الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1740 12
الدرس الخامس

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقة جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل سويًّا في هذه الحلقة شرحَ كتاب "الفصول من سيرة الرسول" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
باسمي وباسمكم -أيها المشاهدون- نُرحب بضيف البرنامج، فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ محمد، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{كنَّا قد وقفنا عند كلام المؤلف عن تحويل القبلة وفرض الصوم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: تحويل القبلة وفرض الصوم.
وفي شعبان من هذه السنة حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك على رأس ستة عشر شهرًا من مقدمه المدينة، وقيل سبعة عشر شهرًا، وهما في الصحيحين.
وكان أول من صلى إليها أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي: وذلك أنا سمعنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي: تعال نصلي ركعتين فنكون أول من صلى إليها، فتوارينا وصلينا إليها، ثم نزل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصلَّى بالناس الظهر يومئذ، وفرض صوم رمضان، وفرضت لأجله زكاة الفطر قبيله بيوم)
}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
كما قرأتَ في مسألة تحويل القبلة، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ المدينة مَكَثَ ستَّة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، فالروايات تذكر مرة ستة عشر، ومرة سبعة عشر، والأمر يسير، فمكث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستقبل بيت المقدس، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس، ومع هذا المكوث كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعجبه أن تكون قبلته إلى الكعبة، والله -جَلَّ وَعَلَا- صوَّر هذا الشعور في آياتٍ نزلت، فقال -عزَّ وجل: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144]، وأنت كما ترى أن الله -سبحانه وتعالى- علم من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، وعلم أنَّ الكعبة بيت الله -عَزَّ وَجلَّ- جعلها قبلةً لهذا الدين الخاتم -دين الإسلام.
وتكلَّم أهل العلم في الحكم من تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ لأنَّ قبلة بيت المقدس هي قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، وهذا التَّغيير يدلُّ على أن شريعة محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخالِفَة في شرائعها وفي منهاجها للشرائع التي كانت قبلها، لأن هذه الشرائع دخلها التَّحريف والتَّغيير، فأعظم حكمةٍ هو ما ذكره الله -عَزَّ وَجلَّ- في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَ﴾، يعني: بيت المقدس، قال: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143]، فكانت محض امتحان لليهود ولغيرهم، وهذه أعظم حكمة ذكرها الله -عَزَّ وَجلَّ- والله تعالى هو الذي يحكم ولا معقِّب لحكمه -سبحانه وتعالى.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفرض صوم رمضان، وفرضت لأجله زكاة الفطر قبيله بيوم)، وهذا يدل على أن العهد المكي لم تُفرَض فيه الشَّرائع، وقيل إنَّ الصَّلاة فُرضَت في مكَّة، ولكن كثيرًا من الشَّرائع إنَّما فُرِضَت في انتقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: غزوة بدر الكبرى
نذكر فيه ملخص وقعة بدر الثانية، وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل وأعز الإسلام، ودمغ الكفر وأهله، وذلك أنه لما كان في رمضان من هذه السنة الثانية بلغ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن عيرًا مقبلة من الشام صحبة أبي سفيان، صخر بن حرب، في ثلاثين أو أربعين رجلًا من قريش)
}.
لاحظ تعبير المؤلف بقوله: (بدر الكبرى)؛ لأنَّ قبلها بدر الأولى، وبدر الثَّانية، وواقعة بدر الكبرى هي التي كانت مفاصلة وفيها ظهور للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما سيورد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من هذه الغزوة العظيمة التي وقعت، وسنمرُّ على بعض الآثار قد تُشكِل على البعض، مثل أن العير التي كانت تُحمل على ظهور الجمال، فكانت بضائعهم لا تنتقل إلَّا عن طريق العير، فتسمَّى "القافلة" بـ "العير"، وكانت قريش تقصد الشام للتِّجارة، فكان من اللازم أن تمر بمحاذاة المدينة، بخلاف رحلتهم إلى اليمن فلا طريق لهم من جهة المدينة، وإنَّما طريقهم من جهة الجنوب.
وقوله: (صحبة أبي سفيان، صخر بن حرب)، هو صخر بن حرب بن أميَّة، وهو من سادات قريش، وتأخَّر إسلامه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حتَّى أنَّه أسلم عام الفتح، وقال فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آَمِنْ» .
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهي عير عظيمة، تحمل أموالًا جزيلة لقريش، فندب -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس للخروج إليه)}.
هذه القافلة كانت غرضًا اقتصاديًّا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النِّكاية بقريش؛ لأنَّ قريش عملت بأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشياء كثيرة، ومن ضمنها أخذ أموالهم، فلا شكَّ أن الأثر الاقتصادي له دوره في كسر شوكة هؤلاء المعتدين والظَّلمَة من كفار قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأمر من كان ظهره حاضرًا بالنهوض، ولم يحتفل لها احتفالًا كثيرً)}.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرَ بالخروج إلى العير، فلم يكن المقصد أن تكون معركة ومفاصلة بين قريش وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنَّما قصدَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العير، ولا شك أن حراسة العير كانت قليلة، ولهذا فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحتفل لها احتفالًا كبيرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلا أنه خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لثمان خلون من رمضان، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم)}.
عبد الله بن أم مكتوم: قيل إن اسمه "الحصين" وغيره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى "عبد الله"، وأمَّه عاتكة المخزوميَّة من قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة)}.
استعمل عبد الله بن أم مكتوم، ثم بعد ذلك جعل أبا لبابة على المدينة، يعني: جعله أميرًا يخلُف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولم يكن معه من الخيل سوى فرس الزبير، وفرس المقداد بن الأسود الكندي)}.
هذا وصف للجيش ووصف للاستعدادات العسكريَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومن الإبل سبعون بعيرًا يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد)}.
يعتقب: أي يخلف الرجلُ الرجلَ، ولا شكَّ أن المسير طويل، فيتعاقبون في الركوب، يمشي ثم يعقبه الآخر فيركب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرً)}.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو خاتم الأنبياء، ويتعاقب مع أصحابه على البعير، مثله مثلهم، مع أنَّ حقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون راكبًا، لكن من كريم خلق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي جبله الله -عَزَّ وَجلَّ- كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، أنَّه جعل نفسه سواية مع هؤلاء، فلا شكَّ أن في ذلك درسًا تربويًّا عظيمًا لمن يوليهم الله -عَزَّ وَجلَّ- على المسلمين، فكونه ينزل إلى الناس ويكون مثلهم فلا شك أن ذلك رفعةً له وجلب لقلوب هؤلاء، وهذه القصة برهانٌ وشاهد على تواضعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حتى أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يُعرف بينَ أصحابه، ومرَّ معنا في قصَّة الهجرة أنَّهم لم يُميَّزوه حتَّى قام أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُظلِّل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الشَّمس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وزيد بن حارثة وأنسة وأبو كبشة موالي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحمزة يعتقبون جملًا، وأبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف على جمل آخر.. وهلم جر)}.
يعني كل الجيش على هذا النَّحو.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ودفع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللواء إلى مصعب بن عمير، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب، والراية الأخرى إلى رجل من الأنصار)}.
هناك فرق بين اللواء والراية: اللواء يكون واحدًا، والرَّايات تكون كثيرة.
وذكر العلماء أنَّ اللواء يعقد في طرف الرمح ويُلوَى عليه، والرَّاية أصغر واللواء أكبر، واللواء يكون واحدًا في وسط الجيش يجتمع الناس عليه، وأمَّا الرَّايات فهي متعدِّدة، فالميمنة لها راية، والميسرة لها راية، وربَّما تتعدَّد الرايات بحسب قبائل الجيش، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض معاركه يُقسِّم الصحابة بحسب قبائلهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانت راية الأنصار بيد سعد بن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة)}.
ساقة الجيش: هي مؤخَّرة الجيش، وفيه حديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ» ، فأثنى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنَّ مَن كان في موضوع يكون قائمًا بما أمره الله -عَزَّ وَجلَّ.
وعادة تطمح النفوس إلى السَّاقة؛ لأنهم يكونون في مؤخرة الجيش، فلا يحصل لهم كثير من الأمور من جهة القتال، ولكن لا شكَّ في أهميَّة السَّاقة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وسار -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما قرب من الصفراء)}.
الصَّفراء: وادٍ يُسمَّى "وادي ليل"، وأودية الحجاز كلها تصبُّ في البحر الأحمر، ويُقال: إنَّ هذا الوادي يصب في البريكة، وقديمًا كانت تسمى "الجار"، وهو ميناء قديم كان يستعمله أهل تلك المنطقة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بعث بسبس بن عمرو الجهني، وهو حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتحسسان أخبار العير)}.
ولا شكَّ أن مهمَّة الجيش: الاستخبار، والعيون مُهمَّة جدًّا في سير المعركة، وكما سيأتي معنا أن هذه المعركة كانت مفصليَّة، ومسألة الاستخبارات كانت معروفة من القديم، وبلغة العصر تُسمَّى "استطلاعات"، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان له قواعد عظيمة جدًّا في مسائل الحرب، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يبعث البعوث حتى يستعلم، وأمامك الآن غزوة بدر فيها معالم منهجيَّة في عسكريَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقصده إياه)}.
لاحظ الآن أنَّ أبا سفيان له مَن يُوصِل له الأخبار، فبلغه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتَّجه للعير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخًا لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه)}.
هو الآن استأجر أجيرًا، ولا شكَّ أنَّ الأجير تكون له مُهمَّة سريعة جدًّا، وهي إيصال الخبر، ولهذا كان هؤلاء الأجراء والذين يُرسَلون بالبريد ربما يتميَّز بالسُّرعة، إمَّا بالجري والعَدْو، وإمَّا بسرعة المركوب؛ حتَّى يوصِل الخبر إلى قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبلغ الصريخ أهل مكة، فنهضوا مسرعين)}.
كانت من عادتهم أنَّهم إذا جاء هذا اعتلا في مكانٍ عالٍ وصرخَ بأعلى صوته فيخرجون؛ لأنَّها مسألة إغاثة، والآن قافلتهم تمرُّ بخطرٍ، فكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصل إلى هذه القافلة فهذه ضربة مُوجعة إلى قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأوعبوا في الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلًا كان له عليه دين)}.
كانت هناك عادات تحكم الجاهلية، فكان من عاداتهم أنَّ للرجل أن يُنيب ولا يحصل له منقصة في ذلك، فأبو لهب كان له دين على العاص بن هشام بن المغيرة، فأنابه عنه في الحضور، فلم يكن ذلك نقصًا فيه.
وأبو لهب: اسمه عبد العزى، سمَّاه عبد المطلب بـ "أبي لهب" لوضاءة وجهه، ومع ذلك ما نفعه هذا، فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- أنزل في حقه سورة تُتلَى إلى يوم القيامة، ومات بالطَّاعون بعد بدرٍ بسبعة أيام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وحشدوا ممن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد)}.
وكذلك من القبائل التي تخلَّفت: بنو زهرة، وكان تخلفهم بسبب أنهم لا مال لهم في القافلة، فنصحهم الأخنس بن شُريك أن لا يخرجوا، فلم يخرجوا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وخرجوا من ديارهم كما قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾)}.
وصَّفهم الله -عَزَّ وَجلَّ- بوصفٍ دقيقٍ جدًّا، لأن الأحداث المصاحبة لبدر صوَّرها الله -عَزَّ وَجلَّ- في آياتٍ عظيمة، ولهذا قال تعالى: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأقبلوا في تحمل وحنق عظيم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه)}.
ذُكر أنَّ أبا سفيان لَمَّا بلغه أنَّ بني زُهرة لم يُشاركوا قال: "لا في العير ولا في النفير"، فجرت مثلًا.
وسيذكر المؤلف هنا أنَّ أبا سفيان استطاع بطريقةٍ معيَّنة من خلال خبرته أن يُجنِّب العير طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأخذ بها جهة الساحل، فلم يتمكَّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوصول إلى العير، فأرسل أبو سفيان إلى قريش أن العير سليمة، ولا حاجة للقتال.
وقوله: (وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه)، ذكرنا فيما سبق غزوة وادي نخلة، وأنهم قتلوا عبد الله بن جحش، وذكرنا موضعه في وادي نخلة، فلا شكَّ أنَّ هذا سبَّب لقريش حنقًا شديدًا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى الصحابة، فكان من أسباب بدر هذا الحنق الذي في نفوسهم، مع أنهم إنَّما خرجوا لأجل الدفاع عن العير، ولكن لأن سفهاءهم ساقوهم إلى هذا المورد الذي كان به تبكيتهم وذلتهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فجمعهم الله على غير ميعاد لَما أراد في ذلك من الحكمة، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولً﴾)}.
الله -عَزَّ وَجلَّ- ذكر هذا من الطائفتين، أي حال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحال قريش، قال تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 5 - 7]، فأغلب إرادة الجيش ومقصد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البدء كان لأجل العير، فتصوَّر أنَّك تريد أن تصيب مغنمًا ومالًا ثم بعد ذلك يكون اتِّجاه المعركة إلى ملقاة عدوٍّ يتضاعَف عليكَ عدَّة وعددًا، فلا شك أنَّه أمرٌ مكروه للنفس، وقدر الله -عَزَّ وَجلَّ- أن هُزِمَت قريش في هذه المعركة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولَما بلغ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد بما يقول الأنصار، فبادر سعد بن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: "يا رسول الله! كأنك تعرض بنا"، فو الله يا رسول الله، لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله.
فسر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك وقال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»)
}.
الله أكبر!
هنا مَلحظ عظيم جدًّا، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم الناس وفاءَ بالعهود والعقود، ومرَّ معنا في بيعة العقبة الثانية نُصرَة الأنصار له -وهم الأوس والخزرج- ولهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطلب الرأي، فكان المهاجرون يتكلَّمون، فقال سعد بن معاذ: "يا رسول الله! كأنك تعرض بنا"، يعني: كأنَّك يا رسول الله تريدنا، لأنَّهم أكثر مَن حضر بدر، ومن ضمن البنود والعقود في بيعة العقبة الثَّانية أنَّهم يمنعون رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكريم خُلقه ولعظيم وفائه يتخوَّف أنَّ الأنصار لا يرون نصرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا ممَّن دهمهم في المدينة، ولا شك أن ملاقاته للعدو خارج المدينة، فكأنه يُريدُ رأيهم، وألحَّ في طلبهم، فكان الجواب من سعد بن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جوابًا واضحًا بيِّنًا، أنَّك يا رسول الله لو خضتَّ بنا البحر لخضناه معك؛ وهذا يدل على فضل الأنصار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم- ولهم سابقة في النُّصرَة والجهاد ومَنعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجزل الله لهم المثوبة، وجزاهم الله خير الجزاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم رحل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونزل قريبًا من بدر، وركب -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع رجل من أصحابه مستخبرًا ثم انصرف، فلما أمسى بعث عليًا وسعدًا والزبير إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم يصلي، فسألهما أصحابه: لمن أنتما؟ فقالا: نحن سقاة لقريش)}.
سُقاة قريش: أي يشتغلون بسقاية الماء، فهم موالي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فكره ذلك أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به)}.
هذا لأنَّهم كانوا يُريدون العير لأنَّه أسهل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك، فجعلوا يضربونهما، فإذا آذاهما الضرب قالا: نحن لأبي سفيان. فإذا سكتوا عنهما قالا: نحن لقريش.
فلما انصرف رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من صلاته قال: «والذي نفسي بيده إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُمَا إِذَا صَدَقَا، وَتَتْرُكُونَهُمَا إِذَا كَذَبَ». ثم قال لهما: «أخبراني أين قريش؟» قالا: وراء هذا الكثيب)
}.
اُنظر إلى قول النبي «إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُمَا إِذَا صَدَقَا، وَتَتْرُكُونَهُمَا إِذَا كَذَبَ»؛ لأنَّ النفوس تتطلَّع إلى العير، ثم انظر إلى أسئلة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العظيمة، فما أكثر عليهم السؤال.
{قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال: كم القوم؟» قالا: لا علم لن)}.
لأنَّهم لا يستطيعون العد.
{قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كم ينحرون كل يوم؟». فقالا: يومًا عشرًا ويومًا تسعً)}.
أي: ينحرون من البعير، وكانت العادة أنَّ البعير الذي يُذبَح يكفي مائة، فمعنى قولهم: (يومًا عشرًا ويومًا تسعً)، أنهم من تسعمائة إلى الألف، ينقص أو يقل بحسب.
{قال: (فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ وَالْأَلْفِ»)}.
كان عدد الصحابة ثلاثمائة وثمانية عشر، فكان عدد المشركين الضعفين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء)}.
هما أعيُن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فإنهما وردا ماء بدر فسمعا جارية تقول لصاحبتها: ألا تقضيني ديني؟ فقالت الأخرى: إنما تقدم العير غدًا أو بعد غد)}.
الجاريتين من جهينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فأعمل لهم وأقضيك.
فصدقها مجدي بن عمرو)
}.
مجدي بن عمرو كان حليفًا للقريش وللمسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فانطلقا مقبلين لما سمعا، ويعقبهما أبو سفيان، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدًا من أصحاب محمد؟)}.
كون مجدي بن عمرو حليفًا للفريقين كان يُعطي الجوابَ مَن سأله؛ لأنَّه في المنطقة الوسط، وهذا ما يُسمُّونه الآن "الحياد"، فرضي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منه هذا، وكان مَن سأله صدقَه، فواضح أنَّ أبا سفيان مرَّ في طريقه على مجدي بن عمرو وسأله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقال: لا إلا أن راكبين نزلا عند تلك الأكمة)}.
يقصد بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء؛ لأنَّهما كانا عيون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في استطلاع خبر قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فانطلق أبو سفيان إلى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففتَّه فوجد فيه النوى فقال: والله هذه علائف يثرب)}.
البعير في المدينة يختلف عن البعير في مكَّة في مأكله، فلا شك أن البعير كان يأكل تمرًا في المدينة لوفرة التَّمر، فعرف أبو سفيان أنَّهما قدما من المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فعدل بالعير إلى طريق الساحل، فنج)}.
لَما علم أن الطريق سيكون قريبًا إلى المدينة، فاتَّجه إلى جهة أخرى وهي ساحل البحر، وذكر الرُّواة أنَّه كان سريعًا في الخروج والسَّير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبعث إلى قريش يعلمهم أنه قد نجا هو والعير ويأمرهم أن يرجعوا.
وبلغ ذلك قريشًا، فأبى أبو جهل)
}.
أبو جهل هو على اسمه من الجهالة ومن الحميَّة الجاهليَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فأبى أبو جهل وقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثًا ونشرب الخمر، وتضرب على رؤوسنا القيان، فتهابنا العرب أبدً)}.
القيان: هنَّ جواري يُغنين.
وهذا كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 47]، على عادتهم من المفاخرة والخيلاء، أرادوا أن يُظهِروا ويستعرضوا قوَّتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فرجع الأخنس بن شريق بقومه بني زهرة قاطبة، وقال: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وقد نجت، ولم يشهد بدرًا زهري إلا عما مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله: والد الزهري، فإنهما شهداها يومئذ وقتلا كافرين)}.
ولهذا لا يضر عبد الله بن شهاب الإمام المحدِّث، لأنَّ دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللهُ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئً» ، فهؤلاء العُتاة المجرمين أخرج الله من أصلابهم مَن ينصر الدين ومَن يحمي هذا الدين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فبادر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قريشًا إلى ماء بدر، ونزل على أدنى ماء هناك، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به؟ أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟)}.
الحُباب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خزرجي، وكان من أهل الرأي والمشورة، ولهذا استفسر من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: (هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به؟)، أي بوحيٍ؟ لأنَّ أفعال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعضها قد يكون بوحي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة».
فقال: ليس هذا بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ونغور ما ورائنا من القُلُب)
}.
بدرٌ موضع ماءٍ، ويكثُر فيه القليب، ولهذا كان رأي الحُباب رأيًا عسكريًّا مُوفَّق، ولهذا نزل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى رأيه، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُشاورهم، فهذا موقف عظيم يدل على تطبيق مبدأ الشورى من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا من كريم خلقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما جُبِلَ عليه، فكونه يأخذ برأي الآخرين فهذا لا شكَّ دليل على كمال، وليس دليل على نقص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقال: ليس هذا بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ونغور ما ورائنا من القُلُب ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه، فنشرب ولا يشربون.
فاستحسن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منه ذلك، وحال الله بين قريش وبين الماء بمطر عظيم أرسله، وكان نقمة على الكفار ونعمة على المسلمين، مهد لهم الأرض ولبده)
}.
العُدوة الدنيا والعُدوة العليا بينهما وادٍ، كما ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: 42]، فهذا قطع عليهم الطريق، فلم تصلهم المياه، والمياه مؤثِّرة في قدرة الجيش العسكريَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبني لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عريش يكون فيه)}.
العريش يكون من النَّخل يستظل به ويكون موضعًا للقائد، وهذا من عنايتهم برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومشى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في موضع المعركة، وجعل يريهم مصارع رؤوس القوم واحدًا واحدًا، ويقول: «هذا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان».
قال عبد الله بن مسعود: "فو الذي بعثه بالحق ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ")
}.
هذا من الوحي ومن البشرى لأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمصارع هؤلاء صناديد الكفر والطغيان، وهذا من دلائل النبوة، فما غادر أحد الموضع الذي إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبات رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك)}.
يبدو أن هذه الشجرة قُطِعَت وبقي أصلها، فجعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُترة له، فمع هذا لجأ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ربِّه، وصدق في الالتجاء إلى ربِّه، ومع أنَّه غدًا سيكون محاربًا إلَّا أنَّه باتَ يُصلِّي، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عادته أنَّه إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة -صلوات ربي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فلما أصبح وأقبلت قريش في كتائها، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم هذه قريش قد أقبلت في فخرها وخيلائها، تحادك وتحاد رسولك».
ورام الحكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش فلا يكون قتال، فأبى ذلك أبو جهل، وتقاول هو وعتبة)
}.
جهالة أبي جهلٍ واضحة، فإنَّ العير قد سلمت فلا داعي للمعركة، ولكن -والعياذ بالله- قد امتلأ قلبه حنقًا وغيظًا على الإسلام والمسلمين، وهذا جعله يُنافح عن أن هذه المعركة سبيل لنصرة قريش، وأن تهابها العرب، وأنَّ محمدًا ومَن معه أسقطَ مكانة قريش، ومع ذلك حصل ما حصل، وأراد الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يذلَّهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو)}.
أمره أبو جهل أن يندب أخاه عمرو الذي قُتل في وادي نخلة، فمن أسباب معركة بدر أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصل إلى حدود مكَّة بسريَّة عبد الله بن جحش، فقتله لعمرو بن الحضرمي أثَّر في نفوسهم، فأراد هنا أبو جهل أن يُحمي حميَّة الجاهلية بعاداتها القديمة.
قال: (فكشف عن أسته وصرخ: واعمراه! واعمراه! فحمي القوم ونشبت الحرب).
يعني كشف عن عورته، وكشف العورات عادة متَّبعة عندهم، فكان قبل المعركة يكشف عن عورته وصار يقول: واعمراه! يستصرخهم ويُثير فيهم الحميَّة قبل بداية المعركة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعدل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصفوف)}.
كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعتني بصفوف الجيش، ويُعدُّ لها، ويجعل لها وصفًا معيَّنًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر وحده، وقام سعد بن معاذ وقوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخرج عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ثلاثتهم جميعًا يطلبون البراز، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار، فقالوا: أكفاء كرام وإنما نريد بني عمنا، فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم)}.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ» ، فمع ما كانوا فيه من جاهليَّة العرب إلَّا أنهم كان عندهم صفات، فلم يكونوا يبخسون الحقوق، وقولهم: (أكفاء كرام)، يدل على أنَّهم كان عندهم أخلاق فاضلة، فما سبُّوهم، ولكن قالوا: نريد البراز مع مَن كان معنا في القبيلة، وكان عنتر في الجاهلية يقول:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي ** حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
فالجاهلية مع ما فيها، إلَّا أنَّ فيها أخلاق، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقتل علي الوليد، وقتل حمزة عتبة، وقيل: شيبة، واختلف عبيدة وقرنه بضربتين، فأجهد كل منهما صاحبه، فكر حمزة وعلي فتمما عليه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل طمثًا حتى مات بالصفراء رحمه الله تعالى ورضي عنه)}.
حمزة قتل عتبة، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبيدة بن الحارث أصيب، والوليد بن عتبة بن ربيعة قتله علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي الصحيح أن عليًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتأول قوله تعالى ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ في برازهم يوم بدر، ولا شك أن هذه الآية في سورة الحج، وهي مكية، ووقعة بدر بعد ذلك، إلا أن برازهم من أول ما دخل في معنى الآية.
ثم حمي الوطيس، واشتد القتال)
}.
حمي الوطيس: أي حمي القتال واشتد، وعادة المعارك أنها تبدأ بالبِراز، ثم بعدَ ذلك تلتحم الصفوف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ونزل النصر، واجتهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الدعاء، وابتهل ابتهالًا شديدًا، حتى جعل رداؤه يسقط عن منكبيه، وجعل أبو بكر يصلحه عليه ويقول: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك)}.
كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلحُّ في الدُّعاء على الله -عَزَّ وَجلَّ- ويُناشِدُ ربَّه، وكان يرفع يديه، فهذا الرَّفع أثَّر حتَّى أنَّ رداءه سقط عن منكبيه -صلوات ربي وسلامه عليه- فكان أبو بكر يقول له: "بعض مناشدتك لربك"، أي: كفاكَ مناشدة لربك، فإنَّ الله منجزٌ لك ما وعدك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فذلك قوله تعالى ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ ثم أغفى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إغفاءةً، ثم رفع رأسه وهو يقول: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع»)}.
النَّقع: هو الغبار.
وذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- قتال الملائكة في بدر في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 123 - 125].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان الشيطان قد تبدى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم زعيم مدلج)}.
مرَّ معنا الكلام عن قبيلة مُدلج، وقصَّة سُراقة مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا كان متَّجها للمدينة.
والشيطان يتمثَّل بصورٍ، فمرةً تمثَّل لهم في صورة شيخ نجدي حينما كانوا في دارة النَّدوة، فتمثَّل لهم في صورة مَن يرونه ويُشاهدونه حتى يكون أوقع فيهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فأجارهم، وزين لهم الذهاب إلى ما هم فيه، وذلك أنهم خشوا بني مدلج أن يخلفوهم في أهاليهم وأموالهم)}.
خشوا أن يكون منهم على قريش نكاية فجاءهم في صورة سُراقة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾، وذلك أنه رأى الملائكة حين نزلت للقتال، ورأى ما لا قبل له به، ففر وقاتلت الملائكة كما أمرها الله، وكان الرجل من المسلمين يطلب قِرْنه، فإذا به قد سقط أمامه)}.
قِرْنَه: أي المقابل له في القتال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومنح الله المسلمين أكتاف المشركين، فكان أول من فر منهم خالد بن الأعلم فأدرك فأسر، وتبعهم المسلمون في آثارهم، يقتلون ويأسرون، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم.
فكان من جملة من قتل من المشركين ممن سمى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موضعه بالأمس: أبو جهل، وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، وتمم عليه عبد الله مسعود، فاحتز رأسه وأتى به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسر بذلك)
}.

قيل: إنَّ عبد الله بن مسعود جاء إلى أبي جهل وقال له: مَن للدَّائرة اليوم؟ فقال أبو جهل: الدَّائرةُ عليكم، فوضع عبد الله بن مسعود رجله على رقبة أبي جهل، فقال له أبو جهل: لقد ارتقيتَ مرتقًى صعبًا يا رويع الغنم، فاحتزَّ عبد الله بن مسعود رأسه وأتى به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحمل الرأس من جهة السند فيه انقطاع، لكن القتل والإجهاز قد وقع من عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، فأمر بهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسُحبوا إلى القليب)}.
سُحِبُوا إلى قليب بدر، ويبدو أن هذا القليب لم يكن فيه ماء، فألقاهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم وقف عليهم ليلًا، فبكتهم وقرعهم)}.
بكَّتَهم: أي خطبهم، وذكر ابن كثير رواية عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ»، وفي رواية صحيحة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاطبهم وقال: «أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّ» . فقال الصحابة: يا رسول الله، كيف تكلمهم وقد أنتنوا؟ فقال: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ» .
والأصل في هذا هو عدم سماع الموتى إلَّا ما دلَّ عليه الدَّليل، وذكر أهل العلم إسماع أهل القليب، وهي أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسمعهم لأجل أن يذيقهم الله الخزي والذِّلَّة، فهذا الإسماع خاص، والأصل هو قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [النمل: 80]، فالموتى لا يسمعون، لأن دار البرزخ مختلفة تمامًا عن دار الدنيا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال: «بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ».
ثم أقام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعرصة ثلاثً)
}.
يعني جلس ثلاثة أيَّامٍ في ساحة بدر، وهذا يُراد به الزيادة من النَّصر، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضربهم وقتلهم وأوجعهم ومكث، وفيه معنى أنَّهم جاهزون للملاقاة مرة ثانية، وهذا فعله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة حمراء الأسد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم ارتحل بالأسارى والمغانم، وقد جعل عليها عبد الله بن كعب بن عمرو النجاري.
وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال، فلما كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصفراء قسم المغانم كما أمره الله تعالى، وأمر بالنضر بن الحارث فضربت عنقه صبرً)
}.
النَّر بن الحارث كان من أعداء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان قد تعلَّم القصص، وذهب إلى العراق والشام يأخذ أخبار قصص الأولين وما يتعلق بها، ويأتي إلى قريش ويقول: أنا أحدثكم مثلما كان يُحدِّثكم محمد، ويقص عليهم القصص، وكان له نكاية وصد عن سبيل الله -عَزَّ وَجلَّ- معلوم -نسأل الله السلامة والعافية من فعله.
ورواية قتل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له لا تصح من جهة السند، وذكر أهل العلم في بعض الروايات أنَّه قُتل لأنه جُرح ولم يأكل ولم يشرب، فمات بسبب ذلك.
{ما معنى (قتله صبرً)؟}.
كل مَن قُتل بالسيف في غير معركة يُسمَّى قُتِلَ صبرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذلك لكثرة فساده وأذاه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فرثته أخته، وقيل ابنته قتيلة بقصيدة مشهورة ذكرها ابن هشام، فلما بلغت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال فيما زعموا: «لو سمعتها قبل أن أقتله لم أقتله»)}.
لاحظ أن ابن كثير يُضعِّف الرواية بقوله (فيما زعمو).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولما نزل عرق الظبية أمر بعقبة بن أبي معيط فضربت عنقه أيضًا صبرً)}.
عرق الظِّبيَة: هو موضع قريب من الرَّوحة.
عقبة ممَّن زيَّن لهؤلاء إلقاء سلا الجزور على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولما أُلقيَ سلا الجزور على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في مكَّة وهو ساجد أمام الكعبة، فدعا النبي عليهم، وقال: «اللهم عليك برجال عتبة وشيبة والوليد أمية» ، وذكر في بعض الروايات عقبة بن أبي معيط.
قال عبد الله بن مسعود في رواية مسلم: "فوالذي بعثَ محمدًا بالحق لقد رأيتُ الذين سمَّى صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب"، فرواية مسلم مقدَّمة أن عقبة بن أبي معيط قتل في المعركة.
وأنا عندي ملحظ في رواية قتل النَّضر وعقبة بن أبي معيط: لمَّا تنظر إلى جهة المتن، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استشارهم في الأسرى، فكيفَ يخص هؤلاء بالقتل؟! فالواضح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتل مَن قتل في المعركة، ومات مَن تأثَّر بجراحه، وأمَّا الباقين فحكمهم واحد في أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استشار الصحابة فيهم، ولا شك أن هؤلاء من صناديد الكفر، والمتبع في هذا أن يأخذ منهم الفداء، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جنح إلى الفداء من هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استشار أصحابه في الأسارى: ماذا يصنع بهم؟ فأشار عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بأن يقتلوا، وأشار أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بالفداء، وهوي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما قال أبو بكر، فحلل لهم ذلك، وعاتب الله في ذلك بعض المعاتبة في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾)}.
وقال تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال: 68، 69]، فكان الأولى في أول معركة هو الإثخان في العدو والنكاية فيه بالقتل، فالفداء كان من إرادة الله -عَزَّ وَجلَّ-، لكن الله -عَزَّ وَجلَّ- سبق منه القضاء أنه لا يكون إلَّا بعد، فكان من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبول الفداء، وهو غير موافق لإرادة الله -عَزَّ وَجلَّ- الدينية الشَّرعيَّة، وإن كانت الإرادة الكونيَّة وقعت بأن الله -عَزَّ وَجلَّ- أحلَّ لهم الغنائم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- حديثًا طويلًا فيه بيان هذا كله، فجعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فداءهم أربعمائة أربعمائة.
ورجع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة مؤيدًا مظفرًا منصورًا، قد أعلى الله كلمته، ومكن له، وأعز نصره، فأسلم حينئذ بشر كثير من أهل المدينة، ومن ثم دخل عبد الله بن أبي بن سلول وجماعته من المنافقين في الدين تقية)
}.
فلا شك أن هذه المعركة كانت فاصلة جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل ـ عدة أهل بدر
وجملة من حضر بدرًا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا: من المهاجرين ستة وثمانون رجلا، ومن الأوس أحد وستون رجلًا ومن الخزرج مائة وسبعون رجلًا، وإنما قل عدد رجال الأوس عن عدد الخزرج وإن كانوا أشد منهم وأصبر عند اللقاء، لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة فلما ندبوا للخروج تيسر ذلك على الخزرج لقرب منازلهم.
وقد اختلف أئمة المغازي والسير في أهل بدر، وفي عدتهم، وفي تسمية بعضهم، اختلافًا كثيرًا، وقد ذكرهم الزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار، ومحمد بن عمر الواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي في مغازيه، والبخاري، وغير واحد من المتقدمين، وقد فصلهم كما ذكرتهم ابن حزم في كتاب السيرة له، وزعم أن ثمانية منهم لم يشهدوا بدرًا بأنفسهم وإنما ضرب لهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأسهمهم، فذكر منهم: عثمان وطلحة وسعيد بن زيد.
ومن أجلِّ من اعتنى بذلك من المتأخرين الشيخ الإمام الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فأفرد لهم جزءًا وضمنه في أحكامه أيضًا.
وأما المشركون فكانت عدتهم كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ وَالْأَلْفِ».
وقُتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلًا: ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس.
وكان أوَّل قتيلٍ يومئذ: مهجع مولى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وقيل رجل من الأنصار اسمه حارثة بن سراقة.
وقتل من المشركين سبعون، وقيل: أقل، وأسر منهم مثل ذلك أيضًا.
وفرغ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من شأن بدر والأسرى في شوال)
}.
ممَّا يُذكَر: أنَّ مَن حضرَ بدرًا أفضل ممَّن لم يحضرها، وفي قصَّة حاطب لَمَّا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ، فلا شك أن شهود بدر كان فضلًا عظيمًا، أكرم الله به مَن شاء من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويذكر بعض أهل المغازي أنَّ فداء الأسرى كان إمَّا أمولًا وإمَّا تعليم الكتابة، والحقيقة أنا لم أقف على سند صحيح يُثبتُ أنَّ هؤلاء قاموا بهذا العمل، فكل هذه الأسانيد غير ثابتة، كما أنَّها من جهة المتن فيها نظر، فالتعليم في قريش والقراءة والكتابة لم يكن شائعًا، والله أعلم أنَّ هذا لا يصح.
{في ختام هذه الحلقة نشكر لكم أعزائنا المشاهدين متابعتكم، وطيب استماعكم، ونتوجَّه بالشُّكر إلى فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فشكرًا لكم فضيلة الشيخ.
نلقاكم أيها المشاهدون في حلقةٍ قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك