الدرس الثامن
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا.
{انتهى بنا الحديث في الحلقة الماضية عند باب "وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما
سواه"، فتتحفونا فضيلة الشيخ بالتعليق على ما بقي من هذا الباب؟}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى
بهداه.
أمَّا بعد؛ أسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يرزقنا جميعًا العلم النافع، والعمل الصالح،
وأن يثبتنا على دينه، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
هذا الكتاب -كتاب فضل الإسلام- كتابٌ مهمٌّ ونافعٌ للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد
الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- واستعرضنا بعض الأبواب، وقرأنا ما يسر الله لنا
-عز وجل- ووصلنا عند هذا الباب "باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه"،
وتقدَّم أنَّ هذا الباب يتعلق بالتحذير من التفرق في الدين والبدع والابتداع بشتَّى
أنواع وأشكاله.
ومما أورد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بعض الآيات التي تدل على التحذير من
البدع، وهي قول الله -جلَّ وعَلَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِك﴾ [النساء: 60]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159].
وأورد قول ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
[آل عمران: 106] " تَبْيَضُّ وجوه أهل السُنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع
والاختلاف".
ووصلنا إلى الحديث الذي أورده الشيخ بعد هذا وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ
النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً
كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ
عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ
وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً». قَالُوا:
وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»، هذا
هو حديث الافتراق المشهور، وهذا الحديث صحيح مشهور مروي في السنن والمسانيد
والجوامع التي تجمع أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، رواه أكثر من
سبعة عشر صحابي بألفاظ متقاربة، وحَكَمَ أئمة الحديث وعلماؤه ونقاده بصحَّة هذا
الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ودلَّ على صحته أحاديث أخرى ثابتة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
والقرآن الكريم دل على هذا المعنى، ومن ذلك حديث العرباض بن سارية: «فَإِنَّهُ مَنْ
يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرً»[29]، وكذلك ما ورد في أن
هذه الأمَّة تقتدي بمن قبلها مثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا
السَّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
لِمُوسَى»[30]، ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ
سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا
جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ!»[31]، ونحو ذلك من الأحاديث التي تشهد لصحة هذا
الحديث.
وفي هذا الحديث رواية عند الترمذي هنا، قال: «حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ
أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ»، وهذا من أبشع
الجرائم وأعظم الموبقات، وهو الزنا بالمحارم، وأعظم من ذلك الزنا بالأم -نسأل الله
العافية والسلامة.
وهذا من باب بيان شدَّة الاتباع الذي يقع في الفسَّاق أو الضُّلال من هذه الأمَّة
بمَن قبل أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الأمم السَّالفة، وهذا
يُساق هنا على وجه التَّحذير، يعني: لا تفعلوا مثل هذا، ولا تقتدوا باليهود ولا
بالنصارى ولا ببني إسرائيل.
إذن؛ هناك من سيقتدي بهم حذو النعل بالنعل، وقال في الصحيحين: «حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، وهذا موجود في كثير من الناس، يُقلِّد
الغرب ويُقلِّد الشرق الكافر، ويقلِّد كفرة بني إسرائيل في كل ضلالة وفي كل بدعة
وفي كل معصية -نسأل الله العافية والسلامة.
ثم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إنَّ تلك الأمم افترقت، فافترقت
اليهود على إحدى وسبعين، والنصارى على ثنتين وسبعين، قال: «وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي
عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ»، فيجب الحذر من هذا الافتراق.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً
وَاحِدَةً»، هذا من باب الوعيد، فهذا الحديث من نصوص الوعيد، وليس حكمًا على
الأعيان بأنهم في النار، فأعيان المبتدعة وأصحاب الفرق الضالة المخالفة لمنهج النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذا كانوا على التوحيد ولم يشركوا بالله وماتوا
على ذلك فأمرهم إلى الله، وهم على خطرٍ عظيمٍ لمخالفتهم منهاج النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذا كانوا عالمين بذلك عامدين، أما المعين منهم إذا مات فلا
نقول: فلان بن فلان الذي مات من تلك الفرقة في النار!
فقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حق، ولكن هذا من باب الوعيد، وليس
للمعيَّن، فنحن لا نشهد على معيَّنٍ بجنَّةٍ ولا بنارٍ إلا من شهد له الرسول
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والسبب في هذا: أنَّ المعين -الواحد من الناس- قد يُوجَد في حقِّه موانع تمنع من
لحوق الوعيد به، أو قد تتخلَّف بعض الشروط فلا يُلحق الوعيد به؛ فلابدَّ من
التَّأكَّد من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في لحوق الوعيد به، فالإنسان لا يدري عن
تفاصيلهم وما يجري في قلوبهم، والجاهل منهم والمخطئ والغالط، فالمخطئ والجاهل معفو
عنه إذا كان جهله له مسوغ، أو المتأول منهم، لأن التَّأول نوع من الجهل، أما المفرط
في التأويل أو في الجهل فيتجاهل ويُفرِّط فهذا مؤاخذ، ولكن درجة المؤاخذة أمرها إلى
الله -جلَّ وعَلَا.
ونحن نطلق ما أطلقه الرسول، ونحذر مما حذَّر منه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- فنقول: كل الفرق التي خالفت منهاج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- على خطرٍ عظيمٍ.
بعض الناس يقول: ما في إلا أنتم؟
نحن نقول: من كان على مثل ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
والصحابة فهذا هو الذي ينجو، فنحن جميعًا أهل الإسلام مخاطبون ومطالبون بأن نجتهد
في اتباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في العقيدة وفي الأخلاق وفي
العبادات وفي المعاملات وفي كل أمور الدين، ونتبع طريقة الصحابة -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُم- والسلف الصالح، وهذا معنى قول الله -جلَّ وعَلَا: ﴿وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، فنحن مأمورون باتباعهم بإحسان، فالنصوص يدل بعضها على
بعض، ويُجمع بينها.
وهذا مثل حكم شارب الخمر، فقد ورد فيه وعيد شديد، وكذلك النَّمام ورد فيه وعيدٌ
شديد، وقاتل النفس، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم؛ ورد فيهم وعيدٌ شديدٌ في النار،
لكن لمَّا يموت واحدٌ من هؤلاء ما نأتي نقول: هذا فلان النَّمام الآن هو في النار؛
فهذا أمرٌ غيبي.
قول الصحابة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: من هم يا رسول الله؟ قال
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»، وبعض الناس
يزيد "اليوم" في الحديث، ولكن هذه الزيادة ليست في الروايات، والصحيح «مَا أَنَا
عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
إذن؛ هذه دعوة صريحة وواضحة من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لكل مسلم،
ولكل أهل الإسلام في أي بلدٍ كانوا، وفي أي مكانٍ وأي زمان، أن ينقل حاله إلى اتباع
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وإلى موافقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- وموافقة الصحابة، ولا يكن حاله حال أهل البدع، وحال المخالفة لمنهاج
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهذا من الدخول في الإسلام وترك ما سواه.
هل يقتضي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كلهم في النار» أنَّ الفرق
المخالفة كلهم كفار؟
نقول: لا، الوعيد بالنار لا يقتضي أن يكون مَن تُوعِّدَ بالنَّار كافرًا، فإنَّه قد
تُوعِّد بالنَّار أهل الكبائر وهم ليسوا كفار.
والتَّكفير لهذه الفرق فيه تفصيل، فمن هذه الفِرَق من ارتكبَ ما هو موجبٌ للتكفير،
مثل إنكار القرآن وتكذيبه، أو إنكار السُّنَّة كلها، أو وقوعه في الشرك بالله -جلَّ
وعَلَا- أو تكفير الصحابة، أو اتِّهام أم المؤمنين عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-
بالزِّنى، أو نحو ذلك مما هو بلا شك مكفر لصاحبه وهو خارج عن ملَّة الإسلام.
وفي هذه الفرق من لا يقع في هذا؛ بل يقع في كثير من المخالفات البدعيَّة في العقيدة
أو غيرها، وهم درجات وليسوا في منزلةٍ واحدةٍ، فمنهم من يستحق التكفير، ومنهم من
يستحق التبديع والتفسيق، ومنهم من يكون مجتهدًا اجتهادًا سائغًا، ومنهم من يكون
مجتهدًا اجتهادًا غير سائغٍ، ومنهم مَن يكون مخطئًا، ومن من يكون غافلًا؛ فهم
أنواعٌ شتَّى، والله -عزَّ وجل- يحكم بين عباده، نسأل الله أن يلطف بنا وبالمسلمين،
وأن يأخذ بأيدنا جميعًا إلى طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وطريق
الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
بعد سياق هذا الحديث علَّق المصنف تعليقة يسيرة، وهذا من الشيء النادر، فغالب طريقة
الشيخ محمد ابن عبد الوهاب أن يقتصر على النصوص الشرعية، ولكن أحيانًا يخرج فيعلق
تعليقات -كما يُقال- لفتات تُنبِّه القارئ إلى أشياء مُهمَّة، فيقول هنا: (فليتأمل
المؤمن الذي يرجو لقاء الله، كلام الصادق المصدوق في هذا المقام خصوصًا قوله: «مَا
أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» يا لها من موعظةٍ لو وافقت من القلوب حياة!)، يعني:
يدعوك لأن تتأمَّل مرَّةً بعدَ مرَّة، فقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً... مَا أَنَا عَلَيْهِ
وَأَصْحَابِي»، فتأمَّل هذه الجملة مرَّةً بعدَ مرَّة، فأعظم واعظ لك هو كلام
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأعظم واعظ لك أن تتبع الرسول -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فكيف تترك التَّنبُّه لهذه المفردات النبويَّة، فانقل
حالك إلى هذا الحال واجتهد، والله -عَزَّ وَجلَّ- يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾ [العنكبوت: 69] وقال: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100]، فإذا علم الله صدق نيتك وعزيمتك على
اتباع الرسول، وبحثتَ وسلكتَ المسلك حتَّى لو قصُرَ بك المقام أو ضعفتَ في العمل أو
ضعُفتَ في الوصول إلى الكمال؛ فإنَّ الله يعلم ما في قلبك.
قال الشيخ: (رواه الترمذي، ورواه أيضًا من حديث أبي هريرة وصححه، لكن ليس فيه ذكر
النار)، يعني الترمذي رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ورواه من حديث أبي
هريرة.
قال: (وهو في حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه...)، يعني هذا الحديث فيه زيادة،
فهنا ثلاثة من الصحابة رووه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هذا الحديث،
قال: (وفيه: «أَنَّهُ سَيَخْرُجُ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتَجَارَى بِهِمْ
الأهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ فلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا
مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ»)، يعني: هذه الرواية تبيِّن لك جزءًا من صفة أهل الأهواء،
وهي أنَّ الأهواء تتلاعب فيهم وتتلاعب بهم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«أَنَّهُ سَيَخْرُجُ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتَجَارَى بِهِمْ الأهْوَاءُ»، وهذا
سيأتي في بعض الآثار عن ابن سيرين بعد عدَّة أبواب، فتجد الرجل يتَّبع هوى الخوارج،
يُكفِّر ولاة الأمر، ويرى السيف على الأمَّة، ثم بعد مدَّة من هذا التَّشديد والغلو
والتَّنطُّع في الدين ينحرف إلى أن يتساهل ويترك الواجبات، ويبدأ يُحلل ما حرم الله
-عَزَّ وَجلَّ- فيجعل الغناء حلالًا، والموسيقى حلالًا، ويرى الاختلاط حلالًا،
ويُجالس النساء، ويُضاحك الأجنبيَّات، وربَّما يتوسَّع أكثر وأكثر، فهذا مصداق كلام
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ «تتَجَارَى بِهِمْ الأهْوَاءُ»، يعني تلعب
بهم الأهواء؛ لأنه لا يوجد في قلبه العزيمة الصادقة على اتباع الرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- وما أظهره من غيرةٍ في دعواه أنه يُريد الغيرة على الدين هو
كاذب فيها، فهو يريد الدنيا ولكنه ربما حتى مع نفسه ليس بصادقٍ، فلا يدري عمَّا في
نفسه، وهكذا طريقة أهل الأهواء، وهذا توصيف نبوي لحالة أهل الأهواء، وأنهم تتجارى
بهم الأهواء؛ لأنَّ الرجل إذا لم يكن صادقًا في التَّمسُّك بالوحي صار يمشي مرَّة
هنا ومرَّة هنا، يمشي مع هواه.
والواجب أن نتمسَّك بالوحي حتى لو خالف هوانا، قال تعالى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي
أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [الزخرف: 43]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ
بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾
[الأعراف: 170].
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ»،
الكلب: مرض ينتج عن عضَّة الكلب المسعور، أو عضَّة ذئب، والسعار مرض يصيب الكلاب
ناتج عن إصابته بجرثومة أو فيروس، فإذا عضَّ الإنسانَ هذا الحيوانُ المريض انتقلت
الجرثومة أو الفيروس إلى دم الإنسان، فيجري في دمه وأعصابه، فيجعل الإنسان مسعور
مثل المجنون، ولهذا تصبح تصرفاته مثل تصرفات المجنون، ويصبح الاضطراب في كل جسمه؛
لأن هذا ينتقل مع الدم ومع الأعصاب.
قال: «فلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ»، يعني عروق الدم.
قال: «وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ»، يعني في عظامه ومفاصله وأعصابه ودمه -نسأل
الله العافية والسلامة- تجده يتصرف تصرف المجنون.
وهذا يفسر لك ما يفعله بعض الملاحدة ممَّن يدَّعي الإسلام، وبعض المنحلين عن
الشريعة، أو بعض الخوارج، أو بعض الذين يتَّبعون هذه الجماعات المنحرفة؛ تجد فيه
نشاطًا عجيبًا على باطله! صباح ومساء وفي وسائل التواصل، ويركض من هنا ومن هنا،
ويتكلم على هذا، ويُجيب هذا، ويحرض على هذا! مثل الكلب المسعور، ينطلق على المسلمين
وعلى أهل الإسلام، وعلى بلدان المسلمين، نسأل الله أن يكفينا شرهم، ونسأل الله أن
يدفع عنَّا باطلهم، وبعضهم ينتصر للباطل ولأهل الباطل وهو مُغمِضٌ عينيه، يمشي ولا
يدري، ويُدافع عن طواغيت يحاربون الله ويُحاربون الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- ويحاربون الدين الإسلامي، فيذهب يُدافع عنهم، فهذا الذي «تتَجَارَى
بِهِمْ الأهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ فلا يَبْقَى مِنْهُ
عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ»، نسأل الله أن يعافينا وإيَّاكم وجميع
المسلمين.
ثم ختم الشيخ هذا الباب بقوله: (وتقدم قوله: «وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ»)، هؤلاء الثلاثة الذين سبق الحديث عنهم قبل عدَّة أبواب في حديث
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ
ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلامِ سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ،
وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ».
فقوله هنا: «وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»، يبيِّن لك أنه لا
يجوز أن تترك شيئًا من الإسلام لسنن جاهليَّة، فأمور الجاهليَّة اتركها، سواء كانت
جاهليَّة شرقيَّة، أو جاهليَّة غربيَّة، أو جاهليَّة نصرانيَّة، أو جاهليَّة
يهوديَّة، أو جاهليَّة مجوسيَّة، أو جاهليَّة وثنيَّة؛ فاتركها ولا تأتِ بها إلى
بلاد الإسلام، يكتفي المسلمون بما علمهم الله -عَزَّ وَجلَّ- في أمور دينهم، فلا
تعبث بدينهم وتفسد عليهم دينهم.
والشيخ أدخل هذا الحديث في هذا الباب ليؤكِّد باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك
ما سواه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]. وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 144]. وقوله
تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾
[النحل:25].
وفي الصحيح أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم
فاقتلوهم، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد». وفيه أنه: «نهى عن قتل أمراء الجور ما
صلو».
وعن جرير بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رجلًا تصدق بصدقة ثم تتابع الناس
فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ
سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا من بَعْدِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً
سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». رواه مسلم.
وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه: «من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة»)}.
هذا الباب مهم في الحقيقة، وهو تابعٌ لما سبق، وهو في التحذير من الابتداع في الدين
وخطورة البدعة، والبدعة أشد من الكبائر، ولهذا قال: "باب ما جاء أن البدعة أشد من
الكبائر".
ما وجه ذلك؟
هذا يحتاج إلى تدبُّرٍ واستنباطٍ، فقد يبتدع شخصٌ بدعة في الذكر، أو في الجنائز،
فهل هذا أشد ممن قتل نفسًا بغير حق؟
قتل النفس بغير حق كبيرة، وهذا الذي يبتدع في الجنائز أو يبتدع في الصيام يتقرب إلى
الله بهذه البدعة، يصلي ليلة في أول رجب مثلًا، فهو جالس يصلي طوال الليل، فهل هو
أشد ممن يقتل النفوس؟
نقول: هكذا دلَّت النصوص الشرعية، وذلك أنه إذا اختلفت الجهة ظهر الفرق، فالبدعة من
حيث أصل التشريع يظهر أنها أشد من الكبائر، وكذلك ما يترتب عليها من آثار ومفاسد
عظيمة بالتَّخلِّي عن منهج الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والخروج عن
الصراط المستقيم.
وإذا نظرت إلى جانب الأثر العيني المترتب على القتل؛ فلا شك أنه أعظم، فإذا أخذته
من هذا الاعتبار اتَّضح أنَّ هذه الكبيرة أكبر، ولهذا فإن القتل يُوجب القصاص،
خلافًا للمبتدع، فلا يجوز لنا أن نقتله، ولكن ندعوه بالتي هي أحسن، وننصحه ونأخذ
على يده إذا كان عندنا سلطان.
المقصود: أنه لابدَّ إذا انفكَّت الجهة عرفنا الخطورة، فمن حيث التشريع الذي يبتدع
في الدين كأنه يقول: أنا مشارك لله في التشريع، هو لا يقولها بصريح المقالة، ولكن
هذا هو واقع الحال، فعندما يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لنا قولوا
كذا..، فيأتي المبتدع ويقول: هذا ما يناسبني، بل نقول كذا..، وكذا...، وكذا...؛ فهو
الآن في الحقيقة تعقَّبَ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فمن هذا الاعتبار تظهر لك خطورة البدعة، وهذا مصداق ما بوَّب عليه المصنف "باب ما
جاء أن البدعة أشد من الكبائر".
واحتجَّ الشيخ بآيات، منها قوله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].
هل البدعة شرك؟
الجواب: إذا تأمَّلتَ آية الشُّورى وهي قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا
كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 21]، فمَن يشرع من الدِّين ما لم
يأذن به الله سمَّاه الله شريكًا، فهو ليس بشريك، ولكنَّه منازعٌ لله في التشريع،
فهو يقول: أنا أشرع لكم هذا الذكر، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- شرع
لكم هذا، ولكن خذوا بذكري أنا، وخذوا بهذا الشيء الذي أضفته أنا، واتركوا ما قاله
الرسول!
طبعًا الرجل لا يُصرِّح بهذا، ولو صرَّح بهذا لظهر للناس قبح قوله، لكنه من حيث
الواقع هذا واقعه، فمن حيث أصل إنشاء البدعة هي منازعة في التشريع.
من الذي له الحق في أن يأمر أمرَ إيجابٍ أو أمر استحبابٍ؟
هو الله -عَزَّ وَجلَّ- ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ﴾ [الشورى:
13]، فهو الذي شرع الدين ويأمر وينهى، حتى قال عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرً﴾ [الأحزاب:
46]، فهو داعٍ إلى الله بإذن الله، قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
[النجم: 4] -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فالمبتدع من حيث العموم ومن حيث إنشاء البدعة هو منازعٌ لله في تشريع هذه البدعة.
والذي لا يقصد هذا المعنى قد يُقال إنه ليس بمشركٍ، ولكن البدعة من حيث هي فيها هذا
المعنى، ولذلك صارت من أقبح الذنوب بعد الشرك بالله -عَزَّ وَجلَّ- فعندما يُنصِّب
الإنسان نفسه للناس ويقول لهم: افعلوا وتعبَّدوا بهذه العبادات التي أنا أقولها
لكم؛ فهذا منازعة في التشريع.
ومن هنا نفهم هذه الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فوجه دخول البدعة من ناحية أن البدعة هي منازعة
لله في تشريعه.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ
النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
[الأنعام: 144].
المبتدع مُفترٍ، فلا أحد أظلم منه، فقوله ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾، يعني أشد ما يكون
ظلمًا، ولهذا فإنَّ البدع أشد من الكبائر؛ لأن أشد شيء هو الافتراء على الله، فإذا
افترى على الله وقال: افعلوا هذا، وتقربوا إلى الله بهذا...، وهذا يحبه الله؛ فهنا
افترى على الله، فلو كان عندك دليل على هذا فعلى العين والرأس، فهذا لم يفترِ، فهو
يقول للناس: افعلوا ما أمر الله، افعلوا ما أمر الرسول، وهذا متَّبع، ولكن من يأتي
بشيءٍ من عنده ليس في كلام الله ولا في كلام رسوله ويقول للناس افعلوه، هذا يحبه
الله وهذا يقربكم غلى الله؛ فهذا قد افترى على الله ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، وهذا حال
المبتدعة.
وقوله: ﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، كل مَن أظهر التَّديُّن وأظهر الدين
سوف يتبعه فريق من الناس شاء أم أبى، قلُّوا أو كثُروا، فقد يكون هذا أشد شيء فيه
خطورة، أنَّ الإنسان يضل بنفسه فقط؛ بل يضل ويُضل غيره، وهذه خطورة البدع، وهي
أنَّه يقتدي به خلق غفير ويتوارثونه، وربَّما تبقى هذه البدعة مئات السنين، فيا
ويلَ مَن أول من ابتدعها.
مثلًا: البدعة الرجبيَّة قديمة، فأوَّل مَن ابتدعها يحمل كل الأوزار، كذلك بدعة
المولد، فهي قديمة من القرن الخامس الهجري، فأول مَن ابتدعها من الحكام يتحمَّل كل
الأوزار من بعدها، قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل:
25]، وهنا قال: ﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، فهذه خطورة البدعة.
ولو فرضنا أنَّ حاكمًا ارتكب كبيرةً في ذاك الوقت؛ فهل يتبعه أحد؟
قد يتبعه واحد أو اثنان أو فريق من الناس يُجاملونه؛ ولكن يموت ويموتون وتنتهي، وما
يتبعه أحد؛ وهذا يظهر لك أن البدعة أشد من الكبيرة مثلما بوَّبَ الشيخ.
قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾
[النحل:25].
هنا قوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ وفي الآية قبلها ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ فيه بيان لك أن
البدعة ليست علمًا، هي قياس واستحسانات عقول وميولات عاطفيَّة كلها جهالات، وإنما
العلم: قال الله...، قال رسوله...، قال الصحابة...؛ فهذا هو الدين الذي نتقرب إلى
الله به، وهذه هي العبادات.
وهنا في قوله تعالى في سورة الأعراف قصَّ الله تعالى علينا خبر الذين اتَّخذوا
العجل من قوم موسى، فقال في سياق الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ [الأعراف: 152].
قال العلماء: قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ في كل مبتدعٍ إلى يوم
القيامة؛ لأنَّ موسى -عليه الصلاة والسلام- لم يأمرهم باتِّخاذ العجل، وهم ما
أرادوا المعصية لما اتَّخذوه، وإنما أرادوا التقرب إلى الله، ولكن لم يكن معهم أمرٌ
من النبي أو وحي من شرع الله -عَزَّ وَجلَّ-، فلهذا كان اتِّخاذهم العجل ابتداعًا
وشركًا في نفس المقام، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ﴾،
فالعقوبة الأولى: الغضب من الله. والعقوبة الثانية: الذلَّة.
وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾، يعني: مثل هذه العقوبة نجزي بها
المفتري، فهي في كل مبتدع إلى يوم القيامة، سيناله غضب من الله وذلَّة تلازمه في
الحياة الدنيا -نسأل الله العافية والسلامة.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
بعضهم يذكر وجه، يقول: إن البدعة يُتقرَّب بها إلى الله، والمبتدع وأتباعه لا يرون
أنها معصية، أما من فعل الكبيرة أو أتباعه كلهم يدركون أنها معصية}.
صحيح، وهذا منصوص عليه في كلام السلف -رحمة الله عليهم- يقولون: البدعة أحب إلى
إبليس من المعصية، فإن المعصية يُتاب منها، وأما البدعة فلا يُتاب منها؛ وهذا صحيح،
وهذا من أسباب أن البدعة أشد من الكبيرة.
ثم احتجَّ المصنِّف بدليلين من السنَّة النبوية إذا جمعت بينهما ظهر لك أن البدعة
أشد من الكبيرة، وهما:
الدليل الأول: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال في الخوارج «أينما
لقيتوهم فاقتلوهم»، وفي الصحيح: «نهى عن قتل أمراء الجور ما صلو».
فالخوارج يُصنَّفون مبتدعة أو شُرَّاب خمر أو زُناة؟
الجواب: يصنَّفون مبتدعة، إذن هم وقعوا في البدعة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في حكمهم: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم»، فأمر
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بقتال الخوارج.
ولما جاء أمراء الجور، أي أمراء الظلم، فنهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- «عن
قتل أمراء الجور ما صلو». قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ أفلا ننازعهم؟ قال:
«لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»، فنهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة.
إذن؛ أمراء الجور وقعوا في فسقٍ وكبائر بجورهم وظلمهم، ونُهي المسلمون عن قتالهم
والخروج عليهم، والخوارج لما وقعوا في البدعة وخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم
أُمرَ المسلمون بقتالهم. إذن؛ البدعة أشد من الكبيرة.
ثم ختم بحديث جرير بن عبد الله البجلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رجلًا تصدق بصدقة
ثم تتابع الناس فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي
الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا من
بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي
الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»، رواه مسلم.
وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه: «من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة».
هذا يبيِّن الفرق بين البدعة وبين المعصية، فالبدعة من السنن السيئة، وقوله: «مَنْ
سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً»، ليس معناه إحداث شيءٍ جديد في الدين، وإنما
معناه إحياء شيء من الدين، إما غفل عنه الناس أو تقاعسوا أو ضعُفوا، أو نسوا؛
فيذكرهم أو يشجعهم، والكلام الذي قاله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعد
واقعةٍ وقعت، وهو أنه رأى جماعة من الصحابة في حال جوعٍ وشدَّةٍ، فأمرَ وحثَّ على
الصدقة، فجاء رجل بكفٍّ من تمرٍ، وجاء آخر بقبضةٍ من شعير، أشياء يسيرة جدًّا، حتى
جاء صحابي من الأنصار بصرَّةٍ كادت كفه تعجز عن حملها، فوضعها بين النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فتشجَّع الناس، فأخذوا يتصدَّقون حتى اجتمعت كومة عظيمة،
فتهلَّل وجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مسرورًا، ثم قال: «مَنْ سَنَّ
فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً»، يعني هذا الصحابي الذي شجَّع الناس بفعله سنَّ في
الإسلام سنَّة حسنة، وهذا ليس ابتداعًا في الدين، وليس معناه أن هناك بدعة حسنة.
وعلى كل حال؛ هذا يُبيِّن لنا خطر البدعة، وأن الإنسان إذا أحيا بدعة أو شجَّع على
بدعةٍ فإنه يتحمَّل جميع هذه الأوزار، لأنه قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب ما جاء في أن الله احتجز التوبة على صاحب
البدعة
هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: "كان عندنا رجل
يرى رأيًا فتركه، فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلانًا ترك رأيه؟ قال: انظر
إلى ماذا يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله. «يمرقون من الإسلام كما يمرق
السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه». وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: "لا يوفق
للتوبة")}.
هذا الباب أيضًا يؤكِّد المعنى السابق في خطورة البدع والتَّحذير منها، ومن ضمن
شؤمها وخطرها أن صاحبها لا يوفق للتوبة.
قوله (باب ما جاء في أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة)، وورد في هذا نصوص.
ونقول قولًا عامًّا، وهو أنَّ باب التوبة مفتوح لجميع العباد، قال تعالى: ﴿قُلْ
يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعً﴾ [الزمر: 53]، سواء
الشرك الأكبر، أو الإلحاد، أو الكفر بالرسل، أو غير ذلك من أنواع الكفر والضَّلال؛
فضلًا عن البدع، فباب التوبة مفتوح لهؤلاء ولهؤلاء ولكل مذنب ولكل عاصٍ.
وهذا يؤكِّد ما سبق ذكره من كلام بعض السلف أنَّ البدعة أحب إلى إبليس من المعصية،
لأنَّ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتوب صاحبها منها، لأن صاحب البدعة يرى أنه
على حق، ويرى أنه يتقرب إلى الله، ويرى ان هذه البدعة جميلة، ويحسِّنها في نفسه وفي
نفوس الناس، ولهذا تجد بدع القبور، وبدع الجنائز، والبدع التي تقع من بعض الاس
أثناء الحج؛ تجدها تتكرر، لأن هناك من يزينها للناس، وهم يظنون أنهم يتقربون إلى
الله بها.
وتجد بعض الناس إذا جاء شهر ذو الحجة يقول: اختم عامك بصوم...، باستغفار!
هذه بدع وضلالات، ينشرونها بالجوالات، ويبثونها بين الناس، ويظنون أنهم يتقربون بها
إلى الله.
بعضهم يُعاند إذا قيل له: هذه بدعة؛ فيُعاند ويركب هواه ويصر على هذه البدعة، ولهذا
ترى بعض المنتسبين لهذه الجماعات البدعيَّة مصر على هذا الباطل لا يتخلَّى عنه مهما
كان الأمر! نسأل الله العافية والسلامة.
يقول الشيخ: إن احتجاز التوبة عن صاحب البدعة مروي، فلفظ "مروي" صيغة تمريض، فقد
روي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وذكر هذه القصة الجميلة عن أيوب السختياني، قال:
"كان عندنا رجل يرى رأيًا"، يعني كان عنده عقيدة فاسدة، إما عقيدة القدرية أو عقيدة
المرجئة، ثم ترك هذا الرأي، وقال للناس: لم أعد أرى هذا الرأي، ولم أعد أقول بهذا
القول.
قال: "فأتيت محمد بن سيرين" العالم الكبير المشهور من علماء التابعين الكبار -رحمة
الله عليه- وهو إمام سنَّةٍ وهدى، وأيوب السختياني أيضًا عالم جليل، ولكن محمد بن
سيري شيخه، فجاءه يقول: أشعرت أن فلانًا ترك رأيه؟".
فقال له: انتظر ولا تستعجل ولا تمدحه أو تزكيه، قال: "انظر إلى ماذا يتحول؟"، كأن
ابن سيرين استنبط أن هؤلاء يتقلبون من هوى إلى هوى، ومن رأي إلى رأي، وليس معنى هذا
أنه لن يتوب، فقد يتوب الله عليهم ويلزمون السنَّة، مثل نعيم بن حمَّاد كان
جهميًّا، ثم صار من علماء السنَّة، وكثير من أهل البدع تابوا، ولكن مما يكثر وقوعه
أن المبتدعة لا يرجعون.
قال ابن سيرين: "إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله"، يعني حجَّة ابن سيرين في هذا هو
كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وليس تحكُّمًا من ابن سيرين، لأن
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
الرمية ثم لا يعودون إليه»، فاستنبط منه ابن سيرين أنه لا يوفق للتوبة من البدعة،
وهذا في الأغلب.
قال: (وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: "لا يوفق للتوبة")، وهذا لما سئل عن
معنى «لا يعودون إليه».
نسأل الله أن يعصمنا من البدع، وأن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يجعلنا من أهل
السنة والجماعة، ونسأل الله أن يهدي ضالي المسلمين، ويردهم إلى صراطه المستقيم،
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
----------------------
[29] أخرجه أبو داود (4607) واللفظ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، وأحمد
(17144)، وصححه الألباني.
[30] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11185)، وأحمد (21900)، صحيح ابن حبان
(6702)، مجمع الزوائد للهيثمي (7: 27)، واللفظ له، وصححه ابن باز في مجموع فتاوى
ابن باز (337: 3).
[31] صححه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10: 49).
سلاسل أخرى للشيخ
-
12804 18
-
16751 9
-
34828 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12