الدرس العاشر
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء
العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "الفتوى الحموية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن
سليمان الفهيد، عضو هيئة التَّدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة،
أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ
عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ "التَّعَرُّفُ بِأَحْوَالِ
الْعِبَادِ والمتعبدين" قَالَ: بَابُ مَا يَجِيءُ بِهِ الشَّيْطَانُ لِلتَّائِبِينَ
وَذَكَرَ أَنَّهُ يُوقِعُهُمْ فِي الْقُنُوطِ ثُمَّ فِي الْغُرُورِ وَطُولِ
الْأَمَلِ ثُمَّ فِي التَّوْحِيدِ. فَقَالَ: مِنْ أَعْظَمِ مَا يُوَسْوِسُ فِي
التَّوْحِيدِ بِالتَّشَكُّلِ أَوْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ بِالتَّمْثِيلِ
وَالتَّشْبِيهِ أَوْ بِالْجَحْدِ لَهَا وَالتَّعْطِيلِ. فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ
حَدِيثِ الْوَسْوَسَةِ: وَاعْلَمْ -رَحِمَك اللَّهُ- أَنَّ كُلَّ مَا تَوَهَّمَهُ
قَلْبُك أَوْ سَنَحَ فِي مَجَارِي فِكْرِك أَوْ خَطَرَ فِي مُعَارَضَاتِ قَلْبِك
مِنْ حُسْنٍ أَوْ بَهَاءٍ أَوْ ضِيَاءٍ أَوْ إشْرَاقٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ شبحٍ
مَائِلَ أَوْ شَخْصٍ مُتَمَثَّلٍ: فَاَللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ
تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ أَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ، أَيْ: لَا
شَبِيهَ وَلَا نَظِيرَ وَلَا مُسَاوِيَ وَلَا مِثْلَ، أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ
لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ تَدَكْدَكَ لِعَظْمِ هَيْبَتِهِ؟ وَشَامِخِ
سُلْطَانِهِ؟
فَكَمَا لَا يَتَجَلَّى لِشَيْءِ إلَّا انْدَكَّ؛ كَذَلِكَ لَا يَتَوَهَّمُهُ
أَحَدٌ إلَّا هَلَكَ، فَرُدَّ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ نَفْسِهِ
عَنْ نَفْسِهِ التَّشْبِيهَ وَالْمِثْلَ وَالنَّظِيرَ وَالْكُفُؤَ، فَإِنْ
اعْتَصَمْت بِهَا وَامْتَنَعْت مِنْهُ أَتَاك مِنْ قِبَلِ التَّعْطِيلِ لِصِفَاتِ
الرَّبِّ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَك: إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِكَذَا
أَوْ وَصَفْته أَوْجَبَ لَهُ التَّشْبِيهَ، فَأَكْذِبْهُ؛ لِأَنَّهُ اللَّعِينُ
إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَزِلَّك وَيُغْوِيَك وَيُدْخِلَك فِي صِفَاتِ
الْمُلْحِدِينَ الزَّائِغِينَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَاعْلَمْ
-رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا كَالْآحَادِ فَرْدٌ
صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، إلَى أَنْ
قَالَ: خَلَصَتْ لَهُ الْأَسْمَاءُ السَّنِيَّةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةً فِي قَدِيمِ
الْأَزَلِ بِصِدْقِ الْحَقَائِقِ لَمْ يَسْتَحْدِثْ تَعَالَى صِفَةً كَانَ مِنْهَا
خَلِيًّا وَاسْمًا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فَكَانَ هَادِيًا
سَيَهْدِي، وَخَالِقًا سَيَخْلُقُ، وَرَازِقًا سَيَرْزُقُ، وَغَافِرًا سَيَغْفِرُ،
وَفَاعِلًا سَيَفْعَلُ، وَلَمْ يَحْدُثُ لَهُ الِاسْتِوَاءُ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِي
صِفَةٍ أَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ فَهُوَ يُسَمَّى بِهِ فِي جُمْلَةِ
فِعْلِهِ.
كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ﴾ ،
بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ؛ فَلَمْ يَسْتَحْدِثْ الِاسْمَ بِالْمَجِيءِ
وَتَخَلَّفَ الْفِعْلُ لِوَقْتِ الْمَجِيءِ، فَهُوَ جَاءَ سَيَجِيءُ، وَيَكُونُ
الْمَجِيءُ مِنْهُ مَوْجُودًا بِصِفَةِ لَا تَلْحَقُهُ الْكَيْفِيَّةُ وَلَا
التَّشْبِيهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ، فَتُحْسَرُ الْعَقُولُ،
وَتَنْقَطِعُ النَّفْسُ عِنْدَ إرَادَةِ الدُّخُولِ فِي تَحْصِيلِ كَيْفِيَّةِ
الْمَعْبُودِ؛ فَلَا تَذْهَبُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، لَا مُعَطِّلًا وَلَا
مُشَبِّهًا وَارْضَ لِلَّهِ بِمَا رَضِيَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَقِفْ عِنْدَ خَبَرِهِ
لِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا مُسْتَسْلِمًا مُصَدِّقًا؛ بِلَا مُبَاحَثَةِ التَّنْفِيرِ
وَلَا مُنَاسِبَةِ التَّنْقِيرِ.
إلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْقَائِلُ: أَنَا اللَّهُ لَا
الشَّجَرَةُ الْجَائِي قَبْلَ أَنْ يَكُونَ جَائِيًا؛ لَا أَمْرُهُ الْمُتَجَلِّي
لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْمَعَادِ، فَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُهُمْ وَتُفَلِّجُ بِهِ
عَلَى الْجَاحِدِينَ حُجَّتَهُمْ، الْمُسْتَوِي عَلَى عَرْشِهِ بِعَظَمَةِ
جَلَالِهِ فَوْقَ كُلِّ مَكَانٍ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى
تَكْلِيمًا. وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ فَسَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ لِأَنَّهُ
قَرَّبَهُ نَجِيًّا. تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا، أَوْ مُحْدَثًا
أَوْ مَرْبُوبًا، الْوَارِثُ لِخَلْقِهِ، السَّمِيعُ لِأَصْوَاتِهِمْ، النَّاظِرُ
بِعَيْنِهِ إلَى أَجْسَامِهِمْ، يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وَهُمَا غَيْرُ نِعْمَتِهِ،
خَلَقَ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ -وَهُوَ أَمْرُهُ-، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ
أَنْ يَحِلَّ بِجِسْمِ، أَوْ يُمَازِجَ بِجِسْمِ، أَوْ يُلَاصِقَ بِهِ تَعَالَى
عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، الشَّائِي لَهُ الْمَشِيئَةُ، الْعَالِمُ لَهُ
الْعِلْمُ، الْبَاسِطُ يَدَيْهِ بِالرَّحْمَةِ، النَّازِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى
سَمَاءِ الدُّنْيَا لِيَتَقَرَّبَ إلَيْهِ خَلْقُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلِيَرْغَبُوا
إلَيْهِ بِالْوَسِيلَةِ، الْقَرِيبُ فِي قُرْبِهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ،
الْبَعِيدُ فِي عُلُوِّهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَلَا يُشَبَّهُ بِالنَّاسِ.
إلَى أَنْ قَالَ: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ﴾ . الْقَائِلُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبً﴾ ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ
كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ جَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا")}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
شيخ الإسلام ابن تيمية في الحمويَّة لا زال يذكر أقوالَ بعض العلماء الذين لهم
مكانة ويُقدِّرهم المتأخِّرون، ويعرفون مكانتهم؛ فيذكر من أقوالهم ما وافق الحق،
وما به يتبيَّن الصراط المستقيم.
ومن هؤلاء:
العالم عمرو بن عثمان المكِّي، وهو من علماء الأصول، ومن مشايخ التَّصوُّف، ولكن
التَّصوُّف الذي عليه ليس تصوُّف المنحرفين، وهذا الرجل تُوفِّيَ سنة 297 للهجرة،
فهو من المتقدمين.
وإذا نظرنا إلى وفاة أبي الحسن الأشعري سنة 320 للهجرة، ثم نظرنا إلى وفاة هذا
الرجل؛ عرفنا أنَّه متقدِّمٌ على الأشعري، وبالتالي تُعرف طريقة المتقدمين من خلال
نُقُولاتهم، فهم يحدثُون عن مَا يعرض للعبَّاد من وساوس ومن إشكالات، ومن ضمنها
التَّشكيك في التَّوحيد، وهذا التَّشكيك له طريقان يسلكهما الشَّيطان:
الأول: أن يُلقي في قلب العبد أنَّ الله مثل خلقه، فيُوهم العبد أنَّه رأى الله، أو
رأى جسمًا، أو رأى شيئًا، أو رأى نورًا فيقول: هذا هو الله! تعالى الله عن ذلك
عُلوًّا كبيرًا؛ فيُحذِّر العبُّاد من هذا المسلك، ويذكرهم بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ويذكرهم بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ﴾ ، وحذَّر من هذه الوساوس أن يقبلها العبد إذا ألقاها الشيطان في قلبه.
ثم ذكر أنَّك إذا سلَّمك الله من هذا المسلك عليك أن تنتبه من المسلك الثاني، وهو:
أنَّ الشيطان قد يُلقي في قلبك إنكار الصفات، وأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا نثبت
له هذه الصفات، فقال: هذا محذور آخر، فإنَّ الشيطان قد يُوهمك أنَّ هذا تمثيلٌ حتى
تُنكر الصفات، وهذه هي طريقة المعطِّلة، فحذَّر من التَّمثيل، وحذَّر من التَّعطيل،
وهذا المسلك هو الذي عليه أهل السنَّة والجماعة، وهذا مُخالفٌ لِمَا عليه أهل
الكلام، فإنَّهم يُعطِّلون الصِّفات خوفًا من التَّمثيل.
وتوسَّع هذا العالم في هذه الكلمات، ونقلها ابن تيمية ليُبيِّن لمن يعظم بعض
الصُّوفيَّة أن هذا كلام المتقدِّمين منهم.
ثم ذكر أن الذي تكلَّم لموسى وقال: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه: 14]، هو الله، وليس الشَّجرة كما تقول المعتزلة ومن يُنكر
كلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (الجَائِي...، والشَّائي)، هذا ليس من باب الأسماء، ولكن باب الخبر، وهو
يُثبت العلو -كما ترون في كلماته- ويُثبت استوائه فوق عرشه، ويُثبت صفات الرب
-سبحانه- ويقول: إنَّ إثبات اليد ليس هو القدرة والنعمة، فقال: (يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ وَهُمَا غَيْرُ نِعْمَتِهِ)، وفيه ردٌّ صريحٌ على المحرِّفين.
فهذه الكلمات البيِّنات الواضحات تُبيِّنُ لك طريقة هؤلاء المتقدمين، وأنَّهم عرفوا
الحقَّ ووضَّحوه لأتباعهم، ولكن بعض الأتباع أبى إلَّا أن يتَّبع المنحرفين -نسأل
الله لنا ولهم الهداية.
والآن نقرأ كلام الحارث المحاسبي، وكلامه في طول، ولكن سيكون التعليق في نهاية
النَّص -إن شاء الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَسَدٍ المحاسبي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "فَهْمَ الْقُرْآنِ"
قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَأَنَّ النَّسْخَ لَا
يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ
مَدْحَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا أَسْمَاءَهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مِنْهَا
شَيْءٌ". إلَى أَنْ قَالَ: "وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ صِفَاتِهِ
حَسَنَةٌ عُلْيَا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَنِيَّةٌ سُفْلَى، فَيَصِفُ
نَفْسَهُ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِبَعْضِ الْغَيْبِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ
عَالِمٌ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَا قَدْ كَانَ وَلَا يَسْمَعُ
الْأَصْوَاتَ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا كَلَامَ كَانَ مِنْهُ،
وَأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ لَا عَلَى الْعَرْشِ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ ذَلِكَ.
فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ وَاسْتَيْقَنْته؛ عَلِمْت مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّسْخُ
وَمَا لَا يَجُوزُ، فَإِنْ تَلَوْت آيَةً فِي ظَاهِرِ تِلَاوَتِهَا تَحْسَبُ
أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ أَخْبَارِهِ، كَقَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿حَتَّى
إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ﴾ الْآيَاتِ. وَقَالَ: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ . وَقَالَ: قَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ: أَنَّ
اللَّهَ عَنَى أَنْ يُنْجِيَهُ بِبَدَنِهِ مِنْ النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ عِنْدَ
الْغَرَقِ، وَقَالوا: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يَدْخُلُونَ
النَّارَ دُونَهُ وَقَالَ: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ . وَقَالَ: ﴿وَحَاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ وَلَمْ يَقُلْ بِفِرْعَوْنَ. قَالَ: وَهَكَذَا
الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ
نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُو﴾ ؛ فَأَقَرَّ التِّلَاوَةَ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْعِلْمِ مِنْ
اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عِلْمًا بِشَيْءِ، لِأَنَّهُ مَنْ
لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَهُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَهُ -
نَجِدُهُ ضَرُورَةً -، قَالَ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ﴾ . وقَالَ: وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾
إنَّمَا يُرِيدُ حَتَّى نَرَاهُ فَيَكُونُ مَعْلُومًا مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا
جَائِزَ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ،
وَيَعْلَمُهُ مَوْجُودًا كَانَ قَدْ كَانَ، فَيَعْلَمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ
مَعْدُومًا مَوْجُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا مُحَالٌ. وَذَكَرَ كَلَامًا فِي
هَذَا فِي الْإِرَادَةِ.
إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ لَيْسَ
مَعْنَاهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ سَمْعًا، وَلَا تَكَلُّفَ بِسَمْعِ مَا كَانَ مِنْ
قَوْلِهِمْ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ
اسْتِمَاعًا فِي ذَاتِهِ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ مَا يَعْقِلُ مِنْ أَنَّهُ يَحْدُثُ
مِنْهُمْ عِلْمُ سَمْعٍ لِمَا كَانَ مِنْ قَوْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ
حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ فَهِمَ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ أُذُنُهُ مِنْ الصَّوْتِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾
لَا يَتَحَدَّثُ بَصَرًا مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الشَّيْءُ
فَيَرَاهُ مُكَوَّنًا كَمَا لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ. إلَى أَنْ
قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ ،
وَقَوْلُهُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ، وَقَوْلُهُ: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ ، وَقَالَ: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ
السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ ، وَقَالَ: ﴿تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ﴾ ، وَقَالَ لِعِيسَى: ﴿إنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُو﴾ الْآيَةَ، وَقَالَ:
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ ، وَقَالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ . وَذَكَرَ الْآلِهَةَ: أَنْ لَوْ كَانوا آلِهَةٌ
لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا حَيْثُ هُوَ فَقَالَ: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلً﴾
أَيْ طَلَبَهُ، وَقَالَ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ . قَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ: فَلَنْ يَنْسَخَ ذَلِكَ لِهَذَا أَبَدًا.
كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ﴾ ،
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ، وَقَوْلُهُ:
﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ﴾ ، وَقَوْلُهُ: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ
رَابِعُهُمْ﴾ الْآيَةَ فَلَيْسَ هَذَا بِنَاسِخِ لِهَذَا وَلَا هَذَا ضِدٌّ
لِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ
أَرَادَ الْكَوْنَ بِذَاتِهِ فَيَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ يَنْتَقِلُ
فِيهَا لِانْتِقَالِهَا، وَيَتَبَعَّضُ فِيهَا عَلَى أَقْدَارِهَا، وَيَزُولُ
عَنْهَا عِنْدَ فَنَائِهَا -جَلَّ وَعَزَّ- عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ نَزَعَ بِذَلِكَ
بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ
بِنَفْسِهِ كَائِنًا كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ،
ثُمَّ أَحَالُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ تَثْبِيتِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي
قَوْلِهِمْ مَا نَفَوْهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُثْبِتُ شَيْئًا فِي الْمَعْنَى
ثُمَّ نَفَاهُ بِالْقَوْلِ؛ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ نَفْيُهُ بِلِسَانِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ
بِنَفْسِهِ كَائِنًا ثُمَّ نَفَوْا مَعْنَى مَا أَثْبَتُوهُ فَقَالُوا: لَا
كَالشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَنَا: قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى
نَعْلَمَ﴾ ، ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ﴾ ، ﴿إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ ؛ فَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْجُودُ فَيَعْلَمُهُ مَوْجُودًا، وَيَسْمَعُهُ
مَسْمُوعًا، وَيُبْصِرُهُ مُبْصَرًا لَا عَلَى اسْتِحْدَاثِ عِلْمٍ وَلَا سَمْعٍ
وَلَا بَصَرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَ﴾ إذَا جَاءَ وَقْتُ كَوْنِ الْمُرَادِ
فِيهِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
عِبَادِهِ﴾ ، ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ، ﴿إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي
الْعَرْشِ سَبِيلً﴾ ؛ فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ﴾ ، ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ ؛
هَذَا مُنْقَطِعٌ يُوجِبُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا
مُنَزَّهٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ؛
لِأَنَّهُ أَبَانَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَوْقَ
عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ
بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ يَعْنِي فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْعَرْشُ عَلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ
مَنْ قَدْ كَانَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى السَّمَاءِ فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ
قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ، يَعْنِي عَلَى
الْأَرْضِ -لَا يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي جَوْفِهَا- وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ -لَا يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي
جَوْفِهَا- وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾
يَعْنِي فَوْقَهَا عَلَيْهَا. وَقَالَ: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ،
ثُمَّ فَصَّلَ فَقَالَ: ﴿أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ؛ وَلَمْ يَصِلْ فَلَمْ
يَكُنْ لِذَلِكَ مَعْنًى إذَا فَصَّلَ قَوْلَهُ: ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ؛ ثُمَّ
اسْتَأْنَفَ التَّخْوِيفَ بِالْخَسْفِ إلَّا أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ
السَّمَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ وَقَالَ: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ﴾ .
فَبَيَّنَ عُرُوجَ الْأَمْرِ وَعُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ وَصَفَ وَقْتَ
صُعُودِهَا بِالِارْتِفَاعِ صَاعِدَةً إلَيْهِ فَقَالَ: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ، فَقَالَ: صُعُودُهَا إلَيْهِ وَفَصْلُهُ
مِنْ قَوْلِهِ إلَيْهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَصْعَدُ إلَى فُلَانٍ فِي لَيْلَةٍ
أَوْ يَوْمٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَإِنَّ صُعُودَك إلَيْهِ فِي يَوْمٍ،
فَإِذَا صَعِدُوا إلَى الْعَرْشِ فَقَدْ صَعِدُوا إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يُسَاوُوهُ فِي الِارْتِفَاعِ فِي عُلُوِّهِ
فَإِنَّهُمْ صَعِدُوا مِنْ الْأَرْضِ وَعَرَجُوا بِالْأَمْرِ إلَى الْعُلُوِّ؛
قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَهُ. وَقَالَ
فِرْعَوْنُ: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ *
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى﴾ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ
الْكَلَامَ فَقَالَ: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ ، فِيمَا قَالَ لِي إنَّ
إلَهَهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ
فِرْعَوْنَ ظَنَّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَ، وَعَمَدَ لِطَلَبِهِ
حَيْثُ قَالَهُ مَعَ الظَّنِّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَلَوْ أَنَّ مُوسَى
قَالَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ؛ لَطَلَبَهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي
بَدَنِهِ أَوْ حَشِّهِ؛ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْهِدْ نَفْسَهُ
بِبُنْيَانِ الصَّرْحِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا الْآيُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا قَدْ
وَصَلَهَا وَلَمْ يَقْطَعْهَا كَمَا قَطَعَ الْكَلَامَ الَّذِي أَرَادَ بِهِ
أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ؛ فَقَالَ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ، فَأَخْبَرَ بِالْعِلْمِ، ثُمَّ أَخْبَرَ
أَنَّهُ مَعَ كُلِّ مُنَاجٍ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ . فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَ بِالْعِلْمِ؛
فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُهُمْ حَيْثُ كَانُوا لَا يَخْفُونَ
عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مُنَاجَاتُهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فِي
أَسْفَلُ وَنَاظَرَ إلَيْهِمْ فِي الْعُلُوِّ. فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَزَلْ
أَرَاكُمْ وَأَعْلَمُ مُنَاجَاتِكُمْ لَكَانَ صَادِقًا -وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلَى أَنْ يُشْبِهَ الْخَلْقَ- فَإِنْ أَبَوْا إلَّا ظَاهِرَ التِّلَاوَةِ
وَقَالُوا: هَذَا مِنْكُمْ دَعْوَى خَرَجُوا عَنْ قَوْلِهِمْ فِي ظَاهِرِ
التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرُ هُوَ مَعَهُمْ لَا
فِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَ شَيْءٍ خَلَا جِسْمِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ مِنْ
قَوْلِهِمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ،
لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ فِي الشَّيْءِ، فَفِي ظَاهِرِ
التِّلَاوَةِ عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ﴾
لَمْ يَقُلْ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ قَطَعَ - كَمَا قَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ﴾ ثُمَّ قَطَعَ فَقَالَ: ﴿أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ؛ فَقَالَ:
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ﴾ يَعْنِي إلَهَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَإِلَهَ
أَهْلِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ، تَقُولُ: فُلَانٌ أَمِيرٌ فِي
خُرَاسَانَ وَأَمِيرٌ فِي بلخ وَأَمِيرٌ فِي سَمَرْقَنْدَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي
مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيَخْفَى عَلَيْهِ مَا وَرَاؤُهُ؛ فَكَيْفَ الْعَالِي فَوْقَ
الْأَشْيَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُدَبِّرُهُ فَهُوَ
إلَهٌ فِيهِمَا إذْ كَانَ مُدَبِّرًا لَهُمَا وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَفَوْقَ كُلِّ
شَيْءٍ تَعَالَى عَنْ الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ")}.
هذا الكلام الطَّويل للشيخ أبي عبد الله الحارث بن إسماعيل المحاسبي، وهو من
العلماء الذين دخلوا في شيء من علم الكلام، وتأثَّر بعبد الله بن سعيد بن كُلَّاب،
وهجره الإمام أحمد لأجل هذا، فهو قريبٌ من عصر الإمام أحمد، وكان موجودًا في زمنه،
وتوفي سنة 243 للهجرة.
وهو رجل صالحٌ معروفٌ وله مكانته، ولكنه عنده هذه الملحوظات، وله تقدير عند
المتقدمين والمتأخرين من المتصوفة، وترجمته عندهم فيها ثناءٌ كثير عليه، لكنه ذُمَّ
ونقضَ عليه ما عنده من التَّأثر بعلم الكلام، وما عنده من بعض التَّصوُّف، والكلام
في الخطرات، ونحو ذلك، وأما في بقيَّة الأمور فكلامه جيد في الجملة.
وكتابه "فهم القرآن" موجود ومطبوع ومتداول وعليه بعض المؤاخذات، لكن يوجَد فيه
كلامٌ كثير أصابَ فيه الحق، ومن ذلك ما نقله الشيخ هنا، وخلاصته تدور على إثبات
الصفات مع نفي التَّمثيل والتَّشبيه والكيفيَّة، وأيضًا الرَّد على الحلوليَّة،
وهذا يُبيِّن لنا أنَّ في ذلك الزَّمن كثُرَ المعطِّلَة الذينَ يُنكرون الصِّفات،
وكَثُرَ من يقول: إنَّ الله في كل مكان، حالًّا في جميع الأمكنة! والمحاسبي ردَّ
عليهم.
نأخذ بعض الجُمل التي تحتاج إلى تعليق من كلام المحاسبي:
ذكر أنَّ إخبار الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن نفسه ومدحه لنفسه بصفات الكمال لا يُنسَخ
ولا يُبدَّل ولا يُغيَّر؛ لأنَّه حق، ولا يُمكن أن يُقال: إنَّه يسمع. ثم يُقال:
إنَّه لا يسمع. ولا يُقال: إنَّه يُبصر. ثم يُقال: إنَّه لا يُبصر! فهذا حقٌّ يجب
الإيمان به.
ثم ذكر قول بعض ضُلَّال الصُّوفيَّة الحلوليَّة الذين يقولون: إنَّ فرعون نجا
وإنَّه مؤمن، وإنَّ الذين أُهلِكُوا هم قوم فرعون؛ ومَن زعموا أن قوله تعالى:
﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ أي فرعونُ أوردَ قومَه وهو لم يرد معهم. وأنَّ قوله
تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ ، أنَّ فرعون ليس من آل فرعون؛
فـردَّ عليهم الشيخ بقوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولَى﴾ ؛ أنَّ الخطاب هنا لفرعون، وهذا شيء معلوم عند المسلمين، وأنَّ فرعون
هو أوَّلهم في دخول النار، وأوَّلهم في الكفر؛ لكن هؤلاء ضلُّوا عن سواء السبيل،
فهم ضُلَّال الصُّوفيَّة الحلوليَّة.
ثمَّ ردَّ عليهم في مسائل أُخرى في الصفات وأثبت العلو، فاستدل على علوه -سبحانه
وتعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ، وقوله: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ،
وقوله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ .
ثم ردَّ على الحلوليَّة في احتجاجهم بقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ﴾ ، قَوْله تَعَالَى ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ﴾ ، فقال: (وَقَدْ نَزَعَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ؛ فَزَعَمُوا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِنَفْسِهِ كَائِنًا كَمَا هُوَ عَلَى
الْعَرْشِ)، وردَّ عليهم من عدَّة أوجه، منها قوله -سبحانه وتعالى: ﴿عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وقوله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ ، وقوله:
﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ ، ثم قال: (هَذَا مُنْقَطِعٌ يُوجِبُ
أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مُنَزَّهٌ عَنْ الدُّخُولِ
فِي خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ).
وردَّ عليهم أيضًا بقوله تعالى عن فرعون: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي
أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ ، ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى﴾
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ ، يعني:
فرعون يقول: أظنُّ موسى كاذبًا!
لماذا بنى الصَّرح؟
بنى الصرح لأنَّ موسى يُخبر أنَّ إلهه فوق السماء، وليس إخبار موسى أنَّ الله في كل
مكان.
ولهذا قال: (فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ فِرْعَوْنَ ظَنَّ
بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَ: وَعَمَدَ لِطَلَبِهِ حَيْثُ قَالَهُ مَعَ
الظَّنِّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ وَلَوْ أَنَّ مُوسَى قَالَ: إنَّهُ فِي كُلِّ
مَكَانٍ بِذَاتِهِ لَطَلَبَهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي بَدَنِهِ أَوْ حَشِّهِ.
فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْهِدْ نَفْسَهُ بِبُنْيَانِ الصَّرْحِ).
والصَّرح: هو البناء العظيم الذي يرقى فوقه.
ثم ذكر قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ
رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ
وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة:
7]، فقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ احتجَّ
به الحلوليَّة على أنَّ الله في كل مكان، ولكن هذا حُجَّة عليهم؛ لأنَّ الآية بدأت
بالعلم وخُتمَت بالعلم، فالمراد أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- معهم بعلمه.
وردَّ الشيخ المحاسبي على استدلالهم بهذه الآية وقولهم: "أن الله في العلو وأنَّه
في كل مكان"؛ فقال: (فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَ بِالْعِلْمِ)، والحلوليَّة
يقولون: إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حالٌّ في كل الأمكنة، والله -عَزَّ وَجَلَّ-
يقول: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ ، وليس هو منهم
ولا فيهم؛ فهذا دليل على أنَّه مُباينٌ عن خلقه -سبحانه وتعالى.
كذلك احتجاج الحلوليَّة بقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي
الْأَرْضِ إلَهٌ﴾ ، فإنَّ المقصود: أنَّه هو الذي يعبده، ويجب أن يعبده أهل الأرض
كما يعبده أهل السماء.
ثم ذكر مثالًا -ولله المثل الأعلى: (فُلَانٌ أَمِيرٌ فِي خُرَاسَانَ وَأَمِيرٌ فِي
بلخ وَأَمِيرٌ فِي سَمَرْقَنْدَ)، وهذه أسماء بقاع ومدن، فهو أمير فيها كلها، ولكنه
موجود في واحدة منها ولا يحيط بها كلها لأنه مخلوق، أما الله -سبحانه وتعالى-
فإنَّه إله العالمين، وإله جميع المخلوقات -سبحانه وتعالى- وهو الله وحده لا شريك
له، فهذا فيه ردٌّ على المعطِّلة وردٌّ على الحلوليَّة؛ فهاتان البدعتان الخطيرتان
أبطلهما المحاسبي في كتابه، وهذا هو الفائدة من نقل ابن تيمية ليرد على المتكلمين
الذين عطَّلوا الصفات، فيقول لهم: هذا أحد الأئمة الذين يشهد لهم كثيرٌ من أتباعكم
وكثير من مقدميكم بالإمامة؛ وهو يُنكر عليكم هذه الطريقة في التَّعطيل والإنكار
للصفات، كما يُنكر على الحلوليَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
خَفِيفٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ "اعْتِقَادُ التَّوْحِيدِ بِإِثْبَاتِ
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ"، قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: فَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَشَرْعًا
ظَاهِرًا وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ذَلِكَ حَتَّى قَالَ «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَحَدِيثَ «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثً»، قَالَ: فَكَانَتْ كَلِمَةُ
الصَّحَابَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ، وَهُمْ الَّذِينَ
أُمِرْنَا بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ، إذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا -بِحَمْدِ اللَّهِ
تَعَالَى- فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ "الْأَسْمَاءِ
وَالصِّفَاتِ" كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ، وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ
اخْتِلَافٌ لَنُقِلَ إلَيْنَا؛ كَمَا نُقِلَ سَائِرُ الِاخْتِلَافِ، فَاسْتَقَرَّ
صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ؛ حَتَّى أَدَّوْا ذَلِكَ إلَى
التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
الْمَعْرُوفِينَ؛ حَتَّى نَقَلُوا ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ؛ لِأَنَّ
الِاخْتِلَافَ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَصْلِ كُفْرٌ وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ)}.
أبو عبد الله محمد بن خفيف: هو من مشايخ التَّصوُّف المعروفين بالسُّنَّة، ومشايخ
التَّصوُّف أنواع، منهم مَن اختلط بالبدع، وفيهم مَن عنده ميلٌ إلى طُرُق
التَّصوُّف ولكنَّه سارَ على السُّنَّة في العقيدة، هذا في القديم.
أمَّا الآن في العصور المتأخرة فلا يكاد يسلم مَن انتسبَ إلى التَّصوُّف من البدع
الكبرى.
فالمتقدِّمون منهم يُوصون أتباعهم بالسُّنَّة، وينهونهم عن البدعة، من ذلك ما يتعلق
بالأسماء والصفات، فينقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ابن خفيف هذا -رَحِمَهُ اللهُ-
وهو قد توفي سنة 371 للهجرة، ينقل عنه من كتابه، وهذا الكتاب الله أعلم هل وُجد أو
لا! لكن فيه اعتقاد التَّوحيد بإثبات الأسماء والصفات، وبيَّنَ مسألة في المقدِّمة،
وهي أنَّ المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان لم يُنقَل عنهم خلافٌ في تلقي
هذه النُّصوص، وعُلِمَ بهذا أنَّه اتَّفقت كلمتهم على قبولها وقبول ما دلَّت عليه؛
وهذا كلام ابن خفيف.
إذًا؛ ابن خفيف يؤيِّد الطَّريقة السَّلفيَّة، ويُشكَر على هذا الكلام، ثم قال
كلمة، وهي: (وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ لَنُقِلَ إلَيْنَا؛ كَمَا
نُقِلَ سَائِرُ الِاخْتِلَافِ)، أي: لو كان هناك اختلاف لنُقِلَ كما نُقلَت الفروع،
لأنَّ هذا أهم من الفروع، وإذا كان الخلاف قد نُقِلَ في مسائل في الفقه والصلاة
والوضوء، وهذا كثيرٌ، ويُنقل عن ابن عمر وعن الزهري وغيره، فما بالك بالصفات
والأسماء، فلو كان هذا الخلاف موجودًا لنُقل.
إذًا؛ عُلِمَ أنَّهم اتَّفقوا على قبولها من غير أي خلاف، والخلاف عندهم في هذا
كفر؛ لأنَّه رد للنُّصوص الشرعية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ إنِّي قَائِلٌ - وَبِاَللَّهِ أَقُولُ - إنَّهُ
لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
عَلَى خِلَافِ مَنْهَجِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛
فَخَاضُوا فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعِلْمِ الْآثَارِ وَلَمْ يَعْقِلُوا
قَوْلَهُمْ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ، وَصَارَ مِعْوَلُهُمْ عَلَى أَحْكَامِ هَوَى
حُسْنِ النَّفْسِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ
السُّنَّةِ وَالتَّعَلُّقِ مِنْهُمْ بِآيَاتِ لَمْ يُسْعِدْهُمْ فِيهَا مَا وَافَقَ
النُّفُوسَ، فَتَأَوَّلُوا عَلَى مَا وَافَقَ هَوَاهُمْ وَصَحَّحُوا بِذَلِكَ
مَذْهَبَهُمْ؛ احْتَجْت إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمَأْخَذِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهَاجِ الْأَوَّلِينَ؛ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي جُمْلَةِ
أَقَاوِيلِهِمْ الَّتِي حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ وَمَنَعَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ حَتَّى حَذَّرَهُمْ)}.
ابن خفيف يُحذِّر من الطُّرق المخالفة لطريقة الصحابة والتابعين، ويرى أنَّ هذه
الطُّرق المخالفة من ضمنها الكلام في الصفات بطرق أهل الكلام وغيرهم؛ فهؤلاء عند
ابن خفيف وعند العلماء محل التَّحذير ومحل الذَّم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خُرُوجَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ
وَغَضَبَهُ وَحَدِيثَ «لَا ألفين أَحَدَكُمْ»، وَحَدِيثَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي
عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»، فَإِنَّ النَّاجِيَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ؛ ثُمَّ قَالَ: فَلَزِمَ الْأُمَّةَ قَاطِبَةً مَعْرِفَةُ مَا
كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَكُنْ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ
التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ الْمَعْرُوفِينَ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ مِمَّنْ
لَا يَقْبَلُ الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ. فَيَتَّصِلُ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ
قَرْنٍ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ الْحَافِظِينَ عَلَى
الْأُمَّةِ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ إثْبَاتِ السُّنَّةِ.
إلَى أَنْ قَالَ: فَأَوَّلُ مَا نَبْتَدِئُ بِهِ مَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَجْلِهَا ذَكَرَ " أَسْمَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " مما ذكر
الله -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ وَبمَا بَيَّنَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنْ صِفَاتِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَمَا وَصَفَ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
مِمَّا سَنَذْكُرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَنَا فِي
ذَلِكَ أَنْ نَرُدَّهُ إلَى أَحْكَامِ عُقُولِنَا بِطَلَبِ الْكَيْفِيَّةِ بِذَلِكَ
وَمِمَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالِاسْتِسْلَامِ لَهُ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إنَّ
اللَّهَ تَعَرَّفَ إلَيْنَا بَعْدَ إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ
بِالْأُلُوهِيَّةِ أَنْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَعْدَ التَّحْقِيقِ بِمَا
بَدَأَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَكَّدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ
فَقَبِلُوا مِنْهُ كَقَبُولِهِمْ لِأَوَائِلِ التَّوْحِيدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. إلَى أَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ نَفْسِهِ بِالتَّفْصِيلِ
مِنْ الْمُجْمَلِ. فَقَالَ: لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي﴾ وَقَالَ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ )}.
يعني أنَّ الصَّحابة والمسلمون قبلوا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"لا إله إلا الله"، وكذلك قبلوا منه ما قاله عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- منه: صفة
"النَّفس" ويُواصل الأدلَّة عليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِصِحَّةِ ذَلِكَ وَاسْتِقْرَارِه ناجاه الْمَسِيحُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ﴾ ، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ﴾ . وَأَكَّدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صِحَّةَ إثْبَاتِ ذَلِكَ فِي
سُنَّتِهِ فَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ
ذَكَرْته فِي نَفْسِي» وَقَالَ: «كَتَبَ كِتَابًا بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إنَّ
رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» وَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ» وَقَالَ
فِي مُحَاجَّةِ آدَمَ لِمُوسَى: «أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ وَاصْطَنَعَك
لِنَفْسِهِ»، فَقَدْ صَرَّحَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ
نَفْسًا وَأَثْبَتَ لَهُ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَعَلَى مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ
مَبْنِيًّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ . ثُمَّ قَالَ:
فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ قَبُولُ كُلِّ مَا وَرَدَ
عَنْهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ حَتَّى يَتَّصِلَ
بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
الآن يوضح المنهج الصَّحيح، وهو: قبول ما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به، وما أخبر
به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فكله لخاصة وعامة المؤمنين، ما في شيء
لخاصَّة المؤمنين دون العامَّة، ولكن مبنيًّا على قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ﴾ ، فنؤمن ونقر بالصفات ولا نمثِّل الله بخلقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ
وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ قَالَ:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ، ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: ﴿نُورٌ
عَلَى نُورٍ﴾ ، وَبِذَلِكَ دَعَاهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ
نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: «حِجَابُهُ
النُّورِ - أَوْ النَّارِ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ مَا
انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» وَقَالَ: سَبَحَاتُ وَجْهِهِ جَلَالُهُ
وَنُورُهُ. نَقَلَهُ عَنْ الْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدٍ
وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: |نُورُ السَّمَوَاتِ نُورُ
وَجْهِهِ|. ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَنَّهُ حَيٌّ، وَذَكَرَ
قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ .
وَالْحَدِيثَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ».
قَالَ: وَمِمَّا تَعَرَّفَ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ أَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُ
وَجْهًا مَوْصُوفًا بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا -
وَذَكَرَ الْآيَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْمُتَقَدِّمَ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَنَامُ؛ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ
الْكِتَابِ: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ ، وَأَنَّ لَهُ "وَجْهًا"
مَوْصُوفًا بِالْأَنْوَارِ وَأَنَّ لَهُ "بَصَرًا" كَمَا عَلَّمَنَا فِي كِتَابِهِ
أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ فِي إثْبَاتِ الْوَجْهِ، وَفِي إثْبَاتِ السَّمْعِ
وَالْبَصَرِ، وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى تَعَرَّفَ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ قَالَ: لَهُ
يَدَانِ قَدْ بَسَطَهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ
ذَكَرَ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ)}.
ابن خفيف يذكر إثبات الصفات والأسماء، وهذا هو المنهج الذي عليه أهل السُّنة
والجماعة في إثبات السمع والبصر والوجه واليدين، وغير ذلك من الصفات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: «يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ:
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رِجْلَهُ»، وَهِيَ رِوَايَةُ
الْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «يَضَعُ عَلَيْهَا قَدَمَهُ». ثُمَّ مَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ
الْقَدَمَيْنِ وَأَنَّ الْعَرْشَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ" وَذَكَرَ
قَوْلَ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ نَفْسِهِ، وَقَوْلَ السدي، وَقَوْلَ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ؛ يَقُولُ: "مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ"
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: "وَاضِعَ رِجْلَيْهِ عَلَيْهِ". ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ
الرِّوَايَاتُ قَدْ رُوِيَتْ عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ
مُوَافَقَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُتَدَاوَلَةً فِي الْأَقْوَالِ، وَمَحْفُوظَةً فِي الصَّدْرِ، وَلَا يُنْكِرُ
خَلَفٌ عَنْ السَّلَفِ، وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمْ،
نَقَلَتْهَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، إلَى أَنْ
حَدَثَ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ قَلَّلَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ مِمَّنْ حَذَّرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ
وَمُكَالَمَتِهِمْ، وَأُمِرْنَا أَنْ لَا نَعُودَ مَرْضَاهُمْ، وَلَا نُشَيِّعَ
جَنَائِزَهُمْ؛ فَقَصَدَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَضَرَبُوهَا
بِالتَّشْبِيهِ، وَعَمَدُوا إلَى الْأَخْبَارِ، فَعَمِلُوا فِي دَفْعِهَا إلَى
أَحْكَامِ الْمَقَايِيسِ، وَكُفْرِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَدُّوا عَلَى الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ
فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)}.
هؤلاء يُحذِّر منهم الشيخ في قوله: (قَلَّلَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ)، فنسأل الله أن
يُقلِّل عددهم، ويكفينا شرَّهم، فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذَّرنا
من مجالستهم؛ لأنَّهم يردُّون الصفات التي جاءت في الأحاديث، فهذا غلط عظيم ويجب
الحذر منه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ ذَكَرَ: الْمَأْثُورَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَجَوَابَهُ لنجدة الحروري، ثُمَّ حَدِيثَ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَنَّفَ
فِيهِ كِتَابًا مُفْرَدًا وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَسَنَذْكُرُ أُصُولَ السُّنَّةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الِاخْتِلَافِ
فِيمَا نَعْتَقِدُهُ مِمَّا خَالَفْنَا فِيهِ أَهْلَ الزَّيْغِ، وَمَا وَافَقْنَا
فِيهِ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُثْبِتَةِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْإِمَامَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ
اتِّفَاقَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى تَقْدِيمِ الصِّدِّيقِ وَأَنَّهُ
أَفْضَلُ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ؛
هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَقَوْلُنَا فِيهَا أَنَّ أَفْعَالَ
الْعِبَادِ مُقَدَّرَةٌ مَعْلُومَةٌ وَذَكَرَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ
الْخِلَافَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَمَسْأَلَةَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ،
وَقَالَ: قَوْلُنَا فِيهَا إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمْرُهُمْ
إلَى اللَّهِ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ.
وَقَالَ: أَصْلُ الْإِيمَانِ مَوْهِبَةٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ،
فَيَكُونُ أَصْلَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْأَعْمَالِ وَذَكَرَ الْخِلَافَ
فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ. وَقَالَ: قَوْلُنَا إنَّهُ يَزِيدُ
وَيَنْقُصُ.
قَالَ: ثُمَّ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ،
فَقَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ
مَخْلُوقٍ، وَإِنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ قَوْلًا وَإِلَيْهِ يَعُودُ
حُكْمًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الرُّؤْيَةِ وَقَالَ: قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا
فِيمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ الْحُجَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ -رَحِمَك اللَّهُ- أَنِّي ذَكَرْت أَحْكَامَ الِاخْتِلَافِ
عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُحَدِّثِينَ فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ، وَقَدْ
بَدَأْت أَنْ أَذْكُرَ أَحْكَامَ الْجُمَلِ مِنْ الْعُقُودِ. فَنَقُولُ
وَنَعْتَقِدُ: أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ عَرْشٌ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ
فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ بِكُلِّ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَمَا قَالَ:
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ
إلَى الْأَرْضِ﴾ ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ فِي الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ
عَلَى عَرْشِهِ، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَجْرِي عَلَى عِبَادِهِ. إلَى أَنْ
قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ
وَإِنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ. إلَى أَنْ قَالَ:
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَجَ
بِنَفْسِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. إلَى أَنْ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ
اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ
".
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ لِلرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَوْضًا،
وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَذَكَرَ الصِّرَاطَ،
وَالْمِيزَانَ، وَالْمَوْتَ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ قُتِلَ بِأَجَلِهِ وَاسْتَوْفَى
رِزْقَهُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَمِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ
لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ؛ فَيَبْسُطُ
يَدَهُ فَيَقُولُ: «أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلٍ»، الْحَدِيثَ. وَلَيْلَةَ النِّصْفِ
مِنْ شَعْبَانَ وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا،
وَاِتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَأَنَّ الْخُلَّةَ غَيْرُ الْفَقْرِ؛ لَا كَمَا
قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ مُحَمَّدًا
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرُّؤْيَةِ، وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا
اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اُخْتُصَّ
بِمِفْتَاحِ خَمْسٍ مِنْ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الْآيَةَ.
وَنَعْتَقِدُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ: ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا
وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، وَنَعْتَقِدُ الصَّبْرَ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ قُرَيْشٍ،
مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ أَوْ عَدْلٍ، مَا أَقَامَ الصَّلَاةَ مِنْ الْجُمَعِ
وَالْأَعْيَادِ، وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
وَالصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ حَيْثُ يُنَادَى لَهَا وَاجِبٌ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ
عُذْرٌ أَوْ مَانِعٌ وَالتَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ؛ وَنَشْهَدُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ عَمْدًا فَهُوَ كَافِرٌ، وَالشَّهَادَةُ وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ،
وَالصَّلَاةُ عَلَى مَنْ مَاتَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ، وَلَا نُنَزِّلُ
أَحَدًا جَنَّةً وَلَا نَارًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُمْ؛ وَالْمِرَاءُ
وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ بِدْعَةٌ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَا شَجَرَ بَيْنَ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرُهُمْ إلَى
اللَّهِ، وَنَتَرَحَّمُ عَلَى عَائِشَةَ ونترضى عَنْهَا؛ وَالْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ
وَالْمَلْفُوظِ؛ وَكَذَلِكَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِدْعَةٌ؛ وَالْقَوْلُ فِي
الْإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِدْعَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنِّي ذَكَرْت اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى ظَاهِرِ مَا وَرَدَ
عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ؛ إذْ قد
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنْ مَشَايِخِنَا الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِبَانَةِ
وَالدِّيَانَةِ إلَّا أَنِّي أَحْبَبْت أَنْ أَذْكُرَ عُقُودَ أَصْحَابِنَا
الْمُتَصَوِّفَةِ فِيمَا أَحْدَثَتْهُ طَائِفَةٌ نُسِبُوا إلَيْهِمْ مَا قَدْ
تخرصوا مِنْ الْقَوْلِ بِمَا نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى الْمَذْهَبُ وَأَهْلُهُ مِنْ
ذَلِكَ)}.
قوله (عُقُودَ)، يعني الاعتقاد.
وذكر مجموعة من العقائد منسوبة إلى السلف الصالح، وبيَّن طريقة السلف فيها، وهي في
الجملة: مستقيمة -كما قال أهل العلم.
ومما نعلق عليه:
- قوله: (وَنَعْتَقِدُ الصَّبْرَ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ قُرَيْشٍ، مَا كَانَ مِنْ
جَوْرٍ أَوْ عَدْلٍ)، والصواب: من قريش ومن غيرهم، لقول النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسمعوا وأطيعوا ولو أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع الأطراف».
- قوله: (وَالشَّهَادَةُ وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ)، أي الشَّهادة لمعيِّنٍ.
وأما قوله: (وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ)، فإنَّ بعض الرَّافضة يقولون: لا يُمكن أن
تحب عليًّا حتى تتبرأ من أبي بكرٍ وعمر وعثمان! فهذا بدعة، ونحبهم كلهم -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُم- وهذه العقائد معروفة عند أهل السُّنَّة.
- وممَّا يحتاج إلى تفصيل، قوله: (وَالْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَلْفُوظِ؛
وَكَذَلِكَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِدْعَةٌ)، فهذه المسائل تُدرَس في حينها
عند التَّوسُّع -إن شاء الله.
المقصود: أنه يذكر أقوال أهل السنَّة والجماعة، وأنَّه سائر على طريقتهم، ومن ضمنها
إثبات الصفات.
فهذا خلاصة ما ذكره ابن خفيف، وسيأتي تكميلٌ له في الدرس القادم بحول الله تعالى.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، ونفع بما قلتم.
وفي الختام الشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، سائلين الله أن
نلتقي بكم في حلقةٍ جديدة من حلقات برنامجكم "البناء العلمي"، إلى ذلكم الحين
نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12469 18
-
16292 9
-
33972 6
-
2976 13
-
3064 12
-
4088 11
-
5498 12