{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيها المشاهدون الكرام- في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي.
نستهلُّ في هذه الدورة المباركة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
باسمي وباسمكم جميعًا -أيها المشاهدون- نرحب بضيف هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فحياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله يا شيخ محمد وبارك الله فيك، وحيَّا الله المشاهدين والمشاهدات.
{أهلًا وسهًل بكم.
لابدَّ -أيها الإخوة الكرام- للدَّارس في علم السِّيرة النَّبويَّة من مقدَّمات في مدخل دراسة هذا العلم، فنجعل -بإذن الله- هذه الحلقة لهذه المقدَّمات، فتفضَّل يا شيخنا}.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
جرت عادةُ أهلِ العلم في قراءة الكتاب -أو المؤلَّف- أن تُجعَل له مقدِّمات تيسيرًا للقارئ، وتحقيقًا لمطلب مؤلف الكتاب في التَّيسير على القارئ لهذا الكتاب، ولا شكَّ أن علم السِّيرة النَّبويَّة من العلوم المهمَّة، ويحتاجه طالب العلم ومَن ليس مُهتمًّا بالعلم الشرعي؛ لأنه مُتعلقٌ بسيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولهذا فحريٌّ أن يكون هذا الكلام كالمدخل لدراسة سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والسِّيرة في اللغة: هي الطريقة والهيئة، ولهذا قال الله -عّزَّ وَجَلَّ- في قصة موسى مع العصا: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ [طه: 21]، أي: هيئتها السَّابقة.
أما السِّيرة في الاصطلاح: فتعدَّدت التعريفات، ولكن أجمع هذه التعاريف أن يُقال: كلُّ ما أُثِرَ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من أحداث قبل البعثة وبعدها زمانًا ومكانًا، فالسِّيرة تتحدَّث عن هذا، ولهذا خُصَّت بهذه المسمَّى وهي: "سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ".
ما الفرق بين السِّيرة والسنة النَّبويَّة؟
الجواب: أن السِّيرة والسنة بينهما عموم وخصوص، وهذا معلوم عند علماء الأصول.
فتنفرد السِّيرة بالحديث والكلام عن سيرته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قبل البعثة، وعلى المكان الذي عاشَ فيه وهو مكة، ثم بعد ذلك المدينة، وما صَاحَبَ ذلك من وقائع وأحداث وغزوات.
كذلك يُراعى في السِّيرة "الزمان والمكان"، يعني: المواقع التي حدثت، والأماكن، ومرور النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بمواضع.
أمَّا السنة النَّبويَّة فهي أقوال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأفعاله وتقريراته -كما هو معلوم.
وهذا يدعونا إلى التفريق بين السِّيرة وبين التاريخ، فالتاريخ عام لكل الأقوام دون خصوص فئة معيَّنة، أمَّا السِّيرة فهي مُتعلقة بجزء من التاريخ يتعلق بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ولهذا نقول: موضوع السِّيرة النَّبويَّة هو حياة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومولده -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقبل مولده -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وما يتبع ذلك بعد ولادة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من أحداث، وكيف بدأ الإسلام في تسلسل قصصيٍّ يعمَدُ المؤلفون إلى ذكرهِ في مؤلفاتهم المختلفة.
وهذا يدعونا كذلك إلى أن نستشعر أهميَّة دراسة السِّيرة النَّبويَّة، فإن دراسة السِّيرة النَّبويَّة مُفيدة جدًّا لكل الفئات العمريَّة، ولكل مُنْتَمٍ إلى هذا الدين العظيم -دين الإسلام.
وأعظم الفوائد: التَّأسِّي والاقتداء، وسيمر معنا أحداث كثيرة جدًّا ربما يتعجَّب الإنسان من وقائع كثيرة كيف كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يتعامل معها، ولهذا يقول الله -عّزَّ وَجَلَّ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾ [الأحزاب: 21]، فالتأسي بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يظهر في مسألة السِّيرة، والصعوبات التي واجهها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حافلة بالصُّعوبات والعوائق، وفيها ظهرت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- واصطفاء الله -عّزَّ وَجَلَّ- له.
ومن أهمية دراسة السِّيرة النَّبويَّة: أن المسلم والمسلمة يعتبرون بسيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولهذا يقول أهل العلم: الاعتبار والمقارنة بين حال الإنسان في الزمان والمكان وحال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لأن أحوال الناس في الزمان والمكان تختلف، وستجد من إضاءات السِّيرة ما يناسبك في الزمان والمكان، ويكون لك سلوة وتثبيتًا وتصبيرًا؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هو إمام الدعاة إلى الله -عّزَّ وَجَلَّ-، وواجه في سبيل دعوة الناس إلى الحق وعوائق كثيرة، وبفضل الله -عّزَّ وَجَلَّ- تغلَّب عليها، فأظهر الله -عّزَّ وَجَلَّ- دين الإسلام -الدين الخاتم.
{فضيلة الشيخ: نفهم منكم أن المسلم يستفيد من حال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في اليسر والعسر، وفي حال الفرح والحزن، وفي حال المصيبة أو النصر}.
لا شك في ذلك، ولهذا فإن وصيتي لنفسي المقصرة أولًا، ولإخواني المشاهدين والمشاهدات: أن لا ينقطعوا عن قراءة سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إمَّا قراءة وإمَّا سماعًا، فهناك أحداث كثيرة جدًّا فيها إضاءات للإنسان، وكيف أن محمدًا-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- النبي الخاتم والصادق الأمين، وهو الذي يُوحى إليه؛ ومع ذلك يعيش صعوبات عظيمة جدًّا من جهة أسرته ومن جهة قومه، فيستفيد المسلم من السِّيرة، وكذلك يستفيد منها جميع الفئات العمرية، فالأبناء الصغار يُعلَّمون سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على وجه الاختصار، فيتعلمون ويستفيدون من هذه السِّيرة، فهي منهل عذب، ومورد عذب يصدر عنه كل أحدٍ بالخير العظيم من سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهذه من بركاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- التي ظهرت للناس جميعًا.
وهذا يدعونا إلى أن نقول: إن كل علم له مصادر، فما المصادر الأصلية لهذه السِّيرة؟
نقول: المصدر الأول: هو القرآن الكريم، وأحداث السِّيرة ذُكرت في القرآن الكريم في مواضع متعددة، وقد يطول المجال في ذكرها، ولكن نشير إلى إضاءات بسيطة، فتحدَّثَ القرآن في مواضع عن وقائع السِّيرة النَّبويَّة، مثل غزوة الأحزاب، يوم حنين، والقرآن حينما يتحدث يصف المشهد بوقائعه النفسيَّة، والمصاحبات لذلك، وحالة العدو، وحالة أهل الإسلام، فالله -عّزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ [الأحزاب: 10]، وقال -عّزَّ وَجَلَّ- في غزوة حنين: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ [التوبة: 25]، وقال في غزوة بدر: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ [الأنفال: 42]، فلاحظ حينما يحكي القرآن المشهد؛ فإنه يصوره تصويرًا كاملًا، ومن أصدق من الله قيلًا!
وهذه النُّبَذ إنما هي على سبيل الإشارة، والإنسان يحتاج إلى أن يتصوَّر الواقعة كاملة بالقراءة في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فالله -عّزَّ وَجَلَّ- يُشير إلى الواقعة، ثم يرفدها طالب العلم والداعية بما صحَّ في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهي الأحاديث النَّبويَّة.
فالصحاح والمسانيد ذكرت سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في مواضع، فتجد البخاري في كتاب "المغازي والسِّيَر"، وفي بعض فضائل الصحابة عند البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأصحاب المسانيد؛ ستجد وقائع السِّيرة النَّبويَّة وأحداثها.
إذًا؛ المصدر الثاني: الحديث النبوي.
ثم تأتي المصادر الأصليَّة للسيرة النَّبويَّة، مثل كتب الشَّمائل وصفة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ومنها كتاب: "الشَّمائل" للترمذي، وكتاب: "الشفاء" للقاضي عياض، و"دلائل النبوة" للبيهقي، وكتب التاريخ كلها من المصادر التي تعطي طالب العلم ثراءً معرفيًّا في معرفة سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ككتاب "التاريخ" لابن جرير، و"التاريخ" لخليفة بن خياط، وغيرها من المؤلَّفات والكتب.
ما هي أهم الكتب في هذا المجال؟
نحن لا نتحدَّث عن منهجيَّة الآن، وإنما نتحدَّث عن أهم الكتب، فإن منهجيَّة القراءة تختلف من شخص ٍ إلى آخر بحسب البُعد المعرفي للطالب، فصغار الطلبة يختلفون عن كبارهم، ونذكر هنا أهم كتب السِّيرة، وهي:
- الطبقات الكبرى، لابن سعد.
- سيرة محمد بن إسحاق، وهي من أوائل الكتب التي أُلِّفت، وسنتعرَّض -إن شاء الله- لأول مَن دوَّن.
- سيرة عبد الملك بن هشام، وشرحها "الروض الأُنُف" للسُّهيلي.
- الدُّرر في اختصار المغازي والسير، لابن عبد البر.
- سبل الهدى والرشاد، لمحمد بن يوسف الصالحي، باعتباره كتابًا موسوعيًّا.
وهناك منظومات، مثل:
* منظومة ابن أبي العز في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
* ألفية السِّيرة، للعراقي.
ومن أهم الكتب التي يُنوَّه لها: زاد المعاد لابن القيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ومن الكتب المعتمدة التي يُشار إليها، وربما تنتشر بين الناس: مختصر سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو مختصر نافع ومفيد جدًّا في السِّيرة النَّبويَّة.
كيف نقرأ السِّيرة النَّبويَّة؟
هناك منهجية مُهمَّة في قراءة السِّيرة النَّبويَّة، فلابد أن يُعلم أن السِّيرة تجمع القرآن والسنة والتاريخ والأخبار، ولهذا فإن وقائع السِّيرة ينبغي أن تُرَتَّب على هذا النحو:
- إذا ذُكِرَت في القرآن: فتُذكَر، فيذكر الداعية النَّص القرآني.
- وإذا كانت في السنة: فيذكر ما صحَّ من السنة النَّبويَّة، ثم يرفده بما صحَّ أو حَسُنَ من الصحاح وجوامع السنة النَّبويَّة.
مَن أول مَن دوَّن في السِّيرة النَّبويَّة؟
بدأ التدوين في القرن الثاني، ونذكر "مغازي عروة" لعروة بن الزبير، المتوفى سنة 94 للهجرة، وأبان بن عثمان المتوفى سنة 105 للهجرة، فهم من أوائل من دوَّن في السِّيرة، وكذلك عمرو بن حزم المتوفى سنة 120 للهجرة، صاحب كتاب "الديات" المشهور، ومن أجمع مَن ألَّف والناس يعودون إلى مؤلفاته باعتماد هو محمد بن إسحاق، المتوفى سنة 151 للهجرة، فألَّف "السِّيرة النَّبويَّة"، ولا يُعرف لها اسم إلَّا "سيرة محمد بن إسحاق"، وألفها بطلب من الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور.
ثم بعد ذلك الواقدي المتوفى سنة 207 للهجرة، ثم محمد بن سعد، كاتب الواقدي وصاحب "الطبقات" المتوفى سنة 230 للهجرة.
وكذلك من ألَّف هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو مشهور، وله كتاب "الأصنام" وكتاب "جمهرة النسب"، وألَّف في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهو متقدِّمٌ على محمد بن سعد، حيث توفي سنة 204 للهجرة.
وكذلك من أجمع الكتب التي أُلِّفت وتعتبر من المصادر الأصلية، كتاب: "سيرة بن هشام" وهي أشهر من: "سيرة محمد بن إسحاق"، وأعني الشهرة المكانيَّة الزَّمانيَّة الآن، واختصرها عبد الملك بن هشام الحميري من سيرة محمد بن إسحاق، وجعلها على منهج مختلف، فجعلها سيرة تاريخية قصصية اخباريَّة، فسردها سردًا، وتوفي ابن هشام سنة 218 للهجرة، وربما يتوقع بعض الناس أن ابن هشام متقدم، وهو معاصر للشافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ومن الكتب المهمَّة التي أُلِّفَت ويُشارُ إليها بالبنان: "الرَّوض الأُنُف" للسُّهيلي الأندلسي، المتوفى سنة 581 للهجرة، شرح فيها سيرة ابن هشام، فشرحه يعتبر مفيد جدًّا لسيرة ابن هشام.
وكذلك من الكتب الموسوعيَّة: كتاب "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" لمحمد بن يوسف الصالحي، المتوفى سنة 942 للهجرة، والصالحي عنده بعض المخالفات العقدية، فيُنتبَه لهذا.
وممَّا يُذكَر: أنَّ أنفع وأجمع كتاب الآن فيما يتعلق بسيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هو كتاب "سيرة ابن هشام"، فإذا ذُكِرَت السِّيرة ذُكِرَت "سيرة ابن هشام" -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن "سيرة ابن هشام" في عمومها تُلقِّيَت بالقبول عند العلماء، ولهذا صُنِّفَت فيها الشُّروح، ونُقل عنها كثيرًا.
وحينما نقول: إنها تُلقيَت بالقبول فإنَّنا نقصد العموم، وأما آحاد القصص فهي تحت النظر العلمي من جهة متنها ومن جهة سندها -كما سيأتي معنا إن شاء الله في بعض الوقائع.
وطالب العلم حينما يقرأ في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإنه يحتاج إلى منهجيَّة علميَّة، وهذه المنهجيَّة مُهمَّة جدًّا؛ لأن القارئ حينما يقرأ أحداث السِّيرة سيجد أمورًا معيَّنة من الأحداث والوقائع، فيحتاج إلى أن يُثبت هذه الوقائع، أولًا: يحتاج إلى الترجيح، وقد صُنِّفَت في الأزمنة المتأخرة مصنَّفات في بيان ما صحَّ وما لم يصح من السِّيرة النَّبويَّة، فيحتاج الطالب إلى أن ينظر في السَّند والمتن لمراجعة المعلوم من قواعد الشريعة ودلالات النصوص.
وجرى كلام أهل العلم على قبول عموم السِّيرة النَّبويَّة، فالأصل فيما ذكره ابن هشام وغيره من أهل العلم أنها تُتلقَّى بالقبول، وأذكر كلام الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فقال: "ثلاثة علومٍ ليس لها إسناد: تفسير المغازي والملاحم..."، فكان منهج المحدثين أن الأصل رواية الغزوات، إذا لم يترتب عليها حكم شرعي يُستدلُّ به، فلا يعمَد المهتمِّين بعلم الحديث إلى التفصيل والبحث عن سند كل قصَّة، وإنَّما يُبحَث ويُتأكَّد من السند إذا كان يترتب عليه قضيَّة معرفيَّة، أو حكم شرعي، أو أمور سيترتب عليها تصور معين عن الإسلام، وأما الأصل فهو القبول لما جاء في كتب السِّيرة، وإنَّما يُنظَر إلى آحاد القصص، فهذا هو منهج أهل العلم، وهذه هي طريقتهم، وذكرتُ لكَ ما ذُكر عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
مناهج المؤلفين الذين ألَّفوا في السِّيرة:
كلُّ مؤلِّف أخذ منهجًا:
- فهناك مَن أخذ قضيَّة دلائل النبوة -يعني إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مثل: البيهقي.
- وبعضهم جعلها من باب الأخبار والقصص، كما في كتاب: "البداية والنهاية".
- وبعضهم جعلها من جهة الاعتبار والاستنباط، بما يسمى في المصطلح الحديث بـ "فقه السِّيرة النَّبويَّة"، وهذا في كتاب ابن القيم: "زاد المعاد في هدي خير العباد".
- وبعضهم أخذها من الجانب الدعوي، خاصَّة في الأزمنة المتأخرة، مثل كتاب: "دورس وعبر في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ".
- وبعضهم اعتنى بشمائل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وصفاته الخَلقيَّة والخُلُقيَّة، ومن ذلك كتاب "الشمائل" للترمذي.
ومن المناهج التي تعرَّضت للسيرة النَّبويَّة: المناهج المعادية للإسلام، فالمستشرقين لهم دراسات في السِّيرة النَّبويَّة تهدف إلى القدح في شخصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ووصفه بأنه شخصيَّة قيادية وليس نبيًّا مُرسلًا، وهذا موردهم الذي يَرِدونه في الطعن في سُنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهذا لا شك أنه مقطوع، قال تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3].
بهذه المقدمة أرجو أن نكون قد أعطينا مدخلًا لطالب العلم في قراءة السِّيرة النَّبويَّة، ومن تيسير الله -عّزَّ وَجَلَّ- العلم للناس فإنه -بحمد الله- ثَم مؤلفات وثَم تسجيلات وثَم شروح يرجع لها طالب العلم، ويأخذ ما يُناسب الحالة العلميَّة من اليسر والسهولة حتى يستفيد من سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ومعنا الآن كتاب: "الفصول في اختصار سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ"، وهذه النسخة التحقيق فيها جيد، وقُدِّم لها بترجمة عن المؤلف.
وابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هو: عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير، ويُكنَّى بـ "أبي الفداء"، وهو قرشيٌّ -ينتسب إلى قريش- وُلد في بصرى في الشام، في قرية يُقال لها: "مُجيدل"، ثم انتقل بعد وفاة أبيه إلى دمشق -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وكان والده من أهل الفضل.
وأبرز ما يُذكَر في شخصية المؤلف: شيوخ ابن كثير، ومنهم الإمام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وامتُحِنَ ابن كثير بسبب التصاقه بالشيخ، وكان يُتابعه حتى في المسائل الخلافية، مع إن ابن كثير كان شافعيًّا.
والتَّمذهب في ذاك الوقت كان أقرب ما يكون إلى الانتساب إلى المدرسة، فكان في دمشق أوقاف ومدارس، بل كانت تحصل نزاعات في ولاية المدرسة.
ومما يُذكَر عن ابن كثير: الصناعة الحديثية له، فكان -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يعتبر من المحدثين، وممَّن كان له عناية بالصناعة الحديثية، وكان شيخه في هذا المُزِّي، صاحب كتاب "تهذيب الكمال" وهو معروفٌ في علم الحديث.
ومؤلفات ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كثيرة جدًّا، من أشهرها: "البداية والنهاية"، وأشهر منه "تفسير القرآن العظيم" الذي يعتبر من أجمع وأنفع كتب التفسير على الإطلاق، لأمرين:
- أنه نهج فيه منهج السلف الصالح.
- وأنه حقق فيه كثير من الروايات.
ولهذا فإذا ذُكر التفسير؛ يُذكر تفسير ابن كثير.
ومن الإضاءات المهمَّة في ترجمة ابن كثير: أن الحياة العلميَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة لو قرأ فيها القارئ سيجد فيها إضاءات كثيرة جدًّا، وخلافات كثيرة، ومع ذلك لم تمنع ابن كثير من الاشتغال بالعلم والتعلم والتَّصنيف، فرحم الله علماء هذه الأمة.
وابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أصابه العمى في آخر عمره، وتوفي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سنة 774 للهجرة، وربما يلحظ القارئ للأجزاء الأخيرة من كتاب: "البداية والنهاية" أنها ليست على النَّمَط الأول، فذُكر أنَّ ذلك بسبب أنه أصيب بالعمى.
وأحب أن أذكر إضاءة مُهمَّة من مواقفه الخالدة، وخاصَّة فيما نتعرض له من الإساءة للمسلمين، والزَّعم أن المسلمين لهم مواقف من الطوائف، فهذا موقفٌ خالدٌ لابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في السنة 767 من الهجرة، فقد هاجم الفرنج الإسكندرية، وقتلوا ونهبوا وبقوا فيها أربعة أيام ثم انسحبوا، وكانت مصر والشام تحت ولاية المماليك، فورد أمر السلطان الملوكي بمصادرة ربع أموال النصارى الذي في الشام -على جهة المقابلة- فقام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وقابل نائب السلطان، وأخبره أن هذا لا يجوز؛ لأنه تعدٍّ وظلم، والإسلام جاء بالعدل، فقيل: إن هناك مَن أفتى السلطان بذلك، فقال ابن كثير: "لا يجوز لأحد أن يفتي بذلك ما داموا باقين على عهد الذِّمة"، وبغض النَّظر عن السَّريَّة التَّاريخيَّة التي وقعت، ولكن موقف ابن كثير هذا يُحسَبُ له، وهذا هو الإنصاف الموجود عند أهل العلم -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وكتاب ابن كثير الذي بين أيدينا فيه منهجيَّة واضحة:
أولًا: كان يختصر القصص، فالاختصار واضح في هذا الكتاب، وهذا مما يُرجَّح أن يُقرأ ويُدرَ كمتن علمي، فهو يعمد إلى ذكر الخبر، ويُتبعه بما يؤيِّده من الحديث والأثر؛ لأنَّه محدِّث -كما لا يخفى عليكم.
ثانيًّا: الترجيح بين الروايات.
ثالثًا: وضوح الصناعة الحديثية في الكتاب من خلال الترجيح بين الروايات.
رابعًا: وحرص ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتاب: "الفصول" أن يبعد عن الحشو والإطالة والتِّكرار.
ولا شك أن العلم رحب، فهو يأخذ ويستفيد من غيره، وغيره يستفيد منه، وهذا منهج المتقدِّمين، قبل أن تأتي المناهج العلمية الحديثة الآن التي وضعت أُطر لمسألة الاقتباس.
يقول بعض مَن اهتمَّ بكتاب ابن كثير: إنَّه كان ينقل عن "الدرر في اختصار المغازي والسير" لابن عبد البر، وينقل كذلك عن "جوامع السِّيرة" لابن حزم، فهذه أكثر الموارد لابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتب السِّيرة، وموارده كثيرة من كتب الحديث على اختلافها، وكتب السِّيرة، إلى غير ذلك من الكتب.
نبدأ الآن بقراءة مقدِّمة ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مَن أخلص له قلبه، وانجابت عنه أكدار الشِّرك وصفا، وأقرَّ له برق العبوديَّة، واستعاذ به من شر الشَّيطان والهوى، وتمسَّك بحبله المتين المنزل على رسوله الأمين محمد خير الورى، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الحشر واللقَا، ورضي الله عن أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه أجمعين، أولي البصائر والنهى.
أمَّا بعدُ:
فإنَّه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النَّبويَّة والتَّواريخ الإسلامية، وهي مشتملة على علوم جمَّة وفوائد مهمَّة، لا يستغني عالمٌ عنها، ولا يعذر في العُرُوِّ منها.
وقد أحببتُ أن أُعلِّق تذكرةً في ذلك لتكون مدخلاً، إليه وأنموذجاً وعوناً له وعليه، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وهي مشتملة على ذكر نسب رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- وسيرته وأعلامه، وذكر أيَّام الإسلام بعده إلى يومنا هذا، ممَّا يمس حاجة ذوي الأَرَبِ إليه، على سبيل الاختصار -إن شاء الله تعالى)}.
لاحظ قول ابن كثير: (لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النَّبويَّة)، فيه أن العلم بالسِّيرة مُهم جدًّا لطالب العلم.
ثم سأل الله -عز وجل- العون، وذكر إلى ما سيعمد إليه، وهو أنه سيذكر نسب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وسيرته وأعلامه، ودلائل النبوة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: ذكر نسبه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
هو سيد ولد آدم: أبو القاسم محمد، وأحمد، والماحي الذي يمحى به الكفر، والحاشر الذي يَحشر النَّاس، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمقفِّي، ونبي الرَّحمة، ونبي التَّوبة، ونبي الملحمة)}.
هذه هي أسماء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقال: (هو سيد ولد آدم)، ثم قال: (والماحي)، وبيَّن معناه.
قال: (والحاشر)، وبيَّن معناه.
قال: (والعاقب)، بيَّنه كذلك.
قال: (والمقفِّي)، يعني الذي قفَّى مَن قبله، فكان هو الآخر منهم.
وقوله: (نبي الرَّحمة)، وجاء في قوله -عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
ثم قال: (نبي التَّوبة)، لأن الله -عز وجل- ببعثته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- التوبة.
قال: (نبي الملحمة)، أي: الذي بُعث بالجهاد وقتال مَن لم يُقر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ابن عبد الله، وهو أخو الحارث، والزبير، وحمزة، والعباس، ويكنى أبا الفضل، وأبي طالب، واسمه عبد مناف، وأبي لهب، واسمه عبد العزى)}.
الآن يذكر إخوان أبيه عبد الله، وأسماء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- جاءت في البخاري، واعتنى البيهقي بجمعها، وتابعه ابن عساكر في: "تاريخ دمشق"، وكذلك النووي في: "تهذيب الأسماء واللغات"، فمن أراد أن سيتزيد من أسماء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فعليه مراجعة هذه الكتب.
ونؤكد أن هذه الأسماء التي ذكرها ابن كثير بعضها خاص بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهي الأسماء الخمسة، وبعضها يَشْركه غيره من الرسل فيها، كـ "البشير، والنذير".
ونذكر أن اسم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مذكور في الكتب المتقدمة -التوراة والإنجيل- بمسمى "محمد، وأحمد"، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146]، وهذا لا شك أنه وصف دقيق لتمام المعرفة بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لأنه قد بشَّر به عيسى، فقال تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، ولكن -مع الأسف- حاول اليهود والنصارى إخفاء هذا الأمر وكتمانه، ولكن الله -عز وجل- أظهره وبيَّنه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لا يحتاج إلى هذه الكتب، فهو ظاهرٌ صدقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولكن أقام الله -عَزَّ وَجلَّ- على أتباع دين اليهود ودين النصارى الحجَّة بأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مذكورٌ في كتبهم المتقدِّمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأبي لهب، واسمه عبد العزى، وعبد الكعبة، وهو المقوم، وقيل: هما اثنان، وحجل، واسمه المغيرة، والغيداق، وسمي بذلك لكثرة جوده، وأصل اسمه نوفل، وقيل: حجل، وضرار)}.
هؤلاء هم أعمام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وصفية، وعاتكة، وأروى، وأميمة، وبرة، وأم حكيم ـ وهي البيضاء.
هؤلاء كلهم أولاد عبد المطلب، واسمه: شيبة الحمد على الصَّحيح)}.
ذكر ابن كثير أن عبد المطلب اسمه: شيبة الحمد. وبعضهم يقول: اسمه شيبة؛ وإنما لحقه اسم "عبد المطلب"؛ لأن المطلب جاء به من أخواله من يثرب، وقد أثَّر السفر فيه، وكان ردفه -أي: أردفَهُ- حتى حسبوه عبدًا للمطلب، فسُمِّيَ: "عبد المطلب".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ابن هشام واسمه عمرو، وهو أخو المطلب ـ وإليهما نسب ذوي القربى ـ وعبد شمس، ونوفل، أربعتهم أبناء عبد مناف أخي عبد العزى، وعبد الدار، وعبد، أبناء قصي، واسمه زيد، وهو أخو زهرة، ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم، ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي، وهصيص، وهم أبناء كعب أخي عامر، وسامة، وخزيمة، وسعد، والحارث، وعوف، سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم.
ابني غالب أخي الحارث، ومحارب، بني فهر أخي الحارث ابني مالك أخي الصلت، ويخلد، بني النضر أخي مالك، وملكان، وعبد مناة، وغيرهم، بني كنانة أخي أسد، وأسدة)}.
الآن يفصِّل في نسب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حتى يوصله إلى عدنان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الهون، بني خزيمة أخي هذيل، ابن مدركة، واسمه عمرو، وهو أخو طابخة، واسمه عامر، وقمعة، وثلاثتهم أبناء إلياس، أخي الناس، وهو عيلان والد قيس كلها، كلاهما ولد مضر أخي ربيعة وهما الصريحان من ولد إسماعيل، وأخي أنمار، وإياد، وقد تيامنً)}.
تيامنا: أي ذهبا إلى اليمن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أربعتهم أولاد نزار أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب)}.
الخلاف في "قضاعة" هل هي عدنانيَّة أو قحطانيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كلاهما ابنا معدِّ بن عدنان)}.
والصحيح أن نسب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- محفوظٌ إلى عدنان، وما بعد ذلك فهو من أقوال النسَّابين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فجميع قبائل العرب ينتسبون إلى من ذكرت من أبناء عدنان.
وقد بين ذلك الحافظ أبو عمر النمري في كتاب الإنباه بمعرفة قبائل الرواة بياناً شافياً -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
وقريش على قول أكثر أهل النسب: هم الذين ينتسبون إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأنشدوا في ذلك:
قصي لعمري كان يدعى مجمعاً... به جمع الله القبائل من فهر
وقيل: بل جماع قريش هو النضر بن كنانة، وعليه أكثر العلماء والمحقِّقين، واستدل على ذلك بالحديث الذي ذكره أبو عمر بن عبد البر ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ عن الأشعث بن قيس -رضي الله عنه- قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وفد كندة فقلت: ألستم منا يا رسول الله؟ قال: «لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفى من أبين»)}.
هذا الأشعث كان يرى أن كون أم عبد مناف من خزاعة؛ فيجوز أن ينسب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلى كندة اليمانيَّة، والصَّحيح -كما ذكر المؤلف- أن مسمى "قريش" الذي تنتسب إليه القبيلة هو: النضر بن كنانة.
والمتفق عليه: أن أبناء فهر بن مالك بن النضر بن كنانة هم قريش، ولكن اختلفوا: هل يدخل في قريش كل مَن انتهى نسبه إلى النضر، أو يعلو إلى فهر بن مالك بن النَّضر؟
وأمَّا أولاد النَّضر فقد جرى فيه الخلاف، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وجمع من العلماء يرجِّحون أن قريش تجمع النضر بن كنانة، وهو الجد الحادي العشر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
ويدل على أن النَّضر بن كنانة هو الجامع لنسب قريش: حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ «وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشً» .
من أين جاء اسم "قريش" كما في القرآن ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: 1]؟
تعدَّدت الأقوال في ذلك:
- قيل: إن النضر بن كنانة كان في سفينة، فقتل دابة في البحر تسمى "قريش" وهو ما يسمَّى الآن "قرش".
- وقيل: لغلبة قريش على سائر القبائل، فكأنها أخذتها وقرشتها، فصارت السِّيادة لها.
- وقيل: سُمِّيَت "قريش" لاجتماعهم.
- وقيل: لقرشهم المحتاج، أي: مساعدتهم المحتاج بالإقراض.
- وقيل: لأنهم اشتغلوا بالتِّجارة، وهذا من التَّقاريش -يعني التجارة.
وهي أقوال متعدِّدَة، وجماع هذا أن يُقال: إن "قريش" لقب وليس اسمًا.
***
كيف كانت ولاية قريش للكعبة والحرم؟
معلومٌ أن هاجر سكنت البيت وإسماعيل، وذلك بأمر الله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حينما جعلهم إبراهيم بوادٍ غير ذي زرع، فالسَّرد التَّاريخي واضح، ومعلوم أنَّ قبيلة جرهم اليمانيَّة التي هاجرت بعدَ تغيُّر أحوال اليمين، وهم من الآزْد انقسموا إلى: آزد شنوءة، وآزد عمان؛ فهذه من القبائل الآزديَّة التي هاجرت إلى جهة الشَّام، فرأت هذا الماء، وسكنت عند هاجر أمِّ إسماعيل، وتزوَّجَ إسماعيل من قبيلة: "جرهم" الآزديَّة اليمانية.
بعد ذلك كانت لهم الولاية، لأنَّ إسماعيل أخذ منهم وهم أخوالهم، وبقي نسل إسماعيل، ولكن لم يكن الولاية للحرم.
ثم حدثَ ما حدثَ من قبيلة جرهم، فذكر أهل الأخبار أنهم أفسدوا وطغوا وبغوا، فجاءتهم خزاعة وهي من القبائل الآزدية التي هاجرت، وانتهت بها الهجرة إلى أجزاء من الحجاز، فَخَزَعَتْ إلى الحجاز، ولذلك سُمِّيَت "خُزَاعة" ؛ ثم تولَّت ولاية الحرم، ولهذا جاء في صحيح البخاري أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر عمرو بن لُحي الخُزاعي وأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- رآه في النار؛ لأنه كانت له السِّيادة، وهو أوَّل من سيَّبَ السَّوائب ودعا إلى عبادة الأصنام حينما زار البلقاء وجلبَ تلك الأصنام، وأمرهم بعبادتها، وكان سيدًا.
ثم بعد ذلك زالت خزاعة عن ولاية الحرم وتولَّت قريش، يقول أهل الأخبار: كانت السيادة لقريش في الجد الرابع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لقصي بن كلاب، وهو الذي حارب خزاعة واستولى على إمارة مكَّة، وبعد ذلك وزَّع قصي بن كلاب أمور البيت من السدانة والرفادة والسقاية بين أبنائه.
هذا سرد مختصر لنبيِّن كيف كانت ولاية قريش على الحرم.
****
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن، وفيه: فكان الأشعث يقول: لا أوتي برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد")}.
وهذا يدل على الخلاف، فهو يرى أن الصحيح أن كل مَن انتهى نسبه إلى النَّضر بن كنانة فهو قرشي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقيل: إن جماع قريش إلياس بن مضر بن نزار.
وقيل: بل جماعهم أبوه مضر)}.
وهو الخلاف الذي ذكرناه، بدلالة حديث الأشعث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهما قولان لبعض أصحاب الشافعي، حكاهما أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في شرحه، وهما وجهان غريبان جد)}.
ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كأنه يستغرب هذه الأقوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ، وغير ذلك، فأولئك من قحطان ليسوا من عدنان.
وقضاعة فيها ثلاثة أقوال: قيل: إنها من العدنانية. وقيل: قحطانية. وقيل: بطن ثالث لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، وهو غريب، حكاه أبو عمر وغيره)}.
يعني ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وكما ترى أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ينتسب إلى عدنان، وينتسب إلى أبيه إسماعيل بن إبراهيم، وهذا متفقٌ عليه بين أهل العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم بعد عدنان
وهذا النسب الذي سقناه إلى عدنان لا مرية فيه ولا نزاع، وهو ثابت بالتواتر والإجماع، وإنما الشأن فيما بعد ذلك، لكن لا خلاف بين أهل النسب وغيرهم من علماء أهل الكتاب أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله، وهو الذَّبيح على الصَّحيح من قول الصحابة والأئمة)}.
مسألة الذَّبيح فيها خلاف، ولكن الصحيح من أقوال أهل العلم والذي تدل عليه ظواهر النُّصوص أنه إسماعيل وليس إسحاق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وإسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن -عليه أفضل الصلاة والسلام- وقد اختلف في كم أب بينهما على أقوال:
فأكثر ما قيل أربعون أبًا. وأقل ما قيل سبعة آباء. وقيل: تسعة. وقيل: خمسة عشر، ثم اختلف في أسمائهم.
وقد كره بعض السلف والأئمة الانتساب إلى ما بعد عدنان)}.
لأنه يكثر فيه الخوض والغلط؛ ولأنه ربَّما يُحكَى على سبيل المفاخرة، والصحيح أنه لا يثبت، ولهذا فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر صحَّة النسب إلى عدنان، وبعد ذلك إنما قد يكون من صنيع أهل النسب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ويحكى عن مالك بن أنس الأصبحي الإمام رحمه الله أنه كره ذلك.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الإنباه": "والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان...")}.
كتاب "الإنباه على قبائل الرواة" لابن عبد البر المتوفى سنة 463 للهجرة، وهو في أنساب القبائل التي روت الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولعله اختصره من كتاب آخر وهو "القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم"، فابن عبد البر، ومعاصره ابن حزم؛ كانا لهما عناية بالنسب، فعلماء الأندلس عندهم تميُّز معرفي عجيب جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ("والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان، قالوا: عدنان بن أدد، بن مقوم بن ناحور، بن تيرح، ابن يعرب، بن يشجب، بن نابت، بن إسماعيل، بن إبراهيم خليل الرحمن، بن تارح ـوهو آزرـ بن ناحور، بن شاروخ، بن راعو، بن فالخ، بن عيبر، ابن شالخ، بن أرفخشذ، بن سام، بن نوح بن لامك، بن متوشلخ، بن أخنوخ ـ وهو إدريس النبي -عليه السلام- فيما يزعمون -والله أعلم- وهو أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث، وأول من خط بالقلم، بن يرد، بن مهليل، ابن قينن، بن يانش، بن شيث، بن آدم -صلى الله عليه وسلم- هكذا ذكره محمد بن إسحق بن يسار المدني صاحب السِّيرة النَّبويَّة، وغيره من علماء النسب)}.
ذكرنا أن هذا التسلسل النسبي ما عليه دليل، ولكن بعض المؤلفين يذكروا مثل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد نظم ذاك أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي المعتزلي في قصيدة يمدح فيها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقد أوردها الإمام أبو عمر، وشيخنا في تهذيبه)}.
يقصد "تهذيب الكمال" لأبي عمر المزِّي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهي قصيدة بليغة أولها:
مدحت رسول الله أبغي بمدحه... وفور حظوظي من كريم المآرب
مدحت امرءاً فاق المديح موحداً... بأوصافه عن مبعد ومقارب
فجميع قبائل العرب مجتمعون معه في عدنان)}.
يقصد القبائل العدنانيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: "لم يكن بطن من قريش إلا ولرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فيهم قرابة)}.
من جهة عمود النسب -الآباء والأعمام- ومن جهة الخؤولة، وهذا فيما يخصُّ قريش، وكذلك القبائل العربية الأخرى، مثل: قبيلة ربيعة وتميم، وقبائل قيس بن عيلان؛ فكل هؤلاء ينتهي نسبهم إلى عدنان، فيجمعهم مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- القُربَى، ولهذا قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، يعني: أن توادُّوني بما جئتُ به، ولكنهم عارضوه وشانؤوه -صلوات ربي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهو صفوة الله منهم كما رواه مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: « إنَّ اللَّهَ اختار كنانة من ولد إسماعيل ثم اختار من كنانة قريشاً، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم»)}.
فهو خيارٌ من خيار -صلوات ربي وسلامه عليه.
{لعلنا نقف في هذا الدرس إلى حيث ذكر المؤلف.
وفي ختام هذه الحلقة نشكر لكم أيها المشاهدون والمشاهدات الكرام متابعتكم، وحسن إنصاتكم واستماعكم، ونلقاكم -بإذن الله- على خير في الأسبوع القادم بمشيئة الله -عَزَّ وَجلَّ.
نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
الفصول في سيرة الرسول