الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3274 12
الدرس الثاني عشر

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيُّها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ضيفنا في هذه السِّلسلة فضيلة الشَّيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله أخي الشَّيخ محمد، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{كنَّا قد وقفنا عند قول المؤلف: (واستعمل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مالك بن عوف النَّصري على من أسلم من قومه، وكان قد أسلم وحسُن إسلامه، وامتدح رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصيدة ذكرها ابن إسحاق.
واعتمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الجعرانة ودخلَ مكَّة، فلما قضى عمرته ارتحل إلى المدينة، وأقام للنَّاس الحج عامئذ عَتّاب بنُ أَسِيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكان أول من حج بالناس من أمراء المسلمين.
فصل: غزوة تبوك
ولَمَّا أنزل الله عز وجل على رسوله: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَٰغِرُونَ﴾ ندب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب إلى الجهاد، وأعلمهم بغزو الروم، وذلك في رجب من سنة تسع، وكان لا يريد غزوة إلا ورى بغيرها، إلا غزوته هذه، فإنه صرح لهم بها ليتأهبوا، لشدة عدوهم وكثرته، وذلك حين طابت الثِّمار، وكان ذلك في سنة مجدبة، فتأهَّب المسلمون لذلك)
}.
كانت هذه الغزوة في وقت أنسب ما يكون فيه الجلوس في المدينة وليس الخروج منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأنفق عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على هذا الجيش وهو جيش العسرة مالًا جزيلًا فقيل: ألف دينار. وقال بعضهم: إنه حمل على ألف بعير ومائة فرس، وجهزها أتم جهاز حتى لم يفقدوا عقالًا وخطامًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
رضي الله عن عثمان، فهذه سابقة عظيمة له، وفي بعض الروايات أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «ما ضرَّ عُثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ» ؛ لأنَّه كان بذلًا عظيمًا جدًّا مِن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ونهض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نحو من ثلاثين ألفًا، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة وقيل: سباع بن عرفطة: وقيل: علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
والصَّحيح أن عليًا كان خليفة له على النساء والذرية، ولهذا لَمَّا آذاه المنافقون قالوا: تركه على النساء والذرية، فلحق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشكا إليه ذلك، فقال: «أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ، مِن مُوسَى إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي» وقد خرج معه عبد الله بن أُبي رأس النفاق، ثم رجع من أثناء الطَّريق)
}.
كعادته في الإيقاع بالمسلمين والإرجاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتخلف عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النساء والذرية، ومن عذره الله من الرجال ممن لا يجد ظهرًا يركبه أو نفقة تكفيه، فمنهم البكاؤون)}.
وأنزل الله في قصَّتهم قرآنًا يُتلَى إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 91، 92]، هذا لأنَّ جيش العسرة كان في وقت لا مال فيه، والإعداد للجيش كان كبيرًا جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكانوا سبعة: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمر بن الحمام، وعبد الله بن المغفل المزني، وهرمي بن عبد الله، وعرباض بن سارية الفزازي، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وتخلف منافقون كفرًا وعنادًا وكانوا نحو الثمانين رجلًا، وتخلف عُصاة مثل: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية؛ ثم تاب الله عليهم بعد قدومه صلى الله عليه وسلم بخمسين ليلة)}.
وقصَّتهم مذكورة في الصَّحيحين، وذكرها الله -عَزَّ وَجَلَّ- في آيات: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ [التوبة: 118]، وتابَ الله عليهم بعدَ خمسين يومًا في قصَّةٍ مؤثِّرَةٍ جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فسار -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمر في طريقه بالحجر، فأمرهم أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلا أن يكونوا باكين، وأن لا يشربوا إلا من بئر الناقة، وما كانوا عجنوا به من غيره فليطعموه للإبل.
وجازها صلى الله عليه وسلم مقنعًا، فبلغ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبوك وفيها عين تبض بشيء من ماء قليل، فكثرت ببركته، مع ما شوهد من بركة دعائه في هذه الغزوة، من تكثير الطعام الذي كان حاصل الجيش جميعه منه مقدار العنز الباركة، فدعا الله -عَزَّ وَجَلَّ- فأكلوا منه وملؤوا كل وعاءٍ كان في ذلك الجيش، وكذا لما عطشوا دعا الله تعالى فجاءت سحابة فأمطرت، فشربوا حتى رووا واحتملوا، ثم وجدوها لم تجاوز الجيش)
}.
يعني: كانت خاصَّة بالجيش، وكل هذا من دلائل نبوَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصُنِّف في دلائل النبوَّة مصنَّفات، كـ "دلائل النبوة" للبيهقي، وغيره من أهل العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومن آيات أخر كثيرة احتاجوا إليها في ذلك الوقت.
ولما انتهى إلى هناك لم يلق غزوًا، ورأى أن دخولهم إلى أرض الشام بهذه السنة يشق عليهم، فعزم على الرجوع)
}.
وكان سببها: ما حدث من هؤلاء في غزوة مُؤتة مع أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقتلهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وصالح -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة)}.
يوحنَّا هو الذي أهدى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بغلة، وكان نصرانيًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبعث خالدًا إلى أكيدر دومة، فجيء به فصالحه أيضًا، ورده، ثم رجع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
بعضهم يقول: أكيد بن عبد الملك الكندي، ودومة: هي دومة الجندل الآن، والجندل: هو الحجارة.
واسم "دومة" هل هو اسم إغريقي أو يوناني، أو نسبة إلى "دوماء"؛ الله أعلم! لكنها مشهورة بهذا الاسم، وهي منطقة تاريخية وخصيبة ولها تاريخ، وكان أكيدر دومة عنده حصن، وله قصَّة قد يطول الكلام عليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبعد رجوعه أمر بهدم مسجد الضرار، وكان قد أخرج من دار خزام بن خالد)}.
هنا وقفة تربوية، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزل في مسجد الضِّرار آيات تُتلَى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: 107]، ثم نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإقامة فيه فقال: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، فكان التحذير من هذا المسجد.
ما هو مسجد ضرار؟
هذا المسجد بُني بإشارة أبو عامر الرَّاهب، كان خزرجيًّا في المدينة، وكان نصرانيًّا، ولَمَّا جاء الإسلام شَرِقَ بالإسلام مما وقع في قلبه من الحسد، ثم ذهب إلى قريش، وشارك معهم في غزوة أحد، وهو الذي كان يحفر الحُفَر، وسمَّاه المسلمون "أبو عامر الفاسق"، ثم ذهب إلى الرُّوم يستنصرهم ويشجعهم على قتال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان من ضمن الأمور أن قال للمنافقين: ابنوا مسجدًا، ليكون مرصدًا واجتماعًا للمنافقين، وجاء أهل النفاق إلى النبي وطلبوا منه الصلاة في هذا المسجد، فواعدهم عند رجوعه من تبوك أن يُصلي فيه، فأنزل الله هذا القرآن الذي يُتلَى؛ لأن الهدف من المسجد في ظاهر الأمر أنَّه مكان للعبادة، وهذه قاعدة لأهل الإسلام، وهي أن لا يغتروا بظواهر بعض الأمور.
قال: (وكان قد أخرج من دار خزام بن خالد)، يعني أخذوا جزءًا من هذه الدار وبني فيه المسجد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهدمه بأمر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مالك بن الدخشم أخو بني سالم، أحد رجال بدر، وآخر معه اختلف فيه، وهو المسجد الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه أبدً)}.
اللهم ارضَ عن مالك بن الدُّخشم الخزرجي، وقد ورد ذكره في الأحاديث، ومن ضمن مواقفه: أنَّه تخلَّف عن مائدة عِتْبانَ بْنِ مالكٍ الذي دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أصابه شيء في بصره، فأراد أن يُصلي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في موضعه، فأقام حيسة -يعني مائدة- للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحضر جملة من الخزرج والأنصار، فسأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مالك، فتكلَّم أحدهم فقال: يا رسول الله إنَّا لا نرى وجهه ولا حديثه إلا مع المنافقين. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألَا تَرَاهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللَّهِ؟»، ثم كرَّرها، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ»، فكان سبب ورود الحديث قصَّة مالك.
والذي يظهر لي -والله أعلم- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اختار مالك بن الدُّخشم لأجل بيان براءته من النفاق في هدمه للمسجد.
وقد يكون مالك بن الدُّخشم يأتي للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأخبار المنافقين، يعني: كانت له هذه المهمَّة، ولهذا كان اختيار مالك بن الدُّخشم لهدم هذا المسجد لا شك أنه لبيان براءته من النفاق أمام الخزرج، فذاك الصحابي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا رآه يُحادث المنافقين ظنَّ أنَّه منهم، ولهذا ينبغي عدم الاستعجال في كثير من الأمور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان رجوعه من هذه الغزاة في رمضان من سنة تسع، وأنزل فيها عامة سورة التوبة، وعاتب الله -عَزَّ وَجَلَّ- من تخلف عنه صلى الله عليه وسلم، فقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ الآية والتي تليها، ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، فبانَ لك من هذا واضحُ ما اختلف فيه، وهو أن طائفة النافرة هم الذين يتفقهون في الدين بصحبتهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه الغزوة، وإذا رجعوا أنذروا قومهم ليحذروا مما تجدَّد بعدهم من الدِّين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل: قدوم وفد ثقيف.
وقدم وفد ثقيف على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رمضان هذه السنة فأسلمو)
}.
حاصرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم بعد ذلك أسلموا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان سبب ذلك أن عروة بن مسعود سيدهم كان قد جاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْصَرَفَهُ من حنين والطائف وقبل وصوله إلى المدينة)}.
عروة بن مسعود الثقفي كانت له السيادة، وقيل: هو المراد في قول المشركين ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، والثاني: وليد بن المغيرة، وردَّ الله عليهم بقول: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزخرف: 32]، وقال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- اصطفى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذه الرسالة اصطفاءً.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأسلم وحسن إسلامه واستأذن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- فأذن له وهو يخشى عليه، فلما رجع إليهم ودعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل فقتلوه.
ثم إنهم ندموا ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
}.
شرَّفه الله بالشَّهادة قرب إسلامه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فبعثوا وفدهم إليه في رمضان -كما قدمنا- وكانوا ستة، فأول من بصر بهم المغيرة بن شعبة الثقفي، وكان يرعى، فترك ذلك وأقبل بهم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلمهم في الطريق كيف يسلمون عليه، وسبق أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- المغيرة وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم)}.
فرحَ المغيرةُ بإسلامهم؛ لأنَّه ثقفي، والمغيرة أسلم عام الخندق وشهد بيعة الرَّضوان، وهو من دُهاة العرب وأهل الرَّأي، وعمُّه عروة بن مسعود الثَّقفي، وله قصَّة ظريفة ذكرها الواقدي، أنَّه خرج مع بني مالك في فخذ من ثقيف إلى مَلك مصر "المقوقس" فأعطوه هدايا، وكان المغيرة ينصح عمَّه أن لا يذهب معهم؛ لأنَّهم ليسوا من أقرب الناس إليه، فأعطاه أقل منهم ثم قتلهم، وكانوا اثنا عشر أو ثلاثة عشر، ثم جاء فأسلم.
وفي قصة الحديبية في البخاري أنَّ عروة بن مسعود لَمَّا جاء يقرب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذ المغيرة سيفه فوضعه وكان لابسًا المظفر حتى لا يُرَى وجهه، فرفع عروة رأسه وقال: من هذا؟ قال: المغيرة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك!
وكان المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيه دعابة وطرافة، وتوفي بالكوفة وعمره سبعون سنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأنزلهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد وضرب لهم فيه قبة، وكان السفير بينهم وبينه خالد بن سعيد بن العاص.
وكان الطعام يأتيهم من عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يأكلون حتى يأكل خالد قبلهم، فأسلموا واشترطوا أن تبقى عندهم طاغيتهم اللات، وأن لا تهدم، فلم يجيبهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ذلك)
}.
نسأل الله السلامة، فهذا من تعلق القلوب بهذه الأصنام.
والظاهر من سياق الروايات أن اللات: صخرة مُعظَّمة، وكان عليها بيت، وكانت لرجل يلت عليها السَّويق، فلمَّا مات، قال عمرو بن لحي الخزاعي -وهو أول من سيَّبَ السَّوائب وغير دين إبراهيم: هو لم يمت، ولكنه دخل فيها.
ويبدو أن هذه الصَّخرة كان عليها تحسينا نُقِشَت، ووضعت لها ثقيف بيتًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وسألوا أن يخفف عنهم بعض الصلوات فلم يجبهم إلى ذلك، فسألوا أن لا يهدموا بأيديهم طاغيتهم، فأجابهم إليه. وبعث معهم أبا سفيان صخر بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدمها فهدمها، وعظم ذلك على نساء ثقيف، واعتقدوا أن يصيبهم منها سوء، وقد طنز بهم المغيرة بن شعبة حين هدمها فخر صريعً)}.
كان فيه دعابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وذلك بتواطؤ منه ومن أبي سفيان، ليوهمهم أن ذلك منها، ثم قام يبكتهم ويقرعهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فأسلموا وحسن إسلامهم)}.
فهذا درس عملي عمله المغيرة لهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجعل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إمامهم أحد الستة الذين قدموا عليه وهو عثمان بن أبي العاص، وكان أحدثهم سنًا، لَمَّا رأى من حرصه على قراءة القرآن وتعلمه الفرائض)}.
جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسلموا ومكثوا عددًا من الأيام، فجاء عثمان بن أبي العاص وتعلم القرآن من أُبي بن كعب، ولهذا أمَّره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعله إمامًا لهم في الصلاة، وهذا يدلُّك على أن هذا الكتاب يرفع الله به أقوامًا ويضع به آخرين، فبركة القرآن جعلت عثمان بن أبي العاص إمامًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأمره أن يتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا، وأن يقتدي بأضعفهم)}.
يعني: يجعل ميزان الصلاة: مراعاة الضَّعيف، وذلك لتأليف القلوب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل ـ حجة الصديق وتواتر الوفود وبعث الرسل
وبعث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أميرًا على الحج هذه السنة، وأردفه عليًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بسورة براءة: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)
}.
كان مما غيَّره أهل الجاهليَّة من دين إبراهيم أنَّهم لا يطوفون بالكعبة إلَّا عراة، ويُلقون ثيابهم عنها، بزعمهم أنَّهم قد قارفوا بها ذنوبًا، فتُداس تحت الأقدام، إلَّا فئة قليلة وهم الأُحمُس - أهل مكَّة وما جاورهم من أهل الحرم- فهؤلاء لا يفعلون ذلك، ولا يطوفون بالبيت عراة، وكذلك لا يخرجون من الحرم، وكانوا يحجُّون؛ لأنَّ الحج كان من بقايا دين إبراهيم الذي حصل له التَّغيير، والأصل هو أن لا يطوف بالبيت إلَّا مَن كان عاريًا إلَّا أن يُعيره أحمسي ثيابه فيطوف، وكان من طوافهم أنهم يجعلون الكعبة عن أيمانهم، ويبدؤون بصنم "إيساف" ثم ينتهون بـ "نائلة"، ثم يعودُ إلى أخذ ثيابه، وكانت تلبيتهم محرَّفة، فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلَّا شريكًا تملكه وما ملك؛ وكانت كل قبيلة لها تلبية، فتميم لها تلبية، ومضر لها تلبية، وربيعة لها تلبية؛ كلٌّ يُلبِّي بطريقته، وكلها من الإحداث والإبداع في الدين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وينبذ إليهم عهودهم إلا من كان ذا عهد مقدر فعهده إلى مدته.وتواترت الوفود هذه السنة وما بعدها على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مذعنة بالإسلام وداخلين في دين الله أفواجً)}.
كان النَّاس تبعًا لقريش، فلمَّا فُتِحَت مكَّة علمت العرب قاطبة أنَّهم لا بقاء لهم بقتال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فجاءت الوفود من كل مكان، وفي ذلك أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- قرآنًا يُتلَى، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجً﴾، وسُمِّيَ بعام الوفود لكثرة الوافدين على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعلنين الإسلام، حتَّى أقرَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- عين رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإسلام العرب.
قال: (كما قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً﴾.
وبعث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معاذ بن جبل إلى اليمن ومعه أبو موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم)
}.
معاذ بن جبل أنصاري، وأبو موسى الأشعري من أهل اليمين، فبعثهما النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أهل اليمن، وكانت اليمن لها حضارة في ذلك الوقت، وكان من المهم إسلام هؤلاء، وكان بعضهم على دين النَّصار، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ: «إِنَّكَ تأْتي قَوْمًا منْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إليه شَهَادةِ أَنْ لا إِله إِلاَّ اللَّه».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبعث الرسل إلى ملوك الأقطار يدعوهم إلى الإسلام، وانتشرت الدعوة، وعلت الكلمة، وجاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.
فصل: حجة الوداع
نذكر فيه ملخص حجة الوداع وكيفيتها بعون الله ومنه وحسن توفيقه وهدايته، فنقول وبالله التوفيق:
صلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظهر يوم الخميس لستٍّ بقين من ذي القعدة من سنة عشر بالمدينة، ثم خرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة ومن تجمع من الأعراب، فصلَّى العصر بذي الحليفة ركعتين، وبات بها، وأتاه آت من ربه -عَزَّ وَجَلَّ- في ذلك الموضع -وهو وادي العقيق- يأمره عن ربه -عَزَّ وَجَلَّ- أن يقول في حجته هذه: حجة في عمرة. ومعنى هذا: أن الله أمره أن يقرن الحج مع العمرة، فأصبح -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبر الناس بذلك، فطاف على نسائه يومئذ بغسل واحد، وهن تسع، وقيل: إحدى عشرة)
}.
وكان هذا قبل أن يُحرِم؛ لأنَّ المُحرم يحرم عليه إتيان النساء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم اغتسل وصلى في المسجد ركعتين، وأهل بحجة وعمرة معًا.
هذا الذي رواه بلفظه ومعناه عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستة عشر صحابيًا، منهم خادمه أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد رواه عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستة عشر تابعيًا، وهو صريح لا يحتمل التأويل، إلا أن يكون بعيدًا، وما عدا ذلك مما جاء من الأحاديث الموهمة التمتع أو ما يدل على الإفراد، فلها محل غير هذا تذكر فيه.
والقِران في الحج هو الأفضل عند أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وقول للإمام أبي عبد الله الشافعي، وقد نصره جماعة من محققي الأصحاب، وهو الذي يحصل به الجمع بين الأحاديث كلها. ومن العلماء من أوجبه، والله أعلم)
}.
القِران والإفراد والتَّمتُّع؛ والصَّحيح أنَّ الأفضل هو التَّمتُّع لمن لم يسُقْ الهديَ، وأمَّا مَن ساقَ الهدي فالأفضل في حقه القِران.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وساق -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الهدي من ذي الحليفة، وأمر من كان معه هدي أن يهل كما أهل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسار والناس بين يديه وخلفه، وعن يمينه وشماله أممًا لا يحصون كثرة، كلهم قدم ليأتم به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما قدم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة طاف للقدوم، ثم سعى بين الصفا والمروة، وأمر الذين لم يسوقوا هديًا أن يفسخوا حجهم إلى عمرة ويتحللوا حلًا تامً)
}.
لأنَّ هذا أرفق بهم، فالتَّمتُّع لمن يأتي ولم يسُق الهدي أيسر له، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما خُيِّرَ بينَ أمرين إلَّا اختار أيسرهما، وهذا بخلاف مَن يأتي متأخِّرًا فهذا يكون في حقه الإفراد أو القران أفضل، فتختلف بحسب حال الإنسان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم يهلوا بالحج وقت خروجهم إلى منى، ثم قال: «لو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِن أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً»)}.
فهذا يدل على أنَّ المانع أنه ساقَ الهدي، فلا يُحل حتَّى ينحر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فدلك هذا أنه لم يكن متمتعًا قطعًا، خلافًا لزاعمي ذلك من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، وقدم علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من اليمن فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بم أهللت؟» قال: بإهلال كإهلال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني سقت الهدي وقرنت»)
}.
القِرَان: هو إدخال الحج والعمرة، وجعْل أعمالهم واحدة.
والإفراد: هو إفراد الحج وحده.
والتَّمتُّع: عمرة ثم حج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (روى هذا اللفظ أبو داود وغيره من الأئمة بإسناد صحيح، فهذا صريح في القران، وقدم علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من اليمن هديًا، وأشركه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هديه أيضًا، وكان حاصلها مائة بدنة.
ثم خرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى منى فبات بها وكانت ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة، ثم أصبح فسار إلى عرفة وخطب تحت سمرة خطبة عظيمة، شهدها من أصحابه نحو من أربعين ألفًا رضي الله عنهم أجمعين، وجمع بين الظهر والعصر ثم وقف بعرفة، ثم بات بالمزدلفة، وجمع بين المغرب والعشاء ليلتئذ، ثم أصبح فصلى الفجر في أول وقتها، ثم سار قبل طلوع الشمس إلى منى، فرمى جمرة العقبة، ونحر، وحلق، ثم أفاض فطاف بالبيت طواف الفرض وهو طواف الزيارة)
}.
وهذا يُسمَّى عند الفقهاء: طواف الإفاضة، وهو من أركان الحج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واختلف أين صلى الظهر يومئذ، وقد أشكل ذلك على كثير من الحفَّاظ، ثم حل من كل شيء حرم منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخطب ثاني يوم النحر خطبة عظيمة أيضًا، ووصى وحذر وأنذر وأشهدهم على أنفسهم أنه بلغ الرسالة.
فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم منصرفًا إلى المدينة، وقد أكمل الله له دينه)
}.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب في عرفة وخطب ثاني يوم النَّحر، وخطبة الوداع كانت خطبة عظيمة جدًّا، وفيها إعلان أصول الإسلام، كتحريم الدِّماء والأموال، وتحريم أعراض المسلمين بعضهم على بعضٍ، ووضع دماء الجاهليَّة، ووضع الربا وتحريمه، والوصيَّة بلزوم الكتاب والسُّنَّة، والإنباء عن أصول الشَّريعة، وأنَّ النَّاس سواسية في الإسلام، فهذا من أعظم الشِّعارات المرفوعة الواقعيَّة في تشريع الإسلام، وهو وحدة الجنس البشري، كلكم لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلَّا بالتَّقوى، وكثير من الدِّيانات والشَّعائر والدَّساتير والقوانين تجدها معضلة، أمَّا الإسلام فلا يفرق بين العربي والعجمي، ولا يُفرق بين الجنس البشري، وهذا من شعارات الإسلام الظَّاهرة التي جعلت الناس يُقبلون عليه، وفي الحقيقة هو شعار واقعي له مضامين في التَّشريع.
كذلك من الأمور التي ذكرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الوصيَّة بالنِّساء، وربما يكون في هذا الموضع قد لا يكون للإنسان عناية بهذا، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسمعهم وقال: «فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»، فهذه وصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنساء، من تأليف قلوبهنَّ والحرص عليهن، لأنَّ النساء شقائق الرجال في الإسلام، ولا يُمكن أن ينجح المجتمع ولا يقوم له قائمة إلَّا بصلاح النساء، فالعناية بهذا أمرٌ مُهمٌّ جدًّا، وحسن التَّعامل مع النساء، ويكفي قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» ، فهذه وصيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: وفاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر)
}.
يعني بعد حجة الوداع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم ابتدأ به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعه في بيت ميمونة يوم خميس، وكان وجعًا في رأسه الكريم، وكان أكثر ما يعتريه الصداع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجعل مع هذا يدور على نسائه حتى شقَّ عليه، فاستأذنهن أن يمرَّض في بيت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فأذنَّ له)}.
من عدله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما كان مريضًا كان يدور على نسائه، فهذا من تمام العدل مع زوجاته، مع أنَّ المريض ربما يذهل عن مثل هذه الأمور، فهذا درس عملي في العدل بين الأزواج كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُمَارسه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فمكث وجعًا اثني عشر يومًا. وقيل: أربعة عشر يومًا. والصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يصلي بالناس بنصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه، واستثنائه له من جيش أسامة الذي كان قد جهزه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الشام لغزو الروم)}.
كان الصِّديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُصلِّي بالناس، وهذا دليل عظيم على خلافة أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنَّ أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نُصَّ على خلافته بالنَّصِّ وبالإشارة، وبأوجه كثيرة جدًّا، ومع ذلك لم تثبت الإمامة إلَّا باختيار الصحابة، فجمع الله لأبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كل هذه الأنواع:
- النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشار إليه.
- نصَّ في بعض المواضع على ذلك.
- اختاره المسلمون، لأنَّ النَّص قد لا يبلغ كل الصَّحابة، فاختاروه في ثقيفة بني ساعدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما حصل الوجع، تربصوا لينظروا ما يكون من أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد صلى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلف الصديق جالسً)}.
وهذا من سماحة الإسلام، أن يصلي الشخص جالسًا إذا مرض، أو على جنب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقبض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول، فالمشهور أنه الثاني عشر منه، وقيل مستهله. وقيل: ثانية، وقيل: غير ذلك.
وقال السهيلي ما زعم أنه لم يسبق إليه: من أنه لا يمكن أن تكون وقفته يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، ثم تكون وفاته يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعده، سواء حسبت الشهور كاملة أم ناقصة، أم بعضها كاملًا وبعضها ناقصًا.
وقد حصل له جواب صحيح في غاية الصحة ولله الحمد، أفردتُّه مع غيره من الأجوبة، وهو أن هذا إنما وقع بحسب اختلاف رؤية هلال ذي الحجة في مكة والمدينة، فرآه أهل مكة قبل أولئك بيوم، وعلى هذا يتم القول المشهور ولله الحمد والمنة.
وكان عمره يوم مات -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثًا وستين سنة، على الصحيح، قالوا: ولها مات أبو بكر وعمر وعلي وعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، ذكره أبو زكريا النووي في تهذيبه وصححه، وفي بعضه نظر)
}.
يعني كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقيل: كان ستين، وقيل: خمسًا وستين، وهذه الأقوال الثلاثة في صحيح البخاري عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
فاشتدت الرزية بموته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعظم الخطب وجل الأمر، وأصيب المسلمون بنبيهم)
}.
لا شكَّ أن أعظم مُصيبة على الصحابة وعلى مَن جاء بعدهم هي وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكن إرادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- شاءت هذا، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُ»؛ لأن موت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعدم رؤيته مصيبة عظيمة جدًّا علينا وعلى مَن يأتي بعدنا؛ لأنَّ رؤية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسماع حديثه ومشاهدة ما كان منه كونه لا يحصل لنا لا شك أنَّه مصاب علينا؛ لأنَّه لا يتم الإيمان إلا بمحبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبإيثاره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المال والأهل والولد، وفي حديث عمر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ»، فالإيمان لا يكون ولا يكمل إلا بمحبته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبإيثاره على كل شيء، كيف لا وهو معلم الناس الخير، وما حصل لنا الاهتداء ولا هذا الخير إلَّا على يديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! كيف لا وهو قد بذل من نفسه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشيء العظيم حتَّى يهدينا الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلى هذا الطريق القويم!
لا شكَّ أنَّ مقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عظيم عند أصحابه وعند كل أهل الإيمان، رزقنا الله محبَّته، وحشرنا الله في زمرته، هكذا ينبغي أن يكون غرس محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نفوس أبنائنا، وأن نستضيء من دروس النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن نُعلِّم أبناءنا ذلك.
وسيأتي معنا كيف أن الصحابة -رضوان الله عليهم- تأثَّروا تأثُّرًا عظيمًا، ونعلق عليه -إن شاء الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاشتدت الرزية بموته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعظم الخطب وجل الأمر، وأصيب المسلمون بنبيهم، وأنكر عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذلك، وقال: إنه لم يمت، وإنه سيعود كما عاد موسى لقومه)}.
من هول الصَّدمة ذَهُل عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقال إنَّه لم يمت، ما كانوا يتوقَّعون أنَّ حبيبهم ورسولهم ونبيهم سيموت، هم يعلمون ولكن ظنوا أن الأمر سيتأخر، ولكن وقعت هذه المصيبة عليهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وماج الناس، وجاء الصديق المؤيد المنصور -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
وهذا من فضل الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ورسوخ عقله وثباته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجاء الصديق المؤيد المنصور -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، فأقام الأود، وصدع بالحق، وخطب الناس وتلا عليهم: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}، فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من أحد إلا يتلوها.
ثم ذهب المسلمون به إلى سقيفه بني ساعدة وقد اجتمعوا على إمرة سعد بن عبادة، فصدهم عن ذلك وردهم، وأشار عليهم بعمر بن الخطاب أو بأبي عبيدة بن الجراح، فأبيا ذلك والمسلمون، وأبى الله ذلك أيضًا، فبايعه المسلمون -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- هناك)
}.
يعني بايعوا أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فأول أمر اتَّخذوه هو البيعة، فمهم جدًّا استقرار الناس تحت إمام، حتى لا تحصل الفوضى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم جاء فبايعه الناس البيعة العامة على المنبر.
ثم شرعوا في جهاز رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فغسلوه في قميصه، وكان الذي تولى ذلك عمه العباس، وابنه قثم، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وشقران -مولياه- يصبان الماء، وساعد في ذلك أوس بن خولي الأنصاري البدري، رضي الله عنهم أجمعين، وكفنوه في ثلاثة أثواب قطن سحولية بيض ليس فيها قميص)
}.
سحوليَّة: نسبة إلى "سحول" وهي بلد في اليمن، كانت مشهورة بهذه الأثواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وصلوا عليه أفرادًا واحدًا واحدًا، لحديث جاء في ذلك رواه البزار -والله أعلم بصحته- أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرهم بذلك.
وقال الشافعي: إنما صلوا عليه مرة بعد مرة أفذاذًا لعظم قدره، ولمنافستهم أن يؤمهم عليه أحد.
قال الحاكم أبو أحمد فكان أولهم عليه صلاة العباس عمه، ثم بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس، فلما فرغ الرجال صلى الصبيان ثم النساء.
ودفن -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء سحرًا، في الموضع الذي توفي فيه من حجرة عائشة، لحديث رواه الترمذي عن أبي بكر ر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهذا هو المتواتر تواترًا ضروريًا معلومًا من الدفن، الذي هو اليوم داخل مسجد المدينة)
}.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُبِضَ في حجرة عائشة ودُفنَ فيها، كما جاء التَّوجيه النبوي لأصحابه -رضوان الله عليهم.
وموت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حق أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مصاب، وربما يعجز الإنسان عن تصوير هذا الأمر، لكن أنا أذكر ما رواه ابن ماجه -رَحِمَهُ اللهُ- عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قال: "كان اليوم الذي دخل فيه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أضاء فيها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا، فما هي بالقلوب التي نعرفها"، فكان موته مصيبة -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحقيق ذلك بدفنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالصحابة -رضوان الله عليهم- ما تصوروا كيف أنَّهم يدفنون رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأيديهم وهو أحب الناس إليهم، وأحب إليهم من أهلهم وأهليهم، ولهذا قالت فاطمة: "كيف طابت أنفسكم أن تدفنوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأيديكم"، فهذه إرادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذه سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه كرامة لأهل الإيمان، وهذه سنَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ- الكونيَّة القدرية في أن يُدفن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهو -عليه الصلاة والسلام- بشر، ونهى عن الغلو فيه، فقال: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ»، مع ما خصَّه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الفضائل وقدَّمه على غيره من الأنبياء، فهو سيد ولد آدم -صلوات ربي وسلامه عليه- ومع ذلك دُفن -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقُبِرَ، وموته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذهاب شخصه ليس هو الموت الحقيقي للإسلام، فالإسلام بقي بعد وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وازداد، وكثُرَ المنتسبين إليه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن ماتَ بشخصه كما يموت غيره من الأنبياء والصَّالحين، لكن بقي ما هو حي، وهو سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وشريعته باقية إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فمن كان يحب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُريد أن يُجالس النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يسمع حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدونكَ سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كتاب الله قبل ذلك الذي بلَّغك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به، وهو القرآن العظيم الذي حفظه الله من التَّغيير والتبديل، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، ثم الوحي الثاني الذي قال الله عنه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3]، وهو سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولفرطِ محبَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدأ الصحابة بتدوين سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسماع أحاديثه، ومن ذلك أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كيف أنَّه جمع الحديث، وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر، وهم من صغار الصحابة، أمَّا أبو هريرة فهو ممَّن تأخَّر إسلامه، ومع ذلك حرص كل الحرص على أن يسمع حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكذلك ابن عباس، وله مواقف مشهورة، فكان ينتظر عند أبواب الأنصار حتى يخرجوا ويستأني بهم في حرِّ الظَّهيرة حتى يسمع منهم حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكذلك عبد الله بن عمر، وعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها-، فحُفِظَت سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسمعها الصحابة، ثم بعد ذلك تضافرت الهمم والدَّواعي من أهل الإسلام لجمع هذه الأحاديث وروايتها، وحدث هذا من الصحابة، فجابر بن عبد الله رحل من المدينة إلى الشام لأجل حديثٍ واحد، هو حديث عبد الله بن أُنيس.
واستمرَّ هذا التَّسلسل من حرصهم ومحبتهم للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحفظوا سنَّته، وبعد ذلك صُنِّفَت المصنَّفات، وجمع الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الصَّحيح المسند، ثم الإمام مسلم، ثم أهل السُّنن، ثم أهل المسانيد، فسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينَ أظهرنا، ثم خُدمت هذه السنة من جهة الرواية، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- ومَن جاء بعدهم لا يأخذون الحديث إلَّا إذا تيقَّنوا أنَّه سمعه من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهكذا جاء التابعون بعد الصحابة، ثم تابعو التابعين، ثم الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- الذي كان له شرط عظيم جدًّا يختلف عن شروط الأئمة، وهو أنَّه يشترِط اللقاء والمعاصرة بين الشيخ والتلميذ وبين الرواي والمروي عنه؛ لهذا كان صحيح البخاري أصح كتابٍ بعد كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
والطَّعن في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو طعنٌ في رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا شك، فهذه السُّنَّة محفوظة بحمد الله، وما يُتوَهَّم فيه من الإشكال؛ فكلام أهل العلم في الجواب عنه موجود لرفع هذا التَّوهُّم.
والطَّعن في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو طعنٌ في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكن قد لا يتجاسر هؤلاء على مثل هذا الكلام، فواجب أهل الإيمان أن يحفظوا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقَّه، ومن حفظ حقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدِّفاع عن سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذه الأقلام المأجورة التي تُحاول بين الفينة والأخرى هم أقوام، ولكل قومٍ وارث، وشنشنةٌ نعرفُها من هؤلاء الذين يُعادون أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُعادون سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا يزالون، فلكل قومٍ وارث، فالواجب على أهل الإيمان أن يُدافعوا عن سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك لابد أن نهتم بسيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتعليمها لأبنائنا وبناتنا، ومواقف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنتذكرها في مجالسنا، فما أكثر ما تدور الأحاديث بين الناس في قيل وقال أو في قصص ربما بعضها مكذوبة، وعندنا سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومواقفه التاريخية نستلهم منها الدروس، وكيف أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعامل مع الأحاديث، فسنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسيرته أعظم نبراس لأهل الإيمان في هذه الحياة، في التعامل، في الأحوال التربوية، وفي الأحوال الاجتماعيَّة، رزقنا الله الاقتداء به، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، فالتَّأسِّي إنَّما يكون بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وما دون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليس بمعصوم.
رزقنا الله محبَّته والدِّفاع عن سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجمعنا الله به في مستقر رحمته وفي جنته، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم النَّافع والعمل الصَّالح.
{شيخنا الفاضل؛ هل ترشدونا إلى بعض الكتب المناسبة في القراءة والاطلاع، لكي يستفيد منها المشاهد؟}.
أذكر في ذهني كتابين:
- زاد المعاد: وهو كتاب عظيم جدًّا، وفيه لفتات تربوية وتوجيهات من الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ.
- مختصر سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ-، فهو مختصر مفيد ونافع.
وأرى أنَّ هذين الكتابين نافعان للنَّاس في الدروس والتَّعليم، والكتب كثيرة -بحمد الله- والسيرة مخدومة، فينبغي للإنسان أن يحرص عليها.
وأُلاحظ منهجًا جيدًا في الحقيقة، وهو تعليم السيرة النبوية للأطفال، وثم برامج الآن عن طريق شبكات التواصل، يُمكن للإنسان أن يستفيد وأن يرسلها لأولاده ليتعلَّموها، لأنَّ تعليم السيرة للصغار مهم جدًّا، فلابد من العناية به..
{ما حكم الطَّعن في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
لا شكَّ أنَّ الطَّعن في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقدح في أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الطَّعن في الإسلام، والطَّعن في الإسلام لا يخفى حكمه على أحد، فهؤلاء الطَّاعنين والشَّانئين للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولسنَّته على شفا هلكةٍ، وعلى خطرٍ عظيم، ودائمًا إذا سمع الإنسان حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعليه أن يوقِّر هذا الحديث، وما يستشكله في ذهنه فجوابه موجود عند أهل العلم، والسنَّة مخدومة بموسوعات عظيمة، يكفي كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري"، فهو موسوعة، وهذا الصَّحيح خُدم بأكثر من شرح، والكتب كثيرة جدًّا، وفيها الجواب عمَّا يُستشكل من الأحاديث التي قد يستشكلها المستشكِل، فالعلم موجود، ولكن أخشى أنَّ يكون سبب الاستشكال شيءٌ في القلب -نسأل الله السلامة- فالواجب على أهل الإيمان أن يُدافعوا عن سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أحسن الله إليكم، وأثابكم الله، وجعل هذا العمل في ميزان حسناتكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم - أيُّها المشاهدون- على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في برامج أخرى قادمة، والسلام لعيكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك