الدرس الثالث

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3123 12
الدرس الثالث

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أيُّها المشاهدون الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي"، نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
يُشاركنا ضيف البرنامج الدَّائم فضيلة الشيخ: الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فحياكم الله يا فضيلة الشيخ}.
حياك الله يا شيخ محمد، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{كنَّا قد وقفنا عند الهجرة إلى الحبشة، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل ـ فتنة المعذبين والهجرة إلى الحبشة
ولما اشتد أذى المشركين على من آمن وفتنوا منهم جماعة حتى إنهم كانوا يصبرونهم، ويلقونهم في الحر، ويضعون الصَّخرة العظيمة على صدر أحدهم في شدَّة الحرِّ، حتى إنَّ أحدهم إذا أُطلق لا يستطيع أن يجلس من شدَّة الألم فيقولون لأحدهم: اللات إلهك من دون الله. فيقول مُكرهًا: نعم! وحتى إن الجعل ليمر فيقولون: وهذا إلهك من دون الله. فيقول نعم!
ومر الخبيث عدو الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميَّة أم عمار وهي تعذب وزوجها وابنها، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها، رضي الله عنها وعن ابنها وزوجها.
وكان الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عنه إذا مر بأحد من الموالي يعذب يشتريه من مواليه ويعتقه، منهم بلال، وأمه حمامة، وعامر بن فُهَيْرَة، وأم عبس، وزنِّيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية لبني عدي، كان عمر يعذبها على الإسلام قبل أن يُسلم.
حتى قال له أبوه أبو قحافة: يا بني، أراك تعتق رقابًا ضعافًا فلو أعتقت قومًا جلدًا يمنعونك. فقال له أبو بكر: إني أريد ما أريد. فيقال إنه نزلت فيه ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، إلى آخر السورة.
فصلٌ: الهجرة إلى الحبشَة.
فلمَّا اشتدَّ البلاء أذن الله -سبحانه وتعالى- في الهجرة إلى أرض الحبشة وهي في غرب مكة، بين البلدين صحارى السودان، والبحر الآخذ من اليمن إلى القلزم، فكان أوَّل من خرج فارًا بدينه إلى الحبشة عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومعه زوجته رقية بنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتبعه الناس.
وقيل: بل أوَّل من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك.
ثم خرج جعفر بن أبي طالب وجماعات -رضي الله عنهم وأرضاهم- وكانوا قريبًا من ثمانين رجلً)
}.
لا شكَّ أنَّ أذى المشركين تعاظم، ولهذا كان من مصلحة الدَّعوة أن أشار النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أصحابه بالهجرةِ إلى الحبشة، باعتبارها دارًا آمنة، وحاكمها ومَلِكُها رجلٌ اشتُهِرَ بالعدلِ وبأنَّه عطوفٌ على رعيَّته، فهذا من مقاصد الدَّعوة المهمَّة، ومن الدُّروس الدَّعويَّة.
فهؤلاء عندهم طبيعة العداوة للحق؛ لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: 31]، ولهذا فأوَّل ما نزل الوحي بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاء إلى ورقة، قال ورقة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ". فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَو َمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!»، فقال له ورقة: "نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِي" ، وبهذا نعلم أنَّ من السُّنن الكونيَّة أن الأنبياء تحصل لهم العداوة والأذى، وفي هذا تسليةٌ للدُّعاة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأن الصبر من مقامات الدَّعوة العظيمة، وأنَّ الأذى لمن يدعو إلى الحق سنَّةٌ جاريةٌ مضت بها السُّنن الكونيَّة التي أرادها الله -سبحانه وتعالى- لأجل ظهور هذا الحق الذي أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُظهره ولو كره الكافرون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد ذكر محمد بن إسحاق في جملة من هاجر إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس)}.
هنا يُعلِّق ابن كثير على رواية فيها نكارة، وسيًبيِّن ذلك، وهذا من استطراد المؤلف لمسيس الحاجة لهذا الموضوع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وما أدري ما حمله على هذا؟ فإن هذا أمر ظاهر لا يخفى على من دونه في هذا الشأن، وقد أنكر ذلك عليه الواقدي وغيره من أهل المغازي، وقالوا: إنَّ أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة إلى عند جعفر، كما جاء ذلك مصرحًا به في الصَّحيح من روايته -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النَّجاشي فآواهم وأكرمهم، فكانوا عنده آمنين)}.
أصْحَمة: هو ملك الحبشة، وهو لقبٌ لهذا الملك؛ لأنَّ الأحباش يسمُّون مُلوكهم بهذه اللفظة، كما أنَّ الفُرس يسمُّونَ مَن سادَ عليهم بـ "كسرى" والرُّوم بـ "هرقل"، وهكذا.
أمَّا اسمه الذي اشتهر في كتب السيرة هو: عطيَّة بن أبجر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما علمت قريش بذلك بعثت في إثرهم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا وتحف من بلادهم إلى النَّجاشي، ليردهم عليهم)}.
هم لم يكفهم أنَّهم عَادوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّهم وقفوا في طريقه؛ بل لَمَّا علموا أنَّ بعض المسلمين هاجروا أرادوا أن يؤلِّبوا النَّجاشي عليهم، فأرسلوا هؤلاء السُّفراء إلى النَّجاشي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فأبى ذلك عليهم وتشفعوا إليه بالقواد من جنده، فلم يجبهم إلى ما طلبو)}.
وهذا يدلُّك على أنَّ أهل الشَّوكة في ذلك الزَّمان عند النَّجاشي هم أهل الجيش وأهل السِّلاح، ولهم قوَّات، وسيأتي -إن شاء الله- في بعض الروايات أنَّ هؤلاء كان لهم أثر وموقف من النَّجاشي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فوشوا إليه: إن هؤلاء يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، يقولون: إنه عبد، فأحضر المسلمون إلى مجلسه، وزعيمهم جعفر بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: ما يقول هؤلاء إنكم تقولون في عيسى؟! فتلا عليه جعفر سورة ﴿كهيعص﴾، فلما فرغَ أخذ النجاشي عودًا من الأرض فقال: ما زاد هذا على ما في التوراة ولا هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم غرم)}.
معنى (سيوم) أو (شيوم)، أي: آمنين.
وكما ترى أنَّ كفار قريش أرادوا أن يُبيِّنوا للنجاشي أنَّ مَن جاءكم ممَّن أسلم وآمنَ بمحمَّدٍ يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، أي: أنهم لا يقولون عن عيسى أنه ابن الله كما تقول النصرانيَّة.
والنصرانية في زمن النجاشي على القول بأن الله ثالث ثلاثة -كما هو مُشتهر- ولكن ممَّا ذُكر في الروايات أنهم بعد ما قالوا مقالتهم تلك أن النجاشي واجه تمرُّدًا من الجند -وفي بعض الروايات حصل قتال- وهذا هو المتوقَّع، وجاء في بعض الروايات أن النَّجاشي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- واجه هذا التَّمرُّد وأناط المسلمين برعايته، وفي بعض الروايات أنه جهَّزَ سفنًا قبل المعركة، وقال: إن علمتم بغلبتي فارجعوا، وإن غلبوا فاذهبوا إلى بلادكم، فإنَّهم لا مانع لكم منِّي.
وجاء في بعض الروايات أن المسلمين استطلعوا الخبر، ويبدو أن المعركة كانت في الضفة الأخرى من النيل، فصنع بعضهم قربة من الماء حتى يستطلع الخبر، حتى علموا أن النَّجاشي تغلَّب عليهم.
أردتُّ أن أُبيِّن هذا حتى لا يُشكل كيف تحقق لهم الأمن مع النجاشي مع أنهم يخالفون اعتقاد النصارى.
وفي القصَّة: فضيلة الصِّدق، فلما استدعوا جعفر بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويطلبون منه أن يقول؛ فما جامَل في دينه، وما اتَّخذَ المعاريض، وإنَّما بيَّن عقيدته، فالمسائل الاعتقاديَّة لا يُقبل فيها مثل هذه الأمور، وجاء في بعض الروايات أنَّه قال: "سأقول ما أعتقده ولا أُبالي".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال لعمرو وعبد الله: والله لو أعطيتموني دبرًا من ذهب يقول: جبلًا من ذهب ما سلمتهم إليكما، ثم أمر فرددت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين بشر حيبة وأسوئه)}.
فهذا هو الصِّدق مع الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجً﴾ [الطلاق: 2]، فجعل الله للمؤمنين مخرجًا وفرجًا، مع أنَّ هؤلاء أعملوا الحيل والمكيدة في أن يردَّهم، ولكن الله لم يُتم لهم هذا الأمر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل ـ مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب)}.
عندما ننظر في أحداث السِّيَر وتسلسلها؛ يدلك على أن قريشًا أعملت كل جهدها في الصَّدِّ عن سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإبطال دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتَّخذت كل الوسائل، بالإضافة إلى الأذى لمن أسلم من المستضعفين، كما جرى من القتل لسميَّة والتَّعذيب والتَّنكيل، والمحاصرة لمن ذهب لإرجاعه، فكل هذه محاولات لمحاصرة المسلمين، وهذه المحاولات باءت بالفشل، فلجؤوا إلى المقاطعة الاقتصاديَّة، لِحَمل بني هاشم على أن ينفضوا أيديهم من محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يسلموهم محمدًا ليفعلوا به ما يريدون، ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يمكِّنهم من ذلك.
ويظهر صبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أحداث هذه المقاطعة، وهذه المقاطعة مؤثِّرة جدَّا في أحداثها وفي آثارها، حتى أن بعض الروايات تقول: من نتيجة المقاطعة: وفاة خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وعم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فتعرف أن المقاطعة لها أثر في نقص الطعام، وسيسوق الآن ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قصَّة هذه المقاطعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم أسلم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجماعة كثيرون، وفشا الإسلام، فلما رأت قريش ذلك ساءها، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف: ألا يبايعونهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذه هي بنود المقاطعة: لا بيع ولا زواج ولا كلام ولا مجالسة، ولا شك أنَّها مقاطعة ماديَّة ومعنويَّة تحمل آثارًا نفسيَّة من أهلهم ومن أرحامهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، ويقال إن الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف، ويقال: بل النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فشلت يده)}.
وهذه من دلالات النبوَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وانحاز إلى شعب بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب -لعنه الله- وولده في شعب أبي طالب، محصورين مضيَّق عليهم جدًّا نحوًا من ثلاث سنين.
وهناك عمل أبو طالب قصيدته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا...)
}.
يعني استمرَّت المقاطعة نحوًا من ثلاث سنين، ولا شك أنها مُدَّة مؤثِّرَة في بنودها في بني هاشم وبني عبد المطَّلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم سعى في نقص تلك الصحيفة أقوام من قريش فكان القائم في أمر ذلك هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي)}.
وهذا أسلم عام الفتح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مشى في ذلك إلى مطعم بن عدي وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك، وأخبر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قومه أن الله قد أرسل على تلك الصحيفة الأرضة، فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فكان كذلك، ثم رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل الصلح برغم من أبي جهل عمرو بن هشام)}.
بعض كفَّار قريش لم يستسيغوا هذه المقاطعة؛ لأنَّ أثرها لا يُمكن أن يتحقق فيما يُريدون، وأنَّها من قطيعة الرَّحم، ولا شكَّ أنَّ العرب جُبِلُوا على كريم الأخلاق، وهذه المقاطعة ليست من الأخلاق في شيء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أن قريشًا أسلموا، فقدم مكة منهم جماعة، فوجدوا البلاء والشدة كما كان)}.
وسبب الخبر هذا: أن المقاطعة رُفعت عن المسلمين، ودخلوا مكَّة بعدَ أن كانوا محصورين في هذا الشِّعب، فنُقلَت الأخبار على غير وجهها، ولهذا قَدِمّ بعضُ مَن هاجر إلى مكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فاستمروا بمكة إلى أن هاجروا إلى المدينة، إلا السكران بن عمرو زوج سودة بنت زمعة، فإنه مات بعد مقدمه من الحبشة بمكة قبل الهجرة إلى المدينة)}.
السكران بن عمرو هو أخو سهيل بن عمرو الذي له قصَّة في الحديبية، وتوفي السكران في مكَّة بعد أن قدم إلى الحبشة، وقيل إنه توفي في الحبشة، ولعل الأوَّل هو الأرجح في الروايات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وإلا سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة)}.
سلمة بن هشام هو أخو أبي جهل، هاجر إلى الحبشة، ثم عادَ وعُذِّبَ، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو له في القنوت لَمَّا كان في المدينة، فكان يقول: «اللَّهمَّ أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ وسلَمةَ بنَ هشامٍ وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ» .
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فإنهما احتبسا مستضعفين، وإلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه حبس)}.
عيَّاش بن ربيعة وهو أخو أبي جهل لأمه، وقتل شهيدًا في اليرموك.
وعبد الله بن مخرمة هاجر إلى الجبشة، ثم إلى المدينة، ثم استشهد في معركة اليمامة؛ فكل هؤلاء كان لهم مواقف عظيمة، وكانوا ممَّن أسلم في مكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما كان يوم بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين.
فصل ـ خروج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الطائف)
}.
منطقة الطائف في تضاريسها وبيئتها مخالفة لما حولها من البقاع، حتى قيل في بعض الروايات: إنها جزء من الشام، باعتبار طبيعتها، وربما مع الحضارة والمدنيَّة تغيَّرَت، فكان له جو مخالف عن الأجواء الأخرى، وكانت مميَّزَة، وكان سكَّان الطَّائف قديمًا هم قبيلة ثقيف، من قبائل قيس عيلان العدنانيَّة، ولهذا فإنَّ خروج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الطائف كان لتبليغ الدعوة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما نقضت الصحيفة وافق موت خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وموت أبي طالب، وكان بينهما ثلاثة أيام)}.
وذكر بعض الباحثين أنَّ من آثار المقاطعة: موت خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فآثار المقاطعة الحسيَّة لا نستشعرها، فلا شك أنهم أصابهم الجوع، وذكرت بعض الروايات: أن بعضهم كان يُدخل الطعام إليهم خلسةً في ظلمة الليل؛ لأن الهدف من المقاطعة هو القضاء على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى دعوته، وإرغام بني هاشم وبني عبد المطلب على ذلك، ولكن الله لم يتم لهم الأمر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فاشتد البلاء على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من سفهاء قومه، وأقدموا عليه)}.
يعني اجترؤوا على ما لم يجترؤوا عليه قبل ذلك، وذلك لموت أبي طالب، فلا شكَّ أن أبا طالب كان يحوطه ويمنعه، فلما مات توصَّلوا إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في وجود سيد بني هاشم وسيد بني عبد المطلب -أبو طالب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فخرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الطائف لكي يؤووه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم)}.
الآن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبحث عن مكان آخر، فهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوجدَ بيئة أخرى للصحابة بالهجرة إلى الحبشة، والآن يبحث عن المنعة والنُّصرَة، وكان هذا هو ديدن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ وجود البيئة المناسبة للدَّاعية ووجود مَن يمنع الداعية من الأذى ويسهل له الأمور؛ لا شكَّ أنَّه من أسباب التوفيق وأسباب ظهور هذه الدعوة، وكان ذهابه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الطائف في هذا الصَّددِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ودعاهم إلى الله عز وجل، فلم يجيبوه إلى شيء من الذي طلب، وآذوه أذى عظيمًا، لم ينل قومه منه أكثر مما نالوا منه، فرجع عنهم، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف)}.
ذكر أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما ذهب إليهم لم يمنعوه، وإنَّما رموه بالحجارة وأدموا عقبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المشهور وإن كان فيه ضعف، لكن له شواهد، وهو دعاء عظيم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي. أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى»، فهذا الدعاء فيه معانٍ عظيم، ولكن في سنده ابن إسحاق، وهو مشهورٌ بالتَّدليس، والحديث له شواهد.
وكذلك في قصة ذهاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الطائف، قصَّة عدَّاس مولى شيبة وعتبة ابنا ربيعة، وأنهما رحما النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن هذه القصة غير صحيحة، فهي مرسلة وليس لها إسناد ثابت، وهذا من باب أن يُذكر الشيء فيُبيَّن، ولهذا أعرض عن هذه القصة ابن كثير هنا وما ذكرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وجعل يدعو إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- فأسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، ودعا له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يجعل الله له آية)}.
المطعم بن عدي شخصيَّة مُهمَّة، لَمَّا جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الطائف حاول المشركون منعه من دخول مكَّة، فدخل في جوار المطعم بن عدي، والجوار محتَرمٌ عند القبائل العربية -وهو معروف- والمطعم يجتمع مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عبد مناف، ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يُرد له الإسلام، مع ما جبله الله -عَزَّ وَجَلَّ- من هذه الأخلاق، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أسرى بدر: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»، مما يدل على أنه مات قبل بدر، وهذا يدل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحفظ الحقوق ويؤديها إلى أصحابها، ولا ينسى إحسان مَن أحسن إليه، وهذه من الأخلاق الفاضلة التي جُبل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فجعل الله في وجهه نورًا، فقال: يا رسول الله أخشى أن يقولوا هذا مُثله، فدعا له، فصار النور في سوطه، فهو المعروف بذي النور.
ودعا الطفيل قومه إلى الله فأسلم بعضهم، وأقام في بلاده، فلما فتح الله على رسوله خيبر قدم بهم في نحو من ثمانين بيتً)
}.
قبيلة دوس، ومنهم الصحابي الجليل أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: الإسراء والمعراج وعرض النبي نفسه على القبائل
وأسري برسول الله صلى الله عليه وسلم يجسده على الصحيح من قولي الصحابة والعلماء)
}.
الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد على الصحيح من أقوال أهل العلم، والأقوال مُتعدِّدة، والصَّحيح من مجموع الروايات أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسري بروحه وجسده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (من المسجد الحرام إلى بيت المقدس)}.
تعيين الإسراء لا شكَّ أنه كان في الحرم، ولكن مكان الإسراء هل هو بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أنَّه نفس المسجد؟
في بعض الروايات أنه في الحطيم وفي الحجر، وفي رواية البخاري أنَّه فُرِّج سقف بيته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروايات في هذا متعدِّدة.
ويُفرَّق بين الإسراء والمعراج:
الإسراء: هو ذهاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكَّة إلى بيت المقدس ليلًا.
والمعراج: هو صعوده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى السَّماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (راكبًا البراق)}.
البُراق: هي دابَّة الإسراء، وجاء في الروايات أنَّها دون البغل وفوق الحمار، وأنَّ لونها أبيض.
وهناك حادثة مُهمَّة جدًّا حدثت قبل الإسراء، وهي وقعت للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صغره، وهي شق صدر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في صحبه جبر يل عليه السلام)}.
تُلاحظ هنا أن قصَّة الإسراء والمعراج وقعت في وقت أزمة، فكانت هذه الحادثة تسلية للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتطمينًا له، فماتت خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ومات أبو طالب، وذهب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الطَّائف وآذوه، ورجع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يجد منهم شيء، ولما جاء يدخل مكَّة مُنِع؛ وهذه أحداث لا شك أنَّها مُؤلمة، فبفضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أكرم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأكرمَ أمَّته بعدَ ذلك بهذا الحدث الذي يدل على مكانة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند ربه -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فنزل ثم، وأم بالأنبياء ببيت المقدس فصلى بهم.
ثم عرج به تلك الليلة من هناك إلى السماء الدنيا، ثم للتي تليها، ثم الثالثة، ثم إلى التي تليها، ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة، ورأى الأنبياء في السموات على منازلهم، ثم عُرج به إلى سدرة المنتهى، ورأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها، وفرض الله عليه الصلوات تلك الليلة)
}.
بعدَ هذه القصَّة أخبرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولُقِّب أبو بكر بعد هذه الحادثة بـ "الصِّديق"، فإنَّ المشركين ذهبوا إليه وقالوا: ألم تسمع إلى ما قال صاحبك؟ فقال: "إن كان قد قال ذلك فقد صدق، أصدِّقه في خبر السَّماء ولا أصدقه مما قال!"، فمن ذاك الوقت لُقِّب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بـ "الصِّديق".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واختلف العلماء: هل رأى ربه عز وجل أولا؟ على قولين:
فصح عن ابن عباس أنه قال: رأى ربه وجاء في رواية عنه: رآه بفؤاده.
وفي الصحيحين عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنها أنكرت ذلك على قائله، وقالت هي وابن مسعود: إنما رأى جبريل.
وروى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر أنه قال: سألت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل رأيت ربك؟ قال: «نور، أنى أراه» وفي رواية «رأيت نورً». فهذا الحديث كاف في هذه المسألة)
}.
ابن كثير يُرجِّحُ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرَ ربَّه، وهذا ما تدل عليه الأدلة والأحاديث المًعلَّلة التي بيَّنت أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرَ ربَّه، إنَّما رأى جبريل، وما ذُكِرَ من الرؤية إمَّا أن تُفسَّر بأنَّها الرؤية القلبيَّة، أو ما جاء في الروايات مُصرَّح بأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى نورًا، والنُّصوص تدل على أن رؤية الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا تكون إلَّا في الآخرة، وهذا في حق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي حق غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولما أصبح رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قومه أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستجراؤهم عليه.
وجعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعرض نفسه على القبائل أيام الموسم ويقول: «أَلَا رَجلٌ يَحمِلُني إِلَى قَومِهِ لأبلِّغ كلامَ ربِّي؟»)
}.
اُنظر إلى سياق الأحداث؛ تجد أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبحث عن المنَعَة، فحينما ذهب للطائف كان يبحث عن المنعَة، والآن بعدما جاء إلى مكَّة صار يُعلن ذلك شِعارًا -كما ذكر ابن كثير- لأنَّ المنعة مؤثِّرة جدًّا، ووجود البيئة والمناع الذي يمنعه من الأذى مؤثر، لأنَّ الأذى يُؤثِّر في نفس النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي أتباعه، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغشى هذه المجامع والمواسم، وأعظم موسم هو موسم الحج، ويليه موسم العمر، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمر على الأقوام ويعرض نفسه، وربيعة بن عباد يقول: "رأيتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذي المجاز يغشى المواسم ويغشى الأسواق"، سوق بني مجاز، وسوق مجنَّة، وسوق عكاظ، قال: "رأيته يتتبَّع الناس في منازلهم، يدعوهم إلى الله، ورأيت أبا لهب خلف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: لا يغرنَّكم هذا عن دينكم وين آبائكم، وأنا عمه"، وهذا حتى يُصدَّق مقاله في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومع ذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صبرَ وصابرَ حتَّى أقرَّ الله عينه بظهور هذا الدين الذي بعثه الله به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي». هذا وعمه أبو لهب ـ لعنه الله ـ وراءه يقول الناس: لا تسمعوا منه فإنه كذاب.
فكان أحياء العرب يتحامونه لما يسمعون من قريش فيه: إنه كذاب، إنه ساحر، إنه كاهن، إنه شاعر)
}.
هذه كلها ألقاب الهدف منها التَّنفير، ولهذا اختلفوا في مسمَّى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمرَّة يقولون: كاذب، ومرة يقولون: ساحر، ومرة يقولون: كاهن؛ وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن ما يُكذبهم، وما ينفي عنه الشِّعر، وما ينفي عنه الكهانة؛ وكل من كان له بصيرة يعلم أن هذه الأقوال وهذه الادعاءات إنَّما هي للصَّدِّ عن سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكما ذكرنا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يغشى الناس في أنديتهم وفي أسواقهم، ويبلغهم دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويبلغهم ما أمرهم الله به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أكاذيب يقذفونه بها من تلقاء أنفسهم، فيصغي إليهم من لا تمييز له من الأحياء)}.
الدِّعاية المضلِّلَة ترد الناس، فعامَّة النَّاس غوغاء ودهماء لا يُميِّزون، وتُؤثِّر فيهم الدعاية، ولهذا فإن أهل الباطل يُروِّجون الدِّعايات المضلِّلة حتى يصدُّوا عن سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنَّ أغلب الناس يغترُّون بهذا، فواجب العاقل ومَن له مُسكَةُ عقلٍ وفهمٍ أن يستبصر وأن لا تهوله تلكَ الألقاب حتى يعرف ما تحتها من المعاني، فيستبصر بمثل هذه الدعايات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما الألبَّاء فإنَّهم إذا سمعوا كلامه وتفهموه شهدوا بأن ما يقوله حق وأنهم مفترون عليه، فيسلمون)}.
والله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر أولي الألباب، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 39]، أي: أصحاب العقول، والله أعلم بالمحال التي تقبل الاهتداء فيهديها، والمحال التي لا تقبل الاهتداء فلا يهديها ولا يأخذ بيدها إلى الحق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: حديث سويد بن الصامت وإسلام إياس بن معاذ.
وكان مما صنع الله لأنصاره من الأوس والخزرج أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبيًا مبعوث في هذا الزمن، ويتوعدونهم به إذا حاربوهم، ويقولون: إنا سنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وكان الأنصار يحجون البيت، كما كانت العرب تحجه، وأما اليهود فلا.
فلما رأى الأنصار رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو الناس إلى الله تعالى، ورأوا أمارات الصدق عليه قالوا: والله هذا الذي توعدكم يهود به فلا يسبقنكم إليه)
}.
نزول الأوس والخزرج والقبائل الآزديَّة إلى المدينة كان من إرادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم، فإنَّ اليهود سكنوا المدينة، وكان عندهم بقيَّة من التوراة، ولا شك أن التوراة والإنجيل بشرتا بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان اليهود لأجل ما عندهم من التَّحريف يزعمون أن هذا النبي سيُبعَث وسيكون مهجره -مكان هجرته- هذه الأرض -يعني يثرب- لكنهم لأجل التَّحريف الذي عندهم يظنُّون أنَّه سيكون من اليهود، ولهذا كانوا عند الخصومة بينهم الأوس والخزرج يقولون: إذا بعث النبي نقتلكم؛ وكان هذا من أسباب قبول الأنصار لدعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ذكر ابن كثير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الأوس قد قدم مكة فدعاه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يُبعد ولم يجب، ثم انصرف إلى المدينة، فقتل في بعض حروبهم، وكان سويد هذا ابن خالة عبد المطلب)}.
سويد بن الصامت هذا أوسي، ويُلقَّب بـ "الكامل"، وعرض عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإسلام في موسم الحج، فقال: "لعل مكَ الذي معي"، يعني حكمة لقمان. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «معي خير من ذلك»، فيبدو أن سويدًا بسبب المصاحبة والقرب من اليهود عنده علم من الكتب المتقدمة -التوراة والإنجيل- وما يتبع ذلك، فقيل: إنَّه قُتل يوم بعاث، وهو يوم بين الأوس والخزرج قبل هجرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وانتصرت الأوس على الخزرج، وقيل: إنه مات على الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: إسلام إياس بن معاذ، وقصة أبي الحيسر.
ثم قدم مكة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل، يطلبون الحلف)
}.
حصلت خصومة عظيمة بين الأوس والخزرج حتى ألَّف الله بينهم ببعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان الأوس يبحثون عن حلف لقتال الخزرج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فدعاهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الإسلام، فقال إياس بن معاذ منهم -وكان شابًا حدثًا: يا قوم، هذا والله خير مما جئنا له، فضربه أبو الحيسر وانتهره، فسكت، ثم لم يتم لهم الحلف، فانصرفوا إلى بلادهم إلى المدينة، فيقال إن إياس بن معاذ مات مسلمً)}.
ويُقال إنَّه قُتِلَ في يوم بُعاث.
وهذا كله توطئة لبيعة العقبة الأولى، فهم عندهم خبر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيظهر، وأنَّ ظهور هذا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونُصرتَه سيكون لكم به التَّمكين، وهذا علموه من اليهود.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل:ـ بيعة العقبة الأولى والثانية.
ثم إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقي عند العقبة في الموسم نفرًا من الأنصار، كلهم من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس، وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب، فدعاهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الإسلام، فأسلموا مبادرة إلى الخير، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلام فيها، حتى لم تبق دار إلا وقد دخلها الإسلام.
فلما كان العام المقبل، جاء منهم اثنا عشر رجلًا: الستة الأوائل خلا جابر بن عبد الله بن رئاب، ومعهم: معاذ بن الحارث بن رفاعة، أخو عوف المتقدم، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة ـ وقد أقام ذكوان هذا بمكة حتى هاجر إلى المدينة. فيقال: إنه مهاجري أنصاري ـ وعبادة بن صامت بن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، فهؤلاء عشرة من الخزرج.
واثنان من الأوس وهما: أبو الهيثم مالك بن التيهان، وعويم بن ساعدة)
}.
ذكر ابن كثير بيعة العقبة الأولى، وكان عدد الذين بايعوا اثنا عشر رجلًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فبايعوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كبيعة النساء، ولم يكن أمر بالقتال بعد)}.
بيعة النساء الواردة في سورة الممتحنة، وما كان هناك قتال.
وحتى نعرف السياق التاريخي، نقول:
أولًا: كانت توطئة وما كان فيه بيعة عند العقبة.
ثانيًا: البيعة الأولى، وكان العدد اثنا عشر رجلًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما انصرفوا إلى المدينة، بعث معهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن أم مكتوم، ومصعب بن عمير، يعلمان من أسلم منهم القرآن، ويدعوان إلى الله عز وجل، فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة، وكان مصعب بن عمير يؤمهم وقد جمع بهم يومًا بالأربعين نفسًا، فأسلم على يديهما بشر كثير)}.
يعني فشا الإسلام في أهل المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (منهم: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل، الرجال والنساء، إلا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم يومئذ، وقاتل فقُتل قبل أن يسجد لله سجدة. فأخبر عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «عمل قليلًا وأجر كثيرً»)}.
الله أكبر! وهذا يدلُّك على أن الأعمال بالخواتيم، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد يريد للإنسان الهداية في آخر عمره، وهذا شاهد، فلا ييأس الداعية ولا ييأس المصلح، لأن الهداية قد ترد على القلب في آخر أوقات الحياة، وهذا وقع في مواقف كثيرة في أحداث السيرة.
{هل يُسلب أناسٌ الهداية في آخر حياتهم؟}.
الإنسان يخشى من سوء الختام، ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل 5 - 10]، فهذه قاعدة، والأصل أنَّ الإنسان إذا حقق أسباب الاهتداء أنَّ الله يهديه، ولكن الإنسان يخشى على قلبه، ويخشى أن يكون هناك شيءٌ في قلبه، إمَّا من الشَّك، وإمَّا من عدم اليقين، أو من أمراض القلوب؛ فتغلب عليه في الساعات الأخيرة من حياته، فتكون سببًا لضلاله، وسنَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ- جارية أنَّه حكَمٌ عدلٌ، وأنه -عَزَّ وَجَلَّ- يُثيب ويُسِّر مَن أخذ بأسباب الاهتداء، ومع ذلك يكون الإنسان خائفًا ممَّا في قلبه من الدَّغل ومن أمراض القلوب ومن الشَّك الذي يعرض إليه أن يغلبه في آخر حياته، فهذه هي مسألة سوء الختام وخوف الإنسان منها، وإلَّا فإنَّ الأعم الأغلب من النصوص تدل على أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يهدي من أَخذَ بالاهتداء، ومَن أخذَ بطريق الحق فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ييسره لهذا الحق ويثبِّته عليه، ودائمًا يسأل الإنسانُ ربَّه الثَّبات، ثم إنَّ القلب يتغيَّر، فإنَّ من طبيعة القلب التَّغيُّر في التَّصوُّرات، وهذا مما يخشى أهل الإيمان على أنفسهم من هذا، وجاء في دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»؛ لأن القلب يتقلَّب، وجاء من حديث أبي هريرة في حديث سنن ابن ماجه: «مَثلُ القلبِ مَثلُ الرِّيشةِ، تُقلِّبُها الرِّياحُ بِفَلاةٍ» ، وإنما سُمِّيَ قلبًا لتقلُّبه، يعني: يتغيَّر في التَّصوُّرات، نسأل الله لنا ولكم وللمشاهدين والمشاهدات حسن الختام.
{قال-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: بيعة العقبة الثانية.
وكثر الإسلام بالمدينة وظهر، ثم رجع مصعب إلى مكة، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فلما كانت ليلة العقبة ـ الثلث الأول منه)
}.
الكلام الآن عن بيعة العقبة الثانية، وهي المفصل التَّاريخي، فبيعة العقبة الأولى مهَّدت لانتشار الإسلام، والآن سيظهر لك من خلال كلام ابن كثير كيف أن هذه البيعة تمَّت، وبنود هذه البيعة وأثرها، وفضل مَن شاركَ فيها.
وقوله: (الثُّلُث الأول)، يعني من الليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (تسلل إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان)}.
هذه البيعة كانت في مِنَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فبايعوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خفية من قومهم ومن كفار مكة، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم، وكان أول من بايعه ليلتَئذٍ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكد العقد وبادر إليه)}.
هذه البيعة حدثت -كما ذكرنا- بعد انتشار الإسلام، وهذه البيعة غيَّرت مسار التَّاريخ، وهي من أهم الأحداث، كما سيذكر ابن كثير عدد من بايع، وكانت صورة البيعة: حماية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن معه، ولهذا قال: (يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم)، فهذه منَعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا جاء إلى المدينة فلن يصل إليه شيءٌ من الأذى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وحضر العباس عم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موثقًا مؤكدًا للبيعة مع أنه كان بعد على دين قومه)}.
وكان حضور العباس لهذه البيعة ليؤكِّد ويستوثق، حوجاء في بعض الروايات أنه قال: "هذه وجوه لا أعرفها"، ممَّا يدل على غلبة الشباب فيمَن حضر هذه البيعة.
وجاء في بعض الروايات أن شعار هذه البيعة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «بل الدَّمَ الدَّم، والهَدْمَ الهَدْم، إنَّا منكم وأنتُم منِّي، أُحارِبُ مَن حاربتُم، وأُسالم من سالمتُم».
وفي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن شئتَ لنميلنَّ على أهل منى"، ما يدل على أن بيعة العقبة كانت في مِنَى، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ نُؤْمَرَ بِذَلِكَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واختار رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهم تلك الليلة اثني عشر نقيبًا وهم: أسعد بن زرارة بن عدس وسعد بن ربيع بن عمرو، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وهو والد جابر، وكان قد أسلم تلك الليلة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وسعد بن عبادة بن دليم، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وعبادة بن الصامت. فهؤلاء تسعة من الخزرج.
ومن الأوس ثلاثة وهم: أسيد بن الحضير بن سماك، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر بن زبير، وقيل: بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه، ثم الناس بعدهم.
والمرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو -التي قتل مسيلمةُ ابنَها حبيب بن زيد بن عاصم بن كعب- وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي)
}.
فكانت البيعة: ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان، وكانت البيعة خفية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يميلوا على أهل العقبة فلم يأذن لهم في ذلك، بل أذن للمسلمين بعدها من أهل مكة في الهجرة إلى المدينة، فبادر الناس إلى ذلك، فكان أول من خرج إلى المدينة من أهل مكة أبو سلمة بن عبد الأسد، هو وامرأته أم سلمة فاحتبست دونه)}.
أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد مخزومي، أصيبَ في أُحد، ومات على أثر الجراحة التي أصابته، وهو ابن عمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأمه برَّة بنت عبد المطلب.
فالآن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد المكان المناسب وهو المدينة، ففشا الإسلام فيهم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأذن بالهجرة حتى فشا الإسلام، ثم بعد ذلك بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، والتي كانت تنفيذًا عمليًّا للمنَعة، ولا شكَّ أنَّ عدد مَن بايع له منعَة عظيمة جدًّا، فأذن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمسلمين المستضعفين بالهجرة إلى المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومنعت سنة من اللحاق به، وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة)}.
هنا يذكر ابن كثير موقفًا مؤثرًا جدًا في قصة أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وخروجها إلى المدينة.
{قال: (وشيعها عثمان بن طلحة، ويقال: إن أبا سلمة هاجر قبل العقبة الأخيرة، فالله أعلم. ثم خرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضً)}.
قصَّة هجرة أم سلمة قصَّة عظيمة جدًّا، نكملها في الحلقة القادمة -إن شاء الله.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون الكرام على حسن متابعتكم، ونتوجَّه بالشكر إلى فضيلة الشيخ فهد بن سعد المقرن، على حضوره وإثرائه، جزاه الله خير الجزاء، ونلقاكم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك