الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3123 12
الدرس السادس

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائي المشاهدين في حلقة جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل سويًّا -بإذن الله تعالى- شرحَ كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
باسمي وباسمكم -أيها المشاهدون- نُرحب بضيف البرنامج، فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: فهد بن سعد المقرن، فمرحبًا بكم يا فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ محمد، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{كنَّا قد وصلنا عند كلام المؤلف عن غزوة بني سليم}.
بنو سليم: قبيلة عدنانيَّة، ومساكنها بين المدينة ومكَّة، وإلى اليوم لهم بقيَّة، وهي قبيلة قديمة، وهاجر جزء كبير منها إلى جهات من شمال أفريقيا، وإلى ليبيا والجزائر، فتكاثرت الهجرة من بعض القبائل الحجازيَّة، وكان ذلك في أوقات الفتوح وإلى وقتٍ قريب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: غزوة بني سليم.
ثم نهض بنفسه الكريمة -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد فراغه بسبعة أيام لغزو بني سليم، فمكث ثلاثًا ثم رجع ولم يلق حربًا، وقد كان استعمل على المدينة سباع بن عرفطة وقيل ابن أم مكتوم.
فصل: غزوة السويق.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة وأوقع الله في أصحابه ببدر بأسه، نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه بماء حتى يغزو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فخرج في مائتي راكب)
}.
أبو سفيان ما حضر المعركة، وإنَّما كان مع العير، وكان من سادات قريش، وكان من حميَّته للجاهليَّة أنَّه نذرَ أن لا يمسَّ رأسه بماء حتَّى يغزو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والعُريض: منطقة شمال شرق المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فنزل طرف العريض وبات ليلة واحدة في بني النضير عند سلام بن مشكم)}.
بنو النَّضير من قبائل اليهود، وسلَّام بن مشكم يهودي من بني النَّضير، وكانت له علاقات تجاريَّة مع قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فسقاه وبطن له من خبر الناس)}.
يعني تطلَّع له من أخبار الناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم أصبح في أصحابه، وأمر فقطع أصوارًا من النخل، وقتل رجلًا من الأنصار وحليفًا له ثم كرَّ راجعً)}.
يعني مجرَّد مناوشات، فقطع جزءً من النَّخل ثم رجع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ونذر به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخرج في طلبه والمسلمون)}.
يعني أُخبِرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُعلِم، فحذره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم خرج في طلبه والمسلمون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فبلغ قرقرة الكدر)}.
قرقرة الكُدر: قريبة الآن من مهد الذَّهب، وهو معدن بني سليم، جنوب شرق المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفاته أبو سفيان والمشركون، وألقوا شيئًا كثيرًا من أزوادهم، من السويق، فسميت غزوة السويق)}.
هربَ أبو سفيان، والسويق: من الطَّعام الذي كان يؤكل، وهو عبارة عن قمح أو شعير يُحمَص ثم يُطحَن ويُمزج باللبن أو العسل أو السمن، وفي الغالب يكون طعامًا للمسافر والعجلان، وفي قصَّة صنم اللات أنَّه كان رجلًا يلتُّ السَّويق للحاجِّ، فهو يُلتُّ ويُؤكَل ويُشرَب معه الماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانت في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، ثم رجع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة، وقد كان استخلف عليها أبا لبابة.
فصل: غزوة ذي أمر.
ثم أقام -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقية ذي الحجة)
}.
هذا موضع بنجد من موارد الماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم غزا نجدًا يريد غطفان، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فأقام بنجد صفرًا من السنة الثانية كله، ثم رجع ولم يلق حربً)}.
كل هذه المعارك لم يكن فيها قتال، وكل هذه الغزوات كانت بعد غزوة بدر.
{كانت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية، فهل تكون هذه الغزوات في أول السنة الثالثة؟}.
لا، المؤلف قال: (ثم أقام -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقية ذي الحجة ثم غزا نجدً)، يعني كله في ذي الحجَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: غزوة بحران)}.
بُحران: هو جبل شرق رابغ، وكان معدنًا، وكان الجبل الذي فيه معادن يسمونه: معدِنُ كذا...، فهو من بقية مناجم قديمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم خرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ربيع الأول الآخر يريد قريشًا، واستخلف ابن أم مكتوم فبلغ بحران -معدنًا في الحجاز- ثم رجع ولم يلق حربًا.
فصل: غزوة بني قينقاع)
}.
القبائل اليهودية الثلاث: بنو النَّضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع.
هذه القبائل سكنت قريب من المدينة، ويذكر المؤرخون في سبب قدومهم: أنَّهم بعد خراب بيت المقدس انتقلوا إلى جهة المدينة فنزلوها.
ويذكر بعض المؤرخين أنَّ ما ذُكر من بشارات في التوراة من أنَّ النبي سيُبعَث في مكانٍ بين حرَّتين، فكان من أسباب قدومهم هو انتظار هذا النبي، لأنَّ عندهم بقيَّة من الكتاب، وكانوا يتهدَّدون الأوس والخزرج بخروج هذا النبي -كما مرَّ معنا.
ولا يبعد الأمران، الاضطهاد الذي تعرَّضوا له بعد خراب بيت المقدس من الرومان، وما ذُكر في كتبهم من البشارة بالنبي الخاتم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ونقض بنو قينقاع -أحد طوائف اليهود بالمدينة- العهد)}.
هم يسكنون جنوب شرق المدينة في العالية، وهم مُحَالِفُون للخزرج من الأنصار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانوا تجارًا وصاغة)}.
يعني: يشتغلون بصياغة الذهب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانوا نحو السبعمائة مقاتل)}.
ذكر المؤلف أنهم كانوا سبعمائة، وقيل كانوا: ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف.
وما ذكر المؤلف هنا سبب نقض العهد، وقد صحَّ فيها روايات، أنَّ امرأة مسلمة كانت عند أحد الصاغة فعقدَ إزارها فانكشفت عورتها، فضحك اليهود منها، ولا شك أنَّ هذا عمل خبيث، وهذا ما جُبل عليه اليهود من السُّخرية بأهل الإيمان، فثارت حميَّة أحد المسلمين، فقتل ذلك الذي فعل هذه الفِعلَة، فقتله اليهود، فكان هذا هو سبب نقض العهد، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قد عاهدهم وبينه وبينهم ميثاق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فخرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحصارهم، واستخلف على المدينة بشير بن عبد المنذر، فحاصرهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول؛ لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، وهو سيد الخزرج)}.
عبد الله بن أبي بن سلول كان خزرجيًّا، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعامل مع عبد الله بن أبي بالأسلوب اللين لعل الله -سبحانه وتعالى- أن يهديه؛ لأنَّه كان من زعماء المنافقين، وكانت تُعقَد له السيادة بعد بُعاث، ثم جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا شك أن ذلك وقع في نفسه، مع أن ابنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صحابي جليل، لكن الهداية بيد الله -سبحانه وتعالى- ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فشفعه فيهم بعد ما ألح على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانوا في طرف المدينة)}.
لاحظ ما جُبل عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كريم الخلق والمُداراة والمُراعاة، لأنه يرجو بإسلامه إسلام مَن امتنع من الإسلام ونافق، وكان كل هذا محاولات من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإرجاعه إلى الطريق المستقيم، لكن الله -عَزَّ وَجلَّ- شاء أن لا يكون منه هذا.
ولاحظ الآن بنو قينقاع كانت قد حُقِنَت دماؤهم مع نقضهم للعهد بسبب هذه الشفاعة، وغيرهم ما كان لهم هذا، فانظر كيف كان إكرام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له وتأليف قلبه، فلا شك أن المحل قابل لكان قدَّر هذا الموقف العظيم من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكن ما وافق المحل المناسب، فلم يشأ الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يكون منه اهتداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: قتل كعب بن الأشرف.
وأما كعب بن الأشرف اليهودي، فإنه كان رجلًا من طيء، وكانت أمه من بني النضير)
}.
قبيلة طيء: قبيلة عربية معروفة، فالآن هو عربي وهو يهودي، ومن المعروف من القديم إلى يومنا هذا أنَّ اليهوديَّة تُكتسب من جهة الأم، فإذا كانت الأم يهوديَّة فيدخل الأبناء في ديانتها؛ لأنها ديانة خاصَّة، وليست ديانة تبشيرية، ولكنها تُكتَسب عن طريق الأم، فكعب بن الأشرف عربي واكتسب اليهوديَّة من قبل أمِّه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان يؤذي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين، ويشبب في أشعاره بنساء المؤمنين)}.
التَّشبيب: هو وصف محاسن النساء والتَّفصيل في ذلك، والغزل دونه، والنَّسيبُ جمعٌ بينهما، ولا شكَّ أنَّ هذا التَّشبيب كان مذمومًا؛ لأنَّه يصف عورة المرأة، وكان الهدف منه أذى الصحابة في أعراضهم، ولا شك أن العربي يغار على عرضه، فهذا اليهودي الخبيث كان له من الأذى اللساني بالشِّعر، والشِّعر له دور كبير جدًّا في الإعلام والأذى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذهب بعد وقعة بدر إلى مكة وألب على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى المؤمنين)}.
لم يكفه ما فعل؛ بل ذهب إلى مكَّة يُؤلِّب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فندب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسلمين إلى قتله، فقال: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟»)}.
كان لكعب بن الأشرف حصنًا -وهو موجود إلى اليوم-، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خصَّه بالقتل لأذاه للمسلمين، فعرضَ على الصَحابة مَن يقتل هذا الخبيث الذي نقض العهد، وآذى الله -عَزَّ وَجلَّ- وآذى رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك من أنفسهم، بل إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو إمام المسلمين هو الذي أذن لهم بذلك، فكانوا -رضوان الله عليهم- طاعة لله ولرسوله، ولا يخرجون عن أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فانتدب رجال من الأنصار ثم من الأوس وهم: محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر بن وقش، وأبو نائلة، واسمه سلكان بن سلامة بن وقش، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة)}.
أبو نائلة هو الذي استطاع أن يصل إليه؛ لأنَّه كان أخاه من الرضاعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر، وأذن لهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقولوا ما شاؤوا من كلام يخدعونه به، وليس عليهم فيه جناح)}.
الحرب خُدعَة، والكذب يجوز في مواضع، ومن ضمنها هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فذهبوا إليه واستنزلوه من أطمه ليلً)}.
مرَّ معنا أنَّ الأُطم هو: الحـصن، وهذه الحصون من عادات اليهود، ومَن رأى الحرَّة عرف أنَّ الحجارة فيها متيسِّرَة، فكان البناء من الحجارة من أيسر ما يكون، فكان لكعب أُطَم -أي حصن- يتحصَّن به، فأنزلوه منه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وتقدموا إليه بكلام موهم التعريض برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاطمأن إليهم)}.
يعني: أظهروا له كأنهم ضد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما استمكنوا منه قتلوه لعنه الله وجاؤوا في آخر الليل، وكانت ليلة مقمرة، فانتهوا إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو قائم يصلي، فلما انصرف دعا لهم، وكان الحارث بن أوس قد جرح ببعض سيوف أصحابه، فتفل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جرحه فبرئ من وقته)}.
وهذه بركة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي هي خاصَّة به، وهي بركة ريقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا كان خاصًّا بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الصحابة لم يفعلوه مع بعضهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم أصبح اليهود يتكلمون في قتله، فأذن -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتل اليهود.
فصل: غزوة أحد
يشتمل على غزوة أحد مختصرة، وهي وقعة امتحن الله -عَزَّ وَجلَّ- فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميز فيها بين المؤمنين والمنافقين، وذلك أن قريشًا حين قتل الله سراتهم ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم تكن لهم في حساب، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لعدم وجود أكابرهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق، ولم ينل ما في نفسه: شرع يجمع قريشًا ويؤلب على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى المسلمين، فجمَّع قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش)
}.
الأحابيش: قيل إنَّهم مَن اجتمع من العرب.
وقيل: إنَّهم نسبة إلى جبل اجتمعَت فيه العرب.
وقيل: إنَّهم بنو المصطلق وبنو خزيمة.
يعني مَن كان محالفًا ومَن كان دونَ ذلك من الحِلف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وجاؤوا بنسائهم لئلا يفرو)}.
فكان من عاداتهم في المعارك المجيء بالنساء، وهذا يعني أنَّه إمَّا يُقتَل وإمَّا أن يفر، ولا شكَّ أنَّ فراره عارٌ عليه والنساء يرونه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد بمكان يقال له: عينين، وذلك في شوال من السنة الثالثة)}.
جبل الرُّماة: هو جبل صغير مجاور لجبل أُحد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واستشار رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟)}.
الآن يُطبِّق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبدأ الشورى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر إلى الإشارة بالخروج إليهم، وألحوا عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بن سلول بالمقام بالمدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فألحَّ أولئك على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يميل إلى عدم الخروج، وكان هذا من المناسب في سير المعركة أن لا يخرجوا، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد طائفة تُريد القتال والشَّهادة وتريد فضل الجهاد، خاصَّة أنَّ بعضهم فاته بدر، فألحُّوا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخُروجِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم)}.
اللَّأمة: هي درع الحرب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد انثنى عزم أولئك)}.
كأنهم شعروا أنهم أكرهوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخروج، فكأنهم ندموا أنَّهم ألحُّوا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال: «مَا يَنْبَغي لنبيٍّ إذا لبِس لَأْمَتَه أن يضَعَها حتى يُقاتِلَ»)}.
وهذا خاصٌّ بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن غيره ليس له هذه الخصوصيَّة، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا لبسَ فلا ينبغي له أن ينثني عن هذا اللباس حتَّى يحكم الله بينه وبين عدوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأتي -عليه الصلاة والسلام- برجل من بني النجار فصلى عليه، وذلك يوم الجمعة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم)}.
أكثر من مرَّة استخلف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبد الله بن أم مكتوم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وخرج إلى أحد في ألف، فلما كان ببعض الطريق انخزل عبد الله بن أبي نحو ثلاثمائة إلى المدينة)}.
يعني سحبَ عبد الله بن أبي -وكان رأس المنافقين- نحو ثلاثمائة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- يوبخهم ويحضُّهم على الرجوع، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبهم)}.
التَّخزيل من طريقة المنافقين، فكان من الأفعال المنكرة لهذا المنافق عبد الله بن أبي أنَّه يخرج مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم ينخزل ويرجع، وهذا لا شك نكاية في جيش النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- في كتابه عنهم: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران: 167]، فذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- أمورهم التي ذكروها، فقال: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَ﴾ [آل عمران: 154]، وفي سورة آل عمران وصف لهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واستقل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح تعبأ -عليه الصلاة والسلام- للقتال في أصحابه، وكان فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير الأوسي، وأمره وأصحابه أن لا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يؤتوا من قبلهم)}.
كانت المعركة قائمة على أساس ثابت، وهو أنَّ الرُّماة لا يبرحون مكانهم، حتَّى جاء في بعض الروايات: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ»، يعني: ابقوا في مكانكم هذا، وإيَّاكم أن تبرحوا.
وهذه نقطة مفصليَّة في المعركة؛ لأنَّ أكبر سبب في قتل الصحابة وانتصار هؤلاء على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أُحد هو هذا الخطأ الاستراتيجي، حينما نزل الرُّماة من الجبل، وهذا كان له أسباب ذكرها الله -عَزَّ وَجلَّ- في القرآن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وظاهر صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين)}.
وهذا من اتِّخاذ الأسباب، وهو أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظاهرَ بينَ درعين، وهذا لا يُخالف التَّوكُّل على الله -عَزَّ وَجلَّ.
ويذكر أهل العلم في مقام التَّوكُّل أنَّ إمام المتوكِّلين وهو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظاهر بين درعين، ففعل الأسباب لا يتعارض مع التَّوكُّل ولا يتنافى معه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأعطى اللواء مصعب بن عمير، أخا بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام)}.
المجنبة: هي أجنحة الجيش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعلى المجنبة الأخرى المنذر بن عمرو المعنق ليموت)}.
المعنق ليموت: هذا لقبٌ له، يعني: المُسرع للموت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واستعرض الشباب يومئذ، فأجاز بعضهم ورد آخرين، فكان ممن أجاز سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة)}.
كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُجيز للقتال إلَّا مَن بلغ خمس عشرة سنة، وهذا من المبادئ العسكريَّة في الإسلام، فمناط التَّكليف والقوة خمس عشرة سنة، وكان صغار الصَّحابة يتطلَّعونَ، حتى أنَّ بعضهم كان يُظهِر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طوله وقوَّة ومَنعَته، فيردهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا لم يبلغ خمس عشرة سنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان ممن رد يومئذ أسامة بن زيد بن حارثة، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وغرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، ثم أجازهم يوم الخندق)}.
كلهم من صغار الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وتعبأت قريش أيضًا وهم في ثلاثة آلاف كما ذكرنا، فيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
وكان أول من برز من المشركين يومئذ أبو عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي)
}.
أبو عامر الرَّاهب كان من الأوس، ولَمَّا جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة خرجَ وأقام بمكَّة حليفًا لقريش، ويُسمَّى بالراهب، ويُسمَّى أبو عامر الفاسق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان رأس الأوس في الجاهلية، وكان مترهبً)}.
يعني كان على الديانة النَّصرانيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما جاء الإسلام خذل فلم يدخل فيه، وجاهر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعداوة)}.
ما نفعته رهبانيَّته، وكان الأصل أن يُبادر بالإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فدعا عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحضهم على قتاله مع ما هم منطوون على رسول الله وأصحابه من الحنق)}.
أي: الحَنَق والغَيظ والبُغض للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ووعد المشركين أنه يستميل لهم قومه من الأوس يوم اللقاء حتى يرجعوا إليه، فلما أقبل في عبدان أهل مكة والأحابيش تعرف إلى قومه فقالوا له: لا أنعم الله لك عينًا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالًا شديدً)}.
كان يعد قريشًا أنَّه إذا كانت المعركة أنَّه سيستميل مَن كان معه من الأوس، فسِمَع منهم ما يكره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: أمت أمت)}.
شعارات الحرب كانت تختلف من معركة إلى معركة، وهذا الشِّعار في غزوة أُحد كان: أَمِتْ أَمِتْ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأبلى يومئذ أبو دجانة سماك بن خرشة، وحمزة عم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسد الله وأسد رسوله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأرْضَا-، وكذا علي بن أبي طالب، وجماعة من الأنصار منهم: النضر بن أنس، وسعد بن الربيع -رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم)
}.
يعني كانت بداية المعركة غلبة للمسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما رأى ذلك أصحاب عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة. فذكرهم عبد الله بن جبير تقديم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليه في ذلك، فظنوا أن ليس للمشركين رجعة)}.
وكان هذا هو الخطأ، فحينما رأوا المشركين انخزلوا ووصلوا إلى نسائهم، وأنَّ المسلمين يُعمِلُون سيوفهم فيهم بالقتل والأسر؛ ظنُّوا أنَّ المعركة انتهت!
وهذا عصيانٌ للقائد، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لهم: لا تبرحوا مكانكم، وكان عبد الله بن جبير قائدهم، فقال لهم: لا تبرحوا مكانكم، والله -عَزَّ وَجلَّ- صوَّرَ هذا المشهد في قرآنٍ يُتلَى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾، يعني: بالنصر، قال: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، يعني: بالقتل، قال: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، يعني: تنازعوا مع القائد عبد الله بن جبير. قال: ﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَ﴾، هم أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن غلبت عليهم الدنيا مما يرون من المغانم، قال: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾، يعني: الغلبة تحوَّلت، قال: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152]، فالقرآن سجَّل واقعة أُحد بتفاصيلها الدَّقيقة التي هي درسٌ للأمَّة من دروس الابتلاء، وإلى يومنا هذا يتعلَّم أهل الإسلام من هذا الدرس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، فذهبوا في طلب الغنيمة، وكرَّ الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفرجة قد خلت من الرُّماة فجاوزوها وتمكنو)}.
جبل الرُّماة يُمثِّل ثغرة، فلمَّا نزلوا تمكَّن المشركون منها، ولا شكَّ الأخذ بالأسباب الحسيَّة من أسباب النَّصر، وقريش أهل حرب وهم صناديد في المعارك، وعندهم من القوَّة والعسكريَّة والفهم للمعارك الكثير، وفيهم فارس وقائد ليس مثيل، وهو خالد بن الوليد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونه)}.
يعني خرجوا والتفوا على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاؤوا من جبل الرُّماة، فلو كان الرُّماة في الحبل لَمَا وقعَ هذا، فصارت ثغرة في الجيش، فلاحظ أنَّهم كانوا يُقاتلون من الأمام، ثم يأتيهم من الخلف، فلا شك أنَّ هذه ضربة مُوجعة وسببت بلبلة في الجيش، وانخزل بعض المسلمين بعد ذلك، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: 155]، فكان فيه رجوع وتولِّي من بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل وصلَ الأمر إلى ما هو أعظم، فما كفاهم أنَّهم بلغوا جبل الرماة، ولكن وصلوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فاستشهد من أكرمهم الله بالشهادة من المؤمنين، فقتل جماعة من أفاضل الصحابة، وتولى أكثرهم.
وخلص المشركون إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجُرح في وجهه الكريم وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر)
}.
الرَّباعيَّة: ما جاور الثَّنايا من الأسنان، فكُسِرَت الرَّباعية اليُمنَى السُّفلَى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهشمت البيضة على رأسه المقدس)}.
البيضَة: هي الخوذة التي تُجعَل على الرأس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ورشقه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق حفرها يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله)}.
وجاء في بعض الرِّوايات: دخلت حلقتان من حلق المغفر، والمغفر: هو ما يُلبَس فوق الخوذة، وهو عبارة عن حِلَق من حديد لحماية الوجه والرَّأس والأذنين، فكان هذا الأذى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان الذي تولى أذى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري أبا جد محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا لا شكَّ أنَّ هذا ابتلاء لأهل الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقتل مصعب بن عمير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بين يديه)}.
مصعب بن عمير قصَّته عظيمة جدًّا، فكان من أنعم فتيان قريش، وكانت أمُّه تُحسِنُ إليه، ثمَّ لَمَّا أسلمَ تغيَّرت عليه، فذهبَ إلى المدينة واستقرَّ فيها، ثم أصابه ما أصاب المسلمين من قلَّة الحال، وذكر عبد الرحمن بن عوف أنَّه لما قُتِل مصعب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شهيدًا لم يجدوا له ما يكفِّنونه به، إذا غطوا رأسه بدت رجله، فجعلوا شيئًا من الإذخر والجريد يغطون به جسده -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فهذا الرجل العظيم الذي كان له أثر عظيم جدًّا في إسلام الأنصار، حتَّى آخر موقف له لما تولَّى اللواء في بدر وأُحد، جمعنا الله به في مستقر رحمته، فشخصيَّة مصعب بن عمير شخصيَّة عظيمة جدًّا تمثِّل صدق أهل الإيمان، وأنَّ أهل الإيمان يقع عليهم ما يقع، لكن عاقبتهم -إن شاء الله- حميدة، وهي دخول الجنَّة، نسأل الله أن يجمعنا به في مستقرِّ رحمته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فدفع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللواء إلى علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
فكان المغفر شيء من حديد يُغطَّى به سائر الجسد إلى الرَّقبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان الهتم يزينه، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
واضح الأذى الذي وقع على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأدرك المشركون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحال دونه نفر من المسلمين نحو من عشرة فقتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وترس أبو دجانة سماك بن خرشة عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
الآن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُصيب وسقطَ مجروحًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ورمى سعد بن أبي وقاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يومئذ رميًا مسددًا منكئًا، فقال له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارم فداك أبي وأمي».
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فردها -عليه الصلاة والسلام- بيده الكريمة، فكانت أصح عينيه وأحسنهم)
}.
وهذه الرِّواية فيها انقطاع، لكن هي من باب الأخبار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وصرخ الشيطان -لعنه الله- بأعلى صوته: إن محمدًا قد قتل. ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرهم، وكان أمر الله)}.
لا شكَّ أنَّ قتل القائد مُؤثِّر في صفوفِ الجيشِ، وهذا من أسباب التَّولِّي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [آل عمران: 155]، وذلك لَمَّا علموا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُتِلَ، وكل هذا بسبب قدر الله -عَزَّ وَجلَّ- ثم مخالفة أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإرادة الله -عَزَّ وَجلَّ- ابتلاء أهل الإيمان ليميز الله الخبيث من الطَّيِّب، حتى يظهر معدن أهل الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا قتل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه)}.
لاحظ الآن موقف أنس بن النَّضر من موقف خبر موت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ما تفعلون بعده؟ يعني: أنتم قاتلتم لأجل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد)}.
هذا لصدقه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إذ جعل الله بشائر الخير، فهو قال للصحابة: قاتلوا وموتوا على ما مات عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا هو صدق الإيمان، وقوله: "إني لأجد ريح الجنة من دون أحد"، لا شكَّ أنَّه من الكرامات التي عُجِّلَت له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ووجدت به سبعون ضربة)}.
لا شكَّ أنَّ هذا دليلٌ على شجاعته -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقدرته، فقاتل حتى أُصيبَ إصابة عظيمة جدًّا، حتى ذُكِرَ أنَّه لم يُعرف إلَّا ببنانه -يعني أصابع يده- فعرفته أخته ببنانه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحةً، بعضها في رجله، فعرج منها حتى مات -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
لاحظ أنَّ أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلوا كل ما يملكون، بذلوا أنفسهم وأموالهم وديارهم فداءً للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهكذا ينبغي أن يكون الناس على طريقة أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الدفاع عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكل ما يملكون، والمحبَّة الصَّادقة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعني البذل والتَّضحية في سبيل هذا الدين الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأقبل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فأشار إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشِّعب الذي نزل فيه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصِّمة الأنصاري وغيرهم.
فلما أسندوا في الجبل، أدركه أبي بن خلف على جواد، يقال له العود)
}.
اسم الجواد: العَوْد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (زعم الخبيث أنه يقتل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما اقترب تناول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحربة من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في ترقوته)}.
كان الخبيث يطلب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليقتله، تناول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحربة من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، أي: أسفل الرقبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقال له المشركون: والله ما بك من بأس)}.
يعني كان جرح يُظنُّ منه السلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون)}.
يعني الألم الذي به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إنه قال لي: إنه قاتلي، ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه إلى مكة لعنه الله)}.
سَرِف: موضع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وجاء علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بماء ليغسل عنه الدم، فوجده آجنًا، فرده)}.
يعني أنَّ الماء كان متغيِّرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأراد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لما به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
وهذا من الجراحات التي كانت بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكُسِرَت رباعيَّته وسال منه الدَّم، فلا شكَّ أنَّ هذا أضعفَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولأنه ظاهر يومئذ بين درعين، فجلس طلحة تحته حتى صعد، وحانت الصلاة، فصلى جالسًا، ثم مالَ المشركون إلى رحالهم، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها، وكان هذا كله يوم السبت)}.
يعني كانت غزوة أُحد يوم السبت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واستشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين.
منهم حمزة عم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قتله وحشي مولى بني نوفل وأعتق لذلك، وقد أسلم بعد ذلك)
}.
وحشي هذا وُعِدَ أنَّه لو قتل حمزة أن يُعتَق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أحد قتلة مسيلمة الكذاب -لعنه الله- وعبد الله بن جحش حليف بني أمية، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، وهو شماس بن عثمان المخزومي، سني بشماس لحسن وجهه.
فهؤلاء أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار -رضي الله عنهم جميعهم- فدفنهم في دمائهم وكلومهم، ولم يصل عليهم يومئذ.
وفرَّ يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان، منهم عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد نص الله -سبحانه- على العفو عنهم، فقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
وقتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون.
وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران حيث يقول: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الآيات)
}.
ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- غزوة أحد بتفصيلٍ في القرآن الكريم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: غزوة حمراء الأسد
ولما أصبح يوم الأحد)
}.
فكانت غزوة أحد يوم السبت، فلمَّا أصبح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الأحد انطلق إلى حمراء الأسد.
وحمراء الأسد: جنوب المدينة تقريبًا بعشرين كيلو.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ندب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسلمين إلى النهوض في طلب العدو، إرهابًا لهم، وهذه غزوة حمراء الأسد، وأمر ألا يخرج معه إلا من حضر أحدً)}.
أمر أن لا يخرج معه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا من خرج إلى أُحد تحرُّزًا من فعل المنافقين حينما انخزل منهم الثلث مع عبد بن أبي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلم يخرج إلا من شهد أحدًا، سوى جابر بن عبد الله، فإنه كان أبوه استخلفه في مهماته، فقتل أبوه يوم أحد، فاستأذن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخروج إلى حمراء الأسد، فأذن له.
فنهض المسلمون كما أمرهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم مثقلون بالجراح، حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة، فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾)
}.
هذا امتثال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنهم في اليوم الذي قبله قاتلوا، ولا شك أنَّ هذا إجهادٌ عظيم، ولكنهم استجابوا سمعًا وطاعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومر معبد بن أبي معبد النزاعي على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه فأجاره حتى بلغ أبا سفيان والمشركين بالرواء، فأخبرهم أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه قد خرجوا في طلبهم، ففت ذلك في أعداد قريش، وكانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فثناهم ذلك واستمروا راجعين إلى مكة)}.
إذًا؛ الهدف من حمراء الأسد هو إرهاب العدو؛ لأنَّ المشركين لَمَّا حصل لهم هذا النَّصر الجزئي في أُحد ارتفعت معنوياتهم في القضاء على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكأنَّهم زيَّن لهم الشَّيطان أن يرجعوا ويستأصلوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكانت موقعة حمراء الأسد موقعة عظيمة فيها رد اعتبارٍ للصحابة -رضوان الله عليهم- وللنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّهم ما زالَ بهم قوَّة ومَنَعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وظفر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاصي فأمر بضرب عنقه صبرًا، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مران، فلم يقتل فيها سواه.
فصل: بعث الرجيع.
ثم بعث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أحد بعث الرجيع، وذلك في صفر من السنة الرابعة)
}.
الرَّجيع قد يكون مورد ماءٍ أو بئر، وهو شمال مكَّة بسبعين كيلو تقريبًا، وهو فرع من قبيلة هذيل من بني لحيان، والآن يُسمَّى "بئر الوطيَّة".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذلك أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث إلى عضل والقارة)}.
عضل والقارة: قبيلتنا مُضريَّتان من بني الهون بن خزيمة بن مدركة، يعني من القبائل العدنانيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بسؤالهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك حين قدموا عليه وذكروا أن فيهم إسلامًا، فبعث ستة نفر في قول ابن إسحاق)}.
الظَّاهر أنَّ هذا كان على وجه المخادعة، فهاتان القبيلتان -عضل والقارة- قالوا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الإسلام فشا فيهم، فابعث معنا مَن يعلمنا.
وقيل: إن هذيل زيَّنوا لهم أن يفعلوا ذلك طلبًا لثأر ممَّن قُتل منهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال البخاري في صحيحه كانوا عشرة.
وقال أبو القاسم السهيلي: وهذا هو الصحيح.
وأمَّر عليهم مرثد بن أبي الغنوي -رضي الله عنهم.
ومنهم خبيب بن عدي، فذهبوا معهم، فلمَّا كانوا بالرجيع -وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بالهدأة- غدروا بهم)
}.
الهدأة: هو موضع موجود الآن يُسمَّى "هَدَى الشام"، وهو في الطَّريق الجديد إلى مكَّة، بين جدَّة ومكَّة، والرَّجيع قريب من هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واستصرخوا عليهم هزيلًا، فجاؤوا فأحاطوا بهم فقتلوا عامتهم، واستأسر منهم خبيب بن عدي ورجل آخر وهو زيد بن الدثنة فذهبوا بهما فباعوهما بمكة، وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر.
فأما خبيب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فمكث عندهم مسجونًا ثم أجمعوا لقتله فخرجوا به إلى التَّنعيم ليصلبوه)
}.
خرجوا به إلى التَّنعيم لأنَّه الحل، فهم كانوا يُعظِّمون الحرم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فاستأذنهم أن يصلي ركعتين فأذنوا له: فصلاهما ثم قال: "والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزع لزدت")}.
يعني صلَّى قبل أن يقتلوه، وهذا موقف عظيم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم قال:
ولست أبالي حين أُقْتَل مسلمًا... على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد قال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
ثم وكلوا به من يحرسه، فجاء عمرو بن أمية فاحتمله بخدعة ليلًا فذهب به فدفنه.
وأما زيد بن الدثنة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه)
}.
وهذا موقف عظيم من الصَّحابة، فهذا خبيب يقول المشركون له: أيسرك أن محمدًا عندنا تضرب عنقه؟ فيقول: وددتُ لو أن يصاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأفديه بقتلي، ولا أنه يصاب -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمحبتهم للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لها مقام عظيم جدًّا، ولا يستقيم الإيمان إلَّا بمحبَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبفداه وتفضيله على محبة النفس والمال والولد والناس أجمعين، وهذا مقام كمال الإيمان، فمن خصائص هذه الأمَّة محبَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحماية جناب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحقِّه من الكلام والأذى، فيجتمع المسلمون قاطبة على هذا، فممَّا فضل الله -عَزَّ وَجلَّ- به هذه الأمَّة المحمَّديَّة أنَّ مقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو مقام الأنبياء جميعًا، فكما أنَّ أهل الإسلام لا يرضون أن يتعرَّض نبيهم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأذى ؛ فكذلك لا يرضون أن يتعرَّض الأنبياء جميعًا، وهذا من وسطيَّة الإسلام، ولا تجد هذا إلَّا في دين الإسلام، ولهذا فإنَّ الإساءة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحقيقة إساءة للأنبياء، وإساءة للأديان، وهذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول الإسلام، وهؤلاء الذين يُحاولون النِّكاية بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والاستهزاء أو أذى مشاعر المسلمين فهم في الحقيقة لا يؤذون إلَّا أنفسهم، فمقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محمي، وشانئه ومبغضه هو المبتور والمقطوع، وهذه سنَّةٌ مضت من الله تعالى فيمَن عادى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن المهم جدًّا في تعايش الناس أن لا يُتعرَّض لمثل هذه الثوابت، كما أنَّ أهل الإسلام لا يتعرَّضون لغيرهم من الأنبياء، فهذه الدَّعوات من الإساءة للأنبياء والإساءة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُؤثِّر في السِّلم العالمي، وهي دعوات لا تحقق المصلحة لا للإنسانيَّة ولا للأديان، وهذا منهج خبيث يعود على مَن أطلق هذه الدَّعوات بالضَّرر، ومقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كريم وعظيم، ولا يُمكن أن يصل إليه أحد، قد شهد أعداؤه بكريم خلقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبما جُبل عليه من الفضائل العظيمة قبل محبِّيه ومَن آمن به، فصلوات ربِّي وسلامه عليه.
{نشكركم يا فضيلة الشيخ على ما قدَّمتم، ونسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناتكم.
وفي ختام هذه الحلقة نشكركم أيُّها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة -بإذن الله تعالى- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك