الدرس العاشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3179 12
الدرس العاشر

الفصول في سيرة الرسول

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم -أيُّها المشاهدون الكرام- في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي".
نستكمل وإيَّاكم في هذه الحلقة شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" للإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ضيفنا في هذه السلسلة فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا -أيُّها المشاهدون- نرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله أخي الشيخ: محمد، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{كنَّا قد وقفنا عند كلام المؤلف عن فتحِ فدك، فتفضلوا بالتعليق على هذه الحادثة}.
مرَّ معنا تعريف "فَدَك" والكلام عنها، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقاتل في فَدَك، ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وهي من الفيء، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يضعها حيث يشاء.
وهنا شبهة تُثيرها بعض الفرق من الإماميَّة الاثنا عشرية، فيزعمون أنَّ أبا بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اغتصب حق فاطمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- بنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفاطمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ابنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضائلها كثيرة، ويعتقد أهل السنة والجماعة محبَّتها والتَّرضِّي عنها وفضلها، ويعتقدون كذلك أنَّها ليست معصومة كغيرها من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأزواجه، والزَّعم أنَّ أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اغتصبَ حقَّها أمرٌ بعيد كل البُعد عن المنهج العلمي الموضوعي، فكانت -رَضِيَ اللهُ عَنْها- تظن أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُورَث كغيره، ولم يبلغها ما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الحديث الصحيح: «نحن معشر الأنبياء لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ» ، فهذا من خصائص النبوة.
وأبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَما تولَّى الخلافة طبقًا لهذا التَّوجيه النَّبوي لم يُورِّث فاطمة، وفاطمة كانت تظن أنَّ فدك من أملاك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا الحكم كان شاملًا لفاطمة وغيرها، فإنَّ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- زوجة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي ابنة أبي بكر، وجاء في بعض الروايات أنَّ فاطمة جاءت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأخبرها أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بذلك، فوقع في نفسها شيء، وبقيت بعد ذلك ستَّة أشهر ثم توفيت، فحاول الإماميَّة الاثنا عشرية ينسجون خيالات، وكل هذا لا يمتُّ للحقيقة بصلة، وليس ثَمَّ روايات صحيحة في ذلك، فكلها أكاذيب وتُرَّهات ينفيها المنهج العلمي.
وكما ذكرتُ لك؛ بغضِّ النَّظر عن الروايات، كيف أن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لم ترث من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي زوجة ولها حق في الميراث!
وكذلك من الأمور التي ينبغي للمسلم أن يعرفها: أن من القواعد المحكَّمة في ذلك؛ كيف يُظن بأبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي بذل ماله ونفسه في سبيل الله أن يمنع شيئًا من المال لابنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد وليَ الخلافة! فأبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بذلك كل ما يملك في سبيل نصرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم بعد ذلك يمنع فاطمة حقَّها! ويتواطأ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- على ذلك!
فهذه ليست من أخلاق أهل الجاهليَّة فضلًا عن أخلاق أهل الإسلام، فكيف بأبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي هو أهل الوفاء، والذي صاحب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يفعل ذلك! فكل هذا تُرَّهات، فلو خاطب الإنسان عقله ونظر؛ يعلم أنَّ هذا من الأكاذيب ومن نسج الخيال.
فهذا مهم جدًّا، أحببتُ أن أنوِّه به قبل أن نتجاوز هذه المسألة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: فتح وادي القرى)}.
وادي القرى: هو مدينة العلا الآن، ويسمونه "وادي الجزل"، وسُمِّيَ وادي القرى للتابع القُرَى على ضفتيه، ويُقال: إنَّه وادٍ خصيب كثير السيول، وثَمَّ آثار حضارات قديمة فيه، كحضارة ديدان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ورجع إلى المدينة على وادي القرى فافتحه، وقيل: إنه قاتل فيه. فالله أعلم.
وفي الصحيحين أن غلامًا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعى مدعمًا، بينما هو يحط رحل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
}.
يعني يُنزل الرَّحل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إذ جاءه سهم غرب فقتله)}.
يعني مجهول المكان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال الناس: هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، فقال: «كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارً»)}
الشَّملة: قطعة من القماش تصنع من الصوف عادة، وتكون ملونة في الغالب، تستخدم لأكثر من استخدام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشملة التي أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارً»)}.
هذا تحذير من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الغلول، وأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وفيه أنَّ مقتضى العدل أنَّ ما أخذه الغالُّ من مال المسلمين يأتي به يوم القيامة، فقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 161]، وفي الحديث الصَّحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعذر إلى الناس فقال: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ»، فهذا خطر الغلول والأخذ من المال العام الذي قد يتساهل فيه بعض الناس، واعلم أنَّ ما أخذته من مال المسلمين أنَّك ستأتي به يوم القيامة تحمله فوق ظهرك خزيًا وذلًا وعارًا عليك، فضلًا عمَّا يتبع ذلك من العذاب.
وهذا الغلام غلَّ شيئًا بسيطًا حقيرًا في أنفسهم، فقال الصحابة: "هنيئًا له الشهادة"، فكانت هذه الشَّملة سببًا في عذابه -نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا ينبغي للمسلم والمسلمة أن يتوقَّى من هذه الأمور غاية الوقاية، ولا يتساهل في الأخذ من المال العام، ويزعم أن ذلك ربما يسوغ، ويتأوَّل في ذلك تأويلات غير صحيحة، فالحذر الحذر من الغلول ومن الأخذ من مال المسلمين، فإنَّك يوم القيامة ستأتي به -نسأل الله السلامة والعافية، وأن يسلمنا من هذه الموبقات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: عمرة القضاء
ولما رجع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة أقام بها إلى شهر ذي القعدة فخرج فيه معتمرًا عمرة القضاء التي قاضى قريشًا عليها. ومنهم من يجعلها قضاء عن عمرة الحديبية حيث صد. ومنهم من يقول عمرة القصاص. والكل صحيح.
فسار حتى بلغ مكة فاعتمر وطاف بالبيت، وتحلل من عمرته)
}.
من بنود صلح الحديبية: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأتي من عامه المقبل للعمرة، ووافقت قريش على هذا البند.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتزوج بعد إحلاله بميمونة بنت الحارث أم المؤمنين. وتمت الثلاثة أيام، فبعث إليه المشركون عليًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقولون له: اخرج من بلدنا. فقال: «وما عليهم لو بنيت بميمونة عندهم؟»، فأبو عليه ذلك. وقد كانوا خرجوا من مكة حين قدمها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عداوة وبغضًا له، فخرج عليه الصلاة والسلام فبنى بميمونة بسرف ورجع إلى المدينة مؤيدًا منصورً)}.
أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليَّة الهوازنيَّة -من هوازن- تزوَّجها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسَرِف، والآن يُسمَّى "النوارية" وهو حي من أحياء مكة.
وميمونة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- خالة عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد.
وسبب الزواج: تأليف قبيلة بني هلال من هوازن، وكان اسمها "برَّة" وهي آخر أزواج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللاتي تزوَّج بهنَّ.
ومن المفارقات العجيبة: أنَّ ميمونة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- كما أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنى بها -دخل عليها بسرف؛ فإنَّها كذلك تُوفيت سنة 51 للهجرة بعد عمرة أو حجٍّ بسَرِف، -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: بعث مؤتة
ولما كان في جمادى الآخرة من سنة ثمان بعث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأمراء إلى مُؤتة، وهي قرية من أرض الشام)
}.
الأقاليم كانت مختلفة في السابق، فالجغرافيا والحدود تغيَّرت، مؤتة الآن في دولة الأردن، وفي السابق كانت دولة الأردن موجودة، ولكن كانت جزءً من الشام، وكانوا يسمون هذه المنطقة كلها "شام".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ليأخذوا بثأر من قتل هناك من المسلمين)}.
كان هذا هو سبب الغزوة، والغساسنة تبع للروم، والمناذرة تبع للفرس، وهي قبائل عربية أَزْدِيَّةٌ، كما مرَّ معنا في هجرة الأزد من اليمن، وكان لهم نفوذ ومُلك، فقيل: إن شراحبيل بن عمرو الغسَّاني قتلَ رسول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليه وهو الحارث بن عمير الأزدي، فكان سبب الغزوة هو الثَّأر لهذا الرَّسول الذي قُتل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأمَّر على الناس زيد بن حارثة مولاه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة»)}.
زيدٌ اسمه مذكور في القرآن، وكان يُنسب إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيُقال: زيد بن محمد، حتَّى أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- المنع من التَّبنِّي في الإسلام، وهو حبُّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحبُّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرضَاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فخرجوا في نحو من ثلاثة آلاف، وخرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معهم يودعهم إلى بعض الطريق، فساروا حتى إذا كانوا بمعان بلغهم أن هرقل ملك الروم قد خرج إليهم في مائة ألف)}.
تفصيل الإمارة من دلائل النبوة، فواضح أن المعركة كانت دمويَّة في توقِّع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وسيستَحِرُّ القتل في أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهم -رضوان الله عليهم- أهل شجاعة ويتمنَّون الشَّهادة في سبيل الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومعه مالك بن زافلة في مائة ألف أخرى من نصارى العرب من لخم وجذام وقبائل قضاعة من بهراء وبلي، وبلقين)}.
لخمٌ وجذام: من القبائل الأزديَّة اليمنيَّة التي هاجرت واستقرت في العرب، وكان سبب هجرتها من اليمن فيما يذكره المؤرخون: انهيار سد مأرب، وأصحبت المنطقة لا تستوعب مَن كان فيها، فهاجروا.
وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، والعدو المقابل مائة ألف، فلا يُمكن المصابرة.
ومصابرة العدو أمر شرعي أنزل الله التخفيف فيه، فالإنسان يثبت في حق الضعفين، أمَّا إن تجاوز العدد فلا مقاربة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاشتور المسلمون هناك)}.
يعني: تشاوروا فيما بينهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقالوا: نكتب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرنا بأمره أو يمدنا. فقال عبد الله بن رواحة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا قوم! والله إن الذي خرجتم تطلبون: أمامكم -يعني الشهادة- وإنكم ما تقاتلون الناس بعدد ولا قوة)}.
هذا من فرط شجاعة عبد الله بن رواحة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال عبد الله بن رواحة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا قوم! والله إن الذي خرجتم تطلبون: أمامكم -يعني الشهادة- وإنكم ما تقاتلون الناس بعدد ولا قوة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فهي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة. فوافقه القوم، فنهضو)}.
لاحظ فرط الشجاعة والإيمان والمصابرة، والمقاربة مفقودة، فالمسلمون ثلاثة آلاف، والعدو -فيما يُذكر- مائة ألف، وتعيين العدد قد لا يكون دقيقًا، ولكن لا شك أنه عدد كبير جدًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما كانوا بتخوم البلقاء)}.
يعني: أطراف البلقاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لقوا جموع الروم فنزل المسلمون إلى جنب قرية مؤتة، والروم على قرية يقال لها مشارف، ثم التقوا فقاتلوا قتالا عظيمًا.
وقتل أمير المسلمين زيد بن حارثة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والراية في يده، فتناولها جعفر)
}.
لاحظ أن القتل يتناول القادة، وهذا يدل على أنَّ المكافأة مفقودة، فكون القائد وحامل الراية يُقتل فهذا يدل على شجاعة الصحابة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ونزل عن فرس له شقراء فعقرها، وقاتل حتى قطعت يده اليمنى)}.
عقر الخيل محل نظر من جهة المتن، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ» ، والحديث صحيح، والأصل أنَّها لا تُعقَر إلَّا إذا كانت مُصابة، فربما أراد جعفر أن يُجهَز عليها حتى يُنهي حياتها، أو فعله اجتهادًا حتى لا يستفيد منها الكفار، ولهذا عقد الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- هذه المسألة وهي: عقر الخيل.
ويبدو أن هذا العقر من عادات العرب القديمة، وذكر الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- أحكام العقر، وأكثر أهل العلم على أن عقر الخيل لا يجوز، وهذا ما تدل عليه قواعد الشريعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأخذ الراية بيده الأخرى فقطعت أيضًا، فاحتضن الراية ثم قتل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن ثلاث وثلاثين سنة على الصحيح. فأخذ الراية عبد الله بن رواحة الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وتلوَّم بعض التلوم)}.
هذا التَّلوُّم مذكور، ومن جهة السَّند فأنا لم أقف على سندٍ صحيحٍ في هذا، وذُكر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «أنَّه رأى زيدًا وعبد الله وجعفر، ورأى سرير عبد الله بن رواحة فيه تزوُّرٌ عن صاحبيه» -يعني تأخُّر-؛ كذلك لا يصح.
وكما ذكرتُ لك: أن عبد الله بن رواحة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مفرط في الشجاعة، والظَّنُّ به أنَّه قاتل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكان مقبلًا لأجل ذلك.
{ما معنى التَّلوُّم؟}.
التَّلوُّم: هو التَّأخُّر.
ومن خلال سياق الروايات التي نظرتُ فيها يبدو أنَّ المعركة كانت سريعة، والتَّلاحم لم يستمر كثيرًا، ولهذا كان من توفيق الله لخالد ثم من حذاقته العسكريَّة رأى أن المشاركة فيها هلكة، فأراد أن يُنقذ ما بقي من المسلمين، فاحتازهم وانصرف؛ لأن المعركة في هلاك، ولا شك أن إبقاء المسلمين فيه مصلحة عظيمة في قتال الكفار، وهو الذي قال: "كُسِرَت في يدي تسعة أسياف"، وبقي في يده صفيحة يمانية يُقاتل بها، وهي أردأ ما يكون من السُّيوف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم صمم وقاتل حتى قتل، فيقال: إن ثابت بن أقرم أخذ الراية وأراد المسلمون أن يؤمروه عليهم فأبى، فأخذ الراية خالد بن الوليد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فانحاز بالمسلمين، وتلطَّف حتى خلص المسلمون من العدو، ففتح الله على يديه)}.
المنصوص عليهم ثلاثة، فخالد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رأى المصلحة في ذلك، ولا شك أنَّه قائد عسكري فذ نادر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كما أخبر بذلك كله رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه الذين بالمدينة يومئذ وهو قائم على المنبر، فنعى إليهم الأمراء، واحدًا واحدًا وعيناه تذرفان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والحديث في الصحيح)}.
جعفر بن أبي طالب لتوِّه قدم من الحبشة، وهو ابن عمه، وجعفر عانى في الهجرة، وبعد ذلك لم يُصب شيئًا من الراحة في الدنيا، فلا شك أن موته كان مُؤثرًا، فهؤلاء الثلاثة كان يُحبهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زيد بن حارثة، وكان حب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم ابن عمه، ثم عبد الله بن رواحة، فلا شك أنه أمرٌ مؤسف، ولكن إرادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنصرة هذا الدين أن تكون هذه التضحيات العظيمة، لتكون دورسًا ملهمة للأمَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجاء الليل فكف الكفار عن القتال. ومع كثرة هذا العدو وقلة عدد المسلمين بالنسبة إليهم لم يقتل من المسلمين خلق كثير على ما ذكره أهل السير، فإنهم لم يذكروا فيما سموا إلا نحو العشرة. وكرَّ المسلمون راجعين)}.
فيما يظهر لي: أنَّ المعركة كانت سريعة، وجاء الليل وحلَّ وكان الرجوع من خالد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ووقى الله شر الكفرة وله الحمد والمنة، إلا أن هذه الغزوة كانت إرهاصًا لِما بعدها من غزو الروم، وإرهابًا لأعداء الله ورسوله)}.
لا شكَّ أنَّ مثل هذه الغزوة أنزلت الرعب في هؤلاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: غزوة فتح مكة
نذكر فيه ملخص غزوة فتح مكة التي أكرم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها رسوله، وأقر عينه بها، وجعلها علما ظاهرًا على إعلاء كلمته وإكمال دينه والاعتناء بنصرته.
وذلك أنَّه لما دخلت خزاعة -كما قدمنا- عام الحديبية في عقد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودخلت بنو بكر في عقد قريش وضربت المدة إلى عشر سنين، أمن الناس بعضهم بعضًا، ومضى من المدة سنة ومن الثانية نحو تسعة أشهر، فلم تكمل حتى غدا نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة فبيتوا خزاعة على ماء لهم يقال له الوتير)
}.
كان من ضمن بنود الصلح: أنَّ مَن شاء أن يدخل في عقد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن شاء أن يدخل في عقد قريش، وثَمَّ قبيلتان متجاورتان وهما: خزاعة وبنو بكر؛ أمَّا خزاعة فهي قبيلة أزدية، وكانت لها السيادة على مكَّة قبل قريش، وهي مَن خلفَت جرهم اليمانيَّة في سيادة مكَّة، وخزاعة دخلوا في عقد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وبنو بكر بن عبد مناة هم أبناء لعم قريش، من قبائل كنانة، وهي بطون متعدِّدة في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بنو الدِّئْل -نسبة لبني الديلي- وبنو ضمرة، ومنهم غفار، وبنو ليث، وبنو العريج.
وقبيلة بني بكر وخزاعة بينهم أشياء، فحصل القتال، وهنا ذكر ابن كثير ماء الوتير، والوتير هذا: مورد ماء جنوب غرب مكَّة، وهذا الماء انتهى من أكثر من مائة سنة فيما يذكر أهل البلدانيات، وهو الآن مجاور لمكَّة، وهو قريب من مخططات مكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاقتتلوا هناك بذحول كانت لبني بكر)}.
خزاعة قبيلة يمنية، وبنو بكر قبيلة عدنانيَّة كنانية، وبينهم ذحول، والذحول: مفرد "ذحل"، وهو الحقد، والجمع: أذحال وذحول، يعني: الثَّأر الذي في الصدور، وهذا موجود عند العرب، وكانت من أسباب نقض هذا البند من قريش.
الآن يسوق لك ابن كثير السبب في هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فاقتتلوا هناك بذحول كانت لبني بكر على خزاعة من أيام الجاهلية، وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بالسلاح)}.
الآن حصل الإخلال، وكان الشرطُ أنَّ قريشًا لا تعينُ، ولكن ظنُّوا أنَّ هذا الأمر سيخفى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وساعدهم بعضهم بنفسه خفية، وفرت خزاعة إلى الحرم فاتبعهم بنو بكر إليه)}.
خزاعة الآن في عقد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فذكر قوم نوفل نوفلًا بالحرم، وقالوا: اتق إلهك)}.
نوفل بن معاوية الديلي ممَّن قاتل خزاعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال لا إله له اليوم، والله يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تدركون فيه ثأركم؟)}.
يعني: أنتم تكفُّون عن هذه الأشياء وتفعلون ما هو أعظم! فواضح أنَّه يطلب ثأرًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قلت: قد أسلم نوفل هذا بعد ذلك -وعفا الله عنه- وحديثه مخرج في الصحيحين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقتلوا من خزاعة رجلًا يقال له منبه، وتحصنت خزاعة في دور مكة، فدخلوا دار بديل بن ورقاء)}.
كانت عادتهم أنَّهم يلجؤون للحرم للأمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ودار مولى لهم يقال له: رافع، فانتفض عهد قريش بذلك)}.
المسألة ظاهرة في أنَّهم نقضوا الصُّلح والعهد الذي بينهم وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فخر ج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي حتى أتوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعلموه بما كان من قريش واستنصروه عليهم)}.
قريش نقضت العهد والميثاق، وآذت خزاعة التي دخلت في عقد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأجابهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبشرهم بالنصر، وأنذرهم أن أبا سفيان سيقدم عليهم مؤكدًا العقد وأنه سيرده بغير حاجة. فكان ذلك)}.
لا شكَّ أنَّ هذا خطأ استراتيجي من قريش، فحينما نقضوا هذا العقد والصلح أحسُّوا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقوَى في مسألة التَّأخير، فلهذا بعث أبو سفيان، فهم رأوا أن الإسلام ينتشر، وحصون خيبر تسقط، وتوسع الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وذلك أن قريشًا ندموا على ما كان منهم، فبعثوا أبا سفيان ليشد العقد الذي بينهم وبين محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويزيد في الأجل، فخرج، فلما كان بعسفان لقي بديل بن ورقاء وهو راجع من المدينة، فكتمه بديل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورضي الله عنها، فذهب ليقعد على فراش رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمنعته، وقالت: إنك رجل مشرك نجس. فقال: والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر. ثم جاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرض عليه ما جاء له)}.
وهذا صحيح، فإنَّ المشركين ما كانوا يتنزَّهون من النَّجاسة، وهذا فراش النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو منزَّه عن مثل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلم يجبه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكلمة واحدة، ثم ذهب إلى أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فطلب منه أن يكلم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأبى عليه، ثم جاء إلى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فأغلظ له، وقال: أنا أفعل ذلك؟! والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به)}.
على عادة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قوَّته وصرامته في الحق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجاء عليًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلم يفعل، وطلب من فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورضي الله عنها أن تأمر ولدها الحسن أن يجير بين الناس، فقالت: ما بلغ بني ذلك)}.
أي أن الحسين صغير، وهذا يدلُّكَ على أنَّه حاولَ، وكل المحاولات باءت بالفشل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وما يجيل أحد على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأشار عليه علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن يقوم هو فيجير بين الناس، ففعل. ورجع إلى مكة فأعلمهم بما كان منه ومنهم، فقالوا: والله ما زاد -يعنون عليًا- أن لعب بك)}.
يعني هذه الإجارة ما لها مكان، كيف تجير عن الناس من طرف واحد! فهذا غير مقبول، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أجابه، فجعل الأمر سري، أنتم فعلتم ونقضتم؛ فتحمَّلوا الآن! فردَّة فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستكون خفيَّة عن العدو، وهذا من السياسة الشرعيَّة، ومن منهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القائد -صلوات ربِّي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثم شرع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجهاز إلى مكة، وسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يعمي على قريش الأخبار، فاستجاب له ربه تبارك وتعالى)}.
وهذا مرَّ معنا كثير جدًّا، إلَّا في قصَّةٍ واحدةٍ سوف يذكرها المؤلف في غزوة تبوك، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، فكان يُعمِّي، وهنا سأل ربَّه أن يُعمِّيَ عن قريش؛ لأنَّه يُريد أن يأتيهم بغتة، ولا شك أن البغتة ستكون مُؤثرة فيهم، ويكون فيها أمان للمسلمين ولهؤلاء.
وما ذكر المؤرخون شيئًا من هذا، ولكن لا شكَّ أنَّ فيه أشياء فعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها تعمية عليهم حتى يظنوا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لن يقدم عليهم، على الأقل في المدَّة هذه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى أهل مكة يعلمهم فيه بما همَّ به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القدوم على قتالهم وبعث به مع امرأة)}.
دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استًجيبَت، فنزل الوحي بما كان من حاطب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرضَاه- وكان هذا خطأ من حاطب -كما سيأتي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد تأول في ذلك مصلحةً تعود عليه)}.
يعني مصلحة شخصيَّة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ [الممتحنة: 1]، فهذه آية واضحة في قطع الصِّلة والتَّواصل مع هؤلاء، وحاطب بن أبي بلتعة ليس من قريش، وإنَّما هو لخمي وهو حليف بني أسد بن عبد العزى من قصي، واللصيق والحليف في مكَّة يكون ضعيفًا مهما كان، وكانت له أموال وبقيَّة أهلٍ؛ فأراد بهذا الكتاب أن يكون له يد على قريش، وهو يظن أنَّ هذا الأمر لن يكون له أثر على المسلمين، فهو مجرَّد إخبار، ولكنَّه أخطأ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في هذا، ولهذا لَمَّا كتب هذا السر نزل الوحي بهذا الإعلام، وهذا يدل على أنَّ الصحابة لم يكونوا معصومين، وقد وقع منهم الخطأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقبل ذلك منه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصدَّقه؛ لأنه كان من أهل بدر، فبعث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليًا والزبير والمقداد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فردوا تلك المرأة من روضة خاخ، وأخذوا منها الكتاب)}.
هو كتب لهم هذه الرسالة وجعلها مع امرأة، قيل: هي مولاة من مُزينَة، وأنَّها عقدت هذه الرسالة في شعرها لتخفيها، وذهبت لتُعلم قريش، وجاء الوحي، فتبعها علي والزُّبير والمقداد، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّكم ستجدونها في روضة خاخ، وروضة خاخ في طريق مكَّة، تبعد تقريبًا ثمانية وعشرين كيلو عن المدينة، وهو مكان مجمع للماء والسيل، وينبت فيها الشجر، فوجودها، فقالوا: نريد الكتاب الذي كتبه حاطب؛ فأبَت، فقالوا: إن لم تفعلي فعلنا وفعلنا، فسلَّمت الكتاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان هذا من إعلام الله عز وجل نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك ومن أعلام نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
كان هذا من دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستجابته لدعوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُعمِّي عن قريش الأخبار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وخرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، وقد ألفت مزينة وكذا بنو سليم على المشهور رضي الله عنهم جميعهم)}.
(ألَّفت)، يعني: بلغوا ألفًا في العسكر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واستخلف -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين. ولقيه عمه العباس بذي الحليفة، وقيل: بالجحفة فأسلم. ورجع معه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعث ثقله إلى المدينة)}.
(ثقله)، يعني: الثَّقيل من المتاع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولما انتهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى نيق العقاب جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب)}.
(نيق العقاب)، هذا موضع قرب الجُحفة، والجحفة مهجورة الآن، وهي قريبة من رابغ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة مسلمين، فطردهما، فشفعت فيهما أم سلمة، وأبلغته عنهما ما رققه عليهما، فقبلهما، فأسلما أتم إسلام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم)}.
قد يحصل اشتباه بين سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين أبي سفيان بن حرب.
وسفيان بن الحارث بن عبد المطلب؛ اسمه: المغيرة، وهو ابن عم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بعد ما كانا أشد الناس عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
وهذا ما جبل عليه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الرحمة والوفاء والإحسان، فلاحظ أن هؤلاء يعادونه ويبقون سنوات طويلة يواجهون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقوة والعدد والعدَّة، ثم بعد ذلك يرجعون، ثم يقبلهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلا شك أنَّ هذا من الأخلاق العظيمة التي جُبل عليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وصام -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بلغ ماء يقال له: الكديد، بين عسفان وأمج من طريق مكة، فأفطر بعد العصر على راحته ليراه الناس)}.
في بعض الروايات:(الكُدَيْد) بالضَّم. وفي بعض الروايات (الكَديد)، وهو: موردُ ماءٍ، وكان الناس لا ينزلون إلَّا على مواضع الماء، ويسمونه بأسماء.
و(أَمج) يُعرف الآن بوادي خليص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأرخص للناس في الفطر، ثم عزم عليهم في ذلك)}.
في البداية كان قد أرخصَ لهم، ثم عزَم عليهم، يعني صار الفطر من الرخصة إلى العزيمة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فانتهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى نزل بمر الظهران فبات به.
وأما قريش فعمى الله عليها الخبر، إلا أنهم قد خافوا وتوهموا من ذلك)
}.
وهذا استجابة دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فلما كانت تلك الليلة خرج ابن حرب، وبديل بن ورقاء)}.
ابن حرب: هو سفيان بن حرب بن أمية، وهو من سادات قريش.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وحكيم بن حزام يتجسسون الخبر، فلما رأوا النيران أنكروها، فقال بديل: هي نار خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة أقل من ذلك)}.
(بديل)، كان هذا الموضع للتَّعمية على قريش، وبديل جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستنصره، ولهذا قال لأبي سفيان: إنَّها نار خزاعة للتَّعمية، وإنَّما سفيان رجل ذكي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وركب العباس بغلة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلتئذ، وخرج من الجيش لعله يلقى أحدًا، فلما سمع أصواتهم عرفهم، فقال: أبا حنظلة! فعرفه أبو سفيان)}.
العباس أسلم، وفي روايات ما نريد أن نطيل في ذكرها؛ هل كان إسلامه قبل الفتح أو بعده؛ والصَّحيح أنَّ العباس أسلم قبل الفتح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال: أبو الفضل؟ قال نعم. قال ما وراءك؟ قال ويحك! هذا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الناس، وا صباحَ قُريشٍ! قال: فما الحيلة؟)}.
واضح أنَّ الأمر قد قُضيَ، والعاقل خصيم نفسه، فما له إلَّا أن يُسلِّم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قال والله لئن ظفر بك ليقتلنك، ولكن اركب ورائي وأسلم)}.
وهذا من كريم خلق العباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فهو يريد لأبي سفيان السيادة التي كان فيها في حال الجاهليَّة أن تبقى، وأن ينجو بنفسه من النار، وأن يُحسن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليه، فكأنه يقول له: أنتَ مقتولٌ مقتول؛ فخير لك من ذلك أن تسلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فركب وراءه وانطلق به، فمر في الجيش كلما أتى على قوم يقولون: هذا عم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بغلة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
ولو كان عُلِمَ أنَّه أبو سفيان ما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتركونه؛ لأنَّه شديد العداوة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومواقفه كثيرة جدًّا، وسبحان الله! الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله.
ولم يعرفه أحد من الصحابة، لأن ما أحد يستطيع أن يكشف السر الذي خبَّأه العباس بن عبد المطلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (حتى مر بمنزل عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلما رآه قال: عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد)}.
عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان متميِّزًا بين الصحابة، وجاء في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ» ، فكان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيه صفات عجيبة جدًّا، والمواقف تثبت ذلك وتبيِّنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويركض العباس البغلة، ويشتد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في جريه، وكان بطيئًا، فسبقه العباس، فأدخله على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
دخل الآن إلى مجلس الرَّحمة والإحسان والكرم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وجاء عمر في أثره، فاستأذن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ضرب عنقه، فأجاره العباس مبادرة)}.
المجاورة معروفة في الجاهليَّة وفي الإسلام، فلا شك أنَّه إذا أجاره فإنه يدخل في الجوار، وهذا تعرفه العرب إلى يومنا هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فتقاول هو وعمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم)}.
يعني حصل بينهما ترادّ في الكلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فأمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأتيه به غدًا، فلما أصبح أتى به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرَض عليه الإسلام فتلكَّأ قليلًا، ثم زجره العباس فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله! إن أبا سفيان يحب الشرف)}.
يُحبُّ الشَّرف، فما زال فيه بقايا الجاهلية، فهو يُحبُّ السيادة، فيقول العباس: أنتَ محسنٌ يا رسول الله؛ فمن باب التأليف أعطاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحفظ له مكانته التي كانت في الجاهليَّة، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حفظ للناس مكانتهم التي كانت في الجاهليَّة لَمَّا أسلموا وأعطاهم حقوقهم، كل هذا تحبيبًا لهم وترغيبًا لهم في الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن». قال ابن حزم: "هذا نص في أنها فتحت صلحًا لا عنوة".
قلت: هذا أحد أقوال العلماء وهو الجديد من مذهب الشافعي)
}.
وكونها فُتِحَت صُلحًا أو عُنوة هذا يترتَّب عليه أحكام شرعيَّة في مسألة قسمة الغنائم -كما مرَّ معنا- فما فُتِحَ صُلحًا يختلف حُكمًا عن ما فُتِحَ عُنوةً وقتالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واستدل على ذلك أيضًا بأنها لم تخمس ولم تقسم. والذين ذهبوا إلى أنها فتحت عنوة استدلوا بأنهم قد قتلوا من قريش يومئذ عند الخندمة نحوًا من عشرين رجلً)}.
(الخندمة) موجود الآن، وهو جبل في مكَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (واستدلوا بهذا اللفظ أيضًا: «فهو آمن» والمسألة يطول تحريرها ها هنا. وقد تناظر الشيخان في هذه المسألة -أعني تاج الدين الفزاري، وأبا زكريا النووي- ومسألة قسمة الغنائم)}.
هذا خلاف، ولكن المقصود هنا هو القصَّة التَّاريخيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (والغرض أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصبح يومه ذلك سائرًا إلى مكة، وقد أمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العباس أن يوقف أبا سفيان عند خطم الجبل، لينظر إلى جنود الإسلام إذا مرت عليه)}.
يعني يُوقف أبا سفيان عند رأس الجبل، وهذا قصود شرعي، ليرى أبو سفيان -وهو سيد قريش- جنود المسلمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد جعل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا عبيدة بن الجراح -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على المقدمة، وخالد بن الوليد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على الميمنة، والزبير بن العوام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على الميسرة، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القلب)}.
تقسيم الجيش كان على هذا النَّحو:
- مقدمة.
- ميمنة.
- ميسرة.
- قلب.
- والسَّاقة، وهو لم يذكرها هنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكان أعطى الراية سعد بن عبادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فبلغه أنه قال لأبي سفيان حين مر عليه: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة -والحرمة هي الكعبة- فلما شكا أبو سفيان ذلك إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة»، فأمر بأخذ الراية من سعد فتعطى عليًا، وقيل: الزبير، وهو الصحيح، وأمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزبير أن يدخل من كداء من أعلى مكة)}.
(كداء)، هي: ثنيَّة الآن، وقد زالت آثارها، وهي قريبة من مقبرة الْمُعلَّاة، ويقرب منها (ريع الحجون)، والآن فيه مقبرة، و(الحجون) كان له ذكر في أشعار العرب، ومن ذلك عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي، لمَّا أخرجتها خزاعة فقدَ ابنًا له، ثم جاءت جُرهم إلى مكَّة، وكان أيَّ جرهمٍ يأتي تقتله خزاعة، فرأى آثار مكَّة فقال قصيدة مؤثِّرة وطويلة جدًّا وهي من عيون الشعر العربي، فيقول:
كأنْ لم يَكُنْ بينَ الحَجُون إلى الصَّفَا ** أَنِيْسٌ، وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سامرُ
فالحجون كانت من معالم مكَّة، ويُذكر أنَّ الحجون جبل مشرف على المقبرة وفيه ريع -وهو المكان المنبسط، و(كداء) هذه الثَّنية الآن التي دخل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها.
وقيل: إن دخول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من (كداء)، لأنَّ حسان كان في قصيدته المشهورة يقول:
عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها ** تُثيرُ النَقعَ مَوعِدُها كَداءُ
فتحقيقًا لهذا دخل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من (كداء) أعلى مكة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأن تنصب رايته بالحَجون)}.
والتَّحقيق أنَّ (الحَجون) بالفتح، وهذا هو الصَّحيح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأمر خالدًا أن يدخل من كدى من أسفل مكة)}.
(كُدَى) منطقة تقع أسفل مكَّة، ويُذكر أنَّها الآن بين حارة الباب وجَرْوَل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأمرهم بقتال من قاتلهم. وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، قد جمعوا جمعًا بالخندمة)}.
جبل الخندمة -الذي ذكرناه- وهو الذي حصلت فيه المقتلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فمر بهم خالد بن الوليد فقاتلهم، فقتل من المسلمين ثلاثة وهم: كرز بن جابر من بني محارب بن فهر، وحبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعي، وسلمة بن الميلاء الجهني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلًا، وفر بقيتهم.
ودخل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة وهو راكب على ناقته وعلى رأسه المغفر، ورأسه يكاد يمس مقدمة الرَّحل من تواضعه لربه -عَزَّ وَجَلَّ)
}.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إمام المتواضعين، وهذا الموقف موقف إظهار قوَّة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما دخل مكَّة دخل متواضعًا لربِّه، ما دخل دخول الفخر، ولهذا ذكر أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان على رأسه (المغفر) وهو غطاء للرأس يُلبَس تحت البيضة -يعني الخوذة- وذكرنا أنه حلق من حديد تسبغ على الوجه وعلى الرأس وعلى الذراعين والعاتقين، والقصد منها الحماية، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد طأطأ رأسه.
والرَّحل: هو الخشبة العارضة على ما يُركَب عليه من البعير، فكأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل على ناقته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد أمن -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس إلا عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، ومقيس بن صبابة، والحويرث بن نقيذ، وقينتين لابن خطل، وهما فرتنا وصاحبتها، وسارة مولاة لبني عبد المطلب، فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهدر دمائهم، وأمر بقتلهم حيث وجدوا، حتى ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة فقتل ابن خطل، وهو متعلق بالأستار، ومقيس ابن صبابة، والحويرث بن نقيذ، وإحدى القينتين، وآمن الباقون)}.
عبد العزى بن خطل أسلم، ثم قَتَلَ مُسلمًا من خزاعة وارتدَّ، وجعل يهجو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك ابن صبابة قَتَلَ مسلمًا ثأرًا لمقتل أخيه، وأظهر الإسلام، ثم لحق بأهل مكَّة كافرًا.
أمَّا الحويرث فهو كان ممَّن يؤذي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الذي نخسَ جمل زينب ابنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسقطت عنه حينما أرادت أن تهاجر إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (وقينتين)، القَيْنَة: هي الأمَة المملوكة، وصارت تُطلق على الأمَّة التي تُغنِّي.
فهذا ما يتعلق بهؤلاء الذين أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتلهم، وإلَّا فالغالب أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عفا عن أهل مكَّة وعن قريش.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ هذا البيان وهذا الإثراء، وجعله في موازين حسناتكم}.
أسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم -أيُّها المشاهدون- على طيبِ المتابعةِ، ونلقاكم في حلقة قادمةٍ -بإذن الله- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك