ ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة:64]، وقولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران:181]، وَقَوْلِهِمْ: اِسْتَرَاحَ لَمَّا خَلَقَ اَلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق:38].
وَالتَّوْرَاةُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ اَلصِّفَاتِ اَلْمُطَابِقَةِ لِلصِّفَاتِ اَلْمَذْكُورَةِ فِي اَلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهَا بِالْمَعَادِ كَمَا فِي اَلْقُرْآنِ. فَإِذَا جَازَ أَنْ نَتَأَوَّلَ اَلصِّفَاتِ اَلَّتِي اِتَّفَقَ عَلَيْهَا اَلْكِتَابَانِ فَتَأَوُّلُ اَلْمَعَادِ اَلَّذِي اِنْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا أَوْلَى، وَالثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ بِالْإِضْرَارِ مِنْ دِينِ اَلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ بَاطِلٌ، اَلْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ)
}.
الآن الشيخ يُكمل الكلام عن طريقة أهل التَّأويل، وأنَّهم قامَ عليهم الفلاسفة والملاحدة، فالملاحدة يُنكرون البعث بعد الموت، فقالوا: نصوص المعاد نؤولها إلى أن المعاد معنوي، وليس هناك بعث للأجساد، فكفَّرهم الناس كلهم؛ لأنَّ هذا تكذيب للبعث بعد الموت، ومن ضمن مَن كفَّرهم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فقامت الفلاسفة والملاحدة ضدَّ هؤلاء المتكلمين وقالوا: أنتم قلتم فيما وردَ في الكتاب والسنة من الصفات أنها تتأوَّل، فلماذا تمنعوننا الآن من تأوُّل نصوص المعاد، فنصوص الصفات أكثر، فإذا سمحتم لأنفسكم بالتأويل، فلمَ لا نؤوِّل.
وأهل السنَّة قالوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتاب والسنَّة أكثر من نصوص المعاد، ومعلومٌ أن مشركي قريش ومشركي العرب اشتهر عنهم كما ذكر في القرآن: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَ﴾ [المؤمنون: 37]، فأنكروا البعث بعد الموت، وذكر الله قوله: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78]، فاشتهر عنهم إنكار البعث، ولكن لم يشتهر عنهم إنكار الصفات كما اشتهر عنهم إنكار البعث، ولهذا ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنهم ناظروا الرسول، وذكر الله الحجج عليهم في القرآن في إنكار المعاد كثيرًا، بخلاف الصفات، فإنَّه لا يُنكر شيئًا أحدٌ من العرب!
فعُلمَ أنَّ إقرار العقول بالصفات أمر واضح فطري، أعظم من إقراره بالمعاد، وأنَّ إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وإنما هي معانٍ غير مقصودة!
ثم تقولون: إنَّ ما أخبر به على ما أخبر به، فهذا حق، ولكن ما أخبر في الصفات أكثر وأجلى وأوضح، حتى المشركين ما جادلوا فيه ولا ناقشوا فيه ولا أنكروه.
ومما يُحتج به على هؤلاء: أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذمَّ أهل الكتاب -اليهود والنصارى- على التَّحريف الذي في كتبهم، والتوراة على وجه الخصوص مملوءة بذكر الصفات، وليس فيها ذكر المعاد، فلو كان مما حُرِّف وبُدِّل الصفات لبيَّنه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكان إنكار ذلك عليهم أولى؛ بل كان بعض اليهود أمام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر بعض الصفات فيضحك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعجُّبًا وتصديقًا -كما قال الصحابة- فعُلِمَ أنَّ هذا حق، ولو كان باطلًا لعابهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليهم، ولقال: إنَّ هذا تمثيل أو تشبيه!
ولهذا أنكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- على هؤلاء مقولات مشهورة، مثل قول: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ ، فلم يقل الله -عَزَّ وَجَلَّ: ليست لي يد! بل قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]، وعاب -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم قولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران:181]، وقولهم: استراح الله لما خلق السماوات والأرض، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ ؛ فالقرآن الكريم مملوء بإثبات الصفات كما أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات، وكما أقر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض اليهود لَمَّا ذكر الصفات، فلو كان هذا ممَّا يُعاب لم يُسكَت عنه، بل بُيِّنَ أنَّه مما وقعوا فيه في الضَّلال.
فهذا مما يُعرَف به صحَّة طريقة السلف الصالح، وبطلان طريقة أهل التَّأويل، والله تعالى أعلم.


{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اَلصِّنْفُ اَلثَّالِثُ: وَهُمْ أَهْلُ اَلتَّجْهِيلِ فَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ اَلْمُنْتَسِبِينَ إِلَى اَلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ اَلسَّلَفِ، يَقُولُونَ: إِنَّ اَلرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ اَلصِّفَاتِ ولَا َجِبْرِيلُ يَعْرِفُ مَعَانِيَ تِلْكَ اَلْآيَاتِ، وَلَا اَلسَّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ عَرَفُوا ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَحَادِيثَ اَلصِّفَاتِ: إِنَّ مَعْنَاهَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ، مَعَ أَنَّ اَلرَّسُولَ تَكَلَّمَ بِهَذَا اِبْتِدَاءً، فَعَلَى قَوْلِهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ.
وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ اِتَّبَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [آل عمران:7] فَإِنَّهُ وَقَفَ كَثِيرٌ مِنْ اَلسَّلَفِ عَلَى قَوْلِهِ ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ ، وَهُوَ وَقْفٌ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَعْنَى اَلْكَلَامِ وَتَفْسِيرِهِ، وَبَيْنَ اَلتَّأْوِيلِ اَلَّذِي اِنْفَرَدَ اَللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَظَنُّوا أَنَّ اَلتَّأْوِيلَ اَلْمَذْكُورَ فِي كَلَامِ اَللَّهِ هُوَ اَلتَّأْوِيلُ اَلْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ اَلْمُتَأَخِّرِينَ، وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ.
فَإِنَّ اَلتَّأْوِيلَ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثُ مَعَانٍ:
فَالتَّأْوِيلُ فِي اِصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ اَلْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ: صَرْفُ اَللَّفْظِ عَنْ اَلِاحْتِمَالِ اَلرَّاجِحِ إِلَى اَلِاحْتِمَالِ اَلْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ.
فَلَا يَكُونُ مَعْنَى اَللَّفْظِ اَلْمُوَافِقِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ تَأْوِيلاً عَلَى اِصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ، وَظَنُّوا أَنَّ مُرَادَ اَللَّهِ بِلَفْظِ اَلتَّأْوِيلِ ذَلِكَ، وَأَنَّ لِلنُّصُوصِ تَأْوِيلاً مُخَالِفًا، لِمَدْلُولِهَا َ لاَ يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ، أَوْ يَعْلَمُهُ اَلْمُتَأَوِّلُونَ.
ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا، فَظَاهِرُهَا مُرَادٌ. مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ لَهَا تَأْوِيلاً بِهَذَا اَلْمَعْنَى لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلْمُنْتَسِبِينَ إِلَى اَلسُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ اَلْأَئِمَّةِ اَلْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْمَعْنَى اَلثَّانِي: أَنَّ اَلتَّأْوِيلَ هُوَ تَفْسِيرُ اَلْكَلَامِ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ، وَهَذَا هُوَ اَلتَّأْوِيلُ فِي اِصْطِلَاحِ جُمْهُورِ اَلْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا اَلتَّأْوِيلُ يَعْلَمُهُ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَقْفِ مَنْ وَقَفَ مِنْ اَلسَّلَفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ كَمَا نُقِلَ لَكَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ اَلزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَكِلَا اَلْقَوْلَيْنِ حَقٌّ بِاعْتِبَارٍ، كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَهَذَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ.
وَالْمَعْنَى اَلثَّالِثُ: أَنَّ اَلتَّأْوِيلَ: هُوَ اَلْحَقِيقَةُ اَلَّتِي يُؤَوَّلُ إِلَيْهَا، وَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَهُ، فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي اَلْجَنَّةِ مِنْ اَلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَقِيَامِ اَلسَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ اَلْحَقَائِقُ اَلْمَوْجُودَةُ أَنْفُسُهَا لاَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مَعَانِيهَا فِي اَلْأَذْهَانِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا هُوَ اَلتَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ اَلْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ إِنَّهُ قَالَ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّ﴾ [يوسف:100]. وقَالَ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف:53]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل﴾ [النساء:59]. وَهَذَا اَلتَّأْوِيلُ هُوَ اَلَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ.
فَتَأْوِيلُ اَلصِّفَاتِ هُوَ اَلْحَقِيقَةُ اَلَّتِي اِنْفَرَدَ اَللَّهُ بِعِلْمِهَا، وَهُوَ اَلْكَيْفُ اَلْمَجْهُولُ اَلَّذِي قَالَ فِيهِ اَلسَّلَفُ كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ: "اَلِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ" فَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ يَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرَهُ وَيُتَرْجَمُ بِلُغَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ اَلِاسْتِوَاءِ فَهُوَ اَلتَّأْوِيلُ اَلَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "تَفْسِيرُ اَلْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ اَلْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ اَلْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ اِدَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ".
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17]، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنْ اَلتَّأْوِيلِ اَلَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اَللَّهُ، وَإِنْ كُنَّا نَفْهَمُ مَعَانِيَ مَا خُوطِبْنَا بِهِنَّ وَنَفْهَمُ مِنْ اَلْكَلَامِ مَا قُصِدَ إِفْهَامُنَا إِيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ [محمد:24]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ [المؤمنون:68]، فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ اَلْقُرْآنِ كُلِّهِ لاَ بِتَدَبُّرِ بَعْضِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ اَلسُّلَمِيُّ: "حَدَّثَنَا اَلَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا اَلْقُرْآنَ -عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمَا- أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنْ اَلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ اَلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا اَلْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "عَرَضْتُ اَلْمُصْحَفَ عَلَى اِبْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أَسْأَلُهُ عَنْهَا".
وَقَالَ اَلشَّعْبِيُّ: "مَا اِبْتَدَعَ أَحَدٌ بِدْعَةً إِلَّا وَفِي كِتَابِ اَللَّهِ بَيَانُهَا".
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: "مَا سُئِلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَعِلْمُهُ فِي اَلْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ عِلْمَنَا قَصُرَ عَنْهُ".
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ)
}.
هذا هو القسم الثالث والأخير، وهم أهل التَّجهيل، لماذا وصفهم الشيخ بأنهم أهل التَّجهيل؟
لأنَّ حقيقة قولهم أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة جاهلون بمعنى الآيات، فيقولون: إنَّ أحاديث الصفات التي تضمَّنت صفات الرب -سبحانه وتعالى- لم يعرف الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معناها، ولا حتَّى جبريل يعرف معناها، ولا الصحابة يعرفون معناها، كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ما أحد يعلم معناه، لا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا الصحابة، فهم يجهلون المعنى.
ولهذا وصفهم الشيخ بأهل التَّجهيل، وقولهم هذا بشع جدًّا، والله -عَزَّ وَجَلَّ- أمرنا بتدبُّر القرآن، وذكر الشيخ نصوصًا عن السلف، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "عَرَضْتُ اَلْمُصْحَفَ عَلَى اِبْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أَسْأَلُهُ عَنْهَا"، ففي المصحف آيات الصفات وكان يسأله عن معناها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّ﴾ [مريم: 47]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَ﴾ [المجادلة: 1]، وقوله: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام: 133]، وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 27]، إلى آخر الآيات، فكل هذه الآيات معلومة ومفهومة عند السلف، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلم الناس بكلام الله، فكيف تقول إنَّه لا يعرف معناها، أو لا معنى لها؟!
وهذا غلطٌ شديد -مع الأسف- وقع فيه بعض من أصحاب الأئمة الأربعة، ونبَّه الشيخ على هذا الغلط وعلى سببه، فمن ضمن الأشياء التي أوردها الشيخ قول أبي عبد الرحمن السُّلمي، فقد جلس أربعين سنة يُقرئ القرآن، قال: "حَدَّثَنَا اَلَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا اَلْقُرْآنَ -عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمَا- أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنْ اَلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ اَلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا اَلْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا"؛ فكيف تقول إنهم لا يفهمون معناها؟!
وسبب الإشكال عند أهل التَّجهيل: أنَّهم يظنُّونَ أنفسهم متمسِّكين بقول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 7]، فظنُّوا أنَّ المراد بالتَّأويل هو التَّأويل الذي عند المتأخرين، فالأشاعرة والماتريدية يقولون: "تأويل نصوص الصفات"، فقال أهل التَّجهيل: نحن لا نؤوِّل؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، يعني: ما يعلم معناها إلَّا الله!
نقول: ليس هذا معنى التَّأويل المراد في الآية، ووضَّح الشيخ هذا أتمَّ توضيح، فإنَّ التَّأويل يُطلق على عدَّة معانٍ:
المعنى الأوَّل: التأويل في اصطلاح المتأخرين، هو: صرف اللفظ من المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح لدليلٍ أو لقرينةٍ.
وهذا نقول فيه: إن كانت القرينة من القرائن العقليَّة الفاسدة فلا عبرة بها؛ لأن هذا يُسمَّى تحريفًا. وإن كان الدليل دليلًا صحيحًا فيُسمَّى تفسيرًا.
القسم الثاني:
التَّأويل بمعنى التفسير، وهذا المشهور في كتب التفسير، وابن جرير يقول: "القول في تأويل قول الله تعالى..." في كل آية، فالتأويل هنا بمعنى التفسير، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا لابن عباس فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، يعني: التفسير.
إذَا؛ يكون الوقف في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ ، فيكون المراد بما لا يعلم معناه إلَّا الله مثل: متى تقوم الساعة، وحقائق وكيفيَّات صفات الله، وحقائق وكيفيَّات ما يكون في نعيم الجنَّة، فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، لكن إثبات المعنى معلوم، كإثبات الجنَّة، وما يكون في الجنة من طعام، فهذا حقيقة ومعناه معروف، فالطعام غير الشَّراب غير النكاح، الأنهار من لبنٍ ومن عسلٍ، فهذه مختلفة، فكل واحد يفهم المعنى العام، ولكن لا يقتضي هذا أنه عرف الكيفية وعرف الحقيقة كما هي، فالحقائق أمر غيبي، ومن باب أولى صفات الرب -سبحانه وتعالى.
والمعنى الثالث للتَّأويل: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قصَّة يوسف: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّ﴾ ، يعني وقوع الرؤيا هذ تأويلها.
وكقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف:53]، يعني يوم تقوم القيامة، فهذا لا يعلمه إلَّا الله -سبحانه وتعالى.
فكيفيَّات الصفات لا يعلمها إلَّا الله، لكن معاني الصفات معلومة، وبهذا نعرف بطلان مذهب أهل التَّجهيل، ولذلك قال الإمام مالك: "اَلِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ"، لم يقل: الاستواء مجهول! وليس معنى أنَّ الاستواء معلوم أنَّ الآية وردت بكلمة "استوى"؛ بل المعنى معلوم، كما وضَّح الشيخ هذا.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع التوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم وأفدتم، والشكر موصول لكم أعزائنا المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقة أخرى من حلقات "البناء العلمي"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك