الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2056 12
الدرس السابع

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله وحيا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه
وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك﴾ [النساء: 60] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106]: تبيض وجوه أهل السُنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» فليتأمل المؤمن الذي يرجو لقاء الله، كلام الصادق المصدوق في هذا المقام خصوصاً قوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» يالها من موعظةٍ لو وافقت من القلوب حياة! رواه الترمذي، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة وصححه، لكن ليس فيه ذكر النار، وهو في حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه: «أَنَّهُ سَيَخْرُجُ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتَجَارَى بِهِمْ الأهْوَاءُ، كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ فلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ»، وتقدم قوله: «وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»)
}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فهذا المجلس نقرأ فيه هذا الباب من أبواب كتاب "فضل الإسلام" للشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له المغفرة والثواب.
يقول -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه). هذا الباب، وكذلك الباب الذي بعده (باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر)، و(باب ما جاء في أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة)؛ هذه الأبواب الثلاثة تتعلق بالحياة العملية للمسلمين، والأعمال التي تكون في أيَّامهم وأوقاتهم واجتماعاتهم وفي شؤونهم.
وهذه الأبواب أيضًا تتكلم عن التَّحذير من التفرُّق في الدين، والتحذير من الابتداع في دين الله -عزَّ وجلَّ- وبيان مآل المبتدع، وأنه لا يُوفَّق للتوبة -نسأل الله العافية والسلامة.
بدأها المؤلف بهذا الباب (باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه)، أي: الإسلام الذي جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- صافيًا بعيدًا عن المحدثات، بعيدًا عن البدع.
وقوله: (وترك ما سواه)، أي: مما أحدثه الناس أو أضافوه، وكذلك ترك الأديان الأخرى.
وهذا الباب أتى بعدَ بابٍ يتعلق بالاكتفاء والاقتصار بدعوى الإسلام واسم الإسلام، وترك الألقاب والأوصاف والانتساب إلى ما يُفرِّق في الدين، وما يُبيِّن الانحراف عن هذا الدين، فذكر ذلك الباب، ثم أعقبه بهذا الباب، فإنك تدخل في الإسلام كله فتعمل به، وتترك ما سواه.
وهذا الباب ضلَّ في معناه ومقصودِه الفِرَق التي ضلَّت وانحرفت عن الشَّريعة الإسلاميَّة، فكل فرقة من الطَّوائف ضلَّت، بدءًا من الخوارج، ثم الشِّيعة، ثم القدرية، ثم المرجئة، ثم الجهمية نفاة الصفات، ثم الجهميَّة الكبار، ثم مَن تلاهم من الفرق التي حدثت بعدُ من المتصوفة وغيرهم، وبعد ذلك ما حدث من دخول ضلالات المتفلسفة وضلالات مَن ضلَّ في باب العقائد في علم الكلام وغيره.
فهؤلاء خرجوا إمَّا جزئيًا وإمَّا أكثر من ذلك عن الإسلام، خرجوا فيما ابتدعوا فيه عن الدخول في الإسلام كله؛ فأخذوا بعضًا وتركوا بعضًا، ونبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حذَّر من التفرق في الدين، وحذَّرَ من الخروج عن هذا الدين، وحذَّر من ترك بعض هذا الدين، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208] ، السلم: أي الإسلام. و﴿كَافَّةً﴾، أي: كله أو كلكم، وكلا المعنيين حق.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرً»[24]، ففيما أوحي به الله تعالى إلى نبيه محمد أنَّ هذه الأمَّة سيحدث فيها اختلاف، والمراد بالاختلاف: المخالفة، والمعنى: أنه سيرى مخالفة لما جاءت به الشريعة، وهذا بالابتداع في الدين، وتشريع ما لم يأذن الله -عزَّ وجلَّ- به.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مع صَلاتِهِمْ، وصِيامَكُمْ مع صِيامِهِمْ، وعَمَلَكُمْ مع عَمَلِهِمْ، ويَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»[25]، وبيَّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن هذا الافتراق سيقع في الأمَّة، ولهذا أطبق أهل السنة والجماعة وعلماء الإسلام على التَّصديق بما قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في مقتضى هذه النصوص الشرعية وهذه الأحاديث النبوية، ومن ذلك حديث الافتراق المشهور الذي ساقه الشيخ هنا، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية، وغيرهما من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال الشيخ ابن تيمية: "هو حديث صحيحٌ مشهورٌ في المسانيد والسن، رواه الأئمَّة تلقته الأمة بالقبول"، فهو متواتر من جهة المعنى، لأنَّ النصوص كله دلَّت على معناه، ورواه أكثر من سبعة عشر صحابيًّا، فلا عبرة بمن تجرَّأ على هذا الحديث وقال: إنَّ هذا الحديث لا نقبله، أو قال بضعفه، وبعضهم يتبع ابن حزم أو ابن وزير، وقد غلط ابن حزم وابن وزير في تضعيفهما لهذا الحديث، والنصوص الأخرى تشهد بمعنى هذا الحديث، والأئمة الجبال الكبار صحَّحوا هذا الحديث وبيَّنوا صحَّته ورووه، ودلَّ عليه القرآن كما في سورة الأنعام في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام: 159]، وكذلك قوله في سورة الروم: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 32]. فنهى الله -عزَّ وجلَّ- هذه الأمَّة أن يكونوا هكذا، وحذَّرَ ممَّن يقع في هذا ويفعله.
وثبتَ بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قال عن آية الأنعام: "نزلت في أهل الأهواء من هذه الأمَّة".
والصحابة كلهم مطبقون على التحذير من هذه البدع، والتحذير من الافتراق، ويُبيِّن خطر الافتراق في الدين؛ فكـل هذا يشهد بأن ما جاء في حديث الافتراق حق من عند الله -عزَّ وجلَّ- وقاله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4].
وابن حزم له رأي ثانٍ في تصحيح الحديث، ولا يقف عالم أمام هذه النصوص الشرعية، أو أمام آلاف العلماء الذين سبقوه، فالعالم قد يُخطئ مهما كان، فهو مسبوق بجهابذة أهل الحديث وأئمَّة الحديث ونُقَّاده الذين صحَّحوا هذا الحديث.
ثم إنَّ السبب في تضعيف هؤلاء المتأخرين وهم قلَّة قليلة ولا عبرة لقولهم هو: أنهم لم يفهموا الحديث على وجهه، وبعض المعاصرين أيضًا صاروا يسلكون هذا المسلك الوخيم، يُسيئون الظَّن في كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويجهلون معناه؛ فيتجرؤون على تضعيف هذا الحديث بالهوى.
ومن ذلك أن بعضهم يقول: هذا الحديث معناه أن كل الأمة في النار، وأنَّنا نكفر من خالف أهل السنة والجماعة بإطلاقٍ!
وهذا سوء فهمٍ وسوء ظنٍّ.
والجواب: أنَّ هذا الحديث حق، وهو قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»؛ فهذا حق، وكل مَن خرج عن منهاج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- متعمِّدًا عالمًا بمنهاجه وخالفه عنادًا؛ فهذا متوَعَّدٌ بالنَّار ولا شكَّ في هذا.
والواجب على كل مسلمٍ يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" أن يسلك مسلك الرسول، ويُطيع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ومعنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ»؛ لأنهم عاندوا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، أمَّا مَن كان جاهلًا منهم؛ فبعض الجهل له مسوِّغ وقبول، وبعض أنواع الجهل لا يُقبل من مدَّعيها لتفريطه.
أو من يقول منهم أنه لم يفهم المعنى، فوافق أهل البدع، فالمقصود أنَّ المخطئ والجاهل من هذه الأمَّة قد عفا الله -عزَّ وجلَّ- عنهم، فنجعل هذا الحديث على معناه الذي قرره العلماء، وهو قوله «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً»، أي أنهم متوعَّدون، وليس المراد الحكم على الأعيان -فلان وفلان وفلان- أنهم في النار، فهذا شيء إلى الله -عزَّ وجلَّ- لا نعلمه، ولأنَّنا لا نشهد لمعيَّنٍ بجنَّةٍ ولا بنار إلا من شهد له الكتاب والسنَّة، لكن مَن خالف طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في العقيدة وفي المنهج وفي الشِّرعة، وكذلك في العبادة؛ وهو عالم بمنهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإنَّ هذا متوعَّدٌ بالنار كأصحاب الكبائر، مثل أكلة الربا، ومثل الذين يقتلون النفس بغير حق، ومثل الذين يقعون في الزنا؛ فهؤلاء متوعَّدون بالنار.
والله -عزَّ وجلَّ- قال في آكل اليتيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً﴾ [النساء: 10]، ولكن المعيَّن منهم فلان بن فلان؛ نقول: هو متوعَّد بهذا، ولكن ما نقطع ونجزم على هذا الشخص المعيَّن.
وهكذا في هذه الفرق وهذه الضلالات الأهواء؛ فإذا مات الواحد منهم نقول: إذا خالف السنة فأمره إلى الله، أو وقع في البدع فأمره إلى الله؛ ونخشى عليه ولكن لا نجزم ونقطع أن هذا في النار وهذا في الجنة، فإن هذا أمره إلى الله -عزَّ وجلَّ- ولا نتكلم في هذه الأمور الغيبية، ونحذر ممَّا حذَّر الله منه، ونُبيِّن لهم الوعيد، ونُبيِّن لأنفسنا أيضًا حتى لا نقع في مخالفة منهاج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وإلَّا فقد يكون هناك موانع تمنع وقوع العذاب مثل الحسنات الماحية أو أعذار أخرى، أو استغفار المؤمنين؛ فمن مات على التوحيد من هذه الأمَّة من أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وسلم من الشرك؛ فهو يدخل في عموم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116].
والواجب على كل مسلم ومسلمة في جميع أنحاء الأرض: أن يجعل نصب عينيه طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والدخول في كل ما أمر به قدر الطَّاقة، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]، أي: في الإسلام كله، فلا تأخذ بعض الإسلام وتترك بعضًا كطريقة أهل الأهواء، لا تأخذ بعض النصوص وتعرض عن بعض النصوص، تقول: هذه النصوص تروق لي، وتلك النصوص لا تروق لي! لا، هذه طريقة أهل الأهواء.
والبلاء الذي جاء على الرافضة والشيعة -على سبيل المثال- مثل حب آل البيت، وآل البيت يجب أن يُحَبُّوا لأمرين:
الأول: لقربهم من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والثاني: لإيمانهم وإسلامهم.
فهؤلاء يدَّعون حبَّ آلِ البيت حتى آلَ بهم الأمرُ إلى تكفيرِ أبي بكر وعمر وعثمان، وبغض الصَّحابة، وآل بهم الأمر إلى الغلو في علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والغلو في الحسن والحسين حتى عبدوهم من دون الله، وصرفوا لهم العبادة، واستغاثوا بهم، وهتفوا بهم في الملمَّات؛ كل هذا بدعوى حب آل البيت، وأهملوا النصوص الأخرى في حفظ حقوق الصحابة وبيان مكانتهم، ومحبتهم وإنزالهم منازلهم؛ فأهملوها وأعرضوا عنها.
وفي مُقابل هؤلاء النواصب؛ فنصبوا العداوة لآل البيت، وكذلك الخوارج نظروا إلى نصوص الوعيد والتشديد، وتركوا نصوص الوعد، والمرجئة عكسوا، فأخذوا بنصوص الوعد، وفضل "لا إله إلا الله" وفضل التوحيد، وأهملوا نصوص الوعيد التي تحذر من الكبائر.
والقدريَّة أخذوا بالنصوص الدَّالَّة على إضافة الأعمال إلى العباد، وجعلوا العبدَ مستقلًّا بعمله، ولا دخل لمشيئة الله وخلقه في عمله، حتى أخرجوا أفعال العباد عن عموم خلق الله -عزَّ وجلَّ- وأعرضوا عن النصوص الأخرى الدَّالَّة على عموم مشيئة الله وخلقه وقدرته -سبحانه وتعالى.
وفي مقابل القدرية الجبرية، أخذوا بالنصوص الدَّالَّة على عموم مشيئة الله وقدرته وخلقه، وأنه يفعل ما يشاء، وأنكروا أن تضاف الأفعال إلى العباد وجعلوا العبدَ مجبورًا.
كل هؤلاء لم يدخلوا في الإسلام كافَّة كما قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، فهم ينظرون للنصوص بنظر الأعور، يأخذ بعضًا ويعرض عن بعضٍ، وهذا غلظٌ عظيم وضلال كبير.
وجاء في السنن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- غير هذا الحديث، يقول: "كان بعض أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في المسجد، وكانوا يتدارؤون في القدر". ولابدَّ أن نقف عند هذه الجملة. ما معنى يتدارؤون؟
يعن: يدرأ بعضهم بعضًا في مسائل القدر.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "فهذا ينزع بآيةٍ، وهذا ينزع بآية"، يعني: كأنهم يجعلون القرآن يناقض بعضه بعضًا، كأنه نقاش، وهم لا يقولون بهذا، ولكن من خلال هذا النزاع الذي حدث.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "فخرج عليهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقال: «إنَّما هلَكَ مَن كانَ قبلَكُم بِهَذا ضربوا كتابَ اللَّهِ بعضَهُ ببعضٍ، وإنَّما نزَلَ كتابُ اللَّهِ يصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تُكَذِّبوا بعضَهُ ببعضٍ فما عَلِمْتُم منهُ فَقولوا وما جَهِلْتُم فَكِلوهُ إلى عالمِهِ»[26]، يعني نقول: الله أعلم، وهذا هو الواجب على المسلم، أن يسكت عن ما لا يعلم، ولو سموه مثقف أو كاتب أو محرر صحفي، أو سموه دكتور في الجامعة، أو أي وصف كان؛ لا يقتدي هذا أن يقحم نفسه فيما لا علم له فيه. قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "من علم علمًا فليقل، ومن لا فليقل: الله أعلم"، فإن من علم الرجل أن يقول عن ما لا يعلم "الله أعلم"، فإن الله قال لنبيه: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86] "، وهو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم يتكلَّف شيئًا لم يأمره الله، ولم يعلمه الله إياه، فنهانا عن التَّكلُّف -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ونهانا عن التَّنطُّع في الدين، ورُوي عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لو سكت مَن لا يعلم لسقط الخلاف".
فالخطر العظيم على الإنسان ودخوله في هذه الضلالات بسبب حب الظهور أحيانًا، أو بسبب الجرأة على التَّقحُّم في المسائل، أو التقليد الأعمى لبعض ما يُطرح من هنا وهنا؛ فيلجأ إلى الأخذ ببعض النصوص وترك بعضها.
ومثلهم الخوارج الذين خرجوا في بلداننا وبلدان المسلمين وركبوا مذهب التكفير بغير حق والتَّفسيق والقتل وسفك الدماء والتَّفجيرات؛ تجدهم سلكوا هذا المسلك وتركوا ما قاله الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]، فلا تأخذ بعضًا وتترك بعضًا.
وكان بعضهم يستهدف بعض المعاهدين ويفجر فيهم، ويُخرج صوتًا له ويقول إن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «أخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ»[27]!
وهذا حقٌّ والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قاله، ولكن ما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- اقتلوا المعاهدين، بالعكس؛ قال: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ»[28]، فإذا أقام ولي الأمر عهدًا بيننا وبين هؤلاء لمصلحة يراها ولي الأمر للبلد ونحوه؛ فيجب أن نحافظ على هذا العهد، فإذا رأينا ما يريب من هذا الشخص نرفع أمره إلى ولي الأمر، وهو المسؤول عند الله -عزَّ وجلَّ- على ما يقع، أما أن يستخدم هذا الحديث ويترك النصوص الأخرى فلا.
ثم إنَّ هذا الحديث لا يدل على ضلالاتهم، فالنبي لم يقل: "اقتلوا"، بل قال: «أخرجو»، والمخاطب هو ولي الأمر وليس الأفراد، والمراد بإقامتهم الاستيطان كقبائل بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة.
فالمقصود؛ أنَّ أهل الأهواء دائمًا يأخذون بعض النصوص ويتركون بعضها، فيجب على المسلم وعلى طالب العلم أن يحذر من هذه المسالك الوخيمة، وهي ترك الجمع بين النصوص الشرعيَّة، فالوحي واحد، والصراط المستقيم واحد، لا يجوز لك أن تأخذ بعض ما تهوى وتترك وتعرض بقلبك وسمعك عن الحق، وأمَّا الراسخون في العلم فقد مدحهم الله فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]، فهذا هو المنهج الصحيح، منهج الراسخين في العلم، فخذْ عنهم العلم، وخذْ منهم الدين، وخُذْ منهاجهم، وتمسَّك بطريقتهم، لأنَّهم يؤلِّفون بين النصوص.
ننتقل للآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودً﴾ [النساء:60-61]، يُبيِّن الله -عزَّ وجلَّ- في هذه الآيات شأن المنافقين حتى نحذر من أخلاقهم ومن عقيدتهم الفاسدة، ومن مناهجهم الباطلة.
فهذه هي أعمالهم، وهذه أقوالهم، وهذه طريقتهم، فهم يزعمون الإيمان، ويزعمون أنهم مسلمون، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾، وهذا الزَّعم لا حقيقة له، فننتبه أنَّ هناك مَن سيسلك هذا المسلك، يزعم أنه مؤمن، ثم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُو﴾، فهو يريد أن يتحاكم إلى غير شرع الله، لا يريد القرآن، ولا يريد أحكام الله -عزَّ وجلَّ- في القرآن، ولا يريد أحكام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، يُبغضها ويتمنَّى ألا تكون أمامه ولا تكون عليه سُلطانًا، فهذا من الضَّلال العظيم، وسُمِّيَ هذا "التَّحاكم إلى الطَّاغوت"، فمن حكم بغير ما أنزل الله مختارًا لذلك عالمًا؛ فهذا يُعتبر طاغوتًا لا يجوز أن تتحاكم إليه.
مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فيها تفصيل عند العلماء، متى يكون كفرًا، ومتى يكون ظلمًا، ومتى يكون فسقًا، ذكر هذا علماء أهل السنة في تفسير آيات سورة المائدة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44] ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[المائدة: 47]؛ فبيَّنوا أنَّ هذا يدل على أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل، منه ما هو كفرٌ، ومنه ما هو ظلمٌ، ومنه ما هو فسقٌ، وذكروا كلام ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وغيره من علماء الصحابة والتابعين في تفسير آيات المائدة لمَّا احتجَّ بها الخوارج على تكفير علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وتكفير حكَّام المسلمين، فقالوا: "ليس الكفر الذي يذهبون إليه، إنما هو كفرٌ دونَ كفر"، يعني أنَّ هذه الآية نزلت في هذا المعنى.
وفصَّل علماء أهل السنة والجماعة مسألة الحكم بغير ما أنزل الله خلافًا للخوارج، فالخوارج يرونَ أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر بدون تفصيلٍ، أما أهل السنة والجماعة فيقولون فيه تفصيل، منه ما هو كفر أكبر، ومنه ما كفرٌ أصغر، ومنه ما هو ظلم، ومنه ما هو فسق؛ موافقة منهم للنصوص الشرعية، ولكن وهؤلاء المنافقين -كما قال الله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾.
والواجب على الحكَّام ومن أعطاه الله -عزَّ وجلَّ- الحكم ويسَّر الله له أن يصل ويحكم بين النَّاس إمَّا بالغلبة أو باختيار الناس له أو بغير ذلك من الطرق؛ فنقول: واجبٌ عليه أن يحكم بما أنزل الله، والواجب على جميع الحكَّام أن يحكموا بين الناس بما أنزل الله -عزَّ وجلَّ-، فيجب عليهم أن يقيموا الحدود الشرعيَّة، والقصاص من القاتل كما شرع الله -عزَّ وجلَّ-، ويُلزموا الناس بما أمر الله -عزَّ وجلَّ-، ويفصلوا بنهم في منازاعاتهم بما شرعه الله، فهذا هو الواجب.
كذلك يجب على الحكَّام أن ينصبوا القضاة، ويجعلوا الناس يذهبوا إلى القضاة الشرعيين في المحاكم الشرعية، حتى يفصلوا بين الناس بشرع الله -عزَّ وجلَّ-، وعليهم أن يُهيِّئوا هؤلاء القضاة بالدراسة العلمية الشرعيَّة الصَّحيحة، فهذا هو الواجب في بلاد الإسلام كلها، ولا يجوز تأخير تطبيق الأحكام الشرعيَّة، لا ننتظر سنة أو سنتين أو ثلاث؛ بل يجب على كل مَن وفَّقه الله ويسَّر الله له الحكم بين الناس أن يقوم بما أمر الله -عزَّ وجلَّ- به.
وفي بلادنا المملكة العربية السعودية نحن نحمد الله على هذه النعمة، ونسأل الله أن يجعل هذه النعمة ثابتة ودائمة، وأن يعم جميع بلدان المسلمين بمثل هذا، ففي النظام الأساسي للحكم في المادة الأولى، وفي نصوص هذا النظام وفيما يعيشه الناس الذي يفصل بين الناس كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فهذا هو الواجب على جميع المسلمين قدر الطاقة، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، فمن عجزوا وما بيدهم شيء يدعون الله -عزَّ وجلَّ- بصلاح الحكام وصلاح الولاة، ويشتغلوا بما ينفعهم، ولا يشتغلوا بما فيه فتنة أو ضرر على بلدان المسلمين.
وهنا تنبيه!
هناك بعض الدعايات المضللة من بعض علماء قد قصروا وأساؤوا عندما يقولون للحكام: لا بأس أن تتركوا الحكم بالشرع؛ لعللٍ باردةٍ واهيةٍ فاسدةٍ من إملاء الشيطان، ويُخشى عليهم من التَّشبُّه بهؤلاء عندما يقولون مثل هذا الكلام السَّيء، وأن تأخير تطبيق الشريعة لا بأس به، لا؛ بل يجب أن تُطبَّق قدر المستطاع، يجب أن يعمل بالشرع قدر المستطاع، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ومَن صدق وعزم وكانت له البطانة الطيبة الصالحة أعانه الله ويسر له الأمر.
ونحن نستبشر خيرًا بدراسة العلم الشرعي في البلدان الإسلاميَّة، والرجوع إلى العلم الشرعي؛ فهذا من أسباب الوعي في المجتمعات المسلمة، وإذا وُجد الوعي انتشر بين المسؤولين والحكَّام في جميع البلدان، فيعرفون قيمة هذه الشريعة ومحاسنها، وأنها مشتملة على كل خير، سواء في شؤون الاقتصاد، أو في شؤون الأسرَة، أو في شؤون السياسة الدولية، أو في شؤون السياسة الداخلية، أو في شؤون البيع والشراء، أو في شؤون العبادات، أو في شؤون القضاء والفصل بين الناس، أو في جميع الشؤون، هذه الشريعة شريعة كاملةٌ كافية شافيةٌ ولله الحمد.
فهذا هو "باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه"، فلا نكون مثل هؤلاء الذين قصَّ الله علينا خبرهم من المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60].
{شيخنا أحسن الله إليكم.
بعضهم يقول: هو ليس ترك للشريعة، وإنما هو تدرج في تطبيق الشريعة}.
لم ياتِ شرعنا بأن نتدرَّج، ما وُجد في أصل التشريع على وقت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لا يُقاس في أزماننا هذه لأن هذا وحي، فتحريم الخمر نزل بالتدريج، فهذا وحي من الله، فلا نأتي ونقيس ونقول: هذه السنة ننفذ كذا، والسنة القادمة ننفذ كذا...، لا؛ بل نأخذ بما أنزل الله -عزَّ وجلَّ-، وإذا عجزنا والله يعلم صدقنا وعزمنا، فمع العجز يسقط الواجب، أما إذا وُجدت القدرة والقوة؛ فالواجب الاستعانة بالله والإقدام على ما أمر الله -عزَّ وجلَّ- به متوكِّلين على الله-سبحانه وتعالى- ولا نسلك مسالك الخوارج والتنظيمات الإرهابية الخبيثة مثل: تنظيم داعش أو غيرها، معاذ الله، وجميع المسلمين يبرؤون إلى الله من طريقة هؤلاء المجرمين، فهؤلاء المجرمون زُرعوا، ووضع هذا الضلال الذي فعلوه لتنفير المسلمين عن الإسلام، وليس أكثر ولا أقل، وتجد هذه المنظمات التي تديرهم في الخفاء -وهم لا يشعرون- تريد منهم تشويه صورة الحدود الشرعية، وتشويه صورة تطبيق الأحكام الشرعية، فيجب أن يكون أهل الإسلام على فطنةٍ ودرايةٍ بما يمكر به الأعداء وبما يكيدون، فنحن لا نتخلَّى عن ديننا، ولا نتخلَّى عن عقيدتنا، ولا نتخلَّى عن أحكامنا التي بيَّنها الله -عزَّ وجلَّ- وبينها رسوله لأجل انحراف مَن انحرف أو ضلال مَن ضل، الآن بعض العلمانيين وبعض المنحلين عن الشريعة إذا جاء واحد يأمره بالصلاة أو يأمره بالزكاة قال: ما نبغي دعشنة!
سبحان الله! شرع الله -عزَّ وجلَّ- تشوهه بهذا بهؤلاء المجرمين! وهم في الحقيقة يدركون أن هذا الكلام الذي يقولونه باطل، لنهم -كما تقدم- لا يريدون شرع الله -عزَّ وجلَّ- وكثير من هؤلاء لا يريد القرآن ولا يريد السنة ولا يريد الإسلام، ولكن يتظاهر به كشأن المنافقين، فعلى أهل الإسلام أن يتوكَّلوا على الله ولا يُبالوا، الواحدُ يتوكل على الله ويمشي على شرع الله -عزَّ وجلَّ- ويسمع ويُطيع لولاة الأمر، ولا يخرج على ولاة الأمور كما يفعل هؤلاء، ولا يثير الفتنة، ولكن يُبين الحق، ويشجِّع الناس عليه، ويدعو لولاة الأمر بالهداية والصلاح والإعانة ويصبر، أما أن نقول بالتدرج فلا، ما فيه في الشريعة أن نقول هذه السنة نسمح لكم بالخمر ولكن لا تأتون للصلاة وأنتم مخمورين! والسنة القادمة نحرم الخمر!
ليس لنا هذا؛ بل نقول: نقطع الخمر تمامًا في البلدان التي يتساهلون فيها، ونعاقب مَن شرب الخمر بما جاء في الشريعة، غضبَ مَن غضبَ ورضيَ مَن رضي، وهكذا نقول في الزاني، وهكذا نقول في السارق.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159].
قوله ﴿وَكَانُوا شِيَع﴾، يعني فِرَقًا، وفي قراءة سبعيَّة مشهور ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَارقُوا دِينَهُمْ﴾، وهذه القراءة تفسِّر معنى ﴿فرَّقو﴾، أي: فارقوا الدين.
وقد تقدَّم ذكر الأمثلة من الفِرَق التي حدثت، وكيف أنها أخذت بعضًا وتركت بعضًا، ففارقت بعض الدين وأخذت ببعضه، فنسأل الله العافية والسلامة.
قوله: ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، بعض الناس تمر عليه هذه الآية ولا يدري مدى الوعيد الذي فيها، فهذه الجملة فيها وعيدٌ شديد، وتهديدٌ أكيدٌ، وهذا يرجف أمامه القلب إذا سمع مثل هذا النص، فأنت أيها المسلم تقول: أنا أتَّبع الرسول وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ السؤال: هل ترضى أيها المسلم أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول لك: أنا لستَ منك في شيءٍ ولا تمتَّ لي أنت أيها الرجل الذي تقول إنَّك مسلم بأي صلة؟! هل ترضى بمثل هذا؟!
الجواب: لا ترضى، بل تتمنى وترجو أنَّك من أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وداخل في طاعته وفي دينه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فإذا سمعت هذا النص تخاف منه؛ لأنه وعيدٌ لمن فارق وفرَّقَ واتَّبعَ هذه الفِرَق والضلالات، فنسأل اله العافية والسلامة.
ثم أورد الشيخ قول ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فقال: (قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106]: تبيض وجوه أهل السُنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف).
المعوَّل عند ابن عباس في سبب بياض الوجه: اتباع السُّنَّة المحمَّديَّة والائتلاف، والاجتماع مع ولاة الأمور، والاجتماع على السنة، ومنهج أهل السنَّة والجماعة.
وبعض الناس يظن أنَّ الآية في ترك المعاصي فقط، ولا يبالي باختلاف المنهج.
يقول ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السُنة والائتلاف"، فأهل السنَّة هم المؤتلفون المجتمعون على سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعلى الدين، وهم لم يخرجوا عن جماعة المسلمين، ولا يخرجون على الإمام وولي الأمر؛ فهؤلاء هم الذين تبيضُّ وجوههم.
وعكسهم الذين خرجوا عن السنَّة بالبدع، وخرجوا عن الجماعة بالخروج، وبترك طريقة السلف الصالح، وخرجوا على ولاة الأمور، فهؤلاء تسود وجوههم، قال ابن عباس: "وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف".
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حديث الافتراق المشهور، فقال: (وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ»).
نسأل الله العافية والسلامة؛ فهذا شيءٌ مروِّع، يعني لو أتى أحد من بني إسرائيل أمه علانية سيفعل بعض الناس مثل هذا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
هذا هو حديث الافتراق المشهور عند أهل العلم، رواه أكثر من سبعة عشر صحابيًّا بألفاظٍ متقاربة تؤدي نفس المعنى تقريبًا، وفيه أنَّ الأمم السابقة حصل فيها الفرقة والاختلاف، وأنَّ هذه الفرقة والاختلاف ستحدث في هذه الأمَّة، ويحذرنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن نقع فيما وقع فيه مَن قبلنا، ولكن هذا الخبر وقع كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فهذا من علامات النبوة، فإنَّ هذه الأمَّة حدث أن تفرَّق فيها فِرَق كثيرة ذكرنا مبادئها، الخوارج، ثم الشيعة، ثم القدرية، ثم المرجئة، ثم المعتزلة، ثم الجهميَّة، إلى آخره.
ونفهم من هذا معنى حديث «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرً»، ومعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159]، والمخرج واحد، وهو من كان على مثل ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
هذا ما تيسر في هذا المجلس، ونقف عند هذا المقدار، وسوف نكمل -إن شاء الله- في الحلقة القادمة.
أسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا وإياكم على طريقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وطريقة أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------
[24] رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4607)، وَاَلتِّرْمِذِيُّ (رقم: 266) وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[25] صحيح البخاري (5058).
[26] مسند أحمد (11/26)، وصححه أحمد شاكر.
[27] أخرجه البخاري (3053)، ومسلم (1637).
[28] صحيح البخاري (3166).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك