الدرس الثامن

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3243 12
الدرس الثامن

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- أرحبُ فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: فهد بن سعد المقرن. حيَّاكم الله يا فضيلة الشيخ}.
حيا الله الأخ الشيخ محمد، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والأخوات المشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصَّالح.
{بارك الله فيكم.
كنَّا قد وقفنا في غزوة الخندق عند الحديث عن قصة نعيم بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم إن الله سبحانه وله الحمد صنع أمرًا من عنده خذَّل به بينهم وفلَّ جموعهم، وذلك أن نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جاء إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "يا رسول الله إني قد أسلمت فمرني بما شئت"، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا أَنْتُ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إنْ اسْتَطَعْتُ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ».
فذهب من حينه ذلك إلى بني قريظة، وكان عشيرًا لهم في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال يا بني قريظة! إنَّكم قد حاربتم محمدًا، وإنَّ قريشًا إن أصابوا فرصةً انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم وتركوكم ومحمدًا فانتقم منكم.
قالوا: فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا لقد أشرت بالرأي)
}.
نعيم بن مسعود غطفاني، وله علاقات مع بني قريظة، وله علاقات مع قومه الغطفانيين، وهو داهية من دُهاة العرب، واستخدم هذا الدَّهاء في خدمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم نهض إلى قريش، فقال لأبي سفيان ولهم: تعلمون ودي ونصحي لكم؟ قالوا: نعم.
قال: إن يهود ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يمالئونه عليكم، ثم ذهب إلى قومه غطفان فقال لهم مثل ذلك)
}.
الحرب خدعة، وهذا مما جاز فيه الكذب في الشَّريعة الإسلامية، أمَّا في قواعد الحرب الإنسانيَّة فلا شك أنَّ مسألة الكذب على العدو أمر مشروعٌ، وهذا من قواعد بني آدم، وجاءت الشريعة فأكَّدت هذا الأمر، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُمارسه ويُطبِّقه في خداع العدو، فهذا من المصالح الشرعيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما كان ليلة السبت في شوال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام فانهضوا بنا غدًا نناجز هذا الرجل، فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت، ومع هذا فإنَّا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهنًا، فلما جاءهم الرُّسل بذلك قالت قريش: صدقنا والله نعيم بن مسعود، وبعثوا إلى يهود: إنَّا والله لا نرسل لكم أحدًا فاخرجوا معنا، فقالت قريظة: صدق والله نعيم، وأبوا أن يقاتلوا معهم.
وأرسل الله -عَزَّ وَجَلَّ- على قريش ومن معهم الخور والريح تزلزلهم، فجعلوا لا يقر لهم قرار، ولا تثبت لهم خيمة ولا طنب، ولا قدر ولا شيء، فلما رأوا ذلك ترحلوا من ليلتهم تلك)
}.
نصر الله -عَزَّ وَجَلَّ- جاء بأيسرِ ما يكون وبألطفِ الأسباب، ودائمًا المؤمن لا يتعلق بالأسباب، وإنَّما يتعلق بمسبب الأسباب، ولا يحتقر من الأسباب شيئًا، فربما السبب اليسير الذي يُظن أنه غيرُ مؤثِّر يكون بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- يكون الأثر، والمطلوب من المؤمن أن يتوكَّل على الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأن يصدق اللجأ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وإن الله تعالى ناصرُ أهلِ الإيمان ومُنجزٌ ما وعده أهل الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأرسل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذيفة بن اليمان يخبر له خبرهم)}.
يعني يستطلع الخبر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فوجدهم كما وصفن)}.
لا شك أنَّ الأحوال الجويَّة مؤثِّرة في المعارك، فالجيش في السابق كان مجموعة من الرَّاجلة، ولا شك أن وجود الريح كان له الأثر العظيم، ثم الإصابة المعنوية التي أصابها نعيم بن مسعودٍ لهم، فاليهود كانوا قد وافقوا الأحزاب على ذلك، ثم حصل الآن اختلاف في الرأي؛ فلا شكَّ أنَّ المعركة تكون خاسرة، وهذا من نصر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأهل الإيمان بأهون الأسباب، ولهذا كان من نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّه هزم الأحزاب وحده، وكان من دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، فكان السبب ضعيفًا جدًّا، وإنما كان النصر من الله -سبحانه وتعالى- ولهذا أنزل الله فيها سورة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ورأى أبا سفيان يصلي ظهره بنار، ولو شاء حذيفة لقتله)}.
كانت المعركة في الشتاء والرياح والغبار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم رجع إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلًا فأخبره برحيلهم)}.
وهذا من دقَّة الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- في تنفيذ الأوامر، فهو الآن متمكِّن من أبي سفيان، لكن المهمَّة التي أرسله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجلها كانت استطلاع الخبر، ولهذا قال: (ولو شاء لقتله) دلَّ على أنَّه لم يتجاوز الأمر، وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان مع القائد في المعركة، فيُنفِّذ مَن بُعثَ الأمر وفق ما أمر به القائد، لأنَّ الاجتهاد في مثل هذه الأمور له آثاره، فالتَّقيُّد بطاعة ولاة الأمر في المعركة لا شك أنَّ له أثر عظيم، فربما لو قتل حذيفة أبا سفيان لاختلف سير المعركة، وتكون غريزة الانتقام مختلفة، فكان المطلوب منه الاستطلاع، فنفَّذَ الأمر كما أمره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذه من الملاحِظ المهمَّة، ومن الدروس التَّربويَّة التي ينبغي للإنسان أن يتعلَّمها في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يطبِّقها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما أصبح رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غدا إلى المدينة وقد وضع الناس السلاح فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أوضعتم السلاح؟ أما نحن فلم نضع أسلحتنا، انهض إلى هؤلاء، يعني بني قريظة)}.
فيه عدم تأخير هذا الثَّغر الذي وقع، فالآن بقاء هذه الشِّرذمة اليهوديَّة خطر على الإسلام والمسلمين، فجاء الوحي بالإنجاز وحسم الموضوع، والتَّأخُّر ليس في صالح المسلمين، فقد يكون الإنسان بعد هذه الغزوة بآثارها النَّفسيَّة يحتاج إلى شيءٍ من الدَّعةِ والرَّاحة، ولهذا نزلَ الوحي والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغتسل من أثر المعركة والمحاصرة والبقاء، فجاء الوحي: انهض إلى هؤلاء -وهم بنو قريظة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل نذكر فيه غزوة بني قريظة.
فنهض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من وقته إليهم، وأمر المسلمين أن لا يصلي أحد صلاة العصر -وقد كان دخل وقتها- إلا في بني قريظة)
}.
لاحظ تنفيذ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأمر الذي جاءه من الله -عَزَّ وَجَلَّ- بواسطة جبريل، فقال لأصحابه «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، يعني التَّأخير غير مطلوب، وإنما المطلوب المبادرة حتى في أمر الصلاة، وهذا يدل على أنَّ التَّأخير ليس في صالح المسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فراح المسلمون أرسالًا، وكان منهم من صلى العصر في الطريق)}.
لا شكَّ أن الانتقال من معركة إلى معركة أخرى أنه شيء مفاجئ، فلا يُمكن أن يكونوا خرجوا مرَّة واحدة، وعنصر المفاجأة مهمٌّ جدًّا في المعركة؛ لأنَّ حسبة بني قريظة أنه ربما يكون فيه وقت، فعنصر الوقت كان حاسمًا لصالح الإسلام والمسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقالوا: لم يرد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك الصلاة، إنما أراد تعجيل السير، وكان منهم من لم يصل حتى غربت الشمس، ووصل إلى بني قريظة، ولم يعنف -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واحدًا من الفريقين)}.
يعني كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» أشكلَ على الصحابة، ولهذا انقسمَ أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فهم الأمر، وهذا يذكره أهل العلم في مسألة الاجتهاد، والعذر في مسائل الاجتهاد، ففي بعض المسائل يكون فيها اجتهاد فيُقبل فيها الاختلاف، ومنها هذه المسألة، فالصحابة -رضوان الله عليهم- اختلفوا، ومع ذلك كل منهم أعملَ ما يراه موافقًا للأمر، ومع ذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُعنِّف إحدى الطَّائفتين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال ابن حزم: وهؤلاء هم المصيبون وأولئك مخطئون مأجورون، وعلم الله لو كنا هناك لم نصل العصر إلا في بني قريظة ولو بعد أيام)}.
رحم الله ابن حزم، وهو ظاهري، ويُحمَد له تعظيم النُّصوص، ثم علَّق ابن كثير على ابن حزم وعلى ظاهريَّته، وابن حزم في جوامع السيرة قال: "أما أنَّه لو أمرنا أن نؤخِّرها إلى يوم القيامة لأخَّرناها، طاعة لله ولرسوله"، وهذا من المنهج العلمي في مسألة تقدير النصوص وفهمها.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قلت أما ابن حزم فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية، ولا يمكنه العدول عن هذا النَّص، ولكن في ترجيح أحد هذين الفعلين على الآخر نظر وذلك أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يعنف أحدًا من الفريقين، فمن يقول بتصويب كل مجتهد، فكل منهما مصيب ولا ترجيح، ومن يقول بأن المصيب واحد -وهو الحق لا شك فيه ولا مرية، لدلائل من الكتاب والسنة كثيرة- فلا بد على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق، وللفريق الآخر أجر، فنقول وبالله التوفيق: الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصبَ السَّبق، لأنهم امتثلوا أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المبادرة إلى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولا سيما صلاة العصر التي أكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وهي العصر على الصحيح المقطوع به -إن شاء الله- من بضعة عشر قولًا، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها.
فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزًا، كما أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخر العصر والمغرب يوم الخندق واشتغل بالجهاد، والظهر أيضًا كما جاء في حديث رواه النسائي من طريقين، فالجواب: أنه بتقدير تسليم هذا وأنه لم يتركها يومئذ نسيانًا، فقد تأسف على ذلك، حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال «والله ما صليته» وهذا يشعر بأنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان ناسيًا لها لما هو فيه من الشغل)
}.
في بعض المواضع قد يُعذر الإنسان، فقد يكون في حالة ذهول ينسى فيها أشياء كثيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كما جاء في الصحيحين عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الأحزاب: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارً» .
والحاصل: أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة، وفهموا المعنى فلهم الأجر مرتين، والآخرين حافظوا على أمره الخاص، فلهم الأجر -رضي الله عن جميعهم وأرضاهم)
}.
الأصل هو الظَّاهر ما لم تكن هناك قرينة، ولا شك أن القرينة واضحة في أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُريد منهم الاستعجال، فالقرينة واضحة في مثل هذا، فترجيح هذا المعنى مُهم جدًّا، فالذين صلوا الصلاة في وقتها لاحظوا هذا المعنى، ولهذا صلوا، والذين لم يُصلُّوا، وإنما أخَّروا الصلاة حتى يصلوا إلى بني قريظة لاحظوا المعنى الآخر وهو مسألة الاستجابة لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهي من مسائل الاجتهاد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأعطى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الراية علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم)}.
عبد الله بن أم مكتوم كان أعمى، وكان لا يطيق الجهاد، ولهذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستخلفه، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة كما ذكر أهل السِّيَر، وهذه فضيلة لعبد الله بن أم مكتوم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم)}.
الذَّراري: النساء والأطفال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويخرجوا جرائد)}.
يعني يخرجون مع خيلٍ بدون أي متعلقات من النساء والأطفال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فيقاتلوا حتى يقتلوا عن آخرهم، أو يخلصوا فيصيبوا بعد الأولاد والنساء، وإما أن يهجموا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه يوم سبت حين يأمن المسلمون شرهم، فأبوا عليه واحدة منهن)}.
وفي الحقيقة هو الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه؛ لأنَّ استجابته للخيانة وتزيين حيي بن أخطب لا شك أنه هو الذي جنى عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان قد دخل معهم في الحصن حيي بن أخطب حين انصرفت قريش، لأنه كان أعطاهم عهدًا بذلك حتى نقضوا العهد وجعلوا يسبون رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويسمعون أصحابه بذلك، فأراد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخاطبهم، فقال له علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لا تقرب منهم يا رسول الله -خشية أن يسمع منهم شيئً)}.
يعني خشية أن يسمع ما يؤذيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا فيه حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على حماية سمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما يؤذيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال: «لو قد رأوني لم يقولوا شيئً»، فلما رأوه لم يستطع منهم أحد أن يتكلم بشيء)}.
من شدَّة خوفهم من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم بعث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي، وكانوا حلفاء الأوس)}.
مرَّ معنا أن بني النَّضير كانوا حلفاء الخزرج.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون: رجالهم ونساؤهم)}.
هم الآن يستخدمون العاطفة، وبعض الأحيان العاطفة قد تجني على الإنسان كما جنت على أبي لُبابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقالوا: يا أبا لبابة كيف ترى لنا؟ أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، فأشار بيده إلى حلقه، يعني أنه الذبح)}.
يعني إذا نولتم ستُقتلون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم ندم على هذه الكلمة من وقته، فقام مسرعًا فلم يرجع إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
لأنه يرى أنها خيانة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (حتى جاء مسجد المدينة فربط نفسه بسارية المسجد وحلف لا يحله إلا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدً)}.
فالإنسان إذا حصل منه هذا الخطأ وغلبته العاطفة؛ فعليه أن يُراجع نفسه، وأن يُبادر إلى تصحيح الوضع، أمَّا الاستمرار هذا لا يكون في صالحه ولا في صالح المسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما بلغ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك قال: «دعوه حتى يتوب الله عليه» وكان من أمره ما كان حتى تاب الله عليه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأسلم ليلتئذ ثعلبة وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل من بني عم قريظة والنضير، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي، فانطلق، فلم يعلم أين ذهب، وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد)
}.
من حماية الله -عَزَّ وَجَلَّ- له أنَّه أبى أن ينقض العهد، فكان هذا سلامة له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما نزلوا على حكمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت الأوس: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخوتنا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فقال: «ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى)}.
لا شك أنَّ الأمور القديمة تُستَرجَع وهي مؤثِّرة، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد أن يُطيِّب خواطرهم، وبنو النَّضير أنزلهم على حكم سعد بن عبادة، فقال لهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟»
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ»، وكان سعد إذ ذاك قد أصابه جرح في أكحله)}.
هذا نوعٌ من أنواع الجروح تصيب العرق في وسط الذِّراع، وفي الغالب يكون مؤثِّرًا في حياة الإنسان وموته، لأنَّه مثل الشريان الذي يكون مجرى للدم، فإذا أصيب ولم يبرأ ربما يكون سببًا للموت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد ضرب له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيمةً في المسجد، ليعوده من قريب، فبعث إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجيء به وقد وطؤوا له على حمار، وإخوته من الأوس حوله محيطون به، وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!!)}.
وهذا موقف عظيم من مواقف سعد بن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أثر السِّيادة، فكونه سيد قومه حكم فيهم بما يوافق الجريمة التي فعلوها، وما أخذته العاطفة، بينما أبو لبابة أثَّرت فيه العاطفة، فهذا اختلاف في الشخصيات، فبعض الشخصيات تؤثر فيهم مواقف العاطفة، وربما يجنح، لكن سعدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان حازمًا، ولم يكن للعاطفة فيه مكان في شخصيَّته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فرجع رجال من قومه إلى بني عبد الأشهل فنعوا إليهم بني قريظة، فلما دنا من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون، فقالوا: يا سعد، قد ولَّاك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحكم في بني قريظة، فقال: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت؟ قالوا: نعم.
قال: وعلى من هاهنا؟ وأشار إلى الناحية التي فيها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو معرض عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إجلالًا له، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم»)
}.
يعني لابدَّ أن ينفَّذ سواء وافق الطائفة أو خالفها، وهذا استيثاقٌ للمسألة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال سعد: إني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»)}.
يعني: سبع سماوات، وهذا مقتضى الجزاء والمناسِب لهؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأمر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقتل من أنبت منهم)}.
يعني مَن بلغَ، والمقصود بالإنبات: إنبات شعر العانة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومن لم يكن أنبت ترك، فضرب أعناقهم في خنادق حفرت في سوق المدينة اليوم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وقيل: ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، ولم يقتل من النساء أحدًا سوى امرأة واحدة)}.
عدم قتل النساء والأطفال في الحروب من قواعد الإسلام، وهذا لا يوجَد في شريعةٍ مثل شريعة الإسلام، وهو صيانة النساء والأطفال، ما لم تكن هذه المرأة تمارس دور مثل ما مارسَ الرجال من الإعانة في الحرب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهي بنانة امرأة الحكم القرظي، لأنها كانت طرحت على راس خلاد بن سويد رحى فقتلته -لعنها الله.
وقسم أموال بني قريظة على المسلمين، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم)
}.
الرَّاجل: هو الذي يمشي على رجله.
الفارس: الذي على خيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان في المسلمين يومئذ ستة وثلاثون فارسً)}.
فلا شك أن أثر الفارس أقوى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما فرغ منهم استجاب الله دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ، وذلك أنه لما أصابه الجرح قال: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، وإن كنت رفعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تشفيني من بني قريظة")}.
كان غدر بني قريظة غدرًا عظيمًا جدًّا، وفي الوقت الذي كان المسلمون في أمسِّ الحاجة إلى أن يبقى الميثاق تمَّ الخذلان من هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حسم جرحه فانفجر عليه، فمات منه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وشيعه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسلمون، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن فرحًا بقدوم روحه رضي الله عنه وأرضاه.
وقد استشهد يوم الخندق ويوم قريظة نحو العشرة -رضي الله عنهم جميعًا- آمين)
}.
من معالم هذه الغزوة ودروسها العظيمة:
- أن نقض العهود والمواثيق سِمة لليهود، مع ربهم ومع الناس.
- خطر جليس السُّوء، فحيي بن أخطب زيَّنَ لسيد بني قريظة هذا النقض الذي كان مؤثِّرًا فيهم، وكذلك اليهود كانوا يعلمون أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو النبي المرسل، ورأوا دلائل النبوة من محاولة الاغتيال، وغيرها من الأشياء التي فعلوها، ومع ذلك استمرُّوا على التَّكذيب.
- فضيلة سعد بن معاذ في موافقة حكم الله -عَزَّ وَجَلَّ- من فوق سبع سماوات، ولم تأخذ سعد فيهم لومة لائم، فكان العقاب مُناسبًا، خاصَّة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاز بنو النضير وتركهم، فاستمرار هذا الأمر لا شك أن فيه نكاية للمسلمين.
فما أهون الخلق على الله إذا عصوه! فبنو قريظة كانوا في سعةٍ من أمرهم، فلما نقضوا العهد وكذَّبوا كان الفتكُ بهم، وهذه القبيلة اليهوديَّة خُصَّت بهذا دون غيرهم، لعظيم نكايتهم بالمسلمين؛ ولأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صبر عليهم كثيرًا، فكان هذا معلمًا لهم ودرسًا لهم ولغيرهم، وهو أن الإسلام فيه مواضع رحمة، وفيه مواضع يكون الحزم والقوة بحسب الجريمة التي فعلوها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: بعث عبد الله بن عتيك إلى قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق
ولما قتل الله -وله الحمد- كعب بن الأشرف على يد رجال من الأوس كما قدمنا ذكره بعد وقعة بدر)
}.
سلَّام من أكابر مجرمي اليهود الذين حزَّبوا الأحزاب، وكانوا سببًا في غزوة الأحزاب، وكان له حصن وقصر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ممن ألَّب الأحزاب على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يقتل مع بني قريظة كما قتل صاحبه حيي بن أخطب)}.
حيي بن أخطب من بني النضير وقُتل مع بني قريظة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (رغبت الخزرج في قتله طلبًا لمساواة الأوس في الأجر.
وكان الله سبحانه قد جعل هذين الحيين يتصاولان بين يدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخيرات)
}.
في الجهاد وفي تحقيق ما يُسرُّ به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاستأذنوا رسول الله في قتله فأذن لهم، فانتدب له رجال كلهم من بني سلمة وهم: عبد الله بن عتيك وهو أمير القوم بأمره -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن أسود، حليف لهم، فنهضوا حتى أتوه في خيبر في دار له جامعة، فنزلوا عليه ليلًا فقتلوه)}.
خيبر بعيدة عن المدينة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم ادعى قتله، فقال: «أروني أسيافكم»، فلما أروه قال لسيف عبد الله بن أنيس: «هذا قتله أرى فيه أثر الطعام»، وكان عبد الله بن أنيس قد اتكأ عليه بالسيف حتى سمع صوت عظم ظهره، وعدو الله يقول: قطني قطني، يقول: حسبي)}.
لا شك أن هذه المواقف والحزم مع هؤلاء الذين لو تحقق لهم مرادهم -بقدر الله عز وجل- لكان جناية على الإسلام والمسلمين، وربما يصعُب إغماد جراحها، فكان هذا الحزم مع هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة بني لحيان
ثم خرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد قريظة بستة أشهر، وذلك في جمادى الأولى من السنة السادسة على الصحيح قاصدًا بني لحيان ليأخذ ثأر أصحاب الرجيع المتقدم ذكرهم)
}.
لا شكَّ أنَّ قتلهم أثَّر في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأراد أن يثأر لهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فسار حتى نزل بلادهم في واد يقال له غران، وهو بين أمج وعسفان)}.
بنو لحيان من هذيل، وهذيل تنقسم إلى قسمين:
- بنو لحيان.
- بنو سعد.
أما وادي غران فيسمى الآن بـ "وادي الأزرق"، وجاء في حديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صحيح البخاري: «كَأَنِّي أنْظُرُ إلى مُوسَى عليه السَّلامُ هابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وله جُؤارٌ إلى اللهِ بالتَّلْبِيَةِ» ، يعني كان الأنبياء يحجون البيت، وكانوا يمرُّون بهذه المواضع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فوجدهم قد تحصنوا في رؤوس الجبال، فتركهم وركب في مائتي فارس حتى نزل عسفان)}.
عسفان الآن بلدة قائمة شمال غرب مكَّة المكرمة بثمانين كيلو، وسُمِّيَت عسفان لكونها تعسُف السُّيول والماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبعث فارسين حتى نزلا كراع الغميم)}.
كراع الغميم: طرف موضع، وهو جبل صغير يُسمَّى الآن "أبرق"، ويبعد عن مكة أربعة وستين كيلو، وهو موجود إلى الآن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم كرا راجعين، ثم قفل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة)}.
فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتمكَّن منهم، لأنهم تحصَّنوا، وهذيل أهل جبل، فهربوا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لأن منطقتهم جبليَّة وعرة جدًّا، فلا شك أنَّهم حصلت لهم الحماية بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة ذي قرد
ثم أغار بعد قدومه المدينة بليال عيينة بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، على لقاح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي بالغابة)
}.
هذا موضع يُسمَّى بـ "قرض"، وتسمى هذه الغزوة بغزوة الغابة، وهو المكان المجتمع من الشجر، وكان لقاح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإبل يُسرَح بها، ولا شكَّ أنَّ الإبل تأتي وتنتاب هذه المناطق التي يكثر فيها الشجر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاستاقها وقتل راعيه)}.
من السهل جدًّا سوق الإبل إذا كانت بعيدة عن أهلها، وهذا كان دائمًا يقع في العرب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وهو رجل من غفار، وأخذوا امرأته.
فكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم انبعث في طلبهم ماشيًا وكان لا يسبق)
}.
بنو عبد الله من غفار، هذا بطن من بطون غطفان، وغطفان من جماجم العرب، وكانت تسكن الحجاز وأجزاء من نجد، وهي قبيلة قيسيَّة عدنانيَّة، وفي السابق كانوا ينقسمون إلى قسمين:
- بنو عبد الله.
- وبنو أُريث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فجعل يرميهم بالنبل ويقول: خذها أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع يعني اللئام)}.
قصَّة سلمة ذكرها البخاري، وسلمة بن الأكوع من بني أسلم، والقارئ لما يقرأ في السيرة وفي قصَّة سلمة تثير إعجابه، فالعدَّاؤون العرب كانوا موجودين في السابق أيام الجاهليَّة، وكانوا معروفين، من أبرزهم: سُليْك بن السَّلكة السَّعدي التَّميمي، وكذلك تأبَّط شرًّا، وشنفرة، وغيرهم مشهورين بهذا، وكان لهم منهج في مسألة العَدْو، فأغلب العدَّائين كانوا لصوصًا؛ لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أعطاهم خاصيَّة عجيبة جدًّا وهي سرعة الجري، وكان سلمة بن الأكوع من العدائين، وذكر أهل السيرة أن بِنية سلمة كانت عظيمة، فكان فيه من صفات العدَّائين، حتَّى أنه ربما يسابق الخيل، وإلى يومنا هذا يوجد عدَّائين، وفي الدول الإسلامية اهتمَّ ولاة بني بويه اهتمُّوا بمسألة العدَّائين في مسألة البريد، فأحد ولاة بني بوه كان هو وأخاه بينهما رسُل، فجعل له سعاة من هؤلاء العدَّائين ليبلغ الخبر أخاه أولًا بأوَّل.
ويُقال إن سرعة هؤلاء العدَّائين من أربعين إلى خمسة وأربعين كيلو في الساعة.
وهنا سلمة بن الأكوع كان يلحق بالإبل، فأبلى بلاء حسنًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واسترجع عامة ما كان في أيديهم)}.
هو رامٍ وعدَّاء، كيف أن شخصًا واحدًا استطاع أن يسترجع لقاح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه الإبل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما وقع الصريخ في المدينة خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
الصَّريخ: هو المناداة، فلا شك أنَّ ما أصابه العدو كان مؤثرًا، فاقتصاد الناس قائمٌ على الإبل.
قال: (خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جماعة من الفرسان، فلحقوا سلمة بن الأكوع، واسترجعوا اللقاح، وبلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماءً يقال له ذو قرد، فنحر لقحة مما استرجع، وأقام هناك يومًا وليلة، ثم رجع إلى المدينة.
وقتل في هذه الغزوة الأخرم، وهو محرز بن نضلة رضي الله عنه، قتله عبد الرحمن بن عيينة، وتحول على فرسه، فحمل على عبد الرحمن أبو قتادة فقتله، واسترجع الفرس، وكانت لمحمود بن مسلمة وأقبلت المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد نذرت: إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، «فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بئس ما جزتها، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولفي معصية» وأخذ ناقته)
}.
الإسلام جاء بالعدل والرَّحمة، فهي لاحظت ملحظ القربة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولكنَّها لم تلحظ ملحظ الإحسان لمن أحسن، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما كان يترك مثل هذه المواقف، فلا شك أن هذه الناقة كانت سببًا لنجاتها، فالمكافأة تفتضي أنَّها لا تنحرها، لكنها امرأة بسيطة، لأنَّه لا تملك هذه الناقة، ولأنها ما جازتها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة، قال: فرجعنا إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر، ولعل هذا هو الصحيح، والله تعالى أعلم.
فصل: غزوة بني المصطلق
وغزا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بني المصطلق من خزاعة في شعبان من السنة السادسة)
}.
دائمًا ننوِّه بالقبائل، لأنها تعطيك صورة واضحة.
بنو المصطلق: بطنٌ من خزاعة، وخزاعة من القبائل الآزديَّة التي هاجرت من اليمن ونزلت في أراضي الحجاز، وسُمِّيَت "خُزاعة" لأنَّها خزَعَت، فنزَلَت في هذه المواضع.
والمصطلق جدهم، ويُقال له: جذيمة بن سعد.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقيل: كانت في شعبان سنة خمس، والأول أصح وهو قول ابن إسحاق وغيره.
واستعمل على المدينة أبا ذر، وقيل: نميلة بن عبد الله الليثي، فأغار عليهم وهم غارون على ماء لهم يسمى المريسيع، وهو من ناحية قديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبى النساء والذرية، وكان شعار المسلمين يومئذ: "أمت أمت")
}.
ماء مُريسيع يُسمَّى "بئر مُريسيع"، ويبعد عن مكَّة بمائة وخمسين كيلو.
سبب الغزوة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلغه أنَّهم يجمعون له ويريدون غزوه أو إصابته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في موضع من المواضع، ولهذا استبق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحدث وأغار عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان من السبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ملك بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتزوجها، فصارت أم المؤمنين، فأعتق المسلمون بسبب ذلك مائة بيت من بني المصطلق قد أسلمو)}.
كثير من زيجات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لها مقاصد شرعيَّة، مثل: تأليف القلوب، التأثير في الآخرين، فزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جويرية التي هي ابنة سيدهم -كما ذكر ابن كثير- أثَّر في هذه القبيلة، فهي وقعت في سهم ثابت، وهي امرأة تعتبر مِن عِليةِ القوم وتملك مالًا، فكاتبت ثابت، والمكاتبة هو أن تدفع شيئًا من المال لأجل العتق والحرية، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أدَّاه عنها؛ لأنها سألت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المعونة في ذلك، فتزوجها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت بركة على أهلها، وأصهار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكرموها وأكرموا قومها لأجل هذا الزَّواج المبارك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وفي مرجعه صلى الله عليه وسلم قال: الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعرِّض برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبلغها زيد بن أرقم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاء عبد الله بن أبي معتذرًا، ويحلف ما قال، فسكت عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى أنزل الله عز وجل تصديق زيد بن أرقم في سورة المنافقون)}.
عبد الله بن سلول الخزرجي، وبعد معركة بُعاث، وهي من المعارك التي صار فيها بين الأوس والخزرج آثار عظيمة جدًّا؛ فهمُّوا أن يصطلحا، واصطلحا على سيادة عبد الله بن أبي بن سلول، حتى جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأزال كل هذه الأمور الجاهليَّة، ولهذا يُمكن أن نقول: إن عبد الله بن أبي بن سلول ضحيَّة حب الرياسة، فكثير من الأمور الدنيوية -خاصة حب الرياسة- تمنع الإنسان من قبول الحق، ومواقفه مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كثيرة جدًّا، فمرَّ معنا في غزوة أحد كيف أنَّه انخزل بثلاثمائة مقاتل، مع أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان بحاجة إلى هذا العدد، وفي هذه الغزوة قال هذه الكلمة الخبيثة: ليُخرجن الأعز منها الأذل؛ وبلغها زيدٌ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا يدلُّك على خطر النفاق وأثره في المسلمين، وهذا منهج لأهل النفاق، ولهذا أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم سورة باسمهم "سورة المنافقون"، وفي سورة "براءة" وتسمى بـ "الكاشفة"؛ فحريٌّ بالمسلمين أن يقرؤوا وأن يتعلَّموا وأن يستفيدوا ممَّا ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن هؤلاء المنافقين الذين يوجدون في كل زمان ومكان، ولهم جناية على الإسلام.
قد يتساءل المشاهد: لماذا لم يقتله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب: لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُراعي المصالح الشَّرعيَّة، وفي أكثر من موضع ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المانع من قتله ومن قتل غيره، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان حريصًا كل الحرص على هداية الناس، ولا يُريد أن يُثار على الإسلام أيَّ شيءٍ يصد عن هذا الدين الحق، وورد أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» ؛ لأنَّه مشهورٌ أنَّه مسلم، وظاهره أنَّه يُصلي مع المسلمين، ولكن إذا قُتل لربما استغل العدو مثل هذا في الدعاية المضلِّلة عن الإسلام، وخاصَّة أنَّ المشركين لم يألوا جهدًا في الصدِّ عن الإسلام، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يسلم من ذلك، فكان عدم قتله فيه مصلحة شرعية رعاها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والغريب في شخصيَّة عبد الله بن أبي: أنَّ ابنه أسلم، وهو من خيار الصحابة، وكان اسمه "الحباب" فغيَّره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى "عبد الله"، وذُكر في السِّيَرِ أنه استأذن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتل والده لِمَا يسمع منه، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل أحسن صحبته»، وبموت عبد الله بن أبي بن سلول انحسرَت حركة النِّفاق وضعف، ولكن النِّفاق سيبقي إلى يوم القيامة، يقوى ويضعف بحسب الزمان والمكان.
ومن المهم جدًّا أن نقول: إنَّ المقصود بهذا النفاق الاعتقادي، أمَّا النفاق العملي فهو بريد النفاق الاعتقادي، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذَّر من خصال النِّفاق، وحديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ، على اختلاف في الروايات، فهذا يُسمَّى عند أهل العلم: النفاق العملي، وهو لا يصل بالإنسان إلى الكفر، ولا شك أنَّه كبيرة، ومعصية عظيمة، فإذا استحكمت هذه الخصال في الإنسان فإنَّها دلالة على أنَّه من أهل النفاق، فينبغي للإنسان أن يحذر من هذه الصفات، ويستشعر هذا المعنى، ونسأل الله السلامة والعافية، فخطر النفاق والمنافقين باقٍ إلى يوم القيامة، وهذه سنَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{شيخنا الفاضل؛ هلَّا تحدثنا فيما بقي من الوقت عن هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التَّعامل مع المنافقين؟}.
قضية النفاق قضية مهمَّة جدًّا، فحركة النفاق تحتاج إلى مزيدٍ من الدراسات، على مستوى الفِرَق الإسلاميَّة يوجد النفاق، فجملة من الفِرَق المنتسبة للإسلام تدخل في دائرة حركة النفاق، لأن حركة النفاق مؤذي للإسلام والمسلمين، ويكفي أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعل كل العداوة فيهم، فقال: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4].
والقرآن في مواضع كثيرة ذكر صفات المنافقين وأفعالهم، وحذَّر أهل الإيمان من التَّشبُّه بهم ولو في الظَّاهر، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: 4]، فهم يُظهرون الحرص على الإسلام والحرص على المسلمين، ولكنَّهم يُبطنون النِّفاق، ونكايتهم عظيمة، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ [الأنفال: 60]، قال أهل العلم: المقصود بالآخرين: أهل النفاق.
فحركة النفاق خطيرة على الإسلام، فالعدو الظَّاهر بما يتوقَّى الإنسان منه، لكن العدو الذي يُخفي هذا الاعتقاد ويُظهر خلافه لا شكَّ أن جنايته عظيمة.
والله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر من صفاتهم وذكر أفعالهم، ومارسوا ألوانًا من التَّخذيل للمسلمين والنِّكاية لهم، وكان لهم أثر معنوي، فلاحظ في هذه الغزوة قال المنافق عبد الله بن أبي: ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضُّوا؛ فكل هذه المقولات لهم، ويستترون بالكذب، فإذا كانت مشكلة العدو الكذب فإنَّه لا يُؤمَن، ولكن إرادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- الكونية والقدرية في ذلك امتحانًا وتخليصًا لهذا الصف المؤمن، ليميز الله الخبيث من الطيب، فأراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن تبقى هذه النابتة من النفاق امتحانًا وابتلاء.
ومن أنواع الجهاد: جهاد المنافقين، وقد لا يكون في الأعم الأغلب بالسلاح، وإنَّما هو جهاد العلم والحجَّة والبرهان، ولهذا أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم آيات تُتلَى إلى يوم القيامة وكشفهم، وهم يُجادلون في كل زمان ومكان، فواجب أهل الإيمان أن يحذروا من دعاة النفاق وأهل النفاق، لأنَّهم يوضعون في صف أهل الإسلام.
والآن مسلسل النفاق وحركة النفاق تقوم على التَّشكيك في ثوابت الإسلام، في تشريعات الإسلام، في مواقف المسلمين، في الإساءة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومحاولة إظهار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمظهر الغير صحيح، وهم يكتبون ويُجنِّدون، ويستخدمون كل الوسائل، وهدفهم العظيم هو الصَّد عن سبيل الله، ويسوءهم أن ينتشر الإسلام، ويسوءهم أن تظهر مظاهر الإيمان، ولكن الله أراد -عَزَّ وَجَلَّ- أن يكون من صفاتهم الخور والجبن والضَّعف، فهم مهزومون هزيمة نفسيَّة عظيمة جدًّا، ولهذا نوَّه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهم في القرآن فقال: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: 4]، فهم يظنون أنَّهم سيُؤخَذون في كل صيحةٍ وكل حدثٍ، ولهذا يتعلَّقون بكل حدثٍ يرون أن فيه جناية على الإسلام والمسلمين، والله ناصرٌ دينه،
ومُعلٍ كلمته، لكن الشأن هو أن يكون الإنسان من أنصار هذا الدين، وأن يكون في ركبِ أنصار محمدٍ بن عبد الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا شرفٌ نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفِّقنا جميعًا لأن نكون ممن حازه، وأن يُميتنا على الإسلام والسنَّة، لا بدَّلنا ولا غيَّرنا حتى نلقاه.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
{اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد.
شكر الله لكم يا فضيلة الشيخ هذا البيان، وهذا الطَّرح المفيد النافع.
في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيُّها المشاهدون- على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك