الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2056 12
الدرس الثاني عشر

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام المجد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء
وقول الله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هود: 116]، وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعًا: «بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». رواه مسلم وأحمد من حديث ابن مسعود وفيه: "ومن الغرباء؟" قال: «النُّـزَّاعُ مِنَ القَبَائِل». وفي رواية: «الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»، وللترمذي من حديث كَثِير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «طُوبَى لِلْغُرَبَاء الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».
وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَة َ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقُلْتُ لَهُ: "يَا أَبَا ثَعْلَبَة! كَيْفَ تَقُولُ فِي ِهَذِهِ الآيَةِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة:105]؟"، فَقَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ مثل القابض عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قلنا: "مِنَّا أَمْ مِنْهُمْ؟"، قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». رواه أبو داود والترمذي. وروى ابن وضاح معناه من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولفظه: «إن من بعدكم أيامًا الصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم؛ له أجر خمسين منكم»، قيل: يا رسول الله منهم؟ قال: «بل منكم».
ثم قال: أنبأنا محمد بن سعيد أنبأنا أسد قال سفيان بن عيينة عن أسلم البصري عن سعيد أخي الحسن يرفعه، قلت لسفيان عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قال: «إنكم اليوم على بينة من ربكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في الله، ولم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش، وستحوّلون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في الله، وتظهر فيكم السكرتان، فالمتمسك يومئذٍ بالكتاب والسُنة له أجر خمسين» قيل: منهم؟ قال: «لا بل منكم». وله بإسناد عن المعافري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «طوبى للغرباء الذين يُمسكون بكتاب الله حين يُترك ويعملون بالسُنة حين تطف»)
}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد؛ فهذا هو الباب قبل الأخير من كتاب "فضل الإسلام" للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عنونَ له بهذا العنوان فقال: (باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء).
وهذا مسلكُ كثيرٍ من أهل العلم الذين صنَّفوا في أحاديث الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، يذكرون هذا اللفظ الشرعي، وهذا المصطلح الذي ورد في النصوص الشرعية، وقد ورد الإشارة إليه في القرآن، وفي سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في أحاديث كثيرة.
ولفظ "غربة الإسلام" و"الغرباء" جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هكذا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَ».
المراد بالغربة: أي أن المتمسِّك بالإسلام والثابت على الإسلام يكون عددهم قليلًا، حتى يكون أكثر الناس على خلاف هذا الأمر، فيرى المتمسِّك بالإسلام حاله وشأنه أنه في غربة، كالمسافر الذي اغترب عن بلده، فلو خرج رجلٌ من بلده إلى بلدٍ لا يعرف فيها أحدًا وسكنَ فيها، فيسميه الناس "غريبًا"، فيرى نفسه غريبًا إمَّا في لباسه، وإمَّا في لهجته ولفظه، وإما في عاداته، وإمَّا في غير ذلك من الأمور.
ومعنى غربة الإسلام: أنَّ أهله المتمسكون به سيكون عددهم قليلًا حتى يشعرون بالوحشة والقلَّة، ويشعرون بأن الأكثريَّة على خلاف هذا الأمر.
والغرباء: جمع غريب.
وقوله: (فضل الغرباء)، يعني: المتمسكون بالإسلام حتى لو ضلَّ الناس.
فهذا مُصطلح شرعي ولفظ شرعي، لا يجوز أن نتعقَّبَ على كلام الله وعلى كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كما يحلو لبعض التافهين أن يقول: أن هذا يجعل الإنسان يعيش في عُزلة شعوريَّة!
هناك بعض الجماعات الضَّالَّة تسلك هذا المسلك، وتحاول أن تُؤثِّر على فئامٍ من الشباب فتعزلهم عن المجتمع، وتعزلهم عن ولاة الأمر، وعن السمع والطاعة، وعن لزوم الجماعة؛ فيستغلون هذه الأحاديث، ولكن ليس العلاج أن نبعدهم عن هذه الأحاديث؛ وإنما أن نشرحها لهم على الوجه الصحيح، والمنهج الذي عليه علماء أهل السنَّة والجماعة ومن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان؛ فكلهم رووا هذه الأحاديث وتلقوها بالقبول، خلافًا لهؤلاء الضالِّين أو الغالين أو المنحرفين، فدين الله وسط بين ضلالة الغلاة وضلالة الجفاة.
ويجب أن نقبل ما قاله الله وقاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأن ننزله منزلته، وأن نفهمه فهمه الصحيح السليم حسب ما دلَّت عليه النصوص، وحسب ما فهمه الصحابة ومَن تبعهم بإحسان.
قال: (وقول الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 116]).
هذه الآية في آخر سورة هود، لَمَّا قصَّ الله قصص الأنبياء: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وإبراهيم، وشعيب، ثم موسى وهارون مع فرعون وجنده؛ بعد هذه القصص العظيمة ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- حال الناس في الآخرة، وذكَّر الرسول فقال: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: 112]، ثم قال في آخر السورة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ [هود: 114- 116].
فقوله: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، يعني: هلَّا كان من الأمم السالفة.
قوله: ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾، يعني: عدد قليل.
قوله: ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ﴾، يعني: هلَّا كان من هذه الأمم التي أهلكناها بقيَّة منهم بقيت ينهون عن الفساد الذي حصل في هؤلاء؟!
فالذين أنجاهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- هم ينهون عن الفساد ويأمرون بالتوحيد، ويأمرون بالإصلاح، ويأمرون بالدِّين، أمَّا الذين أهلكهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلم يكن فيهم هؤلاء، وهذا محل استنكار لهؤلاء الذين كفروا بالله وبرسله.
قوله: ﴿إِلا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾، إذن؛ البقيَّة الذين ينهونَ عن الفساد في الأرض هم المصلحون.
واليوم مصطلح "الفساد" ومصطلح "الإصلاح" حصل فيه استخدامات متعددة، حتى صار الكفار من اليهود والنصارى يأتون بكلمة "الإصلاح"، ويقولون: فلان إصلاحي، والحزب الإصلاحي.
فالإصلاح عندهم ليس هو المفهوم الشرعي، فيجب أن نفهم الإصلاح بحسب ما بيَّنه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنا، ونفهم الفساد والإفساد بحسب ما بيَّنه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنا.
فالإصلاحي عند الكفرة: هو الذي يتمرَّد على الموروثات، ويتمرَّد على النصوص، وهم عندهم نصوص محرَّفة، عندهم دين محرَّف باطل لا يجوز اتباعه؛ بل يجب اتباع الإسلام.
وعكس "الإصلاحي" عندهم: الرَّجعي.
والرَّجعي عندهم: هو الذي يتمسَّك بالموروث على ما فيه من ضلالات وشركيَّات وخرافات وتبديل وتحريف.
إذن؛ لا عبرة لنا بمصطلحات الكفار، ولا يجوز لنا أن نسوق ونسوِّقَ مصطلحاتهم وأفهامهم الفاسدة ودينهم المحرَّف فننزله على ما عند الإسلام وأهل الإسلام.
كذلك بعض من يُسمُّونهم المعارضة الذين يُعارضون ولاة الأمور ويُعارضون الجماعة، ويذهب إلى بلد أجنبي ثم يُعلن أنه يريد الإصلاح، وهذا هو رأس الإفساد، وهذا رأس الشر، وهو ممن سلك مسلك الخوارج وأهل الأهواء وأهل البدع، ومع ذلك يُسمِّي نفسه مصلح!
كما قصَّ الله لنا عن المنافقين: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11، 12]، فنسأل الله العافية والسلامة.
والصلاح والإصلاح في الأرض إنما يكون بالتوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة، وليس على الأهواء، وكذلك الإصلاح في الأرض يكون بمحاربة الشرك، وتطهير الأرض من الشرك، فالشرك هو أعظم فساد.
قال الله تعالى في سورة الأعراف ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: 170]، هنا مدح الله هؤلاء بأنهم مصلحون، فوُصفوا بوصفين: التَّمسُّك بالكتاب، وإقام الصلاة، والتَّمسُّك بالكتاب يشمل التَّمسُّك بالسنَّة.
إذن؛ إحياء الكتاب والسنَّة والعمل بالكتاب والسَّنَّة وتحكيم الكتاب والسُّنَّة والدَّعوة إلى الكتاب والسنَّة هذا هو رأس الإصلاح، وهذا من جهة الأمور العلمية الاعتقاديَّة.
والجانب الثَّاني: إقام الصَّلاة، والصَّلاة رأس العبادات، وهي عمود الإسلام، فإذا أقام الصَّلاة أقام ما بعدها من الأمور الماليَّة مثل الزكاة، ومن الصوم، ومن الحج، إلى آخره..، فهذا هو الإصلاح.
قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾، فيه دعوة إلى المسلم أن يثبت على الحق، وأن يكون مثل هؤلاء البقية الذين ينهونَ عن الفساد في الأرض، وهذا دليل على أن الأمم السالفة حدث فيها قلَّة للمؤمنين والصالحين، وقلَّة من المتمسِّكين بالشَّرع المنزَّل عليهم، فهكذا سيحدث في أهل الإسلام، فسيكون فيهم قلَّة في آخر الزَّمان، وبالفعل وُجِدَ في بلدان المسلمين مَن يُحار بالشريعة الإسلاميَّة ويُبغض تحكيم الشريعة الإسلاميَّة، ويفرح إذا قيل القانون البريطاني أو القانون الفرنسي ويطرب لذلك، وإذا قيل: "قال الله وقال الرسول"؛ فرَّ وضاقَ وتبرَّمَ، فهذا من المفسدين في الأرَض، ولكن هو لا يشعر أنه مُفسد، هو لا يريد الكتاب والسنة، ويتعلل بالعلل الباردة، ويحتج ربما بأفعال بعض الأشياء التي ترد على الناس، ويترك كتاب الله وسنَّة رسوله، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودً﴾ [النساء: 61].
ومن الغربة أيضًا ومن أفعال المفسدين في الأرض: نشر الكفر، ونشر الإلحاد، ونشر الإباحيَّة، ونشر التحلل من القيم والأخلاق، فهذا -نسأل الله العافية والسلامة- قد ظهر في بعض البلدان، وهذا قد يقوى في بلدٍ، ويضعف في بلد، ويختلف من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن زمانٍ إلى زمانٍ؛ فالمسلم عليه أن يصلح نفسه، ويُصلح مَن حوله قدر المستطاع بالدَّعوة والتَّعليم إلى السُّنَّة المحمَّديَّة، وإلى ما جاء عن الله وعن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وهذا الأمر جاء مصرَّحًا فيه بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
قوله: «بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبً»، أين بدأ الإسلام؟
في مكَّة، لَمَّا أوحى الله إلى نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهدى الله -عَزَّ وَجَلَّ- مَن شاء من الصحابة، أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وخديجة، وبدأ الإسلام يكثر أهله شيئًا فشيئًا؛ فكان عددهم قليلًا، فكان بدء الإسلام غريبًا، يعني: كان عدد قليل، والكفار ملئوا الأرض.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَ»، وهذا من علامات النبوَّة، ومما يدل على أن رسول الله حقًّا، ونبي الله صدقًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فقد أخبر بأمر لم يره، وقد وقع في الأزمان المتأخرة، حتَّى عمَّ الشرك، وعمَّت الخرافة في أزمان، فصار أغلب البلدان -وليس كل البلدان- يتقرَّبونَ إلى الأضرحة والأموات ويستغيثون بالسَّادة، ويتبرَّكونَ بهم، ويعتقدون أنهم يعلمون الغيب، فتحوَّلت كثير من البلدان كما وصف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في قوله: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَ».
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، طوبى: هي الجنة، وهذا دعاء من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعطيهم الجنَّة.
قال المؤلف: (رواه مسلم وأحمد من حديث ابن مسعود وفيه: "ومن الغرباء؟" قال: «النُّـزَّاعُ مِنَ القَبَائِل». وفي رواية: «الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»، وللترمذي من حديث كَثِير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «طُوبَى لِلْغُرَبَاء الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي»).
هذه الروايات تشرح المعنى لكلمة "الغرباء"، فوصفوا بأنهم «النُّـزَّاعُ مِنَ القَبَائِل»، يعني ليس الجامع بينهم القبيلة، وليس الجامع بينهم أنَّهم من جنسٍ واحدٍ، أو من القبيلة الفلانية، أو من العرب، أو من الروم، أو من الحبشة، لا؛ بل هم «النُّـزَّاعُ مِنَ القَبَائِل»، يعني يجمعهم الدين، وهذا فيه بيان أن الرابطة العظمى بين المسلمين هي الإسلام، وهي الرابط التي يجب أن يُعتَزَى بها ويُفرَح بها، ولا يُفرَح بغيرها، فالذي يجمع بين المسلمين هو الدين، ولهذا فإن «النُّـزَّاعُ مِنَ القَبَائِل» جمعهم الدين؛ نسأل الله أن يثبتنا وإيَّاكم وجميع إخواننا المسلمين على هذا الدين.
الصفة الثانية من صفاتهم: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»، هم أنفسهم يصلحون.
الصفة الثالثة: «يُصْلِحُونَ»، وهذا مقامٌ أعلى؛ لأنَّ الإصلاح هو الدعوة إلى السنة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي»، يعني أن بعض الناس يفسد السنَّة، ويترك السُّنة المحمَّديَّة إلى غيرها من الجاهليَّات أو البدعيَّات أو الخرافات أو الشِّركيَّات، فياتي هؤلاء الغرباء يقولون للناس: هذا غلط، هذه السنَّة المحمَّديَّة كذا وكذا، فيهتدي من الناس من يهتدي بسبب هؤلاء.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قد مدح هذه الطائفة من الناس، وهم الذي يُصلحون، ويدلون الناس على السنَّة المحمَّدية.
قال المؤلف: (وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَة َ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقُلْتُ لَهُ: "يَا أَبَا ثَعْلَبَة! كَيْفَ تَقُولُ فِي ِهَذِهِ الآيَةِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة:105]؟"، فَقَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرً)، يقصد نفسه وأنه خبيرٌ بالمعنى؛ لأنَّه سأل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن هذه الآية، ولهذا قال: "سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا".
قال المؤلف: (ثم قال: "سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ مثل القابض عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قلنا: "مِنَّا أَمْ مِنْهُمْ؟"، قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». رواه أبو داود والترمذي)، وستأتي بعض الروايات الشَّارحة لبعض الألفاظ الواردة في هذا.
وهذه الآية الكريمة قد يقرأها بعض الناس ويفهم منها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك النصيحة، وقد قام أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خطيبًا يشرح هذه الآية، ويُفنِّدُ الغلط في فهمها.
وهنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فصَّلَ، فذكر أنه متى يُعتزل الناس، وأنه يكون إذا عمَّ الباطل وعمَّ الشر بحيث لا يوجد خير في الأرض، فحينئذٍ لك أن تتركهم وتبتعد عنهم، وهذا يكون في آخر الزمان عندما يعم الشر، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أنْ يَكونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بهَا شَعَفَ الجِبَالِ ومَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»[42].
فما دام أن المسلمين يقيمون الجمع والجماعات تحت الإمام ولي الأمر ولو كان فيهم من الشرور ما فيهم، ولكن ما دام فيهم هذا الخير وهذا الاجتماع، فتبقى معهم تصلح ما تستطيع، تبقى حتى إذا ما استطعت وأطبق الشرُّ على الأرض كلها.
قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعً»، والشح موجود في النفوس، فما فيه نفسه إلا وفيها شح، ولكن يكون مذمومًا إذا أطاع الشح، فبخل بالزكاة، وبخل بأداء الواجبات، وبخل بالنفقة على مَن تلزمه النفقة عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَهَوًى مُتَّبَعً»، يعني: رأيت الهوى هو المتبع في تركهم للدين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً»، يعني: آثروا الدنيا على الدين، وأعرضوا عن الدين تمامًا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ»، الآن يقولون: الرأي والرأي الآخر! وكل واحد الآن يقول: أرى وأرى...، وفي رأيي...، وفي ظنِّي...؛ ويعرض عن الكتاب وعن السنة، ويعرض عن قول الصحابة، ولا يُبالي بذلك ولا يهتم لذلك، معجب لرأيه، مستحسنٌ لعقله.
فإذا رأيت كل ما سبقَ؛ فحينئذٍ يُرخَّص لك في ترك الإصلاح، وترك الأمر بالمعروف، وترك النهي عن المنكر، وهذا في حالة ما إذا أطبقَ الشَّرُّ على الأرض، أمَّا إذا كان فيه شر وفيه خير؛ فالمؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
حتى العُزلة في البراري خطر على دين الإنسان؛ لأنه يضعف دينه، لا يشهد جمعة ولا جماعة، ويتوحَّش في خُلُقه، وربما تهجم عليه الوساوس، وربما تهجم عليه الفتن، وربما يرق دينه، أمَّا كونه مع الجماعة ومع المسلمين يشهد الجُمع والجماعات فهذا خير له، ولكن لا يُشاركهم في المعاصي ولا يشاركهم في الباطل، فهذا هو الفيصل في مسألة العزلة، لكن إذا صار ليس هناك جمعة ولا جماعة؛ فحينئذٍ يكون الاعتزال في هذه الحالة فرار للمرء بدينه من الفتن.
ولهذا فلا يجوز للإنسان أن يعتزل جماعة المسلمين وإمامهم ويشذ عنهم، ويترك الجمع والجماعات، وهذا فعل الخوارج، لكن إذا زال هذا الخير كله، ولم يُوجَد جمعة ولا جماعة ولا إمام؛ فحينئذٍ يُرخَّصُ لك في اعتزال الناس، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ».
ثم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ مثل القابض عَلَى الْجَمْرِ»، هذا المثل مثلًا نبويًّا، والمثل القرآني والمثل النبوي يجب العناية بجميع أجزائه واطرافه، فإنها مقصودة، فالقابض على الجمر يشعر بالحرارة والألم، وربما يحترق بعض الجلد ويتأذَّى، وهكذا المتمسك بالسنَّة يجد الأذى، ويجد المضايقة، ويجد العنت من بعض الناس، وبعض الناس يستهزئ به ويتهكَّم به على تمسُّكه بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهذا مثل القابض على الجمر، فلا يُرخَّص له في ترك السنَّة لوجود الأذى، اصبر على أذى الناس، واصبر على السُّنَّة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ»، فلمَّا كان هذا البلاء العظيم، وهذا العنت الذي يُواجهه المتمسِّك بالسُّنَّة صار له الجزاء الكبير من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فصار عمله وتمسُّكه بالدين صارت استقامته بالدين يُضاعف له بأجر خمسين من الصحابة لو عملوا.
هل معنى هذا أنه أفضل من الصحابة؟
الجواب: لا، ليس معناه أنه افضل من الصحابة، ولكن الله يُجازيه، فيُضاعف له عمله حتى يكون هذا العمل مضاعفًا خمسين ضعفًا مثل ما لو عمله الصحابي، فلو عمل الصحابي صدقة، كأن يتصدَّق بمُد أو نصف مُد، فإن هذا أعظم من جبل أُحد، فهذا الذي في زمن الغربة ويجد المضايقة ويجد العنت، ويجد أذى الناس واستهزاءهم، ويجد محاولات شتَّى لصرفه عن سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو متمسِّك بالسنَّة؛ يُضاعف له الأجر خمسين ضعفًا ممَّن لو عمل هذا من الصحابة، ولكن ليس معنى هذا أنه صار هو أفضل من الصحابة، لا يُمكن أبدًا، فالصحابة هم خير القرون.
والصحابة سألوا هذا السؤال: "يا رسول الله منهم؟"، يعني: العمل الذي يُضاعف منَّا أو منهم؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «بل منكم»، يعني: لو عملتم أنتم هذا العمل فإنه في آخر الزمان يُضاعف لمن يعمله خمسين ضعفًا، وهذا يدل على فضل الثبات على السنة، وهذا فضل الغرباء.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وروى ابن وضاح معناه من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولفظه: «إن من بعدكم أيامًا الصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم؛ له أجر خمسين منكم»، قيل: يا رسول الله منهم؟ قال: «بل منكم»)، هذا تأكيدٌ لما سبق.
ثم أورد المؤلف حديثًا فيه بعض المقال لأنه مرسَل، وهذه الأحاديث المرسلة تعتبر في قسم الضَّعيف، ولكن العلماء يأتون بها لاستشهاد في هذه المسائل والاعتضاد بها، وليس للاعتماد، وهذا في كتاب "البدع والنهي عنها" لابن وضَّاح، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنكم اليوم على بينة من ربكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في الله، ولم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش، وستحوّلون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في الله، وتظهر فيكم السكرتان، فالمتمسك يومئذٍ بالكتاب والسُنة له أجر خمسين» قيل: منهم؟ قال: «لا بل منكم». قال المؤلف: (وله بإسناد عن المعافري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «طوبى للغرباء الذين يُمسكون بكتاب الله حين يُترك ويعملون بالسُنة حين تطف»).
كل هذه الأحاديث تدل على المعنى السابق ذكره، وهو فضل التَّمسُّك بالسُّنَّة وفضل الغرباء، وأن الإنسان يثبت على الإسلام ويثبت على السنَّة حتَّى لو تغيَّرَ الناس، إذا حصل في الناس وترك بعضهم صلاة الجماعة لأهواء أو لشبهات أو لدعاة ضلالة يقولون: لا تصلون جماعة في المسجد...، ويضلون الناس عن سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-؛ والمتمسِّك بالسنَّة له أجر عظيم، ولا يُبالي بهؤلاء.
ونقول لإخواننا المسلمين: تمسَّكوا بالسُّنَّة حتى لو حصل ما حصل، فتمسَّك بالسُّنَّة واثبت عليها، واسأل الله الثبات، نسأل الله أن يثبتنا وإيَّاكم على السُّنَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب التحذير من البدع
عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يَوْمًا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه كَأَنَّهَا موعظة مودع فأوصنا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بعدي عضوا عليها بالنواجذ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ». قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وعن حذيفة قال: "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم". رواه أبو داود.
وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك أنبأنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: "أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ فقالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حدثنا أن قومًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج. والله المستعان وعليه التكلان. وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين)
}.
هذا آخر باب من كتاب "فضل الإسلام"، وختم المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذا الكتاب بعد أن مشى مع القارئ في مجموعة كبيرة من النصوص والتَّوجيهات في بيان فضل الإسلام بالتَّحذير من البدع.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب التحذير من البدع
عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يَوْمًا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه كَأَنَّهَا موعظة مودع فأوصنا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بعدي عضوا عليها بالنواجذ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ». قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)
.
نقف مع هذا الحديث وقفات، منهــا:
أولًا: مشروعيَّة الوعظ، فإن الوعظ يكون بالقرآن وبالسُّنَّة، وهذا من كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثانيًا: فضل الصحابة؛ لأن قلوبهم ليِّنَة وطيِّبَة، فتأثَّروا، وذرفت عيونهم، وقد تقدَّم أن الأحوال التي يُحبها الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والتي تكون عند المواعظ هي:
* وجل القلب.
* دمع العين.
* اقشعرار الجلد.
وأمَّا ما زاد عن ذلك من الصُّراخ أو الغشي أو الرقص أو الهز، أو غير ذلك مما يفعله بعض المبتدعة فلا خير فيه، ولكن إذا وقع الصراخ أو الغشي بغير قصده فلا يُلام، لأنه غير متعمد لذلك، ولكنه لا يُمدَح أيضًا.
ثالثًا: في قول العرباض -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ"، وهذا ورد في الترمذي أنه بعد صلاة الفجر فقال: "وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعد صلاة الغداة"، يعني: بعد الفجر.
رابعًا: لَّما وعظهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- تأثَّروا ظنُّوا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سوف يُفارق الدنيا، ولهذا قالوا: "يَا رَسُولَ اللَّه كَأَنَّهَا موعظة مودع فأوصنا"، فيه مشروعيَّة طلب الوصيَّة، إذا كان العالم من أهل السُّنة والرجل الصالح مستقيمًا على السنة؛ فاطلب منه الوصيَّة، فيُوصيك بتقوى الله، يُوصيك بطلب العلم، يُوصيك بالمحافظة على البر، يُوصيك بكذا وكذا..
هنا طلبوا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الوصيَّة لأنهم ظنوا أنه سيُفارق الدنيا، فقالوا: "يَا رَسُولَ اللَّه كَأَنَّهَا موعظة مودع فأوصنا"، قَالَ: «أُوصِيكُمْ...»، فهذه الوصيَّة للصحابة وللأمَّة، فهذه الوصيَّة لنا ولمن بعدنا ولمن قبلنا، فهي وصيَّة عامَّة، فيجب على كل المسلمين أن يعوها وأن يحفظوها، ويعملوا بمضمونها، وكلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حق، وإذا سمعه المسلمون وجب عليهم أن يعملوا به.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ»، هنا وصيتين عظيمتين:
الأولى: فيها صلاح الدين وصلاح الآخرة، وهي تقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وتقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ- تكون بفعل الواجبات وترك المحرمات، وأن تعمل بنور الله على هدًى من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ترجو ثواب الله وتخشى عقابه، وأن تترك معاصي الله على نور من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ترجو ثوابه وتخشى عقابه.
الثانية: فيها صلاح الدنيا، ويكون بالسمع والطاعة لولاة الأمور.
وتقدَّم شرح الفرق بين السمع والطاعة، ويكون السمع والطاعة لولاة الأمور، فتسمع وتطيع لولي أمر المسلمين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في رواية أخرى: «وإن كان عبدًا حبشيا كأن رأسه زبيبة»، وهذا فيه أنه لو تولَّى أمر المسلمين أحدًا ولو كان بعض الناس لا يرضاه، إمَّا لكونه عبدًا أو لكونه حبشيًّا ليس من العرب، وإمَّا لكون رأسه فيها دمامة، وفي جماله نقص، ودميم المنظر، أو لغير ذلك من الأسباب؛ فلابدَّ من السمع والطاعة لولي الأمر.
وهذا يدل على السمع والطاعة لولي الأمر، حتى لو لم تستكمل الشروط التي ذكرها العلماء في الإمام، فإذن الشروط التي ذكرها العلماء هي الشروط الواجبة، ولكن قد تتخلَّف هذه الشروط، فمن تولَّى عليهم مَن ليس فيه هذه الشروط فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أوجب له السمع والطاعة.
خامسًا: في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «تَأَمَّرَ»، والتَّأمُّر يدل على أنه بغير اختيارهم، فذكر العلماء أن السمع والطاعة لولي الأمر، وأن الولاية تثبت بأحد طرقٍ ثلاثة:
* اختيار أهل الحل والعقد.
* ولاية العهد، وهي أن يلي بالعهد لمن بعده، فيُبايعه الناس، فإذا مات تولَّى ولي العهد.
* الغلبَة.
وهذه الأحوال الثلاثة ذُكرت في النصوص وعمل بها الصحابة، ولهذا ذكروا هذه المسألة في ولاية عبد الملك بن مروان.
سادسًا: في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ»، يعني: تطول مدَّته. قال: «فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرً»، المقصود بالخلاف هنا: المخالفة، والمقصود بها: البدع والأهواء.
سابعًا: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بعدي»، سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- واضحة، وهي كل ما حُفِظَ عنه من قول وتقريرٍ وعملٍ وخُلُق، وهذه السُّنَّة يجب العمل بها والمحافظة عليها.
والخفاء الراشدين هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؛ رضي الله عنهم أجمعين.
ثامنًا: قوله: «عَضُّوا عليها بالنواجذ»، النَّواجذ: هي مُؤخَّر الأضراس الكبيرة، والعض عليها يدل على شدَّة التَّمسُّك بالسُّنَّة، وهذا مثل قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [الزخرف: 43]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ [الأعراف: 170]، وحري بكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ أن يفعل هذا، ويتمسَّك بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويعمل بتقوى الله والسمع والطاعة، والعجب ممَّن عنده معرفة بهذا الحديث، ثم إذا قرأه على الناس يأخذ بأوله ويترك آخره، فيقول: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ»، ولم يذكر الجملة الثانية وهي «وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ»؛ لأن في قلبه هوى ضدَّ ولي الأمر، فلا يرى السمع والطاعة، فعليكَ -أخي المسلم- أن تقبل كلام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وتجعله على العين والرأس، وتبلغه كما قاله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فلا يجوز لأحدٍ أن يتعقَّب الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو الذي وصفه الله فقال: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4]، وقال عنه: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: 2] ؛ فهو أنصح الناس، وأرحم الناس، وأعلم الناس، والذي يُوحِي إليه يعلمُ السِّرَّ وأخفَى -سبحانه وتعالى- وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»، فلا يجوز أن نقول ما قاله بعض المتأخرين من أنَّ البدع تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، أو نقول: إن البدع تنقسم إلى خمسة أقسام: بدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة مباحة، وبدعة مكروهة، وبدعة محرَّمة؛ هذه تقسيمات مضادَّة لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»، فلا يجوز أن نقول: ليس كل بدعة ضلالة؛ لأن هذا هو كلام الذي لا ينطق عن الهوى -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فيجب أن نقول كما قال، فنقول: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ».
ما الموقف مما نُقل عم عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من قوله: "نعمت البدعة هذه" في صلاة التراويح؟
الجواب: أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقصد البدعة اللغوية؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان يصلي بالناس، ثم ترك ذلك خشية أن يفرض عليهم، ثم بقي الأمر أن الناس يصلون أوزاعًا في عهد أبي بكر، ثم في أول خلافة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يصلون أوزاعًا، ثم جُمِعُوا على إمامٍ، فلما رآهم اجتمعوا على إمام قال: "نعمت البدعة هذه"، يعني: الشيء الجديد الذي فقده الناس، وإلَّا فهو من سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ولطالب العلم ومَن أراد التوسع أن يرجع إلى كتاب "جامع العلوم والحكم، شرح جوامع الكلم" لابن رجب الحنبلي، فأجاب عمَّا نُقلَ عن الشافعي، وما نُقل عن بعض المتأخرين، وكذلك كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية، فإنه أجاب عن بعض اعتراضات المتأخرين ممَّن قسَّم البدع إلى حسنة وسيئة، أو إلى خمسة أقسام -كما تقدم.
قال: (وعن حذيفة قال: "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا")، يعني: أن العبادات توقيفيَّة، نتوقف فيها على الشريعة، فلا يجوز لنا أن نُحدث عبادة لم يأمرنا الشرع بها، ولم يفعلها الصحابة، والصحابة لا يُمكن أن يتعبَّدوا ببدعة؛ فعلينا أن نعرف أن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- هم خير القرون، وكل ما فعله الصحابة وأجمعوا عليه فإنه هدى، ولهذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100] ؛ فلم يفعل الصحابة بدعة بناء المساجد على القبور، ولا دفن الأموات في وسط المساجد، ولم يفعل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- البدع التي يفعلها بعض الناس في الجنائز، ولم يفعل الصحابة هذه البدع التي تنتشر في أرجاء الناس -نسأل الله لنا ولهم الهداية-، لم يفعل الصحابة بدعة المولد، لم يحتفلوا بميلاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أو بميلاد غيره، ولم يفعلوا احتفالًا في أول رجب، ولا في وسط شعبان، ولا في غير هذا؛ فعلينا أن نقتدي بهم.
ثم ختم المصنف كتاب "فضل الإسلام" بهذه القصَّة العجيبة المليئة بالفوائد، وقعت في عهد إمارة عبد الله بن مسعود على الكوفة، فإنه كان أميرًا على الكوفة في خلافة عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأوَّل خلافة عثمان، ثم انتقل بعدَ ذلك إلى المدينة، وتوفي سنة 32 هـ ودُفِنَ في المدينة، فكانت إمارته للكوفة في زمن عمر وأول خلافة عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وهذه القصَّة رواها الدارمي في السنن في أول كتابه.
ولابدَّ أن نعرف أن ابن مسعود من السابقين الأولين من المهاجرين، ومن خيرة أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومن القُرَّاء.
يقول الراوي: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: "أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟)، يقصد عبد الله بن مسعود.
قال: (قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه)، يعني بعد قليل سترى هذا الأمر العجيب.
قوله: (قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى)، يعني الحلقة دائرة، وفي وسط الحلقة رجل معه حصى.
قوله: (فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة)، وهو يكبر معهم ويعد بالحصى، وهذا فيه إنكار الذكر الجماعي.
قوله: (فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟)، أي ابن مسعود قال لأبي موسى: ماذا قلت لهم؟
قوله: (قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك)، وهذا يدل على أن الناس يرجعون إلى الراسخين في العلم وإلى ولاة الأمر في الأمور الدينية، مع أن أبا موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقيه وعالم من علماء الصحابة، لكن هكذا يحترم بعضهم بعضًا ويتأدَّب العلماء مع بعضهم، وهكذا نقول لإخواننا المسلمين اليوم: ارجعوا إلى الراسخين في العلم في النوازل، وفيما يُشكل عليكم من مسائل الدين ومسائل العبادة، ارجعوا إلى العلماء الراسخين في العلم المعروفين بالسنَّة والاتباع.
قوله: (قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق)، فلما جاء وشاهد صارت حلقة هنا وحلقة هنا، في كل حلقة رجل، صارت أعداد غفيرة من الحلقات، وفي كل حلقة رجل.
قوله: (فوقف عليهم)، وفي رواية أنه كان متلثِّمًا حتى لا يعرفونه، لأنه يُريد أن يتأكَّد، وهذا فيه أن ولي الأمر يجب عليه أن يتأكَّد ويتثبَّت ويرسل العيون، ويتثبَّت من الأوضاع، وينظر في الأنشطة التي تكون في المجتمع، فقد تكون أنشطة تضر بالمجتمع، وقد تكون مضرَّة بدينهم، وكذلك جميع الأنشطة التي فيها خطر، فيُراقب ويتتبَّع.
قوله: (فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ فقالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- متوافرون)، يعني أحياء متوافرون.
قوله: (وهذه ثيابه لم تبلَ)، يعني العهد قريب بينكم وبين وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قرابة العشرين سنة.
قوله: (وآنيته لم تكسر)، فحتَّى أوانيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم تُكسَر.
قوله: (والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة)، يعني إمَّا أنكم بهذه البدعة تدَّعون أنكم أحسن وأهدى من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولا يُمكن لمسلم أن يقول إنه أحسن من النبي! فصار الاحتمال الثاني هو الحق، وهو أنهم مفتتحو باب ضلالة.
وهكذا نقول لكل مبتدع ابتدع في الدين: إمَّا لأنك أحسن من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة، أو أنَّك فتحت بابَ بدعةٍ وضلالة.
قوله: (قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير)، وهذا العذر ليس بوجيهٍ، وأهل البدع دائمًا يقولون: نحن نريد الذكر، تُنكر علينا الذكر؟!
قوله: (قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه)، فما تكفي النية الصالحة وإرادة الخير، لابدَّ من موافقة السنة المحمدية، فالبدعة التي نشاهدها اليوم ينبغي أن لا نتساهل معهم ما دام انهم خالفوا السنة، ولا تكفي النية الصالحة.
ثم ربط ابن مسعود بين هذه البدع في المسجد وبين الخروج على جماع المسلمين، وهذا يُسمَّى الحس الأمني، وهو أنَّك لا تتساهل في صغائر الأمور وصغائر الشَّرر، فإذا تساهلت في شرر صغير فسيؤول إلى الخروج.
قال: (وإن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حدثنا أن قومًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم)، فأعطاهم التحذير، وأنكر عليهم، وأزال هذا المنكر.
وهؤلاء المبتدعة بعد عدَّة سنوات خرجوا إلى الصحراء عند القبور، وأخذوا يعيدون الكرَّة، وكان هذا في آخر عهد عثمان وقد مات ابن مسعود ولم يرَ هذا الشيء منهم، فصدق ظن ابن مسعود، يقول عمرو بن سلمة -الراوي: "رأينا عامة أولئك الحلق"، لأنهم يعرفونهم بأشكالهم وأسمائهم. قال: "يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج".
إذن؛ لا نتساهل في صغائر البدع ونقول: هذه بدعة صغيرة، وما دام أنهم في ذكر فخلِّهم!
مثال الآن الحوثيون، أول ما بدأ أمرهم كانوا يذهبون إلى الجهال والفقراء يلقِّنونهم العقائد الفاسدة، فصار في آخر الأمر أن حمل هؤلاء السلاح على أهلهم وجماعتهم، وعلى أهل السنَّة، وهكذا دائمًا الصوفيَّة والمبتدعة في كل مكان، والخوارج يخرجون إلى الأودية والشِّعاب، يجمعون الشباب يلقِّنونهم أشياء خاطئة؛ وديننا ما فيه سريَّة، هو دين علني أمام الملأ، بكتاب الله وسنة رسوله بالطريقة الصحيحة.
ويجب على المسلمين أن يحذروا، وكذلك يجب على المربين وعلى ولاة الأمر وعلى الجهات كلها أن تحذر، فهناك من يبدأ بدايات خطيرة، لكنها عند نظر بعض الناس أن هذه أشياء يسيرة، لكن تؤول إلى أشياء خطيرة.
بهذه القصة انتهى كتاب فضل الإسلام"، وكما رأينا أن هذا الكتاب كثير الفوائد، عظيم النفع، فيه آيات وأحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين؛ كلها تصب حول موضوع المحافظة على الإسلام، ومعرفة نعمة الإسلام، والعقيدة، والتَّمسُّك بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والبعد عن البدع كلها وأهلها.
أسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يغفر للشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤلف هذا الكتاب، وأن يغفر لجميع علماء المسلمين، وأن يغفر لنا ولكم ولجميع إخواننا المسلمين، الأحياء منهم والميتين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي ختام هذا الفصل المبارك أشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[42] صحيح البخاري (19).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك