الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1741 12
الدرس السابع

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل سويًّا ما بدأناه من شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- أرحب فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: فهد بن سعد المقرن. مرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ}.
حياك الله يا شيخ محمد وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والأخوات المشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصَّالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{بارك الله فيكم.
كنَّا قد وقفنا عند كلام المؤلف على بئر معونة}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
كعادتنا في التَّعريف ببعض المواضع، نقول: موقع بئر معونة تقريبًا شمال المدينة، وهو ما يُسمَّى الآن بـ "مهد الذهب"، وكان في السابق في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسمَّى "معدن بني سليم"، فالظَّاهر من هذا أنَّه كان يُستخرج منه المعادن، ومنها الذَّهب، ولكن غلبت تسمية الذَّهب عليه فصار الآن "مهد الذَّهب"، فهو غرب المهد وشمال المدينة، فهذا هو مكان بئر معونة، وهو مورد ماءٍ، وسيورد المؤلف الآن فيما تقرأ القصَّة كاملة.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل ـ بعث بئر معونة
وفي صفر هذا بعث إلى بئر معونة، وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدعو ملاعب الأسنة)
}.
سُمِّي "ملاعب الأسِّنَّة"، لأنه كان مشهورًا بالفروسيَّة، فصار لقبًا له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قدم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد.
فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جار لهم)
}.
الجوار هو الحماية لمَن كان يريد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبعثهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فبعث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما قاله ابن إسحاق أربعين رجلًا من الصحابة، وفي الصحيحين سبعين رجلًا، وهذا هو الصحيح.
وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة، ولقبه "المعنق ليموت" -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين)
}.
لقب " المُعْنِقُ للموت"، يعني: المسرع للموت، وهذا لفرط شجاعته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكانوا من فضلاء المسلمين وسادتهم وقرائهم، فنهضوا فنزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرَّة بني سليم)}.
بنو سليم قبيلة، والحرَّة هي المكان من الحجارة السوداء، وأصلها حجارة بركانيَّة، فهي آثار بركان، والجزيرة فيها أكثر من حرَّة، وهذه من الحِرَار التي كانت موجودة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم بعثوا منها حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر به فقتله رجل ضربه بحربة، فلما خرج الدم قال: فزت ورب الكعبة.
واستنفر عدو الله عامر: بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوار أبي براء)
}.
عامر بن الطفيل قتل ذلك الذي أُرسِلَ بكتاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاستنفر بني سليم فأجابته عصية ورعل وذكوان)}.
رِعْلٌ، وذَكْوَانُ، وعُصَيَّةُ؛ هذه أفخاذ من قبيلة بني سليم، وفي بعض الروايات بنو لحيان من هذيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأحاطوا بأصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- إلا كعب بن زيد من بني النجار فإنه ارتثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضَّمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سَرح المسلمين)
}.
سرح المسلمين: هي الإبل التي تُرعَى ويُسرَح بها لأكل العشب والعلف، والسرح يكون خارج المدينة، وسرح الإبل يكون إلى مسافات بعيدة، والإبل تحتاج رعاية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد هذا فقاتل المشركين حتى قُتِل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية، فلما أخبر أنه من مضر جزَّ عامر ناصيته وأعتقه فيما زعم عن رقبة كانت على أمه)}.
لأن القبائل التي كانت في نجد قبائل مضريَّة، ففعل هذا إكرامًا له، وهذا من حميَّة الجاهليَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل، ويجيء رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم فنزلا معه فيه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصابَ ثأرًا من أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما فعل، قال: «لقد قتلت قتيلين لأدينهم»)}.
لأن بينهم وبين الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عهد، فالدِّية ثابتة لهم لأنه قتل خطأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان هذا سبب غزوة بني النضير كما ورد هذا في الصحيح.
وزعم الزَّهري أن غزوة بني النَّضير بعد بدرٍ بستَّة أشهرٍ، وليس ذلك كما قال؛ بل التي كانت بعد بدرٍ بستَّة أشهر هي غزوة بني قينقاع، وأمَّا بنو النضير فبعد أحد، كما أن قريظةَ بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية، وغزوة الروم عام تبوك بعد فتح مكَّة، وأمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب)
}.
لا شك أن بئر معونة حدث مؤثر، ولو نظرت في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاصة الأيام المتلاحقة، فغزوة أحد قُتل فيها عدد من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يُقارب سبعين، ثم غزوة الرَّجيع قُتل عدد من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم بئر معونة، فلا شك أن حادثة بئر معونة أثَّرت في نفسيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونها غدر، ولهذا مكث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهرًا كاملًا بعد قتل أصحابه في بئر معونة يقنت على "رِعْلٍ، وذَكْوَانَ، وبَنِي لَحْيَانَ" في صلاة الفجر ويدعو عليهم، حتى جاء الوحي: «ألَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا، بأنَّا قدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وأَرْضَانَ»، ثم بعد ذلك كفَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن القنوت، فلا شكَّ أنَّ هذه الحادثة لها أثر عظيم على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، لكونها غدر، ولكونها تتلاحق مع وقائع أثَّرَت في نفوس المسلمين، لكن لله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا تهيُّؤ لما يكون بعدَ ذلك من الفتح العظيم للمسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة بني النضير
ونهض رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسه الكريمة إلى بني النضير ليستعين على دية ذينك القتيلين لما بينه وبينهما من الحلف)
}.
يعني دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري، فهذان قُتلا وكان بينهما وبين الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِلف وهو لم يشعر به، ولهذا كانت الدية، والدية مائة من الإبل، فلا شك أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجز عن الأداء، وبينه وبين النَّضير حِلف، ومن مُقتضَى الحلف المساعدة في مثل هذه الأمور، ولهذا نهض النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى بني النَّضير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقالوا: نعم.
وجلس صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- تحت جدار لهم، فاجتمعوا فيما بينهم وقالوا: من رجل يلقي بهذه الرحا على محمد فيقتله؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش -لعنه الله- وأعلم الله رسوله بما همُّوا به، فنهض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من وقته من بين أصحابه، فلم يتناه دون المدينة)
}.
هذه محاولة اغتيال، وهي ليست المحاولة الأولى لليهود مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا شك أن هذا من أعظم نواقض العهد والميثاق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجاء من أخبر أنه رآه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- داخلًا في حيطان المدينة، فقام أبو بكر ومن معه فاتبعوه، فأخبرهم بما أعلمه الله من أمر يهود، فندب الناس إلى قتالهم، فخرج واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في ربيع الأول فحاصرهم ست ليال منه وحينئذ حرمت الخمر، كذا ذكره ابن حزم، ولم أره لغيره.
ودسَّ عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين إلى بنى النضير: أنَّا معكم نقاتل معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم)
}.
وأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- آية في الولاء بين المنافقين واليهود، وإلى يومنا هذا ما زال أهل النفاق على هذا، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 11، 12]، فهذه آية عظيمة جدًّا تبين علاقة النفاق بأعداء الدين، ومنهم اليهود.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاغتر أولئك بهذا، فتحصنوا في آطامهم)}.
واضح من كلام ابن كثير أن بني النضير غرَّهم كلام أهل النفاق، فتحصَّنوا في حصونهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقطع نخيلهم وإحراقه)}.
هذا الحدث عظيم جدًّا وأنزل الله فيه قرآنًا يُتلى؛ لأن قطع النَّخل قد يكون في الظاهر عبثًا، ولهذا وجدوا في أنفسهم شيئًا، من أن مُقتضى الحكمة هذا؛ لأنه أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا أنزل الله قوله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر: 5]، إخزاء الفاسق وإخزاء الكفار واليهود كان مقصدًا شرعيًّا من هذا تبكيتًا لهم، وأعظم ما يكون به الخزي لهم أنَّ النَّخلة خاصَّة في حق المزارع التي يقوم على سقايتها ورعايتها، ثم يراها تُحرق أو تُقطَع، فلا شك أنَّ لها أثر نفسي، وهذا هو جزاء السيئة بالسيئة، وهو مُقتضَى العدل مع هؤلاء الذين نقضوا عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان هذا لمجموعة من النَّخل وليس لكل النخل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فسألوا رسول الله أن يجليهم ويحقن دماءهم على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح فأجابهم إلى ذلك)}.
مع هذا النقض من اليهود عاملهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعفو، وكل هذا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استيعاب لكل الوسائل السلمية لردِّ عدوان هؤلاء، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءهم على أن العهد قائم، ثم يُقابلون هذا العهد بهذه الأفعال المنكرة التي تنم على الخيانة والغدر، والتي بسببها لا يُمكن أن يطمئنَّ لهم بعد ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فتحمل أكابرهم كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق بأهليهم وأموالهم إلى خيبر فدانت لهم، وذهبت طائفة منهم إلى الشام ولم يسلم منهم إلا رجلان، وهما أبو سعد بن وهب، ويامين بن عمير بن كعب)}.
مع هذا الذي بين أيديهم من كتبهم من الدلالة على أن محمد هو النبي؛ إلَّا أن الإسلام كان فيهم قليلًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان قد جعل لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش جعلً)}.
الجُعل هو: الجائزة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لما كان قد هم به من الفتك برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأحزا أموالهما، وقسم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أموال الباقين بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهم)}.
هذه حكمها مختلف عن حُكم الغنائم؛ لأنها من الفيء، وما كان من الفيء فلرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقسمه بما يرى فيه مصلحة للمسلمين، ولا شك أن المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأولادهم وهاجروا أحوج من غيرهم، فلهذا خَصَّهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا الفيء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد كانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله، فلم يوجف المسلمون بخيل ولا ركاب)}.
يعني ما كان فيه معركة، وإنَّما كان هذا الاتفاق الذي وقع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وفي هذه الغزوة أنزل الله سبحانه سورة الحشر، وقد كان عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- يُسميها سورة بني النضير.
فصل ـ غزوة ذات الرقاع
وقنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهرًا يدعو على الذين قتلوا القراء أصحاب بئر معونة.
ثم غزا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة نجد، فخرج في جمادى الأولى من هذه السنة الرابعة)
}.
قيل في سبب تسمية غزوة الرقاع بهذا الاسم: أنَّ الذين غزوا انقطعت أحذيتهم واتَّخذوا رقاعًا لحماية أقدامهم من الأذى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يريد محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري. فسار حتى بلغ نخلًا، فلقي جمعًا من غطفان فتوقفوا، ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى يومئذ صلاة الخوف فيما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير، وقد مشكل، لأنه قد جاء في رواية الشافعي وأحمد والنسائي عن أبي سعيد أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حبسه المشركون يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلَّاهن جميعًا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف)}.
المؤلف ابن كثير يستشكل في مسألة متى شُرعَت صلاة الخوف، فإذا قيل إنَّ ذات الرقاع متقدمة على غزوة الخندق فلا شك أن هذا فيه إشكال واضح، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُصلِّ في الخندق صلاة الخوف، وهذا الذي استشكله المؤلف هو من رواية البخاري في صحيحه، لكن معلقة لابن إسحاق.
والصَّحيح من أقوال أهل العلم والذي يقتضيه السياق التَّاريخي: أنَّ صلاة الخوف إنَّما شُرعت بعد الخندق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قالوا وإنما نزلت صلاة الخوف بعسفان)}.
عسفان شمال مكة بثامنين كيلو تقريبًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كما رواه أبو عياش الزرقي قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعسفان فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد. فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم فنزلت ـ يعني صلاة الخوف ـ بين الظهر والعصر. فصلى بنا العصر ففرقنا فريقين.. وذكر الحديث، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي)}.
أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- في صلاة الخوف آيات تُتلى في سورة النساء، وقولهم: (إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم)، يعني صلاة العصر.
ولاحظ عظم فريضة الصلاة، حتى أنها في حال المعركة لا تسقط، وما ذلك إلَّا لأنَّ مقامها مقام عظيم في الإسلام، ولهذا فإنَّ التَّفريط في هذه الصَّلوات لا شك أنَّه من علامات الخذلان، ومن علامات عدم توفيق العبد، فإنَّ التوفيق كل التوفيق في محافظة المسلم على صلاته، وإقامتها في أوقاتها، والآن -للأسف- شاعَ في المسلمين مسألة التَّساهل، وبعضهم يتركها -نسأل الله السلامة والعافية- ولا شك أن ترك الصلاة جريمة وجناية على النفس وعلى المجتمع، وكما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، وأعني بخطابي مَن يتأخَّرون في الصلاة عن مواقيتها، فإذا كان الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يُسقط هذه الفريضة في حال المعارك، فما بالك بالأحوال الأخرى، فينبغي للمسلم والمسلمة العناية بها، وأداؤها في أوقاتها.
وصلاة الخوف من رحمة الإسلام وسماحته، لأنَّ فيها إخلال في بعض الأركان في الظاهر، ولها حال مختلف، ولهذا قال الإمام أحمد: "ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة، أيُّهما فعل المرء جاز"، يعني: صلاة الخوف لها صفات متعددة.
وقال أهل العلم: إنَّ صفات صلاة الخوف تابعة لمصلحة المسلمين، وهذا من سعة الشريعة. يقول الخطابي: "صلاة الخطابي أنواع، يتحرَّى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ للحراسة".
وكلام أهل العلم دقيق جدًّا، فقوله: "أحوط للصلاة" من جهة إتمام الأركان، ومن جهة حفظ المسلمين، وحفظ ثغور المسلمين من أن يصل إليها العدو.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نازلًا بين ضجنان وعسفان، محاصرًا المشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وإبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة. فجاء جبريل -عليه السلام- فأمره أن يقسم أصحابه نصفين...وذكر الحديث، رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح)}.
من صفات صلاة الخوف: أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُصلِّي ركعة بنصف الجيش، فيُتمِّون صلاتهم، ثم يقف، ثم يأتي آخرون ويُتمُّون مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الركعة الثانية، ويرجع الأوائل إلى الحراسة في صفاتٍ مذكورة عند أهل العلم لا مجال لذكرها، لكن الإشارة في هذا مهمَّة جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد علم بلا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، فاقتضى هذا أن ذات الرقاع بعدها، بل بعد خبير)}.
هذا كلام ابن كثير وترجيح ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- وهو الظَّاهر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويؤيد ذلك أن أبا موسى الأشعري وأبا هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- شهدها، أما أبو موسى الأشعري ففي الصَّحيحين عنه أنه شهد غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يلفون على أرجلهم الخرق لما نُقبت، فسميت بذلك، فأما أبا هريرة فعن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة الخوف؟ قال: نعم. قال: متى؟ قال: عام غزوة نجد وذكر صفة من صفات صلاة الخوف، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وقد قال بعض أهل التاريخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة واحدة كانت قبل الخندق وأخرى بعده)
}.
هذا محل نظر، ولهذا علَّق عليه ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قلت: إلا أنه لا يتجه أنه صلى في الأولى صلاة الخوف إن صح حديث أنها إنما فرضت في عسفان)}.
الإشكال واضح من جهة غزوة الخندق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد ذكروا أنه كانت من الحوادث في هذه الغزوة قصة جمل جابر وبيعه من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي ذلك نظر، لأنه جاء أن ذلك كان في غزوة تبوك، إلا أنَّ هذا أنسب لِما أنه كان قد قتل أبوه في أحد، وترك الأخوات، فاحتاج أن يتزوج سريعًا من يكفلهن له.
ومنها حديث جابر أيضًا في الرجل الذي سبوا امرأته فحلف ليهريقن دمًا في أصحاب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجاء ليلًا ـ وقد أرصد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلين ربيئة للمسلمين من العدو)
}.
يعني عين وطليعة للحماية، والآن يُسمون رجال الاستخبارات الذين يستطلعون الأخبار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فضرب عبادًا بن بشر بسهم وهو قائم يصلي، فنزعه ولم يبطل صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلَّم، وأنبه صاحبه، فقال: سبحان الله هلا أنبهتني؟! فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعه)}.
الله أكبر!
هذه القصة عظيمة، وفيها اجتهاد الصحابي في هذا الموضع، فقدَّم السورة التي يقرأها، حتى أنَّه يُصاب ومع ذلك يتأخَّر في الإنباه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومنها حديث غورث بن الحارث الذي هم برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو قائل تحت الشجرة)}.
قائل: من القيلولة، فكان يستريح تحت الشجرة لينام.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاستل سيفه وأراد ضربه، فصده الله عنه، وحبست يده، واستيقظ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نومه، فدعا أصحابه فاجتمعوا إليه، فأخبرهم عنه وما هم به غورث من قتله، ومع هذا كله أطلقه وعفا عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هل بعد هذه الوقائع يشك أحد فيما جمَّل الله به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الخُلُق العظيم والعفو!
فهذا الرجل يُريد أن يغتال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فانظر كيف عامله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وهكذا سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلها عفو وصفح وإحسان وإكرام، فصلوات ربي وسلامه عليه معلم الناس الخير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهذا كان في غزوة ذات الرقاع، إلا أنها التي بعد الخندق كما أخرجاه في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "أقبلنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ")}.
الشَّجرة الظَّليلة: هي التي لها ظلٌّ واسع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال: "فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معلق بالشجرة، فأخذ السيف، فاخترطه، فقال لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتخافني؟ قال: «ل»، قال فمن يمنعك مني؟ قال: «الله».
قال: فتهدده أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأغمد السَّيف وعلقه، قال: فنودي بالصَّلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخَّروا وصلَّى بالطَّائفة الأخرى ركعتين، وكانت لرسول الله أربع ركعات، وللقوم ركعتان" واللفظ لمسلم)
}.
هذه رواية أخرى ذكرها من رواية مسلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل ـ غزوة بدر الصغرى
وقد كان أبو سفيان يوم أحد عند منصرفه نادى: موعدكم وإيانا بدر العام المقبل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يجيبه بنعم، فلما كان شعبان في هذه السنة نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بدرًا للموعد، واستخلف على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي، فأقام هناك ثماني ليال، ثم رجع ولم يلق كيدًا، وذلك أن أبا سفيان خرج بقريش، فلما كان ببعض الطريق بدا لهم الرجوع لأجل جدب سنتهم فرجعوا، وهذه الغزوة تسمى بدرًا الثالثة وبدر الموعد)
}.
هذا الموعد كان بعد أحد، وكما ذكر المؤلف أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء، وهذا يدل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حرصه على نكاية العدو؛ لأنَّ تخلفه ربما يعطيهم نصرًا ولو معنويًّا، ولهذا خرجوا وكان الرجوع منهم.
وكان في السابق المطر مؤثِّرًا في الحياة الاقتصاديَّة، ومؤثِّرًا في نفوس الناس، فكانوا في سنة الجدب لا يتمكَّنون من القوة ولا يتمكَّنون من أشياء كثيرة جدًّا.
ومما أفاء الله على أهل هذه البلد وعلى غيرهم أنَّهم تيسرت لهم سبل الحياة بخلاف الزمن السابق، كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- عن هؤلاء المشركين وما أثَّر الجدب فيهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة دومة الجندل
وخرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى دومة الجندل في ربيع الأول من سنة خمس، ثم رجع في أثناء الطريق ولم يلق حربًا، وكان استعمل على المدينة سباع بن عرفطة.
فصل: غزوة الخندق
يشتمل على ملخص غزوة الخندق التي ابتلى الله فيها عباده المؤمنين وزلزلهم، وثبت الإيمان في قلوب أوليائه وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق، وفضحهم وقرعهم، ثم أنزل نصره، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأعز جنده، ورد الكفرة بغيظهم، ووقى المؤمنين شر كيدهم، وذلك بفضله ومنه، وحرَّم عليهم شرعًا وقدرًا أن يغزوا المؤمنين بعدها، بل جعلهم المغلوبين وجعل حزبه هم الغالبين، والحمد لله رب العالمين)
}.
كلام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- نفيس جدًّا عن غزوة الخندق، وفعلًا كانت هذه الغزوة محطَّة مفصليَّة في غزوات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عدة جهات:
أولًا: أن غزة الخندق أجلبَ فيها أهل الشِّرك وحشدوا كل ما يملكون من القوة لقتال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومع ذلك لم يتمكَّنوا، وكانت بعدها انقطاع قوة المشركين وقوة الكفار تجاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانيًا: يظهر فيها فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنَّ من منَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ- على رسوله وعلى هذه الأمَّة أنَّه هزم الأحزاب وحده، فسيرُ الأحداث كان عجيب جدًّا، كيف أن قريشًا حاولت وجمعَت وحشدت، ثم الخيانة التي حصلت من اليهود، ثم جاء النَّصر من الله -سبحانه وتعالى- بأهون الأسباب، فالغزوة فيها قصص عجيبة جدًّا، ولهذا دائمًا الإنسان يتعلق بربِّه -سبحانه وتعالى- لأنَّ النصر من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فربما يكون السبب بسيط والله -عَزَّ وَجَلَّ- يجعل فيه البركة.
وهذه الغزوة سُمِّيت بغزة الخندق، وسُمِّيَت بغزوة الأحزاب؛ لأنَّهم تحزَّبوا والخندق شمال غرب المدينة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّما فعله بعد استشارته لأصحابه، وأشار سلمان الفارسي، فهذا فيه الاستفادة من تجارب الأمم، فالمدينة كانت تقريبًا محصَّنة:
- فمن حدودها الشرقية حرَّة واقم، وكما ذكرنا أن من الصعب جدًّا السير في الحرار لأنها حجارة،
- ومن الغرب حرَّة الوبرة.
- ومن الجنوب جبل عير، وبجواره يهود بني قريظة.
بقي الشمال الغربي مفتوح، ولهذا خندَقَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهناك أقوال متعددة في مسألة طول الخندق، والأقرب أنه يُقارب ثلاثة كيلو مترات، وعرضه تقريبًا أربعة أمتار، وعمقه ثلاثة أمتار؛ حفره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه -رضوان الله عليهم- بذلوا فيه، وهو تحصُّن للمسلمين، لأن العدو كان كبير جدًّا، فحماية الثغر مهم جدًّا، وسيأتي من كلام ابن كثير ما يُبيِّن الواق النفسي الذي وقع على المسلمين، وأنزل الله فيه سورة الأحزاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكانت في سنة خمس في شوالها على الصحيح من قولي أهل المغازي والسير، والدليل على ذلك أنَّه لا خلاف أنَّ أحدًا كانت في شوال من سنة ثلاث، وقد تقدم ما ذكره أهل العلم في المغازي أن أبا سفيان واعدهم العام المقبل بدرًا، وأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج إليهم فأخلفوه لأجل جدب تلك السنة في بلادهم، فتأخَّروا إلى هذا العام.
قال أبو محمد بن حزم الأندلسي في مغازيه: هذا قول أهل المغازي، ثم قال: والصحيح الذي لا شك فيه أنها في سنة أربع، وهو قول موسى بن عقبة، ثم احتج ابن حزم بحديث ابن عمر: "عرضت على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". فصحَّ أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة فقط)
}.
ابن كثير في أكثر من موضع يُشير إلى التواريخ، وسيُنوِّه ابن كثير -وإن تأخر هذا- أن ابن حزم -رَحِمَهُ اللهُ- له منهج في التأريخ للسيرة النبوية، وسيذكره -إن شاء الله- فهذا هو السبب في اختلاف أهل العلم، وذكرنا أنَّ من موارد ابن كثير في الفصول: جوامع السيرة لابن حزم، وابن حزم محقق في مثل هذه الأمور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قلت: هذا الحديث مخرج في الصحيحين وليس يدل على ما ادعاه لأنَّ مناط إجازة الحرب كانت عنده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خمس عشرة سنة، فكان لا يجيز من لم يبلغها، ومن بلغها أجازه)}.
هذا من قواعد الحرب عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهي إجازة مَن بلغ خمسة عشر في القتال؛ لأنه بلغ مبلغ الرجولة، وسن الخمسة عشر في السابق كان يعني شيئًا آخر غير الذي في زماننا، فالصبي في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُعتَمد عليه في سن التاسعة والعاشرة، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل المناط بالتكليف مرتبط بمسألة القتال، والتكليف إنَّما يكون بالبلوغ، فالبلوغ يكون من خمسة عشر، وهو علامة فاصلة في مثل هذا.
وما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتهاون في هذا، ولهذا كان بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- يحاولون يتطاولون؛ لأنهم يظنون أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيجيز على الشَّكل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما كان ابن عمر يوم أحد ممن لم يبلغها لم يجزه، ولما كان قد بلغها يوم الخندق أجازه، وليس ينفي هذا أن بلوغه قد زاد عليها بسنة أو بسنتين أو ثلاثًا أو أكثر من ذلك، فكأنه قال: عرضت عليه يوم الخندق وأنا بالغ أو من أبناء الحرب.
وقد قيل: إنه كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة من عمره وفي يوم الخندق في آخر الخامسة عشرة، وفي هذا نظر، والأول أقوى في النظر لمن أمعن وأنصف، والله أعلم)
}.
ولا يترتب عليه كثير خلافٍ، ومن ظهور العلم التَّوسُّع في هذا، خاصَّة في هذا الزَّمان الذي يحتاج الناس فيه إلى التركيز في المعلومات الأساسيَّة والقواعد أكثر من أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاز ابن عمر أو لم يُجزْه، ولكن هذا كلام أهل العلم، وأهل العلم بينهم رحم، ويحاولون التعليق على ما يظنون أنه خطأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان سبب غزوة الخندق أن نفرًا من يهود بني النضير الذين أجلاهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المدينة إلى خيبر -كما قدمنا- وهم أشرافهم: كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرجوا إلى قريش بمكة فألبوهم على حرب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووعدوهم من أنفسهم النصر، فأجابوهم، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فأجابوهم أيضً)}.
اليهود ما اكتفوا أنهم خرجوا وسلموا، فالإحسان النبوي لهم لم يقطع شرهم، وهم الآن يواصلون العداوة مع الإحسان الذي وقع عليهم من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن، كلهم في نحو عشرة آلاف رجل من زعماء قبيلة سزارة من غطفان، ويُقال إنه أسلم بعد ذلك.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه أمر المسلمين بحفر خندق يحول بين المشركين وبين المدينة، وكان ذلك بإشارة سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فعمل المسلمون فيه مبادرين هجوم الكفار عليهم، وكانت في حفره آيات مفصلة يطول شرحها، وأعلام نبوة قد تواتر خبره)
}.
وهذا موجود في الصَّحيحين والمسانيد، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يحفر مع أصحابه، وعرضتهم كديَّة -حجر كبير- فضربها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي ظل الأزمة بشَّرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخزائن كسرى وخزائن الروم، وفي ظل الأزمة كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكبِّر لما كان يضرب تلك الكدية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما كمل قدم المشركون، فنزلوا حول المدينة كما قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾. وخرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتحصن بالخندق وهو في ثلاثة آلاف على الصحيح من أهل المدينة.
وزعم ابن إسحاق أنه إنما كان في سبعمائة -وهذا غلط من غزوة أحد، والله تعالى أعلم- فجعلوا ظهورهم إلى سلع)
}.
وهذا الجبل موجود إلى الآن ومقارب من مسجد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنساء والذراري، فجعلوا في آطام المدينة، واستخلف عليها ابن أم مكتوم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
يعني في حصونها، ولا شك أن النساء والأطفال من أعظم ما يُمكن إحرازه، وأعظم ما تكون فيه النِّكاية من العدو أن تُصاب النساء والذَّراري -يعني الأطفال- فلا شك أنَّه تضرب الروح المعنوية، وتسقط الجيش والقوة، ولهذا أحرزهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وانطلق حيي بن أخطب النضري إلى بني قريظة، فاجتمع بكعب بن أسد رئيسهم، فلم يزل به حتى نقض العهد الذي كان بينه وبين رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووافق كعب المشركين على حرب رسول الله فسروا بذلك)}.
اُنظر إلى جليس السوء هذا كيف أنَّه جنى على هؤلاء جناية كبيرة جدًّا كما سيأتي -إن شاء الله- من سرد القصة، فلا شك أن إخلاف الوعد لا يمر بسلام، فإحسان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم لن يستمر، لأن الغدر تكرَّر من هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبعث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السعدين: ابن معاذ، وابن عبادة)}.
سعد بن معاذ: سيد الأوس.
وسعد بن عبادة: سيد الخزرج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وخوات بن جبير، وعبد الله بن رواحة، ليعرفوا له هل نقض بنو قريظة العهد أو ل)}.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجتمعت عليه القبائل، وهذه القبائل تُهدِّد كيان المسلمين، ومع هذا الاجتماع كان الثغر الذي أمامهم هو الخندق، والثغر الخلفي هم بنو قريظة، وأما الحِرَار فحمَتْ تضاريسها المدينة، ومن المهم جدًّا أن يستطلع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حماية الظَّهر، ولاحظ من سرد القصة أن بعض المعلومات لا يُشعَر بها الناس؛ لأنَّ إظهار هذه المعلومات فيه هزيمة لنفسية المسلمين، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ [النساء: 83].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما قربوا منهم وجدوهم مهاجرين بالعداوة والغدر، فتسابوا ونال اليهود -عليهم لعائن الله- من رسول الله صلى الله عليه وسلم)}.
الآن اليهود يشعرون المسلمين بأنهم نقضوا العهد، ويسبُّون أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فسبهم سعد بن معاذ، وانصرفوا عنهم)}.
مع أنَّ الأوس قديمًا كانوا من حلفاء بنو قريظة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد أمرهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن كانوا نقضوا أن لا يفتوا بذلك في أعضاد المسلمين، لئلا يورث وهنً)}.
هذا الموقف في الغزوة كان له أثر عظيم جدًّا على المسلمين، وكانت في ليالٍ شاتية وفيها خوفٌ عظيمٌ جدًّا، فلا شكَّ أنَّ إشعار المسلمين أنَّ بني قريظة نقضت أمر مخيف جدًّا، فالصحابة -رضوان الله عليهم- يبيعون أنفسهم لله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكن كان خوفهم على النساء والأطفال، فأعظم ما يفتُّ في عضد الشخص هم هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأن يلحنوا إليه لحنًا -أي لغزً)}.
يعني تعريض، ففي المعاريض إيصال للمعلومة، والمقصود باللحن أن أشير إليك بشيءٍ لتفهمه وأنا لا أريده، وهو لا يتعلق بكذب، وإنما هو رمزيَّة المعلومات.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما قدموا عليه، قال: ما وراءكم؟ قالوا: عضل والقارة)}.
أشاروا إلى عضل والقارة تعريضًا بالغدر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يعنون غدرهم بأصحاب الرجيع، فعظم ذلك على المسلمين، واشتد الأمر، وعظم الخطر، وكانوا كما قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً﴾)}.
والابتلاء لأهل الإيمان هو سنَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وذكر الله ذلك في كتابه فقال: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً﴾، نجمَ النِّفاق وظهر، وسمع المسلمون من المنافقين ما يثير حفائظهم ويُوجع قلوبهم
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ونجم النفاق وكثر)}.
دائمًا يظهر النفاق في هذه المواقف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واستأذن بعض بني حارثة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الذهاب إلى المدينة لأجل بيوتهم، قالوا: إنها عورة، وليس بينها وبين العدو حائل، وهم بنو سلمة بالفشل، ثم ثبت الله كلتا الطائفتين.
ولبث المشركون محاصرين رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهرًا، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينه وبينهم، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفه)
}.
وهذا يُفيدكَ ما ذكرتُ كَ في المقدِّمة من الاستفادة من تجارب الأمم، ولا شك أنَّ هذا جائز في أمر الدنيا، أنَّ الإنسان يستفيد من الآخرين، وهذا مما حضَّ عليه الإسلام مما لا يتعارض مع الشريعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم يمموا مكانًا ضيقًا من الخندق فاقتحموه وجازوه)}.
قلنا إن عرضه أربعة أمتار، ولكن هذا العرض لم يكن مستقيمًا، فبعض المواضع تحكمها التَّضاريس، فهؤلاء انتابوا مكانًا ضيِّقًا، ويُمكن للخيل أن تعدو وتقفز في مثل هذه المسافات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع)}.
وكان هذا عدد محدود من الفوارس ولا يمكن أن يكون الجيش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ودعوا للبراز، فانتدب لعمرو بن عبد ود علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فبارزه فقتله الله على يديه)}.
هذا من شجاعة علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبأسه الشديد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان عمرو لا يجاري في الجاهلية شجاعة، وكان شيخًا قد جاوز المائة يومئذ)}.
وهذا مما أعطاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- للعرب من قوَّة، فكان عمره جاوز المائة، ومع ذلك يركب الخيل ويقفز في المكان الضَّيق ويُبارز!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأما الباقون فينطلقون راجعين إلى قومهم من حيث جاؤوا، وكان هذا أول ما فتح الله به من خذلانهم. وكان شعار المسلمين تلك الغزوة "حم، لا ينصرون")}.
ذكرنا أن شعارات الحرب كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعنَى بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما طال هذا الحال على المسلمين أراد رسول الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان)}.
غطفان: قبيلة عدنانيَّة لها قرب من جهة المدينة، وما سيذكره ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا الموضع هو من السياسة الشرعيَّة، وسيذكر الآن مسألة الصلح مع غطفان، فلأجل حماية المسلمين يريد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يفتَّ في عضد الأحزاب، ويُفرِّق هؤلاء الأحزاب، فأمر قريش قائم، وعداوتهم للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظاهرة، لكن غطفان يُمكن أن تؤثِّر فيهم الأمور الماديَّة، ولهذا حاول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُصالح غطفان على شيءٍ من المال، وهو أن يكون لهم الثُّلث من ثمار المدينة، وسيأتي في السياق شجاعة الأوس والخزرج ونصرتهم للإسلام، فأبوا أن يفعلوا وأن يقبلوا هذا، مع أنَّ السياسة الشرعية قد تقتضي في مواضع لحماية المسلمين أن تدفع جزءً من المال لأجل أن يبقى الإسلام والمسلمين، وهذا منوطٌ بالإمام وبالمصالح الشَّرعيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك ولم يتم الأمر حتى استشار -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة)}.
يعني لو كان هذا وحيًا فلن نتقدم عليه، وهذا كما قال الحُباب: "أهذا منزل أنزلك الله إيَّاه؟ أم هي الحرب والمكيدة؟". فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ». فقال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فما هذا بمنزل يا رسول الله".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإن كان شيئًا تصنعه لنا فلقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما هو شيء أصنعه لكم»، وصوب رأيهما في ذلك رضي الله عنهما، ولم يفعل من ذلك شيئً)}.
يبدو أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من تكالب هذه الغزوات والوقائع والقتل الذي وقع في المسلمين؛ أرادَ أن يجنَح إلى السِّلم مع هؤلاء، كما سيأتي في غزوة الحديبية دلالات على مثل هذا، وسنشير إليها -إن شاء الله.
وأنا أنوِّه دائمًا على أنه ليس كل شيءٍ يُنال بالحرب، فثَمَّ أمور تُنال بالسِّلم، وهذا الموقف من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عظيم جدًّا، فهو قد فتحَ بابًا للمسلمين في مسألة المصالحة والمهادنة وأحكام الإسلام، وهذا يدلُّك على سعة هذه الشَّريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وحماية المسلمين وحماية حقوقهم أصل من أصول الشريعة، فمن معالم السيرة النبوية كون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشار عليهم أن يذهبوا للحبشة، وإلى ذلك الملك الذي لا يُظلَم عنده أحد؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أراد أن يبقى هذا الدين حتى يرث الله الأرض ومَن عليها.
والمطلوب من المسلم ومن أهل العلم أن يستفيدوا من هذه الوقائع في خدمة الإسلام والمسلمين، وأن يتعلَّموا من سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{شكر الله لكم يا فضيلة الشيخ هذا البيان وما قدَّمتم، وجعله في ميزان حسناتكم}.
وإيَّاكم يا شيخ محمد، وأسأل الله للجميع العلم النَّافع والعمل الصالح.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيُّها المشاهدون- على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك