الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1742 12
الدرس الثاني

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدة من برنامجكم البناء العلمي، مع فضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، في شرح كتاب: "الفصول في سيرة الرسول".
باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- أرحبُ بفضيلة الشَّيخ، فأهلًا وسهلًا بكم}.
حيَّاك الله أخي محمد، وحيَّا الله المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العلم النَّافع والعمل الصَّالح.
{اللهم آمين.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكذلك بنو إسرائيل أنبياؤهم وغيرهم يجتمعون معه في إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وهكذا أمر الله سبحانه بني إسرائيل على لسان موسى -عليه السلام- وهو في التوراة كما ذكره غير واحد من العلماء ممن جمع بشارات الأنبياء به -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إن الله تعالى قال لهم: ما معناه: "سأقيم لكم من أولاد أخيكم نبيًا كلكم يسمع له، وأجعله عظيمًا جدًا")}.
تقدَّم الكلام على أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مذكور في كتبهم، والله -عَزَّ وَجلَّ- أخذ الميثاق على النبيين أنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذا بُعث فيكم أن تتبعوه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ [آل عمران: 81]، فالميثاق الذي أخذه الله على الأنبياء لا شكَّ أنه يلزم أتباع الأنبياء، فهؤلاء نقضت المواثيق والعهود حينما ذُكِرَ هذا النبي الخاتم الذي جاء مصدِّقًا لما جاء به الأنبياء، ولهذا فإن ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هو ما جاء به موسى وعيسى من جهة الاعتقاد والتوحيد، وإنما اختلفوا في الشريعة، كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾ [المائدة: 48]، فالشِّرعة والمنهاج مختلفين، لكن الأصل هو العقيدة والتوحيد، ولا شكَّ أن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بُشرَى للبشرية ببعثته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وذكر المؤلِّف هذا النَّص من التَّوراة، وهو موجود في سفر التَّثنية من أسفار العهد القديم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولم يولد من بني اسماعيل أعظم من محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بل لم يولد من بني آدم أحد ولا يولد إلى قيام الساعة أعظم منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقد صح أنه قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي»، وصح عنه أنه قال: «سأقوم مقامًا يرغب إليَّ الخلق كلهم حتى إبراهيم»، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى، وهو الشَّفاعة العظمى التي يشفع في الخلائق كلهم، ليريحهم الله بالفضل بينهم من مقام المحشر، كما جاء مفسراً في الأحاديث الصحيحة عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ)}.
وهذا واضح وبيِّن من كلام المؤلف، ولا يحتاج إلى توضيح، وننبه على الدعاء بعد الأذان وهو: «وابعثه المقام المحمود الذي وعدته»، وهو مقام الشفاعة، حينما ينزل الجهد بالخلائق، فيأتي الناس جميعًا يسألون الأنبياء، فيقوم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ثم يسجد تحت العرش، فيفتح الله عليه تعالى بمحامدٍ في ذلك الوقت، وبعد ذلك يقبل الله -عَزَّ وَجلَّ- شفاعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فيقضي بين الخلق، وهذا من المقامات العظيمة التي يُحمَد فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وتظهر سيادته على أبناء آدم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة.
فصل: ولادته ورضاعه ونشأته
ولد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقيل: ثامنه، وقيل عاشره، وقيل لثنتي عشرة منه، وقال الزبير بن بكار: ولد في رمضان، وهو شاذ، حكاه السهيلي في روضه)
}.
يظهر من هذا اختلاف أهل العلم في زمان مولد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وأكثرهم على أنه في ربيع أول، ولكنهم اختلفوا في تعيين هذا اليوم، وهذا يقطع الكلام في مسألة مولد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والاحتفال بمولده، والزَّعم أن مولد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في اليوم الثاني عشر، وهذا ممَّا يدل على أن أهل العلم ما اعتنوا بذلك وما رتَّبوا عليه الأحكام، سواء كان مولودًا في اليوم الثاني أو اليوم الثالث؛ فهذا لا يترتَّب عليه حكم، وإنَّما أتى الاحتفال بمولده -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعد انقضاء القرون المفضَّلة، وأحدثه حُكَّام الدولة العبيديَّة في مصر، والتي تسمِّي نفسها بالدولة الفاطميَّة، وسبب هذا الإحداث: هو مُتابعة النَّصارى في الاحتفال بمولد عيسى، وإلَّا فإن هذا الاحتفال ليس في الإسلام كما هو معلوم وظاهر من جهة تعيين المولد للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فإذا كان ابن كثير وهو شافعي المذهب، وهو مُعتمد عند جميع أهل العلم يذكر الخلاف فيه زمان مولد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فكيف يُجعَل يوم مُعيَّن -على القول بالاحتفال- وإلَّا فإن الاحتفال لا شك أنه من الإحداث ومن البدع.
فإذا كان مختلف في زمان مولده -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فلا شكَّ أن هذا يقطع الطريق على مَن يُزايد في شرعيَّة الاحتفال بمولد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذلك عام الفيل، بعده بخمسين يوماً، وقيل بثمانية وخمسين يوماً، وقيل بعده بعشر سنين، وقيل: بعد الفيل بثلاثين عاماً، وقيل: بأربعين عاماً، والصحيح أنه ولد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عام الفيل، وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري، وخليفة بن خياط وغيرها إجماع)}.
قصة أبرهة الحبشي معروفة، حينما بنى بيتًا وأراد أن يجتمع الناس ويزورنه، فقيل له: إن الكعبة تنافس هذا البيت؛ فعَمَدَ إلى هدم البيت، فمنعه الله -عَزَّ وَجلَّ- وأرسل عليه الطير الأبابيل، فهذا يؤرِّخون به، وهذا من عادة المتقدمين، أنهم يؤرخون بالأحداث، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وُلد في عام الفيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري، وخليفة بن خياط وغيرها إجماع)}.
كأن الخلاف ضعيف، وكأن الإجماع منعقد على أنه وُلد في عام الفيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومات أبوه وهو حمل، وقيل بعد ولادته بأشهر، وقيل بسنة، وقيل بسنتين، والمشهور الأول)}.
مات أبوه وهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حملٌ في بطن أمِّه، فلم يرَهُ، وهذا يدلُّك على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أحسَّ بمرارة اليتم، وهذا لم يضره -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، بل كان من كمال شخصيته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واسترضع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية كما روينا ذلك بإسناد صحيح)}.
ما الذي حمل قريش على أن تسترضع لأولادها؟
قريش من القبائل العربية ولها السِّيادة، فهم يحرصون على أن يتولَّى رِضاع الطِّفل مَن كان في الصَّحراء، وتعرفون أن قريشًا حاضرة، وبنو سعد كانوا يُعتبَرون بدوًا في ذلك الوقت، وكانوا يأتون ويأخذون المواليد، فأخذته حليمة، وذُكرت قصَّة في ذلك ربما لا يُتحقق من بعضها، ولكن الحاصل أن حليمة قد أرضعته؛ لأن جرت عادة العرب أن يُرضَع الولد ويعيش في الصحراء وليقوى بدنه، وليتعلَّم الفصاحة.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين، وشُقَّ عن فؤاده هناك، فردته إلى أمه)}.
منازل بني سعد قريبة من الطَّائف، والبدو لا يمكن أن يستقرون، ولكن لهم نفوذ معيَّن، فهم في هذه النَّواحي والأماكن-بجوار مكَّة، وهذا من بركات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- التي نزلت بحليمة السَّعديَّة حتَّى كان هذا الرضاع سبب في ذكرها والإشارة بها، بينما مَن كنَّ معها لم يكن لهن أي ذكر، فهذا من بركات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وشُقَّ عن فؤاده هناك)، ويعبر أهل العلم عن هذه الحادثة بـ "شق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ"، وهي من معجزاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهذا الشَّق تكرَّر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أكثر من مرة، بعضهم قال: ثلاث مرات. وبعضهم قال: إنه وقع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مرتين.
يقول أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كنت أرى أثر الشق وأثر المخيط".
وكما في الأخبار: أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان مع أحد إخوانه من الرَّضاع من أبناء حليمة السعدية، ورأى مَن جاءه وأخذه وشقَّ صدره، واستخرج علقةً سوداء من قلبه، وكان هذا من تهيئة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- للنبوة -صلوات ربي وسلامه عليه.
والصَّحيح أن هذا الشق حدث حينما كان رضيعًا، وجاء في بعض الروايات أنه شُقَّ صدره -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في الإسراء والمعراج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فخرجت به أمه)}.
وقيل: إن بعد حادثة الشَّق خشيَت عليه حليمة؛ فأرجعته إلى أمِّه آمنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلى المدينة تزور أخواله بالمدينة، فتوفيت بالأبواء)}.
آمنة من أهل يثرب، والأبواء تسمى الآن "ودَّان" وتبعُد عن رابغ سبعة وستين كيلو، فتوفيت أمُّه في الأبواء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهي راجعة إلى مكة وله من العمر ست سنين وثلاثة أشهر وعشرة أيام)}.
يعني ذهبت ثم رجعت، وتوفيت في الرجوع، فهو فَقَدَ الوالد، ثم فقدَ الوالدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقيل: بل أربع سنين وقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما مر بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة عام الفتح استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، فبكى وأبكى من حوله وكان معه ألف مقنع -يعني بالحديد)}.
كان جيش النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في فتح مكَّة عظيمًا مقارنة بالغزوات الأخرى، وقوله: (معه ألف مقنَّع)، يعني: مقنَّعين بالحديد في الدُّروع.
فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- زار قبر أمه آمنه في طريقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن وهي مولاته، ورثها من أبيه)}.
أمُّ أيمن أمَةٌ ورثها من مال أبيه، فحضنت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهي الأم الثالثة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فأمه الأصليَّة آمنة، وأمُّة من الرضاع حليمة السعدية، وأمُّه أم أيمن باعتبار الحضانة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من العمر ثماني سنين توفي جده)}.
لاحظ الآن! مات والده قبل ولادته، ثم ماتت أمه، ثم مات أبوه الثاني وهو صغير-وهو الجد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأوصى به إلى عمه أبي طالب، لأنه كان شقيق فكفله)}.
لا شكَّ أن الأخ الشَّقيق أقرب في المودَّة من الأخ لأب أو الأخ لأم، وهو أدعى وأولى في هذه المسألة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لأنه كان شقيق فكفله وحاطه أتم حياطة، ونصره حين بعثه الله أعز نصر، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك)}.
قصَّة أبي طالب قصَّة عجيبة جدًّا في نصرته للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولكن ما أراد الله -عَزَّ وَجلَّ- له الهداية، فأنزل الله بعد وفاته قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، وهي سلوى لكل مَن نصحَ وبذلَ وأدَّى أمانة التَّبليغ، ومع ذلك فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم يملك هداية التوفيق والإلهام، ولكن لمقامه في الدفاع عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- جعله في دحضاحٍ من النار -كما صحَّ بذلك الحديث الصحيح.
{هل في ذلك سلوة للآباء والمربين، بأن الإنسان قد يبذل جهده في التربية ويبذل الأسباب الواجبة، ثم لا يُهدَى ابنه؟}.
صحيح، ولا شكَّ في ذلك، فإنه ثَمَّ أسباب حسيَّة وثَمَّ أسباب خفية، والله -عَزَّ وَجلَّ- أعلم بالمحال التي تقبل هذا الاهتداء فيهديها.
قال أهل العلم: الهداية نوعان:
- هداية التوفيق والإلهام.
- وهداية الدلالة والإرشاد.
فهداية الدلالة والإرشاد يملكها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومن دونه من الدعاة، أما هداية التوفيق والإلهام فهي لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهنا تظهر ربوبيَّة الله -عَزَّ وَجلَّ- لخلقه، وأنه هو الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وتعلُّق القلوب به، فإن الأمور بيد الله تعالى، ولكن بذل الأسباب مطلوب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وخرج به عمه إلى الشام في تجارة وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وذلك من تمام لطفه به، لعدم من يقوم إذا تركه بمكة)}.
لاحظ الآن السَّرد التَّاريخي والاختصار عند ابن كثير، فذكر الوقائع المؤلمة في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وفاة الأب، ثم وفاة الأم، ثم وفاة الجد، ثم كفالة أبي طالب له، وقوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (من تمام لطفه)، هذا تعليل لابن كثير، وقد يكون ثَم أسباب أخر، ولكن هذا الذي ظهر للمؤلف.
ومعلوم أن أهل مكة أهل تجارة، ولهم رحلة الشتاء ورحلة الصيف، رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام، وكلها لأسباب تجارية، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذهب مع عمِّه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فرأى هو وأصحابه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما زاد عمه في الوصاة به والحرص عليه، كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات، مِن تظليل الغمامة له، وميل الشجرة بظلها عليه، وتبشير بحيرا الراهب به، وأمره لعمه بالرجوع به لئلا يراه اليهود فيرمونه سوء)}.
اختُلف في ضبط اسمه "بحيرا" أو "بحيرة"، وكان راهبًا ورأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وذكر أنه ربما يكون هو النبي الخاتم، وهو لم يُصرِّح بذلك، ولكن قاله لأبي طالب: "احذر أن يراه اليهود"، فرأى عمُّه أمورًا عجيبة جدًّا ولا يجدون لها تفسيرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (والحديث له أصل محفوظ وفيه زيادات أخر)}.
هنا يظهر الترجيح لابن كثير والصناعة الحديثية له، فهذه هي الرحلة الأولى للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلى الشام، وهي رحلة مُوجزة ما تأخذ وقتًا طويلًا، ولهذا بعض المستشرقين وبعض الكائدين والطاعنين في الإسلام يُحاولون أن يصفوا أن ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مأخوذ من الكتب السابقة، فكل عاقل يعرف أن هذه زيارات، وأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كأن أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، فيذكرون أنه أخذ من بحيرا الراهب! وكل هذا غير صحيح؛ لأنه لا يصدِّق أي إنسان أن يكون هذا الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- متلقَّف من الآخرين، قال تعالى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم خرج ثانياً إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد -رضي الله تعالى عنها- مع غلامها ميسرة على سبيل القراض)}.
القراض: يعني المضاربة.
فخديجة كانت غنيَّة وموسرة، فدفعت مالًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وخرج مع ميسرة في رحلة مستقلَّة، وهذه الرحلة كانت وهو شاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فرأى ميسرة ما بهره من شأنه، فرجع فأخبر سيدته بما رأى، فرغبت إليه أن يتزوجها، لما رجت في ذلك من الخير الذي جمعه الله له)}.
وهذا من توفيق الله -عَزَّ وَجلَّ- لها، مع أن فيه فارق عمري، ولكن هذا يدلُّك على شخصيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وأن الله -عَزَّ وَجلَّ- هيَّأ له من الأسباب والإبهار حتى ظهر بين قومه حينما كان طفلًا وحينما كان شابًّا مغايرًا لأترابه في شخصيته، فكل هذا تهيئة للنبوَّة، فكل مَن كان سليم الفطرة يعرف أن محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بُعث وأنه صادق، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عاش أربعين سنة قبل البعثة، وهم يرون هذه الأشياء، وكانوا لا يسمونه إلا "الأمين"، وهذا كله من قيام الحجَّة على قريش بأن محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- صادق، وعلى غيرهم، لكن أخص الناس بقيام الحجة هم قريش الذين يعرفونه من حين كان فتى وطفلًا صغيرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفوق ما يخطر ببال بشر، فتزوجها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وله خمس وعشرون سنة)}.
وهذا من توفيق الله -عَزَّ وَجلَّ- لخديجة بنت خويلد، أن تزوجها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان الله سبحانه قد صانه وحماه من صغره، وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خلقٌ جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه وأمانته، حتى إنه لما بنَت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره، فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود، اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه)}.
وهذا حدث تاريخي يُظهر سيادة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عليهم، ومكانته وخُلُقه، فجاء سيلٌ فهدم الكعبة، وتعرف أن مكَّة تعتبر واديًا ويجتمع فيها الماء، وهذا إلى أزمان متقاربة قبل أن تحدث التَّوسعة، فجاء هذا السيل القوي وهدم الكعبة، فقالت قريش: انتخبوا من أموالكم، يعني الأموال الحلال التي لم تقعوا بها في الربا؛ لأن تجار قريش كانوا مرابين -كما هو معلوم- ربا الجاهليَّة، فانتخبوا من أموالهم حتَّى قصُرَت بهم النفقة، هم عندهم أموال، ولكن قصُرَت بهم النفقة الحلال، حتى وصلوا إلى الحطيم -الحجر- فجعلوا للحجر، وبقي الحجر الأسود، فاختلفت بطون قريش فيمن يضع الحجر الأسود لشرفه، وحصل الخصام، فدخل عليهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهم يتشاجرون، فراوا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقالت كل قبيلة: نحن نضعها، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم، فكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوبٍ، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كلَّ قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ)}.
كأن الشَّرف حريٌّ بأهلِ الشَّرف، وأشرفهم وسيدهم وسيد ولد آدم هو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو الذي وضع الحجر الأسود، وهذا برؤية قريش، فإذا أراد الله شيئًا أتمَّه، فجعل أمامهم موقف الشرف يفعله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل ـ مبعثه صلى الله عليه وسلم
ولما أراد الله تعالى رحمة العباد، وكرامته بإرساله إلى العالمين، حبَّب إليه الخلاء، فكان يتحنث في غار حراء)
}.
التَّحنُّث: هو التَّعبُّد. وفي بعض روايات البخاري: "وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ"، يعني يمكث أيَّامًا ويتعبَّد، وهذا التَّعبُّد يبدو أنه ممَّا أُثر من بقايا دين إبراهيم -والله أعلم- ولكنهم يعرفون أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يجلس في هذا الغار الليالي ذوات العدد، ولا شك أن هذا الغار مرتفع، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يصعده ويجلس فيه الليالي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كما كان يصنع ذلك متعبدو ذلك الزمان)}.
فكانوا لا يعرفون من العبادة إلا التَّحنُّث، وهو البقاء لأيام وليالي في مكان معزول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كما قال أبو طالب في قصيدته المشهورة اللامية:
وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه... وراق لبر في حراء ونازل)
}.
هو يحلف بغير الله -عَزَّ وَجلَّ- على عادتهم في الحلف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ففجأه الحق وهو بغار حراء في رمضان، وله من العمر أربعون سنة، فجاءه الملك فقال له أقرأ، قال: «لست بقارىء»، فغتَّه حتى بلغ منه الجهد)}.
وجاء في بعض الروايات: «فغمَّه».
وقوله: (فغتَّه حتى بلغ منه الجهد)، يعني: حبسَ أنفاسه. وفي بعض الروايات «غطَّني»، أي: ضمَّه وعصره، وكل هذا بمعنى واحد وهو ضعف التنفس وضيقه بسبب هذا النازل عليه الذي لا يعرفه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم أرسله فقال له: اقرأ، قال: «لست بقارئ ثلاثً»)}.
فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وهذا فيه إعجاز وإظهار للحق، أنَّ هذا القرآن ممَّن لا يقرأ ولا يكتب، فلو كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقرأ ويكتب لقيل، ومع ذلك قيل، ولكن هذا القول لا شك أنه ساقط، فلو كان عنده معلومات أو قراءة سابقة ربما يكون فيه مدخل للمشككين، لكنه هو النبي الأمي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
فرجع بها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ترجف بوادره، فأخبر بذلك خديجة -رضي الله تعالى عنه)
}.
البوادر: هي العظام ما بين الرقبة والترقوة.
{قال: (وقال: «قد خشيت بها على عقلي»، فثبتته وقالت: أبشر، كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر)}.
هذه معالم عظيمة جدًّا.
وذكر أهل العلم أن قبل هذا الحدث أنَّ ما بُدئ به -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، فهذه مطالع النبوة.
ولما جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خديجة وهو مرعوب وخائف لأنه حدثٌ لا يعرفه، فقالت له: "أبشر"، وفيه الاستدلال بالإحسان، وأن المحسن لا يخذله الله -عَزَّ وَجلَّ.
ثم ذكرت صفات اتَّصف بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقالت: "إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ"، الكلُّ هو الضعيف. وفي بعض الروايات: "تقري الضيف"؛ فكل هذه صفات عظيمة لا تتوفر في إنسان ثم يخزيه الله -عَزَّ وَجلَّ- ومن ضمن الخزي -نسأل الله السلامة والعافية- أن يُصاب بمرض الجنون، أو بما يُشانُ به، فتستدل بواقعه على ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في أوصاف أخر جميلة عددتها من أخلاقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وتصديقاً منها له وتثبيتاً وإعانة على الحق، فهي أول صديق له رضي الله تعالى عنها وأكرمه)}.
وجاء في الحديث: «جاءني جبريل يبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا غم فيه ولا نصب»، وفلا شك أن مقام خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- عظيم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم مكث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، وفتر عنه الوحي)}.
بعد هذا فترَ الوحي، وفي بعض الروايات أنه لم يرَ شيئًا، وأن هذا الحدث ما تكرَّر عليه.
{قال: (فاغتنم لذلك، وذهب مراراً ليتردى من رؤوس الجبال، وذلك من شوقه إلى ما رأى أول مرة، من حلاوة ما شاهده من وحي الله إليه)}.
هذا الكلام موضع نظر، وهذه الرواية ذكرت في البخاري من رواية الزُّهري، لكنها بلاغًا، فقال: بلغنا...، ورواية البخاري ليست على شرط البخاري، وذكر أنَّ مراسيل الزُّهري وبلاغاته ضعيفة عند أهل العلم، والبلاغُ -قول: بلغني- لا إسناد له -كما هو معلوم.
كما أن هذه الرواية لم يسندها روايات أُخَر، والروايات التي تابعت هذه الرواية روايات منقطعة أو ضعيفة، فهي رواية منفردة، فهي شاذَّة من جهة السَّند، وكل مَن ساق هذه القصَّة ومنهم البخاري وقد ساقها في أكثر من موضع في كتابه الصَّحيح؛ لم يذكر ما ذُكِرَ عن الزُّهري؛ فدل ذلك على أنها رواية فيها شذوذ من جهة سندها، وإنما ذكرها البخاري بصيغة البلاغ في كتاب التعبير بلاغًا عن الزهري.
وذكرنا أن الصناعة الحديثية يُحتاج إليها في مواضع، لأن هذا موضع للكلام في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أو القدح في ذاته؛ فوجب التحقيق والتنقيح لهذه الروايات.
فذكرنا أن الرواية من جهة الإسناد غير صحيحة، وأنها شاذَّة وأنها من بلاغات الزُّهري.
أما من جهة المتن: ففيها نكارة، وإن ساقها ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من وجهين:
الوجه الأول: أن مقام النبوة لا يليق به مثل هذا، وقد هُيِّئَ لذلك، فلا يليق به أن يتردَّى من شاهق وهو الانتحار، فهذا لا شك أنه يغضُّ من مقام النبوة، وهذا واضح لكل عاقل.
الوجه الثاني: أن الوحي في بدئه كان مخوفًا له -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فقد جاء إلى خديجة على هيئة الخائف، لأنه لا يعرف هذا الشيء، حتى طمأنته خديجة، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل، فأيُّ شيءٍ يجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يغتم لذلك؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقيل: إن فترة الوحي كانت قريباً من سنتين أو أكثر، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسي، وثبته)}.
المَلَك هو جبريل؛ لأنه هو الذي وُكِّل بتبليغ الوحي من بين الأنبياء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فرق منه وذهب إلى خديجة وقال: «زملوني، دثروني»، فأنزل الله عليه ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾)}.
ظهر لنا الآن أن كونه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- اغتمَّ غير متوافق مع المتن؛ لأن الوحي أول ما جاءه كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خائفًا، ثم في المرة الثانية فرَقَ وخاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانت الحال الأولى حال نبوة وإيحاء، ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذر قومه ويدعوهم إلى الله)}.
حالة النبوة كانت في قوله: ﴿اقْرَ﴾.
أمَّا قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، فيه الأمر بالرسالة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فشمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن ساق التَّكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام، يدعوا إلى الله سبحانه الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة)}.
هذا من خصائص الإسلام العظيمة، فهو لا يفرق بين الأجناس البشريَّة، وهذا من ميزات هذا الدين، وهو دين الله -عَزَّ وَجلَّ-، فلا يختص بجنس ولا بعرق، مَن نصره نصره الله -عَزَّ وَجلَّ-، ومَن قامَ به رفعه الله -عَزَّ وَجلَّ- ورفع شأنه، فلا علاقة له بمسألة العرق أو النَّسب من أي وجهٍ كان، ولهذا كانت بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- للجميع؛ بل إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عوتِبَ لما خصَّ في موضعٍ معيَّنٍ لمصلحةٍ كان يرجوها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فخصَّ المحاورة والمجادلة مع بعض أشراف قريش، فنزل قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [عبس: 1، 2]، في قصة عبد الله بن أم مكتوم، وهذا يدلك على أن الرسالة عامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان حائز سبقهم أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عبد الله بن عثمان التيمي وآزره في دين الله)}.
أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- التيمي القرشي، شريفٌ في قبيلته، معروفٌ بسيادته وبحسن خلقه وصدقه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجاب لأبي بكر عثمان بن عفان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص)}.
انظر إلى دعوة أبي بكر، كان سببًا في هداية عثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص، ولا شك أن أبا بكر هو خير الناس بعد الأنبياء، وخير أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهذا وقع عليه الإجماع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما عليٌّ فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين، وقيل: أكثر من ذلك، وقيل: كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر، وقيل: لا، وعلى كل حال، فإسلامه ليس كإسلام الصديق، لأنه كان في كفالة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أخذه من عمه إعانةً له على سنة محل)}.
يعني: سنةَ قحطٍ، فكانوا في القديم يتأثَّرون بالأحوال المناخيَّة، فالسنة التي كان يتوفر فيها الماء كانت تسمى: "سنة الخصب"، والسنة التي ينقطع فيها ماء السماء تسمى: "سنة جدبٍ"، ولا شك أن قريش حاضرة، ولكنها تتأثَّر بما يقع على الآخرين.
فمن باب رد المعروف كفلَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكان صغيرًا، وأبو بكر حينما أسلم كان كبيرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكذلك أسلمت خديجة، وزيد بن حارثة.
وأسلم القس ورقة بن نوفل فصدق بما وجد من وحي الله)
}.
قصة ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي معروفة، يجتمع مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في جده قصي، وله قرابة لخديجة بنت خويلد، فهو عم أبيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وتمنى أن لو كان جذع)﴾، أي: لو كان صغيرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذلك أول ما نزل الوحي، وقد روى الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة، وجاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت القس عليه ثياب بيض» وفي الصحيحين أنه قال: "هذا الناموس الذي جاء موسى بن عمران"، لما ذهبت خديجة به إليه، فقص عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما رأى من أمر جبريل -عليه السلام)}.
هل جاءت به خديجة إلى ورقة عندما نزل الوحي بـ ﴿اقْرَ﴾ أو بالمدثر؟
الظاهر أنه بعدما جاءه الوحي، وجاءه جبريل في غار حراء، فذهبت به، وذكر ورقة بن نوفل أن هذا هو النَّاموس، وكان ورقة يقرأ في الكتب المتقدمة -التوراة والإنجيل- وذُكر أنه كان على دين النصرانيَّة -كما يظهر من العبارات- وقيل: إنه كان على ملَّة إبراهيم الحنيفيَّة قبل أن يحدث فيها التغيير، فإنَّ إسماعيل -عليه السلام- كان في مكَّة، وأنَّ أوَّل مَن غيَّر دين إبراهيم هو عمرو بن لحي الخُزاعي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ودخل من شرح بن صدره للإسلام على نور وبصيرة ومعاينة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفًا مطاعًا فيهم، نبيلًا بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما يعلمون من محبته له، وكان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك من المصلحة، هذا ورسول الله يدعو إلى الله ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا لا يصده عن ذلك صاد، ولا يرده عنه راد، ولا يأخذه في الله لومة لائم)}.
من توفيق الله -عَزَّ وَجلَّ- أن قيَّد له الأسباب في الحماية، ولهذا حماه أبو طالب من أذاهم، فتمكَّن من الدَّعوة إلى الله -عَزَّ وَجلَّ- مع وجود هذه العوائق، ولكن ربما لو لم يكن هناك حماية للنبي لربما تسلَّطت عليه قريش وأزالته أو طردته عن مكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل ـ فتنة المعذبين والهجرة إلى الحبشة
ولما اشتد أذى المشركين على من آمن وفتنوا منهم جماعة حتى إنهم كانوا يصبرونهم)
}.
يُصبِّرونهم: يعني يحبسونهم ويجعلونهم في الشمس، ويربطونهم، ويوثقونهم؛ كل هذا من صنوف التَّعذيب حتى يرجعوا عن متابعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ويلقونهم في الحر، ويضعون الصخرة العظيمة على صدر أحدهم في شدة الحر)}.
ذُكِرَ أن هذا وقع لبلال بن باح، ووقع لغيره، فانظر إلى محاولة صد الناس عن الاهتداء والحق!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حتى إن أحدهم إذا أطلق لا يستطيع أن يجلس من شدة الألم، فيقولون لأحدهم: اللاتي إلهك من دون الله.
فيقول مكرهًا: نعم! وحتى إن الجُعل ليمر فيقولون: وهذا إلهك من دون الله)
}.
الجُعل: هو دابَّة سوداء تحمل الخبث والعذرة، فهي مما يُستقذَر.
والمعنَى: أن هذا الجُعل يمر بهم، فيقولون للمسلم على سبيل التَّهكُّم والإغاظة والتَّعذيب النَّفسي: هذا إلهك من دون الله!
فهو في حالة نفسيَّة وحالة جسمانيَّة سيئة، ومع ذلك ما تخلو، وصبروا وصابروا حتى نصرهم الله -عَزَّ وَجلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فيقول نعم! ومر الخبيث عدو الله أبو جهل عمرو بن هشام بسمية أم عمار)}.
أبو جهل هذا شقي، وكان يُكنَّى قبل ذلك بأبي الحكم، ولكن لمَّا قتل سُميَّة قيل إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كنَّاهُ بأبي جهل، وقيل إن هذه الكنية إنما حدثت من غير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حينما كنَّاه الوليد بن المغيرة بعد بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فكانت الحكمة مفارقة له، وإنما أخذته حميَّة الجاهليَّة.
ومن أعظم أسباب ضلال أبو جهل: المفاخرة بينه وبين بني هاشم، فكما جاء في خبر الأخنس بن شُريك أنه قال: "حَتَّى إِذَا كُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ".
ثم انظر إلى هذا القلب القاسي، والله -عَزَّ وَجلَّ- أعلم بالمحال التي تقبل اهتداء فهداها، ولهذا لم يُردْ الله -عَزَّ وَجلَّ- له الهداية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومر الخبيث عدو الله أبو جهل عمرو بن هشام بسمية أم عمار وهي تعذب وزوجها وابنها، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا وعن ابنها وزوجه)}.
لاحظ هذا الموقف العظيم من الصبر على الابتلاء والثبات على الحق، فهذا موقف سميَّة بنت خياط، وهي أمة لأبي حذيفة بن المغيرة، وهو موقف عظيم جدًّا، وهو مخلَّدٌ في التاريخ، وعند الله -عَزَّ وَجلَّ- لا يضيع، فهي في مقام صدقٍ عند الله -عَزَّ وَجلَّ.
وزوجها ياسر بن عامر العنسي، حالف أبا حذيفة، فقام أبو حذيفة زوَّجه سمية مولاته، فأنجبت عمَّار بن ياسر، ولم كانت أمُّه مولاة وأمَةٌ لحقه الرِّق؛ لكن أعتقه أبو حذيفة، فإذن عمَّار بن ياسر أمُّه سميَّة نت خياط، وكما ذُكر أن أبا جهل -عليه من الله ما يستحق- قتلها هذه القتلة الشَّنيعة التي خُلِّدت في التَّاريخ، ودلَّت على أنَّه مستحقٌّ لهذا اللقب الذي لُقِّبَ به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان الصديق رضي الله تعالى عنه إذا مر بأحد من الموالي يعذب يشتريه من مواليه ويعتقه)}.
ففضائل أبي بكر كثيرة، فانظر كيف أنه كان سببًا في هداية بعض السابقين، ثم كان سببًا في رفع العذاب والعقاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (منهم بلال، وأمه حمامة، وعامر بن فهيرة)}.
عامر بن فهيرة كان مملوكًا لطفيل الأسدي، وكان أسودًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقُتل في بئر معونة، لما وفد أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلى نجد، وقصَّتهم معروفة في السيرة، ولعلها تأتي -إن شاء الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأم عبس، وزهيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية لبني عدي، كان عمر يعذبها على الإسلام قبل أن يسلم، حتى قال له أبوه أبو قحافة: يا بني، أراك تعتق رقابًا ضعافًا فلو أعتقت قومًا جلدًا يمنعونك. فقال له أبو بكر: إني أريد ما أريد)}.
كان أبو قحافة والد أبي بكر يقول له: لو أنك تختار مَن كان فيه جلد وقوة حتى يكون لك منعة.
فقال له أبو بكر: إني أريد ما أريد، أي: أريد ما عند الله -عَزَّ وَجلَّ- فرضي الله عن أبي بكر.
{لعنا نقف يا فضيلة الشيخ عند هذا الموضع.
وفي ختام هذه الحلقة نشكر لكم أيها المشاهدون والمشاهدات الكريمات حسنَ إنصاتكم واستماعكم، ونلقاكم -بإذن الله- على خير في الحلقة القادمة في الأسبوع القادم بعون الله تعالى، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك