الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1740 12
الدرس التاسع

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيُّها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ.
ضيفنا في هذه السلسلة فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- نرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله أخي الشيخ محمد، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصَّالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{كنَّا قد وصلنا إلى كلام المؤلف عن حادثة الإفك، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان في هذه الغزوة من الحوادث قصة الإفك الذي افتراه عبد الله بن أبي هذا الخبيث وأصحابه، وذلك أن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- كانت قد خرجت مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه السفرة، وكانت تحمل في هودج، فنزلوا بعض المنازل ثم أرادوا أن يترحلوا أول النهار فذهبت إلى المتبرز)}.
يعني ذهبت إلى قضاء حاجتها -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها- وكان المسير بالجمال -كما لا يخفى- وفي مثل هذا تُحمل المرأة في هودج فوق بعيرٍ، ثم يسيرون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم رجعت فإذا هي فاقدة عقدًا لأختها أسماء كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي كانت فيه)}.
يعني في المكان الذي قضت فيه حاجتها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فجاء النفر الذين كانوا يرحِّلون بها فحملوا الهودج، حملة رجل واحد، وليس فيه أحد، فرحَّلوه على البعير ولم يستنكروا خفته لتساعدهم عليه، ولأن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- كانت في ذلك الوقت لم تحمل اللحم)}.
يعني ما كانت بدينة، ولم تكن ثقيلة الوزن.
وهذا يستوقفنا؛ لأنَّ فقد عائشة للعقد تكرَّر أكثر من مرَّة، هل هو عقد واحد أو أكثر من عقد، وفي كلا الفقد تحدث حادثة:
أمَّا الأولى: فإنَّها لَمَّا فقدت العقد حبس النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصحابة لأجل ذلك، وهذا من عظيم خلق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولطافته بأزواجه، فحبس الصحابة ليبحثوا عن العقد، ثم لَمَّا أرادوا أن يرتحلوا وجدوا العقد تحت الناقة، وكانت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لخفَّة وزنها فكان العقد لا يثبت على عنقها.
فلمَّا حُبسوا ما كان معهم ماء، فأنزلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- آيات التَّيمُّم.
ولذلك قال أُسيد بن حضير: "ما هي بأول بركتم يا آل أبي بكر"، فرضي الله عنها وأرضاها.
وأمَّا الثَّانية: كان في حادثة الإفك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بل كانت طفلة في سن أربع عشرة سنة)}.
التَّعبير هنا بكونها طفلة، يعني: شابَّة.
ومن المهم جدًّا أن نعرف أنَّ الحياة الاجتماعيَّة في السابق غير الحياة الاجتماعيَّة الآن، فالقياس بين الحياة الاجتماعية في السابق والمعاصرة قياسٌ مع الفارق، وأنا أدركتُ بعض النساء في السابق كانت المرأة وهي صغيرة -عشر سنوات أو إحدى عشر سنة- تقوم بواجبات المرأة الكبيرة، فحينما يأتي شخص يُريد أن يحكم على الحياة الاجتماعيَّة السابقة بالمعاصرة؛ فهذا في الحقيقة خللٌ علمي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما رجعت وقد أصابت العقد لم تر بالمنزل أحدًا، فجلست في المنزل وقالت: إنهم سيفقدونها فيرجعون إليها، والله غالب على أمره، وله الحكمة فيما يشاء)}.
وهذا من ذكاء عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، فهي -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فطينة وذكيَّة، فمكوثها أيسر في الوصول إليها.
وذُكر أنَّ هذا العقد من جزع أظفار. فالجزع: نوع من أنواع الأحجار يُشبه العقيق وكان نفيسًا. وأظفار: هي بلدة عمان، وكانوا يصنعون هذه العقود من الأحجار الكريمة.
فهذا العقد ملفتٌ للنَّظر وجميل، ولا شك أنَّها امرأة وشابَّة وتتعلق بالزِّينة، وهذا لا يخفى على كل أحد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأخذتها سنة من النوم فلم تستيقظ إلا بترجيع صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني، وكان قد عرَّس في أخريات القوم)}.
التَّعريس: هو النُّزول آخر الليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لأنه كان شديد النوم كما جاء ذلك عنه في رواية أبي داود)}.
وهذا من الصفات الوراثيَّة في أسرة صفوان بن المعطَّل، فبعض الناس يُجبَلون على كثرة النوم، وكان صفوان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- معروفٌ بهذا، وكان هو يعرف هذا الشيء فيتَّأخَّر عن القوم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما رأى أم المؤمنين قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ثم أناخ بعيره فقربه إليها، فركبته، ولم يكلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا ترجيعه، ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة)}.
فهذا من أخلاق صفوان بن المعطل، وجاء في رواية البخاري: قالت عائشة: "فاستيقظتُ على استرجاعه، فخمَّرتُ وجهي بردائي"، يعني غطَّت وجهها -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، وكان الحجاب قد نزل قبل قصَّة الإفك.
ثم كان من صفوان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- موقف جميل، فأناخَ الناقة وركبت عائشة على هذه الناقة، وسارَ بهـا، وهذا هو الموقف الصَّحيح، ولا يُمكن التَّصرُّف إلَّا على هذا النَّحو.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلمَّا رأى ذلك الناس تكلم المنافقون بما الله مجازيهم به، وجعل عبد الله بن أبي الخبيث مع ما تقدم له من الخزي في هذه الغزوة)}.
استغلال الأحداث التي تقع عرضًا للوقيعة وللإساءة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولأهل الإيمان؛ لأنَّ هذه القصَّة أثَّرَت في نفسيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة، وفي أهل الإيمان، لكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أراد شيئًا لحكمةٍ بالغة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يتكلَّم في ذلك ويستحكيه، ويظهره ويشيعه ويبديه)}.
ولا زال أهل النفاق الآن يتَّخذون هذه القصَّة سُلَّمًا في الوقيعة في أمِّ المؤمنين عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- المُبرَّأة من فوق سبع سماوات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان الأمر في ذلك كما هو مطول في الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص الليثي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، كلهم عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات مما اتهمها به أهل الإفك في هذه الغزوة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الآيات)}.
أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرفع ذكر عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- بهذا الابتلاء، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- في براءتها قرآنًا يُتلَى إلى يوم القيامة، وكفى بهذا فضيلة لها -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما أنزل الله تعالى ذلك وكان بعد قدومهم من هذه الغزوة بأكثر من شهر جُلد الذين تكلموا في الإفك، وكان ممن جلد مسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش)}.
قصَّة الإفك فيها دروس عجيبة جدًّا، فأوَّل مَن أشاعها أهل النفاق، ثم تلقَّفها بعضُ أهل الإيمان ومن فيهم خير، وهذا يدل على أنَّ الإنسان المؤمن قد يقع في شيء من تلقُّف الأقوال، ويغتر بهذه الأقوال، وممَّن وقع في هذا فضلاء من الصحابة، كمسطح، وهو بدري وقرشي من بني عبد مناف، واسمه عوف، و"مسطح" لقب له، وكان فقيرًا يُنفِق عليه أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وكذلك حمنة بن جحش الأسدي أخت أم المؤمنين زينب، وأبوها كان حليفًا لقريش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، فهي ابنة عمَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكذلك حسَّان بن ثابت، وأُقيمَ عليهم الحد تطهيرًا لهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم-، ولكن استجابتهم لمقولة أهل النفاق؛ عاتبهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه في قرآن يُتلَى إلى يوم القيامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل ذلك صعد على المنبر فخطب المسلمين واستعذر من عبد الله بن أبي وأصحابه، «فقال: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي»، فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، فإن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تستطيع قتله، ولو كان من رهطك لما أحببت أن يقتل)}.
هذا قد يقع، فقد يوسوس الشيطانُ للإنسان أن هذا الموقف لأجل كذا، والصحابة -رضوان الله عليهم- ليسوا معصومين من الخطأ، وهذا وقع بينهم بمحضر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال أسيد بن الحضير: والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان حتى كادوا يقتتلون)}.
تأمَّل أنَ هذه القصَّة أثارت المسلمين، وهذا ما يريده أهل النفاق، ولا شك أن أهل النفاق يُسعِّرون مثل هذا ويدعمونه، الاختلاف والخصام بين الأوس والخزرج مقصد كبير جدًّا، ويُعيدونها جذعة، مع أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ألَّفَ بين قلوبهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلم يزل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخفضهم ويسكنهم حتى سكنوا.. الحديث.
هكذا وقع في الصحيحين أن المقاول لسعد بن عبادة هو سعد بن معاذ، وهذا من المشكلات التي أشكلت على كثير من أهل العلم بالمغازي، فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد منهم أنه مات إثر بني قريظة، وقد كانت عقب الخندق، وهي سنة خمس على الصحيح. ثم حديث الإفك لا يشك أنه في غزوة بني المصطلق هذه، وهي غزوة المريسيع.
وقال الزهري: في غزوة المريسيع.
وقد اختلف النَّاس في الجواب عن هذا، فقال موسى بن عقبة فيما حكاه البخاري عنه: إنَّ غزوة المريسيع كانت في سنة أربع، وهذا خلاف الجمهور، ثم في الحديث ما ينفي ما قال، لأنها قالت: "وذلك بعد ما أنزل الحجاب"، ولا خلاف أنه نزل صبيحة دخوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بزينب بنت جحش، وقد سأل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب عن شأن عائشة في ذلك، فقالت: "أحمي سمعي وبصري")
}.
كان فيها ورع -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها- فحماها الله بهذا الورع والدين، مع أنَّها كانت تُساميها، فهي ضرَّة ومع ذلك حماها الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وذكر عن عائشة أنها قالت: "حماها الله بورعها ودينها".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
وهذه فضيلة لزينب بنت جحش -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد ذكر أهل التواريخ أن تزويجه بها كان في ذي القعدة في سنة خمس فبطل ما كان ولم ينجلِ الإشكال.
وأما الإمام محمد بن إسحاق بن يسار فقال: إن غزوة بني المصطلق كانت في سنة ست، وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال: عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة، فذكر الحديث.
قال: فقام أسيد بن الحضير فقال: أنا أعذرك منه ولم يذكر سعد بن معاذ.
قال أبو محمد بن حزم: وهذا الصحيح الذي لا شك فيه، وذلك عندنا وهم.. وبسط الكلام في ذلك مع اعترافه بأن ذكر سعد جاء من طرق صحاح.
قلت: وهو كما قال -إن شاء الله)
}.
يعني ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- يُرجِّح هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد وقع من هذا النمط في الحديث مما لا يغير حكمًا أحاديث ذوات عدد، وقد نبه الناس على أكثرها، وقد حاول بعضهم أجوبة لها فتعسف، والله سبحانه وتعالى أعلم)}.
هذا رأي ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا، وقد يكون إيراد مَن تكلَّم وخطأ الراوي فيمَن تكلَّم هل هو فلان أو فلان قد يقع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة الحديبية
ولما كان ذو القعدة من السنة السادسة خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معتمرًا في ألف ونيف قيل: وخمسمائة، وقيل: وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل: غير ذلك.
فأما من زعم أنه إنما خرج في سبعمائة فقط غلط.
فلما علم المشركون بذلك جمعوا أحابيشهم)
}.
الأحابيش: هم حلفاء قريش من القبائل العربية، ومن الحلفاء الذين كانوا بمكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وخرجوا من مكة صادين له عن الاعتمار هذا العام، وقدموا على خيل لهم خالد بن الوليد إلى كراع الغميم)}.
مرَّ معنا كراع الغميم، وهو: الطَّرف. والآن يُعرف بــ "أبرق الغميم" يبعد أربعة وستين كيلو عن مكة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وخالفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الطريق فانتهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الحديبية، وتراسل هو والمشركون)}.
منطقة الحديبية هي منطقة الشِّميسي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (حتى جاء سهيل بن عمرو فصالحه على: أن يرجع عنهم عامهم هذا وأن يعتمر من العام المقبل، فأجابه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ما سأل، لما جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- في ذلك من المصلحة والبركة، وكره ذلك جماعة من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، منهم: عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وراجع أبا بكر الصديق في ذلك، ثم راجع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان جوابه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أجابه الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)}.
عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان لشجاعته وأنفته رأى أن المصالحة أو الرجوع لما كانوا ينوون له من الاعتمار أنَّ هذا قد يُضعف نفسيَّة المسلمين، ولهذا راجع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الموقف فيه فضيلة لأبي بكر وسبقه لغيره من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهو أنه عبد الله ورسوله وليس يضيعه، وهو ناصره، وقد استقصى البخاري هذا الحديث في صحيحه)}.
في النَّسخة عندي (وليس يُضيِّعه)، ولعلها أقرب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقاضاه سهيل بن عمرو على: أن يرجع عنهم عامه هذا، وأن يعتمر من العام المقبل على أن لا يدخل مكة ألا في جلبان السلاح)}.
جُلبَّان السلاح: هو ما يلبسه المقاتل، وهو جراب من الجلد يُوضع فيه السيف والنبل، مما هو محمول فقط.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأن لا يقيم عندهم أكثر من ثلاثة أيام. وعلى أن يأمن الناس بينهم وبينه عشر سنين.
فكانت هذه الهدنة من أكبر الفتوحات للمسلمين كما قال عبد الله مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)
}.
وهذا فيه درس عظيم، فليس كل شيءٍ يُنالُ بالحربِ؛ بل قد يكون بالسِّلم، وغزوة الحديبية مثال واضح فيما يتعلق بأنَّ هذه الهدنة كانت من أكبر الفتوحات، ولهذا سمَّاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فتحًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعلى أنه من شاء دخل في عقد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن شاء دخل في عقد قريش)}.
يعني القبائل الأخرى لها أن تختار حلف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو حلف قريش، وكان من أسباب نقض هذا الصلح إخلال قريش بهذا البند.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعلى أنه لا يأتيه أحد منهم وإن كان مسلمًا إلا رده إليهم، وإن ذهب أحد من المسلمين إليهم لا يردونه إليه)}.
وهذا أعظم ما أشكل على الصحابة -رضوان الله عليهم- وأثَّر في نفوسهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأقر الله سبحانه ذلك كله إلا ما استثنى من المهاجرات المؤمنات من النساء؛ فإنه نهاهم عن ردهن إلى الكفار، وحرمهن على الكفار يومئذ، وهذا أمر عزيز ما يقع في الأصول، وهو تخصيص السُّنة بالقرآن)}.
هذا رأي ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في هذه المسألة، والإشكال الذي قد يرد: أنَّ هذا البند مُقتضاه أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرد مَن جاء من مكَّة، وهذا الرَّد هل هو شامل لكلِّ أحدٍ -أي جنس الرجال والنساء- أم هو خاص بالرِّجال؟
ما ذكره ابن كثير هذا رأيه.
وثَمَّ رأيٌ آخر: أنَّ جنس النساء غير داخل في العهد، فبنود الصُّلح ما نصَّت إلَّا على جنس الرِّجال، وفي العادة المطَّردة أنَّ ما يُحافظ عليه المقاتل أو مَن له شوكة هم الرجال وليس النساء.
ونزول الآية: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10]، كان تأكيدًا لهذا المعنى لا نسخًا له.
لكن ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- رأى أن هذا إنما هو من تخصيص السنَّة بالقرآن.
وما يظهر لي من خلال مطالعة كتب أهل العلم: أنَّ جنس النساء ما كان واردًا، فلا تعلُّق لهم بذلك، وإنَّما جاءت الآية تؤكِّد هذا، وهذا ليس من التَّخصيص وليس من النَّسخ في شيء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومنهم من عده نسخًا، كمذهب أبي حنيفة وبعض الأصوليين، وليس هو الذي عليه أكثر المتأخرين، والنزاع في ذلك قريب، إذ يرجع حاصله إلى مناقشة في اللفظ.
وقد كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل وقوع هذا الصلح بعث عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى أهل مكة يعلمهم أنه لم يجيء لقتال أحد وإنما جاء معتمرً)
}.
كان عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رسولَ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فكان من سيادة عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه عرض عليه المشركون الطواف بالبيت، فأبى عليهم وقال: "لا أطوف بها قبل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ")}.
وهذا فضيلة لعثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفضائله كثيرة، فانظر إلى توقيره للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في موقفٍ ربما يغيب على الإنسان مثله، ولكن محبَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قلوبهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأَرضَاهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولم يرجع عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حتى بلغه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قد قتل عثمان)}.
تأخَّر عثمان، ولكن الله أعلم ما الذي حبسه!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فحمي لذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
لا شكَّ أن كون عثمان يُقتل أنَّ هذا يُثير في النفوس أشياء كثيرة جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم دعا أصحابه إلى البيعة على القتال، فبايعوه تحت شجرة هناك، وكانت سمرة)}.
شجر السَّمر نوع من أنواع الشَّجر ينبت في الحجاز، ومفردها: سَمُرَة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان عدة من بايعه هناك جملة من قدمنا أنه خرج معه إلى الحديبية، إلا الجد بن قيس فإنه كان قد استتر ببعير له نفاقًا منه وخذلانً)}.
نسأل الله السلامة والعافية، فهذا من رؤساء المنافقين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإلا أبا سريحة حذيفة بن أسيد، فإنه شهد الحديبية، وقيل: إنه لم يبايع، وقيل: بل بايع.
وكان أول من بايع يومئذ أبو سنان: وهب بن محصن، أخو عكاشة بن محصن، وقيل: ابنه سنان بن أبي سنان، وبايع سلمة بن الأكوع -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يومئذ ثلاث مرات بأمر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له بذلك، كما رواه مسلم عنه، ووضع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إحدى يديه عن نفسه الكريمة ثم قال: «وهذه عن عثمان» -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكان ذلك أجل من شهوده تلك البيعة.
وأنزل الله -عز وجل- في ذلك: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾. وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار»، فهذه هي بيعة الرضوان)
}.
بيعة الرضوان علامة فارقة في تاريخ المسلمين، وأنزل الله الثناء على مَن بايع فقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً﴾ [الفتح: 18]، وكان عددهم: ألف وربعمائة تقريبًا.
وعقد هذه البيعة ورد عن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث معقل: "بايعناه على أن لا نفر"، وكانت مبايعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعثمان لأنَّه قد حُبسَ.
وسببها كما ذكر ابن كثير: لَمَّا بلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ عثمان قد قُتل.
وهذه الشجرة التي بُويع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحتها تجاهلها الصَّحابة، ولم يتعلقوا بها، وقيل: إنَّ الشجرة جرى فيها السيل ولم يُعرَف مكانها، بعد ذلك حصل من بعض المسلمين مَن ينتاب الشجرات المجاورات، فأمر عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما ثبت عنه بقطعها.
وهذا ملحظٌ مهمٌّ جدًّا! وهو أنَّ الأمَّة المحمَّديَّة أمَّة حقائق، لا أمَّة رسول وشعارات، وهي أمَّة اتِّباع لِما جاء في كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما فرغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مقاضاة المشركين كما قدمنا شرع في التحلل من عمرته وأمر الناس بذلك)}.
سياق القصَّة كان كالآتي:
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توقَّفَ وأراد أن يُمضي معهم صلح، ثم بلغه أن عثمان قُتِل، فطلب الصحابة للبيعة، فلما علمت قريش بذلك بعثوا سهيل بن عمرو لمصالحة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فشق عليهم وتوقفوا رجاء نسخه، فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ذلك، فدخل على أم سلمة فقال لها ذلك، فقالت: "اخرج أنت يا رسول الله فاذبح هديك واحلق رأسك، والناس يتبعونك يا رسول الله")}.
هذا يدلُّكَ على الأثر النَّفسي الذي وقع على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فصورة الصُّلح أنَّها هزيمة للمسلمين، فقد جاؤوا يُريدون الاعتمار، ولبسوا ثياب الاعتمار وأحرموا، ومع ذلك صُدُّوا، مع أنَّ الجاهليَّة ما كانوا يصدون أحد، وقريش ما كانت تصد أحدًا عن البيت، فهذا شكَّل في نفوس الصحابة شيئًا عظيمًا.
ولهذا لم يُعلم أنَّ الصحابة لم يُبادروا -رضوان الله عليهم- إلى أمر النبي إلا في هذا الموقف، ولعلهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وقع عليهم من الأسى ما الله به عليم، حتى في بعض الروايات قيل: "فلما أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصحابة بالحلق والنحر لاحظ تباطؤ من الصحابة في التَّنفيذ، فكأنَّهم يرجون أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرجع، أو ينزل وحي، ولكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل على أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وفيه استشارة النساء، فإنَّ بعض النساء يكون لهن حكمة وعقل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أنقصَ من قدره أنَّه شكا لأم سلمة، وأشارت عليه أن يحلق ويذبح هديه، وكان في البداية -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر الصحابة ولم ينفذوا، فلما امتثل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتثلوا وسارعوا إلى ذلك.
وليس ذلك عصيانًا، ولكن لعل الوحي ينزل، فلمَّا عاينوا الأمر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امتثل وحلق ونحر؛ امتثلوا وحلقوا ونحروا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فخرج ففعل ذلك، فبادر الناس إلى موافقته، فحلقوا كلهم إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة الحارث بن ربعي، فإنهما قصرًا؛ ذكره السهيلي في "الروض الأنف". وكاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا، لأنهم يرون المشركين قد ألزموهم بشروط كما أحبوا، وأجابهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليها وهذا من فرط شجاعتهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وحرصهم على نصر الإسلام)}.
كاد بعضهم يقتل بعضًا من الهم والغم، وكان يشكو بعضهم لبعض الحزن الذي في نفوسهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَأَرضَاهُم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أعلم بحقائق الأمور ومصالحها منهم)}.
كثير من الأحداث التي تمضي على الإنسان في أمر الله الكوني القدري وفي غيره؛ قد يتصوَّر الإنسان المصلحة في هذا وتكون المصلحة خلاف ذلك، وهذا يدلُّ على أن الإنسان مهما أوتيَ من علم وعقل ودهاء أنَّه قاصر، فدائمًا يُسلِّم الإنسان لأمر ربِّه -سبحانه وتعالى- فهو الحكيم العليم، ويسأل الله الخير في أموره كلها، وفي الحديث: «اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي» ، فاختيار الله -عَزَّ وَجَلَّ- لك قد يكون خيرٌ لك من اختيارك لنفسك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولهذا لما انصرف -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راجعًا إلى المدينة أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه سورة الفتح بكمالها في ذلك، وقال عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما كنا نعده فتح الحديبية"، وصدق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه هي السبب في فتح مكة كما سنذكره بعد -إن شاء الله تعالى-، وعوض من هذه خيبر سلفًا وتعجيلًا.
وكانت مدَّة إقامتهم بالحديبية نحوًا من عشرين ليلة)
}.
هذه قضية مهمَّة جدًّا كما قدَّمنا، فليس كل شيءٍ يُنال بالحرب، وابن كثير ذكر هذه القصة اختصارًا، فكان مما نوَّه به: أنَّ من ضمن عقود المصالحة أنَّ مَن جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسلمًا يرده إلى المشركين، وقصَّة أبي بصير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومَن معه مذكورة في صحيح البخاري وفي مسلم، فكان هذا البند ضرر على قريش؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يرد من يأتي إليه من مكة، فأخذوا مكانًا على طريق قريش، وصاروا يقصدونها بالقتال، فكان هذا البند سببًا لإضرار قريش وليس لنفعهم، وسيأتي السبب الرئيسي في إنهاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا العقد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة خيبر
ولما رجع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة أقام بها إلى المحرم من السنة السابعة، فخرج في آخره إلى خيبر، ونقل عن مالك بن أنس -رَحِمَهُ اللهُ: أن فتح خيبر كان في سنة ست، والجمهور على أنها في سنة سبع، وأما ابن حزم فعنه أنها في سنة ست بلا شك، وذلك بناء على اصطلاحه، وهو أنه يرى أن أول السنين الهجرية شهر ربيع الأول الذي قدم فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة مهاجرًا، ولكن لم يتابع عليه، إذ الجمهور على أن أول التاريخ من محرم تلك السنة)
}.
ابن حزم -رَحِمَهُ اللهُ- في "جوامع السيرة" له منهج، فهو يؤرِّخ بأن بدء السنة الهجرية من ربيع الأول، لهجرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيكون الفرق ثلاثة شهور، ولهذا ربما يُختلف في التاريخ لأجل ذلك.
وكان ابن حزم أول من أرَّخَ بهذا، وذكر ذلك ابن كثير، والقول بأن يعلى بن أميَّة كان في اليمن وأنه أول من أرَّخ بالتاريخ الهجري؛ فهذا لا يصح كما قال ابن حجر؛ لأنَّ فيه انقطاع.
التاريخ المعروف عند الرومان كان قمريًّا، إلى سنة ستة وأربعين قبل الميلاد، فأحد الأباطرة الرومان طلب من أحد الفلكيين أن يجعل لها تاريخًا مستندًا إلى السنة الشَّمسيَّة -يعني حركة الشَّمس- فبدأ التاريخ الميلادي.
أمَّا التَّاريخ الهجري فقام على حركة القمر، والتاريخ الهجري من شعارات المسلمين، وبه تُعرَف مواقيت العبادة، وهو من شعارات أهل الإيمان وأهل السنة، وينبغي للمسلمين أن يُحافظوا على هذا التاريخ، وأن لا ينزعوا عنه بأي حالٍ من الأحوال، ولا مانع من استخدام التاريخ الميلادي، ولكن الأصل هو التاريخ الهجري عند أهل الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان أول من أرخ بذلك يعلى بن أمية باليمن، كما رواه الإمام أحمد بن حنبل عنه بإسناد صحيح إليه، وقيل: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك في سنة ست عشرة كما بسط ذلك في موضع آخر)}
الصَّحيح هو أنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو أول مَن وضع التَّاريخ الهجري، وكما ذكر ابن كثير أنَّ يعلى أشارَ إلى التاريخ الهجري، ومثل هذه الأمور هي قرارات سياديَّة لا يملكها إلا الخليفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فسار -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليها، واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي فلما انتهى إليها حاصرها حصنًا حصنًا يفتحه الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه ويغنمه، حتى استكملها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخمسها، وقسم نصفها بين المسلمين، وكان جملتهم من حضر الحديبية فقط، وأرصد النصف الآخر لمصالحه، ولما ينوبه من أمر المسلمين.
واستعمل اليهود الذين كانوا فيها بعد ما سألوا ذلك عوضًا عما كان صالحهم عليه من الجلاء على أن يعملوها، ولرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النصف مما يخرج منها من ثمر أو زرع، وقد اصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غنائمها صفية بنت حيي بن أخطب لنفسه، فأسلمت، فأعتقها، وتزوجها، وبنى بها في طريق المدينة بعدما حلَّت)
}.
هذه القصَّة رواها البخاري بإجمال، فصفيَّة بنت حيي -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وقعت في الغنائم، وذكر أهل السيرة أنَّها وقعت في سهم دحية الكلبي، وأشار بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها لا تصلح له، وإنَّما تصلح لك يا رسول الله؛ لأنَّ لها سيادة وابنة أسياد، فلا تصلح إلَّا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولَمَّا دخلت على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صار حوار بينها وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما رواية ابن سعد: «لَمْ يَزَلْ أَبُوكِ مِنْ أَشَدِّ يَهُودَ لِي عَدَاوَةً حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ»، يعني: حيي، فقد قُتل مع بني قريظة. فقال لها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَارِي فَإِنِ اخْتَرْتِ الإِسْلاَمَ أَمْسَكْتُكِ لِنَفْسِي وَإِنِ اخْتَرْتِ الْيَهُودِيَّةَ فَعَسَى أَنْ أُعْتِقَكِ فَتَلْحَقِي بِقَوْمِكِ»، فقالت: "يا رسول الله، لقد هويتُ الإسلام، وصدَّقتُ بك قبل أن تدعوني إليه، ومالي في اليهوديَّة رغبة، ومالي فيها والدٌ ولا أخ، فالله ورسوله أحبُّ إليَّ من العتق وأن أرجع إلى قومي"، فأمسكها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وصفيَّة -رَضِيَ اللهُ عَنْها وَأَرضَاها- من بني إسرائيل من نسل هارون، وتزوَّجها قبل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سلَّام بن أبي الحقيق، ثم طلقها، وتزوجها كنانة بن الرَّبيع وطلقها، وكلهم من اليهود، وزواجها بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكريم لها وتسلية لها، وكانت تعرف أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من خلال ما كان يدور بين عمِّها وبين أبيها من الحوار، فكانت تسمع لأنها كانت من ضمن الأسرة، فعرفت أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الحق، وأنه مذكور في التوراة، وأنَّ هؤلاء إنَّما يُقاتلونه من أجل السيادة وحسدًا وبغيًا وظلمًا كما هي عادة اليهود.
لماذا تزوجها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له السيادة، فهو يتزوَّج ما شاء من النساء، ومن أعظم مقاصد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الزَّواج: إقامة المصاهرات لتأليف القلوب، وإزالة ما قد يقع في النفوس، وتسلية وتشريفًا لم يتزوجها -صلوات ربي وسلامه عليه.
وليست مقاصد الزواج عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالمقاصد عند غيره من الناس، ولهذا جازَ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتزوَّج أكثر من أربع نسوة، وهذا من خصائص النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما أجمعت عليه الأمَّة، وهذا معلوم، فمن السياسة الشرعيَّة إقامة المصاهرات؛ لأنَّ المصاهرات تزيل العداوة وتزيل أشياء كثيرة، ولا زال الناس يتعاقبون على ذلك.
واستغلال بعض الروايات المجملة للطَّعن في مقام النُّبوَّة هذه طريقة الزَّنادقة، وأهل النفاق قديمًا وحديثًا، فينبغي للمسلم أن يتأمَّل وينظر ويراجع كلام أهل العلم في مسألة ما يُجمَل من القصص التي تحتاج استيعاب وروايات حتى تكون الصورة كاملة للمتلقِّي، فهذا استدعاء للكلام لأنَّ بعض أهل النفاق وبعض مَن في قلبه مرض يُحاول أن يصور هذه القضيَّة ويأخذها ويترك سياقاتها المتعددة للطَّعن في مقام النبوة، فهذا لا شك خطر عظيم على عقيدة المسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد اصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غنائمها صفية بنت حيي بن أخطب لنفسه، فأسلمت، فأعتقها، وتزوجها، وبنى بها في طريق المدينة بعدما حلَّت)}.
عادة السبي استبراء الرحم، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استبرأ رحمها ثم تزوجها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ولا شكَّ أنَّها تشرَّفت بزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وربما كان هذا الزواج حتى يُسلم اليهود، لكنهم أصروا على العناد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد أهدت إليه امرأة من يهود خيبر -وهي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم-شاة مصلية مسمومة)}.
مصليَّة: يعني مشوية.
ولاحظ كم من المحاولات التي حاول اليهود أن يغتالوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما انتهش من ذراعها أخبره الذراع أنه مسموم)}.
وهذا من دلائل النبوة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فترك الأكل، ودعا باليهودية فاستخبرها: «أسممت هذه الشاة». فقالت: نعم، فقال: «ما أردت إلى ذلك؟»، فقالت: أردت إن كنت نبيًا لم يضرك، وإن كنت غيره استرحنا منك، فعفا عنها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: إن بشر بن البراء بن معرور كان ممن أكل منها، فمات، فقتلها به)
}.
لاحظ خُلق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه الرواية، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عفا في حقه، مع أنَّها اعتذرت بعذر سامج وبارد! لكن ورد في الروايات أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتلها لأجل أن بشر بن البراء مات بهذا السُّم، لأنه كان مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تلك المائدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد روى ذلك أبو داود مرسلًا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وقدم على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة خيبر بعد فراغهم من القتال جعفر بن أبي طالب وأصحابه ممن بقي مهاجرًا بأرض الحبشة، وصحبتهم أبو موسى الأشعري في جماعة من الأشعريين يزيدون على السبعين)
}.
قدم جعفر لأنه علم بصلح الحديبية، فانظر إلى الآثار الحميدة لهذا الصُّلح، فقدم جعفر ومن معه من الحبشة، وقدم الأشعريون من جهة اليمن إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا شك أنَّ هذه أخبار طيبة لأهل الإسلام، وكذلك قدم الدَّوس على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وذُكر أنَّ الأشعريين جاؤوا مع جعفر.
وفي بعض الروايات يُذكر أن قدومهم كان عن طريق البحر، وأنهم توافقوا.
وبعض الروايات التاريخية تذكر أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب للنَّجاشي أن يُقدم عليه جعفر ومَن معه، وأنَّ النَّجاشي أركبهم على مركبين وبعث بهم إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى مِنَى الحجاز في ذلك الوقت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقدم عليه أبو هريرة وآخرون -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين- فأعطاهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المغانم كما أراه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لجعفر: «لا أدري بأيهما أنا أسر، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» ولما قدم عليه قام وقبل ما بين عينيه.
وقد استشهد بخبير من المسلمين نحو عشرين رجلا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعهم)
}.
لا شكَّ أنَّ هذه أخبار سارَّة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أولًا: كون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفتح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه خيبر، وكانت خيبر مدينة حصينة ومنطقة زراعيَّة، وظهرت فيها دلائل النبوة، وكان الهدف الرئيسي من الغزوة هو كسر عداوة اليهود، وإرهاب القبائل العربية الباقية.
ووجه كسر العداوة: أن خيبر منطقة كثيرة الحصو، وشواهدها الآن موجودة، وجاء في الحديث الصحيح أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أول ما نزل خيبر قال: «لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله، ويُحب الله ورسوله»، فأصبح الناس يذكرون ليلتهم، كلهم يُرجَى أن يُعطاها لأنها فضيلة، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائتوا بعلي»، فقالوا: إنَّ في عينيه رمد، فأتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتفل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عينيه -وهذه من دلائل النبوة- وقال: «انفذ على رسلك وادعهم إلى الإسلام». وفي رواية قال: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم».
فلاحظ خطاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإعطائه الراية وتفضيله، ثم تشوُّف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن يُسلموا، فإسلامهم مقصد عظيم، فالإسلام يتشوَّف ويتطلَّع إلى أن يُسلم الناس جميعًا.
ومن الوقائع التي حدثت في خيبر كذلك: أنَّ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- حاصروا الحصون، وأصابهم الجوع، فبعضهم همَّ بأكلِ الحمر الأهليَّة، وهي ليس كالحمر الوحشيَّة، فنزل الوحي بتحريمها، فهذه مواقف حدثت كلها في غزوة خيبر، ولا شك أن فتح خيبر وكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صار له الإمداد المالي العظيم من جهة خيبر؛ لا شكَّ أنَّه مبشِّرٌ بالخيرِ العظيم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: فتح فدك)}.
فَدَك: منطقة تاريخيَّة، وربما لا أحد يعرفها الآن، وهي كانت منطقة خصبة بالعيون، فكان فيها تسعة عيون من الماء، ولم يبقَ شيء من هذه العيون إلا عين واحدة تسمى "عين فياضة" الآن، وهي قليلة الماء، وباقي العيون جُفَّت من 1406 إلى 1408 هـ وانتهت، وتبعد فدَك عن المدينة 250 كيلو، واسمها غير موجود الآن، وإنما تسمى "الحائط" وهي في حرَّة خيبر، وحرَّة خيبر منطقة بركانيَّة، كلها من أحجار البازلت السوداء، وهذه البلدة موغلة في القِدَم، فشهدت حضارة البابليون والفينقيُّون والرُّومان، فكلهم تواكبوا على الحرص على هذه المنطقة.
لماذا سُمِّيَت "فَدَك"؟
في روايات تاريخية قيل: إنَّ فَدَك بن حام هو أوَّل مَن نزلها. وقيل: فَدَك بن عماليق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما بلغ أهل فدك ما فعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل خيبر، بعثوا إليه يطلبون الصلح فأجابهم، فكانت مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فوضعها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث أراه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولم يقسمه)}.
نكمل في المحاضرة القادمة -إن شاء الله- التعليق على حادثة فَدَك.
{نستأذنكم في بقيَّة الوقت في ذكر بعض الحكم من صلح الحديبية، كيف كان أثرها على المسلمين، وعلى انتشار الإسلام؟}.
كما ذكرنا: أنَّ ليس كل شيءٍ يُنالُ بالحرب، فثَمَّ أمور تُنال بالسِّلم، وهذا ينمُّ على أنَّ الإسلام يُريد السِّلم والتَّعايش مع الآخرين، وهدف الإسلام هو نشر هذه العقيدة دون النَّظر إلى جنس أو عرق، فالإسلام يستفيد من السلم أكثر مما يستفيد من الحرب، فالحرب في الغالب ما تحقق مقاصدها، ولهذا كانت حروب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جملة كبيرة منها لصد العدوان، وبعضها مقابلة، وبعضها ترويض لهذه القبائل.
والإسلام بعد صلح الحديبية كان أكثر انتشارًا، فنزول قريش إلى الصلح لا شك أنَّه علامة ضعف، وهم أحسُّوا بذلك، ولهذا حاولوا يؤخِّرون هذا الفتح لَمَّا علموا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بايعه أصحابه تحت الشَّجرة، حتى أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يكون هذا الأمر على هذا النَّحو الذي كان، وأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- آيات تُتلَى في صلح الحديبية، وسمَّاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فتحًا، ولا شكَّ أنَّه فتح..
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، وجعله في موازين حسناتكم.
أيُّها المشاهدون؛ نلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك