الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2056 12
الدرس العاشر

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب قول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
 وقوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:132]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:123].
وعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمُ أَبِي إِبْرَاهِيم وَخَلِيلُ رَبِّي» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ رواه الترمذي.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُم وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
ولهما عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
ولهما عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَ» قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ» قَالوا: فكَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرانيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلا لَيذَادَنَّ رِجَالٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلا هَلُمَّ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقً».
وللبخاري: «بَيْنَما أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ -فذكر مثله- قال: فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ».
ولهما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما-: «فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117]»)
}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فهذا الباب -أيُّها الإخوة- في كتاب "فضل الإسلام" للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هو باب قول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفً﴾، وأوردَ فيه مجموعةً كبيرةً من الآيات والأحاديث عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويُريد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يُبيِّن فيها أنَّ مَن أنعمَ اللهُ عليه بنعمة الإسلام يجب عليه أن يتمسَّك بهذه النعمة، وأن يُقيمَ وجهه وعمله عليها، وأن يُحافظ عليها أشد المحافظة، وذكر البراهين الدَّالَّة على هذه المسألة، وهي المحافظة على الإسلام والثبات عليه، وإقامة الوجه، وسائر الأعمال على هذا الدين، وبعض الناس يُنعم الله عليه بنعمة ثم لا يعرف قدرها، ولا يعرف أهميتها؛ فيدخل عليه التساهل، فلنقرأ هذه النصوص، ثم نستنبط منها ما يُشير إلى مراد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال:(باب قول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفً﴾).
الخطاب هنا لأشرف البشر، وأشرف الخلق؛ وهو رسول الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، أمره الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا الأمر العظيم، وإذا كان هذا قد أُمر به أشرف الخلق محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فغيره من الناس من باب أولى داخلون في هذا الخطاب.
وهنا الأمر بإقامة الوجه ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفً﴾؛ لماذا خُصَّ الوجه بإقامته للدين؟
الجواب: لأن الوجه أشرف الأعضاء، فأشرف أعضائك أيها الإنسان هو وجه، فهو الذي تواجه به وتحصل به المواجه، والأعضاء تبعٌ له، فالقلب واليدان والقدمان وسائر البدن تابع للوجه، فإذا كان أشرفُ شيءٍ فيكَ أقمته لله -عَزَّ وَجَلَّ- وأقمته للدين حنيفًا؛ فإنَّ الأعضاء كلها تابعةٌ لذلك، فيقوم لله، ويسجد لله، ويركع لله، ويُنيب إلى الله، ويتوكَّل على الله، ويدعو الله، ويلجأ إلى الله، ويتضرَّع إلى الله، وهكذا..؛ كل هذا يُقيمه حنيفًا، فكلمة حنيفًا في قوله ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفً﴾، منصوبة على الحال، يعني: حال كونك على هذه الحنيفيَّة.
وتقدَّم أن الحنيف هو: المائل عن الشرك، المعرض عنه، التارك له، المبغض له، المقبل على الإسلام وعلى التوحيد، والمقبل على الله -عَزَّ وَجَلَّ- الراغب فيما عنده.
إذن؛ إقامة الوجه للدين لابدَّ أن تكون حالَ كونك مُتبرِّئًا من الشرك، مُتمسِّكًا بالتَّوحيد، وهذا يُبيِّن لنا ما يُقرره علماء الإسلام دائمًا، وهو أنَّ التوحيد فيه نفيٌ وإثباتٌ، وهذا معنى: "لا إله إلا الله"، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، فقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فيه إثبات العبادة لله، وقوله: ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ فيه نفي عبادة كل ما سوى الله، فهذا هو معنى قول: "لا إله إلا الله"، فـ "لا إله" نفي، و"إلا الله" إثبات، وهو إثبات التوحيد والعبادة والتَّوجه والتعلق بالله -سبحانه وتعالى- ونفي الشرك عنه، وإبطال لعبادة ما سواه والتعلق بما سواه، والتوجه إلى مَن سواه.
وهذا دائمًا يتكرَّر في النصوص الشرعية، كما هنا في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفً﴾، فالحنيف هو: المائل عن الشرك، المبغض للشرك، المتبرئ من الشرك، المقبل على التوحيد، المقبل على الله، المتمسِّك بالإسلام.
ثم وضَّح الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا الأمر أنه إذا تمَّ فهو فطرة الله، ولهذا قال: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ﴾، وهذا سيقَ على وجه المدح، فإقامة الوجه للدين والحنيفية هما فطرة الله فطر الناس عليها، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- فطر الخلق -يعني أوجدهم وخلقهم وهيَّأهم- على هذا، وقد وضَّحه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كما سيأتي في الحديث في ثنايا هذا الباب، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُـحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟».
الفطرة هنا: بمعنى أن جميع المولودين من جميع أصقاع الأرض، من شرق الأرض في الصين واليابان، ومن غربها من أمريكا، ومن شمالها وجنوبها؛ جميع البقاع وجميع الأراضي وجميع العالم كل مولود يُولَد مائلًا إلى الحق، قلبه مُهيَّأ لقبول الحق والميل إليه والفرح به ومعرفته، والاستنارة به؛ فإذا عُرض عليه هذا الحق وسَلِمَ من المعارض أحبَّه ومالَ إليه وقَبِلَه، ودخل في دين الإسلام.
لكن ما الذي يمنعه من هذا؟
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وضَّحَ هذا وقال: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، فهؤلاء الأبوان من شياطين الإنس، من شياطين اليهود أو شياطين النصارى أو شياطين المجوس أو غيرهم، أو شياطين الجن.
إذن؛ الأصل في جميع المولودين أنه مفطورين على هذه الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها.
ثم قال تعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، الله أكبر! هذا يتضمَّن التَّحدِّي لجميع أهل الأرض، هل يُمكن أن يُولَد المولود على غير هذا النحو؟
الجواب: كلا، كل مولود يُولد سليمًا مائلًا إلى الحق قابلًا له إذا سلم من المعارض.
وقوله تعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ من علامات الربوبيَّة، فالله -سبحانه وتعالى- هو المنفرد بخلق هذه الخلائق، وخلق هؤلاء المولودين، لا يتغيَّر خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- منذ ذرية آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، فهذا التوحيد وهذا الإسلام وقبول الحق والميل إليه والعمل به، والبراءة من الشرك؛ هذا هو الدين القيِّم، أي: المستقيم الحق.
قال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾، فأعرضوا عنه إلى الكفر، وإلى اليهوديَّة المنحرفة، وإلى النصرانيَّة الباطلة المبدَّلة المحرَّفة، إلى المجوسيَّة، إلى الوثنيَّة والشرك، إلى الإلحاد؛ فهؤلاء لا يعلمون، جهلوا الحق وأعرضوا عنه، وفرَّطوا في السؤال عن الرسول، والسؤال عن القرآن، والسؤال عن الإسلام؛ وإلَّا فكل واحدٍ من هؤلاء مكلَّف بأن يبحث عن الحق، ويبحث عن الإسلام، ويجتهد كما اجتهد سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حتى هداه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾ [العنكبوت: 69].
والخلاصة من هذه الآية الكريمة: أننا نعرف أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أوجبَ على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأمته تبع له من باب أولى؛ أن يُقيمَ وجهه للدين حنيفًا، وهذا نصٌّ صريح.
إذن؛ لا يجوز التساهل في مسائل التوحيد، ولا يجوز التَّهاون في الشرك والخرافة.
وسورة الروم مليئة بتقرير مسائل التوحيد وبيان انفراد الرب بالخلق والآيات العظيمة، والرد على المشركين وضرب الأمثلة في الرد على شبهات المشركين، فسورة الروم سورة عظيمة جدًّا، فيها من البراهين ما يكفي ويشفي، وهكذا كل سُور القرآن العظيم.
قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:132]، يُبيِّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الآية أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم خيرة البشر اهتمُّوا بهذا الدين، اهتموا بالإسلام، اهتموا بسلامة دينهم ودين ذريتهم لدرجة أنهم في آخر حياتهم يوصون أبناءهم بهذا، فإبراهيم -عليه السلام- وصى بها بنيه، وكذلك يعقوب وصَّى بها بنيه ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
في مقابل هذا الحرص والعناية من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على الدين، نجد بعض الناس على العكس؛ فتجد بعض الناس -على سبيل المثال- والدهم شيخ، أو عالم، أو رجل صالح، أو إمام مسجد، أو مؤذن؛ فيقول بعض الناس: هذه الأسرة فيها الإمام فلان والعالم فلان والشيخ فلان؛ فهؤلاء لا خوف عليهم؛ لأن أباهم شيخ ورجل محافظ، وهم معروفون بالصلاح والتقوى.
نقول: لا، الخوف لابد أن يكون موجودًا، فإذا كان الأنبياء قد خافوا على ذراريهم ووصوا أبناءهم بالتوحيد، فنحن من باب أولى أن نخاف، فكم من شخص أبوه رجل صالح وهو فاجر! وكم من شخصٍ أبوه عالم وتقي وهو عدو للدين! نسأل الله العافية والسلامة.
فخير البشر -وهم الرسل- يوصون أبناءهم بالتوحيد، حتى عند قرب الموت ومُفارقة الدنيا، قال تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ [البقرة: 133]، فكانوا يوصونهم بالتوحيد، وبالإخلاص، وبالثبات على العقيدة الصحيحة، يخافون عليهم من الشرك، فإذا كان هذا هو حال الأنبياء فيجب علينا أن نقتدي بهم، والله -عَزَّ وَجَلَّ- ما ذكر لنا هذا الحال إلا لنقتدي بهم، وهذا وجه إدخال هذه الآية في هذا الباب، وهو أن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الشيخ محمد بن عبد الوهاب يُؤكِّد لك أنه إذا كان الأنبياء يخافون ويحرصون على أبنائهم؛ فافعلوا أنتم هكذا؛ لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما ذكر لنا حال الأنبياء في هذا المقام إلا لنقتدي بهم، فنخاف على أبنائنا، نخاف على بناتنا، نحرص عليهم، نسأل عنهم، أمَّا الاتِّكال وعدم المبالاة فلا ينبغي، يجب أن نحرص ونُبرئ الذِّمَّة النَّصيحة وبالوصايا وبالتَّذكير وبالتَّعليم، فلا تقل: ما دام أن جدنا رجل صالح فما علينا خوف!
هذا غلط، احرص واجتهد، وانصح في العقيدة وفي العبادة وفي الأخلاق، والنساء يحرصن على الحشمة والستر والحجاب، حتى لو فسد بعض الناس اليوم، فتجد بعض النساء تبرجن، وأين الذي يأخذ على يدها! تجد بعضهم صالحين، ولكن يتركون الإنكار نسأل الله العافية والسلامة.
إذن؛ يجب علينا أن نقتدي بالأنبياء في النصيحة، والأخذ على يد السفيه، أما ترك الحبل على الغارب فهذا جريمة، وسوف يُحاسب الله -عَزَّ وَجَلَّ- كل واحد منَّا، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ»[40]، فكر الإمام وولي الأمر، حتى ذكر الخادم؛ فكل هؤلاء مسؤولون، وذكر الأب في بيته، والمرأة في بيتها، فكل واحد عليه أن يؤدِّي الواجب الذي عليه، ما يخصك أنتم قمْ به، ولي الأمر ما يخصه يجب عليه أن يقوم به، وإذا قصَّر سيُحاسبه الله، وأنت في بيتك تقوم على بناتك وعلى ذريتك بالعقيدة وبالأخلاق، وبالمحافظة على الدين والصلاة، فهكذا يجب علينا.
الآية الثانية أيضًا تدل على هذا، وهي قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:123].
ما هي ملة إبراهيم؟
الجواب: هي التوحيد، وملة إبراهيم هي البراءة من الشرك، ولهذا سُميَت سورة باسم "إبراهيم" نبي الله الخليل، يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 35، 36]؛ فلم يأمن على نفسه فدعا ربه، وخاف على أولاده، وهكذا يجب علينا، أمَّا التساهل في هذا هو مدعاة لدخول الشركيات.
على سبيل المثال: الآن دورات البرمجة العصبية ودورات تطوير الذات أدخل بعض شياطين الإنس والجن فيها الشركيات والخرافيات على شبابنا، بحجَّة الطاقة الإيجابيَّة والطاقة السلبية، وإذا كان عندك حجر أو خاتم وكلما قوي اعتقادك فيه كلما قوي الأثر له، وهذا موجود في كتباتهم وفي محاضراتهم، وفي دوراتهم؛ وهذه دروات شر، فيعلمون الناس التعلق بالأحجار، والمشي على الجمر، ثم يقول: أَطلق العملاق الذي بداخلك! فهذا شيطنة للناس وردهم إلى الأمور الجاهلية، فإذا استمر هؤلاء وأمثالهم في إفساد الشباب والشبات سوف يعبدون الأصنام، وإذا استمر هؤلاء في الدعوة إلى تعظيم الأحجار بدعوة الطاقة؛ فسيرجعون إلى عبادة الأصنام إن لم يتداركهم الله برحمةٍ منه، ويُؤخَذُ على أيديهم أيضًا، فيجب الحذر والتَّحذير، وقد كتب عدد من الناصحين ومن أهل العلم مَن عرف ما في هذه البرمجة العصبية واللغوية ودورات تطوير الذات واستخراج قدرات النفس؛ فاستخرج منها أمورًا باطلة مخالفة للشريعة، صحصح قد يكون فيها أمور سليمة مبينة على التجارب أو مبنية على الخبرة، أو مبنية على الفراسة، لكن لا يصلح أن يُترك هذا الأمر مفتوحًا، فالخطر موجود، قال تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾، وكان محمد بن إبراهيم يقول: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم!".
فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أُمر باتباع هذه الملة، ونحن مأمورون باتباع هذه الملة، ومن ضوابط هذه الملة ومن دعاء صاحب هذه الملة ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾.
واليوم تجد في منظمة اليونيسكو -مثلًا- أقسام تتعلق بالآثار، تجدهم حريصين كل الحرص على البحث عن الأصنام، فإذا وجدوا صنمًا في أي زاوية في العالم ركضوا يحفظونه ويبحثون عنه، بينما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُكسِّر الأصنام، ما قال هذا تراث أو ثقافات الأمم السالفة؛ بل أبطلها، قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقً﴾ [الإسراء: 81]، فكل مَن يُنادي بالمحافظة على الأصنام فهذا مخالف لمنهج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- متبع لمنهج هؤلاء الضالين الحيارى الغربيين أو غيرهم، فأين يريد المسلم أن يضع نفسه؛ من أبتاع الرسول الذي كسَّر الأصنام -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أو من أتباع هؤلاء الجهلة الضُّلال غير المسلمين؟
والحمد لله أن منَّ علينا بنعمة الإسلام، ما في داعٍ لهذه الخرافات وهذه الخزعبلات، لا نجمع أصنامًا، ولا نجمع تماثيلا، ولا نجمع صورهم؛ بل يجب تكسيرها من قبل ولاة الأمور؛ لأن تنفيذ الحدود والإتلاف من اختصاصات ولي الأمر، فنسأل الله أن يعينهم ويسددهم ويأخذ بأيديهم لما فيه الخير، ولما فيه عز الإسلام والمسلمين.
بعد هذا قال: (وعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمُ أَبِي إِبْرَاهِيم وَخَلِيلُ رَبِّي» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ رواه الترمذي).
﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾، يعني: أتباع إبراهيم الذين زمنه.
وقوله: ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾، يعني: نبي الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُو﴾، يعني: أتباع النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
لماذا قُدِّم الذين اتَبعوا إبراهيم في زمنه على نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟
الجواب: لأنهم ألصق به؛ ولأنهم اتَّبعوه في الشريعة التفصيليَّة مع اتباعهم في الإسلام العام، أما النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فله شرع خصَّه الله به، يختلف في بعض الأمور عن ما خصَّ الله به إبراهيم وأتباعه، ولهذا قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾ [المائدة: 48]، فهذا هو سبب التقديم.
والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إخوة، وجاء في الحديث «وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»[41]، يعني: الشرائع، والدين الذي يجمعهم هو العقيدة وتوحيد الله تعالى، فأصول الدين من الإيمان وأركانه وأصول العبادات متَّفقون فيها لا يختلفون، لكن تفسير وتفصيل العبادات لكلٍّ شرعة ومنهاجًا.
ثم أورد المؤلف حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُم وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
هذا الحديث حديثٌ صحيح، وفيه عبر للمؤمنين تحتاج إلى تفصيلٍ طويل، ولكن نأخذ الخلاصة وما يتعلق بالمقرر.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُم وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ»، فدائمًا إذا وفق الله الناس للحق وصاروا عليه تأتي المغريات، ومن أبرز المغريات المال، ثم الأبناء، ومع مرور الوقت يغتر الإنسان بماله، فينسى بعض ما أمره الله، أو يُقصِّر أو يطغى، وكثير من الناس زاد ماله وزاد طغيانه، كان يومَ كان فقيرًا أو متوسط الحال محافظًا على الصلاة، ونساؤه محافظات على الحجاب، محافظين على الدين، مستقيمين على العقيدة الصحيحة، ولمَّا كثُرَ المال وزاد تساهلوا في الصلاة، وتساهلوا في الحجاب، وتساهلوا في أوامر الله، وتساهلوا حتى في العقيدة، حتى صاروا يُوالون أعداء الله، ويُبررون لهم العقائد الفاسدة، وهذا لكثرة الأموال.
وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في سورة نوح: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارً﴾ [نوح: 21]، فكثير من الناس ينظر إلى المال والولد على أنه علامة رضا الله، ودائمًا هذا يتكرر في الناس، فإذا رأى شخصًا عنده مال كثير، قال: هذا عنده خبيئة بينه وبين الله، ولهذا أعطاه الله المال! فيجعل معيار رضا الله -عَزَّ وَجَلَّ- على هذا العبد وجود المال أو وجود المنصب، وهذا من الجهل بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، فالمال يعطيه الله لمن يحب ولمن لا يُحب، يختبر هذا وهذا.
وفي الحديث تأكيد لهذا المعنى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُم وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ»، هذا ذميم وهذا جميل، هذا طويل وهذا قصير؛ ليس العبرة بهذا، وليست العبرة بكثرة المال وقلَّته.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»، فلابد من صلاح القلب وصلاح العمل، وهذا يكون بالعقيدة الصحيحة وبالقيام بما أوجب الله وترك ما حرم الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ هذا من إقامة الدين وإقامة الإسلام.
وهذا الحديث أتى الشيخ برواياته لعدد من الصحابة، عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهما عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ»).
الفَرَط: هو المُقدَّم، كمُقدَّم الجيش ونحوه، فإذا سار الجيش مسيرًا وأرادوا أن ينزلوا في مكانٍ، فيأتي شخص أو شخصين يتقدَّمون قبل الجيش يُهيِّؤون المكان ويُرتِّبونه، ويُهيِّؤون الماء، فيأتي الجيش ويجدون المكان مُهيَّئًا، فالذي هيَّئه يُسمَّى "الفَرَط"، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ»، يعني أنا أنتظركم على الحوض، فاللهم اجعلنا ممن يشرب من هذا الحوض ومن يده الشريفة -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ولَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأُنَاوِلَهُمْ»، هذا فيه دليل على أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُناول الناس.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اخْتُلِجُوا دُونِي»، يعني: صار بيني وبينهم حجاب.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»، نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا الحديث والأحاديث التي بعده تُخوِّف المؤمن من التَّبديل في الدين، ومن الإحداث في الدين -وهو الابتداع- ومن التَّحريف في الدين والتَّغيير للشَّريعة، فكل واحد من المسلمين يجب عليه أن يُحاسب نفسه محاسبة شديدة في عباداته وفي عقيدته وفي أموره كلها ان تكون على شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يزيد ولا ينقص، فما وافق الشرع يحمد الله عليه، ويفرح بنعمة الله، ويسأل الله الإخلاص والقبول والموافقة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وما خالف الشرع يجب عليه أن يتركه، ويرجع إلى الحق، فهذا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُخبر أنَّ من هذه الأمَّة من سيُطرَد عن الحوض.
قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»، فيه فائدة نرد به على غلاة وجهلة بعض المتصوفة، أو الشيعة الذين يزعمون أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يعلم الغيب، أو أنَّ الأئمَّة والأولياء يعلمون الغيب؛ فهنا أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأنصحهم يُخبر المسلمين بما سيكون يوم القيامة، وأنَّ الملائكة تقول «إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»، فهذا دليل على أنه لا يعلم الغيب -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65].
كذلك لا يملك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- نفعًا ولا ضرًّا لأحد، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188]، وسنأتي على معنى «مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» بعد قليل.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهما عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَ». قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي»).
هذا نص صريح في ضابط الصحبة، فكثير من الناس قد لا يعرف مُستند العلماء في تعريف الصحابي، فهذا الحديث أحد مستندات العلماء، لأنه فرق بين مَن رأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومَن لقيه، ومَن لم يلقَهْ، فسمَّى من يأتي بعدَ وفاته «إِخْوَانَنَ»، وسمَّى الذين رأوه والتقوه «أَصْحَابِي»، فهذا هو ضابط الصحبة.
ولهذا قال العلماء: مَن لقي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مؤمنًا به ولو لحظة، ومات على الإسلام؛ فهذا هو الصحابي، فينال شرف الصحبة، وينال شرف هذه المعيَّة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهذه مذكورة في قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: 29]، والمعيَّة هنا معناها أنهم شاهدوه وجالسوه والتقوا به، لأن الأعمى يدخل في ذلك حتى لو لم يرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مثل ابن أم مكتوم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فكل مَن لقي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وكان معه ولو مدَّة يسيرة فهو صحابي.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَ»، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يود رؤية من آمنوا به بعدَ وفاته، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم وجميع إخواننا منهم.
قوله: (قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ» قَالوا: فكَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرانيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»).
هنا يُبيِّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كيف سيعرف هؤلاء المؤمنين بعد وفاته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذا لقيهم يوم القيامة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ»، التَّحجيل يكون في القوائم -الأرجل- والغرَّة تكون في النَّواصي، فالخيل المحجَّلة الغر، يعني: فيها بياض في القدم والرأس، وهذه علامة واضحة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «بَيْنَ ظَهْرانيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ»، يعني: خيل لا فيها غرة ولا فيها تحجيل.
قال: «أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»، الجواب: (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ)، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يعرف أتباعه من المؤمنين الذين لم يرهم في حياته؛ لأنهم ماتوا وقد أتوا بعدَ وفاته.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ»، اللهم اجعلنا من هؤلاء يا رب العالمين، ولهذا جاء في حديث آخر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن».
قال: «وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ»، تقدَّم معنى "الفَرَط".
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَلا لَيذَادَنَّ رِجَالٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ»، البعير الضَّال هو البعير الذي ندَّ وشردَ عن مجموعته وليس من إبلك أنت، فلا تدخله مع إبلك؛ لأنه سيزعجك ويزعجها، فكذلك الذي بدَّل وغيَّرَ في الدين سيُطرد عن المجموعة المؤمنة من أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الذين يشربون من الحوض.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أُنَادِيهِمْ أَلا هَلُمَّ»، يعني: تعالوا.
قال: «فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقً»، نعوذ بالله من الإحداث.
لاحظ اللفظ الأول «لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»، وهنا قال: «إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ»، فنحفظ اللفظتين "بدَّلوا" و"أحدثوا".
قال: (وللبخاري: «بَيْنَما أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ»)، والله أعلم أنه خرج رجل من الملائكة، أو ممَّن يسخرهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- لمناداة هؤلاء، فيُنادي هؤلاء المبدِّلين ويقول لهم: تعالوا.
فيسأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هذا الرجل: «فَقُلْتُ أَيْنَ؟»، يعني: أين تذهب بهم؟
قال: «قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ»، يعني: هذا الرجل يُقسم بالله أنه سيأخذهم إلى النار.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى»، نسأل الله العافية والسلامة، وهذا هو اللفظ الثالث «ارْتَدُّوا بَعْدَكَ».
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ -فذكر مثله- قال: فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ»، يعني العدد القليل، هؤلاء الذين منَّ الله عليهم بالتوبة من هذه البدع وتابوا ورجعوا، فقلَّما يتوب المبتدع من هؤلاء المبدِّلين المحدثين أو المرتدين، فلا ينجو منهم ويُوفَّق للتوبة إلا قليل.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما-: «فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117]»).
قال شُرَّاح الحديث من علماء الإسلام كالنووي والخطابي وغيرهم: المراد بهؤلاء هم أهل الرِّدَّة في الدرجة الأولى؛ لأنَّ هناك أقوامًا بعد وفاة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ارتدوا عن الإسلام في عهد أبي بكر الصديق، فقاتلهم أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقاتلهم الصحابة جميعًا معه، ورجع منهم مَن رجع، وتاب منهم مَن تاب، وقُتِلَ منهم مَن قُتل على الكفر والرِّدَّة.
قال العلماء: ويُلحقُ بهم مَن بدَّل الدين أو أحدثَ في الدين، ولهذا فإن رؤساء الفرَق الضَّالَّة الذين قصدوا مُعاندة الرسول وتعمَّدوا مخالفة الإسلام مُهدَّدون بهذا الوعيد، وكل مَن خرجَ عن السُّنَّة وبدَّل وأحدث في الدين وأدخلَ في الدين ما ليس منه؛ فهو مُهدَّد بهذا الوعيد.
لو قال بعض المبتدعة: هذا فيه أنَّ الصحابة حصل لهم هذا الشيء!
نقول: لا، فقوله: «أَصْحَابِي»، أي: أنهم من أمَّتي؛ لأنَّه رأى فيهم علامات الغُرَّة والتَّحجيل، ولكنهم بدَّلوا، فهم دخلوا مع الناس لأنهم يُظهرون الصلاة، ولكنهم لما بدَّلوا وارتدوا حصلت لهم هذه العقوبة الشديدة، أمَّا الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فكلهم مؤمنون، ولا يدخل فيهم هذا الوعيد، ولهذا فإنَّ الصحابة عُرفوا بالثبات على الإسلام ونصرة الدين، ولم يُعرفوا بضد ذلك، والحمد لله رب العالمين.
فهذا -أيها الإخوة الكرام- يؤكِّد لنا هذه المسائل العظيمة، وهي أنَّ الإنسان يجب عليه أن يثبت على الدين، ويستقيم على شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويستقيم على سنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويحذر من التبديل، ويحذر من الابتداع في الدين، ويحذر من الإحداث في الدين، كما يحذر من الردة عن الإسلام -نسأل الله العافية والسلامة.
والرِّدَّة عن الإسلام من أخطر الأمور، بعض الناس يقول: الله يثبتنا وإيَّاك وجميع المسلمين؛ فكلنا يجب أن نخاف ونقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، وطاعة رسولك.
فهذا الأمر أمر خطير يجب العناية به، وهو الثبات على الإسلام والاستقامة على دين الإسلام، والحذر من البدع، والحذر من الإحداث في الدين، أسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين على الإسلام وعلى السنة وعلى التوحيد، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[40] أخرجه البخاري (2558) واللفظ له، ومسلم (1829).
[41] صحيح البخاري (3443).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك