الدرس الرابع
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن
إحصائية السلسلة
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أيُّها المشاهدون الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ضيفنا في هذه الحلقة وهذه السلسلة فضيلة الشَّيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- أُرحبُ بفضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله أخي محمد، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصَّالح.
{وقفنا فضيلة الشيخ عند قصَّة أمِّ سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا}.
أمُّ سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في الهجرة كان لها موقف مُؤثر جدًّا؛ لأنَّها أرادت أن تخرج مع زوجها، ومنعتها عشيرتها من بني المغيرة، وتخاصم بنو عبد الأسد وبنو المغيرة على الصبي، فأخذوا الصبي، وتفرَّقت عن زوجها وعن ولدها، وبقيت سنةً كاملة وهي تخرج للأبطح وتبكي، حتى رأف لحالها بعض قومها، فسمحوا لها بالذهاب إلى المدينة للحاق بزوجها، وأعطوها مولودها الصبي الصغير، وذهبت مع عثمان بن مظعون إلى المدينة، في قصةٍ ربما يطول سردها وذكر ما فيها من الأحداث، ولكنه موقف مؤثر لصبر أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وابتلاؤها، فابتُليَت كثيرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْها- حتى أكرمها الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعد ذلك بهذا الدين العظيم، والتي كانت هي من معالم نشر الدين، وتبليغ سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: هجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما أقاما بأمره لهما، وخلا من اعتقله المشركون كرهً)}.
الآن تتابع المسلمون للذهاب، ولم يبقَ إلَّا مَن استثناهم المؤلف وذكرهم، وهم: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعلي بن أبي طالب، ومَن حُبس من أهل الإيمان والمستضعفين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد أعد أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جهازه وجهاز رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منتظرًا حتى يأذن الله -عز وجل- لرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخروج.
فلما كانت ليلة هم المشركون بالفتك برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأرصدوا على الباب أقوامًا، إذا خرج عليهم قتلوه، فلما خرج عليهم لم يرَه منهم أحد)}.
والحديث مرسَل من حديث محمد بن كعب، وله إسنادٌ متَّصل، وإنَّما يُذكر على سبيل الذكر، ولكن التَّحقيق ما ثبت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد جاء في حديث أنه ذر على رأس كل واحد من هم ترابًا ثم خلص إلى بيت أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلًا، وقد استأجرا عبد الله بن أريقط، وكان هاديًا خريتًا، ماهرًا بالدلالة إلى أرض المدينة، وأمناه على ذلك مع أنه كان على دين قومه، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث)}.
غار ثور جنوب مكَّة، فالذاهب إلى المدينة لابدَّ أن يقصد الشمال ولا يقصد الجنوب، وهذا من حُسن تدبير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما قصدَ هذا الجبل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلمَّا حصلا في الغار عمى الله على قريش خبرهما، فلم يدروا أين ذهبا. وكان عامر بن فهيرة، يريح عليهما غنمًا لأبي بكر)}.
ذكرنا أن عامر بن فهيرة كان مولى وأعتقه أبو بكر، فكان من المستضعفين المعذَّبين، وكان غلامًا أسودًا، فلما أعتقه أبو بكر كان الولاء له، وكان في خدمة أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد إلى الغار، وكان عبد الله بن أبي بكر يتسمع ما يقال بمكة ثم يذهب إليهما بذلك فيحترزان منه.
وجاء المشركون في طلبهما إلى ثور، وما هناك من الأماكن، حتى إنهم مرُّوا على باب الغار، وحازت أقدامهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبه، وعمى الله عليهم باب الغار، ويقال -والله أعلم- إن العنكبوت سدت على باب الغار، وإن حمامتين عششتا على بابه)}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (والله أعلم)، لأن رواية نسج العنكبوت وردت في مسند الإمام أحمد، وحسنها ابن حجر، ومن المعاصرين مَن يُضعِّف هذه الرواية، أمَّا قصَّة الحمامتين التي ذكرها فهذه طرقها كلها منكرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذلك تأويل قوله تعالى ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40])}.
فلا شك أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلَّد هذا الحدث بهذه الآيات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وذلك أن أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لشدَّة حرصه بكَى حين مرَّ المشركون، وقال: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر موضع قدميه لرآنا"، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟».
ولما كان بعد الثَّلاث أتى ابن أريقط بالراحلتين فركباهم)}.
عبد الله بن أريقط الديلي -من بني الدِّيل- ولم يكن مُسلمًا -كما ذكر ابن كثير- وكان مستأجرًا، وقيل إنَّه أسلم بعد ذلك، وعدَّه الذَّهبي في الصحابة، وكان متميزًا بمعرفة الطُّرق، وهذه موهبة يعطيها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لمن شاء، ولهذا استأجره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأردفَ أبو بكر عامر بن فهيرة وسار الديلي أمامهما على راحلته)}.
بعدما تسلَّلَ المسلمون من مكَّة خلسةً وذهبوا إلى المدينة لاحظت كفار قريش أن ذهاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطر عليهم، فأرادوا أن يمنعوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الخروج، ولهذا خرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على وجه الخفية والاختباء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وجعلت قريش لمن جاء بواحد من محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مائةً من الإبل)}.
جائزة عظيمة، ويتَّضح من الأحداث أنَّهم وصلوا إلى أنَّهم يمنعوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحبسونه كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: 30]، فالإثبات هو: الحبس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما مروا بحي مدلج)}.
وهي قبيلة مُدلج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بصر بهم سراقة بن مالك بن جعشم، سيد مدلج)}.
قبيلة مُدلج من قبائل الكنانيَّة، وكانت بجوار مكَّة، تسكن في أودية مكة وما قاربها، وكان سراقة قائف -وهو الذي يقص الأثر- وهذه موهبة لهذا الحي من العرب، فبنو مُدلج اشتهروا بهذا، ومن اشتهر منهم مُجزَّز المُدلجي الذي لَمَّا رأي أسامة بن زيد وأباه زيد بن حارثة نائمين، وكان أسامة أسودًا وكان زيد أبيضًا، فلما رأى أقدامهما قال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"؛ فَسُرَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأجل ذلك، ممَّا يدل على أن هذه القبيلة اشتُهرَت بالقيافةِ وقصِّ الأثرِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يكثر الالتفات حذرًا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
لاحظ موقف أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحرصه على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتسجيل الحَدَث، فقوله: (يُكثر الالتفات)، حرصًا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولهذا فإنَّ أبا بكر منَّته على الإسلام منَّة عظيمة، والمواقف في السيرة كثيرة جدًّا، وهذا الموقف يدلُّك على عظيم فضل أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهو صلى الله عليه وسلم لا يلتفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقن)}.
يعني وصل إلى قربهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فدعا عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فساخت يدا فرسه في الأرض فقال: رميت، إن الذي أصابني بدعائكما، فادعوا الله لي)}.
وجاء في بعض الروايات أنَّ الأرضَ كانت صلبة، ولكن الفرس ساخت ودخلت قدما الفرس في الأرض، فلم يتمكَّن من الحركة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولكما عليَّ أن أرد الناس عنكما، فدعا له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأطلق، وسأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكتب له كتابًا، فكتب له أبو بكر في أديم، ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما ههن)}.
يعني: أنا ما وجدت أحدًا في هذا الطريق.
وقصَّة سُراقة ووعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له بسواري كسرى وتاجه من مراسيل الحسن، ما ثبتت بإسناد، وإنَّما الرواية مرسلة، ولا شك أن مراسيل الحسن من المراسيل الضعيفة، والذي ثبت في البخاري هو ما ساقه المؤلف هنا، وتلاحظ أن ابن كثير أعرض عن ذكر القصَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد جاء مسلمًا عام حجة الوداع ودفع إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكتاب الذي كتبه له، فوفى له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما وعده وهو لذلك أهل.
ومر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقالَ عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبنًا كثيرًا في سنةٍ مجدبةٍ ما بهر العقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا من دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقصَّة أم معبدٍ أكثر طرقها ضعيفة، إلَّا ما ذكر المؤلف، وهو أصح ما ذكر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: دخول عليه الصلاة والسلام المدينة
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم، فكانوا كل يوم يخرجون إلى الحرة ينتظرونه)}.
المدينة مشهورة بالحِرار، وهي آثار براكين قديمة، فالحجارة السوداء تسمَّى الحرَّة، والمدينة فيها أكثر من حرَّة، فكان أهل المدينة قد بلغهم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جاوزَ وأنَّه قادمٌ إليهم، فخرجوا ينتظرونه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وافاهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين اشتد الضحى، وكان قد خرج الأنصار يومئذ)}.
والمقصود بالأنصار هنا: الأوس والخزرج، فتغيَّر المُسمَّى من "الأوس والخزرج" إلى أنهم أنصار رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلمَّا طال عليهم رجعوا إلى بيوتهم)}.
وهذا من شدَّة الحر، ويدل على أن الحدث كان في الصيف، وأن وصول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قد قارب الظَّهيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أول من بصر به رجل من اليهود)}.
يعني أوَّل من رآه رجل من اليهود.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان على سطح أطمه)}.
الأُطُم: هو الحصن المبني بالحجارة، والمدينة فيها آطام كثيرة، كان عددها يقارب تسعة وخمسين حصنًا، ولعل الأوس والخزرج صنعوا هذه الآطام بحكم مجاورتهم لليهود حينما قدموا إليهم، فمن طبيعة اليهود بناء الحصون، فكان هذا اليهودي على هذا الأطم فرأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون!)}.
قيلة: نسبة إلى جدَّةٍ لهم، وهو يعني الأوس والخزرج، فذكرنا أنَّهم كلهم من القبيلة الآزدية.
فقال: هذا جدُّكم؛ يعني حظُّكم وما تنتظرونه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فخرج الأنصار في سلاحهم وحيوه بتحية النبوة.
ونزل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأكثرهم لم يره بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم يظنه أبا بكر لكثرة شيبه)}.
فأبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان فيه شيب كثير، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن في شعره شيب، وورد أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توفي وليس في شعره إلَّا بضع عشر من الشيب، فكانوا يزنون أنَّ أبا بكر هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّهم ما رأوه قبل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما اشتد الحر قام أبو بكر بثوب يظلل على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذه من المواقف العظيمة لأبي بكر، ومن هنا علموا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو مَن ظُلِّلَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فتحقق الناس حينئذ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
ومن جهة الشَّكل الخارجي فإن أبا بكر نحيل وخفيف العرضين، وجاء إلى المدينة والشَّيبُ ظاهرٌ فيه، وجاء في بعض الروايات أن عدد من استقبل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأنصار خمسمائة.
يقول البراء: "ما رأيتهم فرحوا بشيءٍ كفرحهم بقدوم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ويُذكر في هذا الصَّدد روايات أن الأنصار استقبلوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقولهم:
طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا... مرحبا يا خير داع
إلى آخر القصيدة، وكانوا يرفعون بها أصواتهم، والصواب أنه لم ترد فيها رواية صحيحة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: استقراره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة.
فأقام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقباء أيامًا، وقيل: أربعة عشر يومً)}.
استقرار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قباء مدعاة للسؤال، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أول ما نزل نزلَ في قباء، ولم ينزل في المدينة، ولا شكَّ أنَّ ثَمَّة أسبابٍ، ولكن لم أقف على سبب، ولكن -والله أعلم- لعل نزول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقباء كالتَّهيئة لنزوله بالمدينة -أو يثرب-، فقباء غير يثرب، وإن كان ليس بينها وبين المدينة إلا شيء يسير، ولكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نزل بقباء، وربما نزول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة كان يحتاج حماية.
فقيل: إنه أقام ثلاثة أيام، وقيل: أربعة عشر يومًا، وقيل: إنه صلى الجمعة في قباء، وقيل: إنه صلى في الطريق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأسس مسجد قباء ثم ركب بأمر الله تعالى فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي رانونًا، ورغب إليه أهل تلك الدار أن ينزل عليهم فقال: «دعوها فإنها مأمورة»، فلم تزل ناقته سائرة به لا تمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم، فيقول: «دعوها فإنها مأمورة».
فلما جاءت موضع مسجده اليوم بركت، ولم ينزل عنها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى نهضت وسارت قليلًا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك في دار بني النجار، فحمل أبو أيوب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رحل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى منزله)}.
أبو أيوب الأنصاري هو: خالد بن زيد بن ثعلبة، الأنصاري من بني النجار، مات شهيدًا على أسوار القسطنطينيَّة سنة اثنتين وخمسين للهجرة.
وسيذكر المؤلف أن منزل أبي أيوب كان طبقين -دورين- فقال للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انزل في العلو ولا تنزل في السفل، فإنِّي أكره أن أكون فوقك. وهذا من توقير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واشترى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موضع المسجد، وكان مربدًا ليتيمين)}.
جاء في بعض الروايات أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقام في دار أبي أيوب سبعة أشهر.
والمربد: هو مكان لتجفيف التمر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبناه مسجدًا، فهو مسجده الآن، وبني لآل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجرًا إلى جانبه)}.
أوَّل بناء المسجد النبوي كان بجريد النخل، ثم باللَّبِن -وهو الطِّين-، وإنَّما كان باللَّبِن بعد الهجرة بأربع سنين.
ومما لم يذكره المؤلف في بداية نزوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة كان جو المدينة يختلف تمامًا، فجو المدينة فيه رطوبة بسبب الزراعة، وجو مكة كان جافًّا، وجو المدينة مناسب لمن سكنها، وأما المهاجرين فلم يناسبهم، ولهذا نزلت بأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحمى، فدعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ»، ولعل الجحفة كانت منازل المشركين، فدعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، فدل هذا على أن جو المدينة لم يناسبهم، ولكن لَمَّا ألفوها وأزال الله عنها الحمى صارت أحب البقاع إليهم، وأحب البقاع إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فأقام بمكة ريثما أدى عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الودائع التي كانت عنده وغير ذلك، ثم لحق برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
شيخنا الفاضل: ذكرتم في حلقة سابقة أن قصة خروج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بيته وتلاوته للآية وحفَّه التراب لم تثبت بسندٍ، فهل ثبت نوم علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومبيته في بيته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
بعض الروايات تذكر هذا، ولعل بعضها له طرق صحيح، ولكن تفاصيلها من مراسيل الحسن، وقال الإمام أحمد عن مراسيل الحسن: هي من أضعف المراسيل؛ فهي تُروَى في باب الأخبار، ولكن عند ترتُّب الأحكام الشرعية ينبغي أن يُنظَر إليها من جهة سندها ومن جهة متنها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: الموآخاة بين المهاجرين والأنصار
ووداع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بالمدينة من اليهود، وكتب بذلك كتابًا وأسلم حبرهم عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكفر عامتهم وكانوا ثلاث قبائل: بنو قيقناع، وبنو النصر، وبنو قريظة.
وآخى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثًا مقدمًا على القرابة)}.
مسألة المؤاخاة فيها مواقف عظيمة جدًّا ربما يطول ذكرها، والإيثار الذي فعله الأنصار مع المهاجرين -رضوان الله لعيهم جميعًا- وكان الإرث بينهم مقدمًا على القرابة، ولكن نُسِخَ بعد ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفرض الله -سبحانه وتعالى- إذ ذاك الزكاة رفقًا بفقراء المهاجرين، وكذا ذكر ابن حزم في هذا التاريخ، وقد قال بعض الحفاظ من علماء الحديث: إنه أعياه فرض الزكاة متى كان)}.
قوله: (إنه أعياه فرض الزكاة متى كان)، أي: صعُبَ عليه متى فُرضت، والمسألة يسيرة -إن شاء الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: فرض الجهاد
ولما استقر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة بين أظهر الأنصار وتكفلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر، رمتهم العرب قاطبة عن قوس واحدة، وتعرضوا لهم من كل جانب)}.
لا شكَّ أن ظهور النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة غيَّر القوى، ولهذا -كما ذكر المؤلف- ظهرت العداوة من العرب جميعًا.
قوله: (رمتهم العرب قاطبة عن قوس واحدة)، وهذا واضح وظاهر؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد الآن المنعَة من قبيلتين من قبائل العرب -الأوس والخزرج- فظهر الخطر عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان الله -سبحانه- قد أذن للمسلمين في الجهاد في سورة الحج وهي مكية)}.
فكان الجهاد محرَّمًا، ثم بعد ذلك أُذِنَ به، وكان الإذن بالجهاد إنَّما كان في المدينة، ولم يكن في مكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، ثم لما صاروا في المدينة وصارت لهم شوكة وعضد كتب الله عليهم الجهاد كما قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾)}.
هنا يظهر لنا حكم شرعي: وهو أن حكم الجهاد مرتبط بالقوَّة والقدرة، فلمَّا لم يكن للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدرة في قتالهم لم يُقاتلهم، والإعداد من أعظم الواجبات، لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، فإذا وجدَ المسلمون العدَّة والقوَّة فعند ذلك يُشرَع لهم القتال، وإلَّا فقد يكون الجهاد في حقهم متعذِّر، وأحكام الجهاد لها تفاصيل شرعيَّة يعرفها أهل العلم، فينبغي في مثل هذه الأمور الرجوع والصُّدور عن أهل العلم والمعرفة بمثل هذه الأمور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: أول المغازي والبعوث غزوة الأبواء
وكانت أول غزاة غزاها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزوة الأبواء، وكانت في صفر سنة اثنتين من الهجرة، خرج بنفسه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بلغ ودان)}.
ودَّان: موضع بين مكَّة والمدينة، يبعد سبعة وستين كيلو عن رابغ.
والأبواء: نسبة إلى الوادي الذي ينحدر إلى البحر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة مع سيدهم مخشي بن عمرو)}.
وادَعَ: يعني صالَحَ.
وقوله (مخشي بن عمرو)، وفي النُّسَخ الثلاث (مَجدي بن عمرو)، والصحيح من السيرة النبوية لابن هشام هو (مخشي بن عمرو).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم كر راجعًا إلى المدينة ولم يلق حربًا، وكان استخلف عليها سعد بن عبادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
بعث حمزة بن عبد المطلب.
ثم بعث عمه حمزة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في ثلاثين راكبًا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري إلى سيف البحر)}.
سيف البحر: يعني شاطئ البحر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فالتقى بأبي جهل بن هشام، وركب معه زهاء ثلاثمائة، فحال بينهم مجدي بن عمرو الجهني، لأنه كان موادعًا للفريقين)}.
موادع للفريقين، أي: بينه وبين قريش حلف، وبينه وبين المسلمين حلف.
وواضح من النُّسختين أن اسمه إمَّا (مخشي بن عمرو) أو (مجدي بن عمرو)، وهو نفس الشخصية، وهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق. وأمَّا مجدي بن عمرو الجهني فهذا مذكورٌ، وله صُحبةٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب.
وبعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في ربيع الآخر في ستين أو ثمانين راكبًا من المهاجرين أيضًا إلى ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقوا جمعًا عظيمًا من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل: بل كان عليهم مكرز بن حفص، فلم يكن بينهم قتال)}.
كل البعوث ما كان فيها قتال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلا أن سعد بن أبي وقاص رشق المشركين يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله)}.
وهذه فضيلة لسعد بن أبي وقاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكان أوَّل مَن رمى بسهمٍ في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفر يومئذ من الكفار إلى المسلمين المقداد بن عمرو الكندي، وعتبة بن غزوان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فكان هذان البعثان أول راية عقدها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن اختلف في أيهما كان أول، وقيل: إنهما كانا في السَّنة الأولى من الهجرة. وهو قول ابن جرير الطبري، والله تعالى أعلم.
غزوة بواط:
ثم غزا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزوة بواط)}.
بواط: تقع جهة جبال رضوى، وهي أقرب ما تكون إلى ينبع.
وبواط يُطلق على موضعين: شمال المدينة، وجنوبها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فخرج بنفسه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ربيع الآخر من السنة الثانية، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، فسار حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع ولم يلق حربًا
غزوة العشيرة:
ثم كانت بعدها غزوة العشيرة، ويقال بالسين المهملة، ويقال العشيراء)}.
العُشيْرة: قرية بأسفل ينبع النَّخل، واندرست، وسبب تشميتها بالعشيرة: من نبات العُشر، وتصغيره: عُشَر وعُشيْرة، وهو شجر ينبت في الحجاز قليل الفائدة ولا يُستظلُّ به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (خرج بنفسه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أثناء جماد الأولى حتى بلغها، وهي مكان ببطن ينبع وأقام هناك بقية الشهر وليالي من جمادى الآخرة، وصالح بني مدلج، ثم رجع ولم يلق كيدا، وقد كان استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: قلت لزيد بن أرقم: كم غزا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: "تسع عشرة غزوة أولها العسير أو العشير".
غزوة بدر الأولى:
ثم خرج بعدها بنحو من عشرة أيام إلى بدر الأولى، وذلك أن كرز بن جابر الفهري، أغار على سرح المدينة)}.
السَّرح: هو ما يُجعل من البهائم يسرح ويذهب إلى الكلأ وأكل العشب الذي في الصحراء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فطلبه فبلغ واديًا يقال له سفوان في ناحية بدر، ففاته كرز، فرجع)}.
وداي سفوان: قريب من بدر، والآن يُسمَّى "سفا".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد كان استخلف على المدينة زيد بن حارثة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
بعث سعد بن أبي وقاص:
وبعث سعد بن أبي وقاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في طلب كرز بن جابر فيما قيل -والله أعلم- وقيل: بل بعثه لغير ذلك)}.
وهذه يسمونها "بدر الأولى" باعتبار المكان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل: بعث عبد الله بن جحش.
ثم بعث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عبد الله جحش بن رئاب الأسدي وثمانية من المهاجرين)}.
عبد الله بن جحش هو ابن عمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمه أميمة بنت عبد المطلب، وهو أسدي وحليف لبني أميَّة.
من باب أن الشيء بالشيء يُذكر؛ فنذكر قصة تنصُّر عبيد الله بن جحش وهو أخو عبد الله، فقد ارتدَّ وتنصَّر، وهذه القصة غير ثابتة من جهة الإسناد، أمَّا من جهة المتن ففيها نكارة، فقيل: إن عبيد الله بن جحش تزوَّج أم حبيبة بنت أبي سفيان، ولو كان ارتدَّ وترك الإسلام لذكر هذا أبو سفيان في حواره مع هرقل؛ لأن هرقل سأل أبا سفيان، فقال: هل ارتدَّ أحد منه سخطًا عن دينه؟ فقال أبو سفيان: لا، ولم يذكر هذا، مع أنه زوج ابنته، والظاهر أنه مات في الحبشة على الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكتب له كتابًا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، ولا يكره أحدًا من أصحابه، ففعل)}.
لاحظ شخصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القائد، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مدرسة في القيادة، وهو مهيَّأٌ لذلك من جهة شخصيته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم إن الوحي يأتيه من السماء، فلاحظ أنه وضع له كتابًا وقال له: «لا تنظر فيه»، فانظر آثار ذلك في القائد وفي الرَّعيَّة.
وقوله: (وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين)، فمن الأهداف: التَّعمية على العدو، وهذه من سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها؛ لأنَّ العدو تصله الأخبار، وله عيون، ولهذا فإنَّ من المهم جدًّا في مسألة الحرب إخفاء المعلومات، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مدرسة في هذا، فمن ضمن الأساليب أنه كتب له الكتاب وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولما فتح الكتاب وجد فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، وترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم»)}.
الآن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة، وكفار قريش في مكَّة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل عبد الله بن جحش وأمره أن لا ينظر في الكتاب إلا بعد يومين، فواضح أن المكان متاح للعدو، فوادي نخلة -وهو أحد أودية مكة- يفصل بين مكة والطائف من جهة السيل الكبير، ولهما جريان -جنوبي وشمالي- وأهل مكة ومَن عنهم من الجنوب يسمون الجهات: شامٌ ويمن، فالشام هو الجهة الشماليَّة. ولا شك أن هذا الموضع قريب من قريش.
وبهذا انتقل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كونه مدافِعًا إلى المهاجمة وتهديد قريش في معقل إقامتها ومعقل دارها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فقال: سمعًا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرهم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم)}.
ظهر لك الآن الحكمة من كون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر أن لا يُكره أحدًا من أصحاب عبد الله بن جحش، وهذا لعظيم المهمَّة وسرِّيَّتها وخطرها، لأنها قريبة جدًّا من مكة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه)}.
يعني: أحدهما يركب والآخر ينزل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وتقدم عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة)}.
كان عددهم قليل، وذكر ابن كثير أنهم كانوا تسعة من المهاجرين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة)}.
القوافل تصل إلى مكة من طريق وادي نخلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام)}.
الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، ورجب، ويُقال: رجب الفرد، لأنَّه متوحِّد.
والجمهور على نسخ القتال في الأشهر الحرم، والأظهر بقاء الحكم وأن القتال لم يُنسَخ، كما رجَّح ذلك من المعاصرين الشيخ ابن باز وابن عثيمين -رحمهم الله.
والمعنى: أن الصحابة حصل عندهم إشكال في هذا، فهذه القافلة صيد ثمين جدًّا، وفيه أذى لقريش وتهديد لهم، فهل يهاجمونها وهم في آخر يوم من الشهر الحرام أو لا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وإن تر كناهم الليلة دخلوا الحرم)}.
فوادي النخلة قريب جدًّا من الحرم وهو قبيل الحرم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم اتفقوا على ملاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل.
ثم قدموا بالعير والأسيرين قد عزلوا من ذلك الخمس، فكانت أول غنيمة في الإسلام وأول خُمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام وأول أسير في الإسلام، إلا أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنكر عليهم ما فعلوه، وقد كانوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- مجتهدين فيما صنعو)}.
فهذا موضع اجتهاد، فهم لم يأتهم خبرٌ ولكن اجتهدوا في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك، وقالوا: محمد قد أحل الشهر الحرام)}.
سبحان الله! هم يفعلون ما يفعلون ويبغون ويقطعون الرحم، ثم يزعمون أنهم معظَّمين لأشهر الله الحرم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فأنزل الله عز وجل في ذلك: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾)}.
لا شك أن القتال في الأشهر الحرم محرَّم، فقال الله تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، يعني: الصد عن سبيل الله والكفر به كبير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يقول سبحانه: هذا الذي وقع وإن كان خطأ، لأن القتال في الشهر الحرام كبير عند الله، إلا أن ما أنتم عليه أيها المشركون من الصد عن سبيل الله والكفر به وبالمسجد الحرام، وإخراج محمد وأصحابه الذين هم أهل المسجد الحرام في الحقيقة أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.
ثم إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل الخمس من تلك الغنيمة، وأخذ الفداء من ذينك الأسيرين.
فصل ـ تحويل القبلة وفرض الصوم
وفي شعبان من هذه السنة حُوِّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك على رأس ستة عشر شهرًا من مقدمه المدينة، وقيل سبعة عشر شهرًا، وهما في الصَّحيحين)}.
فأول ما نزل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضعَ القبلة على جهة بيت المقدس، وصلَّى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومكث في المدينة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر -الروايات مختلفة- وهو يستقبل بيت المقدس، ثم بعد ذلك تحوَّل عنها إلى الكعبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أول من صلى إليها أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي: وذلك أنا سمعنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي: تعالَ نصلي ركعتين فنكون أول من صلَّى إليها، فتوارينا وصلَّينا إليها، ثم نزل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصلى بالنَّاس الظُّهر يومئذ.
وفرض صوم رمضان، وفرضت لأجله زكاة الفطر قبيله بيوم)}.
كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجبه أن تكون قبلته إلى المسجد الحرام، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
وأعظم حكمةٍ في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام: ما ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143].
{هل من توصيف لواقع المسلمين في هذا الوقت من حيث القوة والضعف، ليكون كالتَّمهيد لغزوة بدر}.
لا شكَّ أن دراسة السيرة النبويَّة وسيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستلهام الدروس والعبر منها مهم جدًّا، فكلما تقرأ في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تستفيد فوائد كثيرة، ومن ضمن هذه الفوائد: كيف تعامل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع المجتمعات المختلفة، كيف تعامل مع الثقافات المختلفة، ثقافة اليهود، ثقافة الأنصار -الأوس والخزرج- وهم من الآزد، وكيف أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعدَّ العُدَّة، وجعل أحكام الجهاد تابعة لقوَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يُجازف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما قال له أولئك الشباب في بيعة العقبة الثانية لما أخذتهم روح العاطفة: "نميل على أهل مِنَى؟"، فقال: «لم نُؤمَر بقتال»، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُراعي الأحوال، ويُراعي أمورًا كثيرة جدًّا.
ومن أعظم الدروس التي تُستلهَم مما مرَّ معنا: صبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كيف آذاه كفار قريش، وألقوا سلا الجزور على ظهره، وحاولوا قتله مرارًا، ورماه أهل الطائف بالحجارة، وأدموا عقبيه، وهو يدعوهم إلى هذه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله"، وكيف كان يغشى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المواسم، ولاشك أن هذا الأمر ثقيل جدًّا على الإنسان، أن يأتي الناس وهم كارهون لما يقول، ثم يأتي الأذى من أقاربه، من عمه الذي يتوقَّع منه النُّصرَة، ومن أرحامه وأصهاره، وممَّن يعرفون صدقه وأنَّه أمين؛ ثم بعد ذلك يُقابَل بهذا الجحود!
ولهذا فإنَّ الصبر على الحق والثبات مهم جدًّا للمسلم، ودون هذا الصبر لا يُمكن للإنسان أن يُحقِّق ما يؤمِّله في دنياه وفي أُخراه.
والإنسان يحتاج إلى أن يقرأ سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعينٍ بصيرة، وبقلب يعقل ويستفيد، فكل إنسان يأخذ منها ما يريد في واقعه وفي نفسه، ولا شك أن أعظم المجالس هي التي يُذكر فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُصلَّى فيها عليه، ويُستَلهَم من مواقفه العظيمة هذه النُّصرَة العظيم.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قديمًا وإلى يومنا هذا يتعرَّض إلى الأكاذيب والافتراء، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، وقال: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3] ؛ فليبشر أهل الإسلام أن دين محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو المنصور، وأن هذا الدين كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر»، فلن يستطيع مهما حاول الأعداء أن يمنعوا هذا الدين من الوصول، لأنَّه دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وليس دين جنس ولا عرق ولا قوميَّة معيَّنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، شعار عظيم لن تجده إلا في دين الإسلام الذي ارتضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- للبشرية، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من أنصار هذا الدين، وأن يثبتنا عليه حتى الممات.
{نلاحظ يا شيخنا أن عاقبة الصبر هي التَّمكين، فجعل الله عاقبة صبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مكَّة على أذى الكفار وأذى المشركين هي تمكين، كما في غزوة بدر}.
لا شك أنَّ التَّمكين أمر إلهي، والتَّمكين وقع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أراد ذلك كونًا وقدرًا، أمَّا أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالمطلوب منهم السعي في إظهار هذا الحق، أمَّا حصول هذا التَّمكين فقد يحصل لفئةٍ دون فئةٍ، والمطلوب هو أن ينصر الإنسان هذا الدين وأن يموت عليه، وكون هذا الإسلام ينتشر أو يُنصَر في زمانك أو فير غير زمانك فهذه ليست لك المهمة، فعليك التبليغ والقيام، وعليك أن تموت على هذا الدين القويم، وإلا تعقد قلبك أن هذا الدين منصور، وأن الله ناصر مَن نصره، وخاذل مَن خذل الدين، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من أنصاره.
{في ختام هذه الحلقة لا يسعنا -أيها المشاهدون الكرام- إلَّا أن نشكركم على متابعتكم وإنصاتكم، ونشكر فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، على حضوره وإثرائه، جعل الله ذلك في موازين حسناته. نلقاكم -بإذن الله- على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
2444 22
-
3123 12
-
3276 12
-
4573 12