الدرس التاسع
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشيخ}.
حياكم الله وحيا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتابه "فضل الإسلام": (باب قول الله تعالى: ﴿يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 65-67].
وقوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة:130].
وفيه حديث الخوارج وقد تقدم. وفيه أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «إن
آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما أوليائي المتقون»، وفيه أيضاً عن أنس أن رسول
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا فلا آكل
اللحم، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء،
وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لكني
أُقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ
اللًّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». فتأمل! إذا كان بعض
الصحابة أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ وسمي فعله رغوباً عن السُنة
فما ظنك بغير هذا من البدع؟ وما ظنك بغير الصحابة؟)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فنحمد الله -سبحانه وتعالى- ونسأله -جَلَّ وَعَلَا- أن يرزقنا وإياكم
شكر نعمته وحسن عبادته، ونسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر
أنفسنا.
نشرع في تكميل التعليق على هذا الكتاب المفيد، كتاب "فضل الإسلام" للشيخ الإمام
المجدد محمد ابن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وغفر له، وقد تقدَّمَ مجموعة
كثيرة من الأبواب المفيدة التي اشتملت على مسائل متعددة، واليوم نقرأ باب "قول الله
تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله:
﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 65-67]".
فطريقة الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وطريقة أهل العلم غالبًا في هذه التآليف
يختصرون ذكر الآيات؛ لأن المسلم الذي يقرأ هذا الكتاب يعرف كتاب الله، فيرجع
للآيات؛ فيُكمل الآيات، ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
[آل عمران: 65 - 67].
إذن؛ هذا الباب مبوَّب على هذه الآية وما تضمَّنته من معانٍ والنصوص التي دلَّت على
هذا المعنى، فإنه ذكر الآية التي بعدها وهي قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]، وذكر حديث الخوارج وما
سيأتي.
ما المراد بإتيان المصنف بهذه الآية في هذا الباب وفي هذا الكتاب؟
نجد أن الله -عز وجل- يذم أهل الكتاب في انتسابهم إلى نبي الله الخليل -عليه الصلاة
والسلام-، فيقول الله -عز وجل: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي
إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: 65]، يعني: كيف تنتسبون إلى إبراهيم؟!
والخطاب هنا لأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، فاليهود يقولون: نحن نتبع إبراهيم،
والنصارى يقولون: نحن نتبع إبراهيم؛ فأنكر الله -عز وجل- عليهم هذا وذمَّهم؛ لأن
اليهود حصل منهم تبديل، وحصل منهم تغيير لِما كانوا عليه، ولو كانوا على طريقة موسى
-عليه الصلاة والسلام- ولم يغيروا ولم يبتدعوا ولم يُحدثوا الشرك والضلالات لكانوا
على ملَّة موسى وملَّة إبراهيم؛ لأنَّ ملَّة الأنبياء واحدة، ولكنهم غيَّروا
وبدَّلوا، وكذلك النصارى غيَّروا وبدلوا، فهؤلاء كفرة اليهود وكفرة النصارى يتباهون
أمام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويقولون: نحن أتباع إبراهيم حقًّا
ولستَ أنتَ يا محمد! وإبراهيم على طريقتنا، فنحن ننتسب إليه وهو على طريقتنا؛ إذن
إبراهيم راضٍ عنا!
فقال الله: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
[آل عمران: 65]، يعني أنَّ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ليس على ملَّتكم؛ بل هو
قبلكم، والتوراة الحقة التي هي كلام الله، والإنجيل الحق الذي هو كلام الله ولم
يحدث فيه تغيير لم يُنزَل إلا بعد إبراهيم، فانتسابكم إلى إبراهيم في غير محله وهو
مخالفٌ للعقل، ولهذا قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ
حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ﴾، فكيف تنسبون أنفسكم إلى نبي الله إبراهيم وأنتم لا علم عندكم ولا
دليل عندكم ولا حجَّة عندكم!
ثم قال الله -عز وجل- مُوضِّحًا طريقة إبراهيم وبراءته من الشرك الذي هم عليه: ﴿مَا
كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا
مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، فلم يكن إبراهيم
الخليل على طريقة اليهود الذين كفروا وغيَّروا وبدَّلوا وقالوا: عزير ابن الله،
وقتلوا أنبياء الله، وادَّعوا في نبي الله المسيح ما ادَّعوا، ولم يكن نبي الله
إبراهيم الخليل على طريقة النَّصارى الذين قالوا: إنَّ المسيح ابن الله وإنه ثالث
ثلاثة، وإنَّما كان إبراهيم حنيفًا مسلمًا، يعني: مائل عن الشرك مقبل على التوحيد،
مُتبرئًا من الشرك مُتمسكًا بالتوحيد داعيًا إليه، وما كان من المشركين.
وقوله هنا: ﴿مُسْلِمً﴾ يعني: الإسلام بالمعنى العام، وهو الانقياد لله -عز وجل-
وطاعته في كل وقت، فإذا أطاع الله -عز وجل- في كل وقت بما أمر وبما أوحى وبما أنزل
في ذلك الوقت فهذا هو الانقياد وهذه هي الطاعة لله -عز وجل.
فالإسلام بالمعنى العام هو: الانقياد لله وطاعته، والالتزام بأمره فيما أوحى إلى
رسله في ذلك الوقت، فنبي الله إبراهيم أطاع الله -عز وجل- واستقام على شرعه، فهو
مسلم لله منقاد لله، نبي الله موسى وأتباعه المؤمنون حقًا أطاعوا الله -عز وجل- فهم
مسلمون، منقادون لله، ومطيعون لله، وهكذا بقيَّة الأنبياء كلهم على الإسلام بالمعنى
العام.
إذن؛ الإسلام بالمعنى العام هو: الانقياد لله وطاعته في كل زمان بما أنزل وبما
أوحى، ولما بعث الله محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وختم الله به
الرسالات وصار هو النبي الخاتم، وأرسله إلى الناس كافَّة -الجن والإنس- فصار
الإسلام بالمعنى العام وبالمعنى الخاص طاعته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
والدخول في دينه والدخول في شرعه، فلا يحل لأحد سمع بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- أن يقول إنه على طريقة الأنبياء السابقين؛ بل يجب عليه أن ينتقل إلى
الإسلام الذي هو طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- واتباع الرسول محمد
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن هذا هو الانقياد لله، وهذا هو الإسلام
بالمعنى العام وبالمعنى الخاص.
ما سبب احتجاج المؤلف بهذا؟
أنَّ بعض الضلال وبعض المبتدعة يحتجون بانتسابهم إلى الكبار من الأئمة أو الأنبياء،
فكفرة اليهود والنَّصارى يحتجون على باطلهم وتكذيبهم وظلمهم ووقوعهم في الشرك
ووقوعهم في الضلالات باتباعهم وانتسابهم لنبي الله إبراهيم، فينسبون كل ضلالاتهم
وشركهم وبدعهم وخرافاتهم إلى إبراهيم، فبرَّأه الله -عز وجل- من ذلك.
ونستفيد من هذا أنَّ أهل الباطل سوف يقعون فيما وقع فيه كفرة اليهود والنصارى،
وبالتالي سوف يقع من أهل الباطل أنهم يحتجون بالكبار والمعظَّمين ويعتزون إليهم،
وينسبون باطلهم إليهم، وهذا له عدة أمثلة:
- فهناك مَن ينتسب إلى الأئمة الأربعة: أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة، وينسب
إليهم كل الضلالات والبدع، فبعضهم يعطل الأسماء والصفات، ويُنكر أسماء الله -عز
وجل- أو يُنكر صفاته -عز وجل- ويُحرِّف النُّصوص بغير حق ويقول إن هذه هي طريقة
الأئمة الأربعة وهو يكذب، وهو يقول هذا لأنه يجد أن الناس يحبون الأئمة الأربعة
فيريد أن يروج مذهبه بهذه الطريقة، فهذا هو مراد المصنف في هذا الباب.
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة:130]).
رغب عن؛ يعني: أعرض وترك ملَّة إبراهيم.
قال: ﴿مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، أعظم السفه هو الشرك بالله وترك مُتابعة الرُّسل
-عليهم الصلاة والسلام، ولا يصح أن نقول على الفلاسفة الكفرة المكذبين للرسل: إنهم
عُقلاء أو حُكماء؛ بل هم أعظم السفهاء، قال -عز وجل: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، وفي نفس السورة قال: ﴿سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا
عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142].
فالسفهاء: هم الذين عاندوا الرسول من كفرة اليهود وغيرهم ومَن شابههم من المنافقين
الكافرين، فهؤلاء وقعوا في أعظم السَّفه، وهو الشرك بالله والكفر به والنفاق
الأكبر، ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]، فنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
يؤكِّد هذا المعنى ويقول في الصباح: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ
وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ»[32].
إذن؛ هذه المسائل التي نصَّ عليها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر من
ضمنها قوله: «وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ»، فالحمد لله ما كان عليه نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
هو الموافق حقًّا لملة إبراهيم، وهذا يُبيِّن لنا أنَّ الدعوة إلى ما يُسمَّى
بالملَّة الإبراهيميَّة، وأن يكون هناك بيت عبادة لليهود، وبيت عبادة للنصارى، وبيت
عبادة للمسلمين، ويقولون: لابدَّ من التسامح فيما بيننا، ولابدَّ من المؤاخاة فيما
بيننا!
فهذا كلام باطل غير مقبول لا في شرع ولا في عقل، فاليهود مخالفون لملَّة إبراهيم،
والنصارى مخالفون لملة إبراهيم، ومن وقع في الشرك ممن ينتسب إلى الإسلام أو وقع في
التكذيب هو مخالف لملَّة إبراهيم، ولا يكون على ملَّة إبراهيم إلا من كان حنيفًا
لله تاركًا للشرك، مبغضًا له، متبرِّئًا منه، مقبلًا على التوحيد، متمسكًا بالدين.
ويجب على المسلم أن يتبرَّأ من هذه الدعوات المضللة، الدعوات التي يقولون فيها:
إنهم على ملة إبراهيم باتباعهم للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، أمَّا إذا
أقررنا اليهود وقلنا: إنهم على حق، أو أقررنا النصارى وقلنا: إنهم على حق؛ فهذا كفر
بالله وخروج عن ملة الإسلام، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
[آل عمران: 67]، فلا يغتر المسلم بهذه الدعوات المضللة، ولا يغتر المسلم بهذه
الدعايات الكاذبة، فهذه الأساليب كلها لا تسمن ولا تغني من جوع، فاليهود هم اليهود
لن يتغيروا، والنصارى هم النصارى لن يتغيروا، ونحن في التعامل نقول: نتعامل معهم
بمقتضى الأدلة الشرعية، فلا بأس بالبيع والشراء بين المعاهدين والمستأمنين وبين أهل
الذمَّة وبين مَن أقاموا في بلادنا بإقامة تعتبر مثل العهد، فلا نتعامل معهم إلا
بما أمر الله وأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- نُراعي الأنظمة ونراعي
العهود، ونحفظ الحقوق، لا نعتدي ولا نظلم، لا نسرق، وهكذا إذا ذهبنا إلى بلدانهم في
غرضٍ شرعيٍّ أو لحاجة فإننا نلتزم بأوامر الشريعة، أما أن نتنازل عن ديننا باسم
التسامح فهذا ليس تسامحًا، وإنما التسامح هو أن نسامحهم في بعض الأمور كأن تزل به
القدم أو أخطأ علينا حد، فنسامحه ترغيبًا له في الإسلام، فهذا لا بأس به، أما أن
يكون التسامح بأن نقول له: أنت على حق، أو لا نتكلم في باطلك؛ فهذا غير صحيح، هو
على غير الحق ما دام أنه لم يتبع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فلا
نتنازل عن هذا الأمر.
ولا نقول له: أنت لا بأس عليك ولا خطر عليك من عذاب الله، ولا بأس عليك في هذه
الملة التي أنت عليها! لأننا لو قلنا هذا الكلام لخرجنا من ملة الإسلام ولم نسلم،
لأن المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا اعتقدَ ما قاله الله وقاله الرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فحذارِ حذارِ إخواني المسلمين من هذه الدعوات، التسامح مع الناس طيب، قال تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامً﴾ [الفرقان: 63] ؛ فنحسن إليهم ونطعم
الجائع، ونسقي العطشان؛ حتى لو كان كافرًا، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8،
9].
أما العهد والصلح معهم فهذا خاضع للمصلحة الشرعيَّة، وهذه أمانة عظيمة في رقبة ولاة
الأمور، نسأل الله أن يعينهم ويسددهم، فهذه أمور لا ندخل فيها، فالأمور إلى ولاة
الأمور، يقيم العهد مع هذه الدولة أو مع تلك، أو يقيم الصلح؛ فهذا حسب المصالح
الشرعية، وحتى لو أقاموا الصلح أو العهد فإننا لا نتنازل عن الأحكام الشرعيَّة
والعقائد التي قرَّرها القرآن وأقرَّتها السُّنة، فنقول ما قاله الله ونقول ما قاله
الرسول، وندعوا إلى الإسلام، ونحذر من هذه الأديان الباطلة؛ فكل ما سوى الإسلام هو
دينٌ باطل، ولا نخشى في الله لومةَ لائم، يغضب مَن يغضب، ويرضى مَن يرضى، فهذا هو
دين الله -عز وجل- قال تعالى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ
مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: 1، 2]، فعبادتكم الآن هي شرك لأنكم تعبدون غير الله
-عز وجل- فكيف أرضى بهذه العبادة أو أقول إن هذه العبادة صحيحة؟! فهذا مخالف للقرآن
ومخالف للإسلام، وهذا من الأمور البدهية ومعلوم من الدين بالضرورة، ولكن -مع الأسف-
اليوم فيه مَن يُضلل في هذه المسائل، ويُلبِّس على الناس أمر دينهم.
ننتقل إلى النص الذي بعده، قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيه حديث الخوارج
وقد تقدم)، يقصد أنَّ الخوارج ينتسبون إلى الإسلام، وهم قد مرقوا من الإسلام،
ينتسبون إلى الدين وهم قد مرقوا من الدين، ينتسبون إلى الرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهم يُخالفون الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بل إن
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أمر بقتالهم، وهذا نستفيد منه أن أهل
البدع وأهل الضلال وأهل الباطل ينتسبون إلى الدين حتَّى يروِّجوا إلى باطلهم، أو
ينسبونه إلى الرسل، وهم كاذبون في هذا، وكذلك الخوارج.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيه أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال:
«إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما أوليائي المتقون»).
هذا حديث صحيح، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- تكلَّم على جماعة من الناس
في زمنه انتسبوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقالوا: نحن أولياء
للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ونحن موافقون للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- في هذا الأمر، وكأنهم فعلوا شيئًا مخالفًا؛ فلم يسمهم النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إمَّا لأنهم منافقون عاندوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- أو أنهم مسلمون ولكنهم غلطوا غلطًا، وبيَّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- لطهم وتبرَّأ منهم، فقال: «إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء»، وهذا
تبرُّء من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مع أنهم كانوا يُظهرون النسبة
إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فهذا ممَّا يُزيَّن به الباطل،
فتبرَّأ منهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقال: «إنما أوليائي
المتقون».
ونستخلص من هذه النصوص الشرعيَّة:
- أن الإنسان لا يغتر باتباعه عالمًا صالحًا من أهل السنة إذا خالفه.
- أن لا يغتر الإنسان بقومٍ يدَّعون الانتساب إلى إمام أو إلى رجل صالح وعالم جليل،
فالشيعة الذين يدَّعون حبَّ عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وينتسبون إليه يُخالفونه،
ولهذا حرَّق غاليتهم بالنَّار، مع أن ابن عباس قال: أرى أن يُقتلوا بالسيف، فإنه لا
يعذب بالنار إلا رب النار، وذكر الحديث.
وهكا بقيَّة أهل الأهواء ينتسبون لبعض الصالحين، بل حتى في زماننا هذا، بعض
الجماعات البدعيَّة والمنظمات المشبوهة إذا جاؤوا عند مجتمع طيِّب حتى يروجوا عليهم
بعض الأشياء ينسبون إلى الشيخ ابن باز أشياء، ويقولون: الشيخ ابن باز أقرَّنا على
هذا الشيء، أو كذا؛ لأنَّ ابن باز له قبول في المجتمع وفي العالم الإسلامي كله،
فحتَّى يروجوا بدعتهم ينسبونها إلى الشيخ وأنه راضٍ عنهم وأقرهم عليها، وهم إمَّا
غالطون أو مفترون أو يجهلون.
وأذكر قبل سنوات كثيرة أن بعض أفراد تنظيم القاعدة جاؤوا إلى بعض الشباب الجهَّال
يقولون لبعضهم: إن الشيخ ابن باز أثنى على فلان -من زعمائهم- وهم في هذا كاذبون، بل
إن الشيخ ابن باز حذَّر من رؤساء هذا الفكر الضَّال، وهذا مُثبَت له صوتيًّا وفي
مجموع فتاويه، حتى قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سنة 1415 هـ قبل أن تظهر الأمور
أكثر وأكثر، ولم يظهر للناس شيء اسمه تنظيم القاعدة أو مَن يسمون أنفسهم "معارضة"
من أهل الشر والفساد والإفساد، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "نصيحتي لابن لادن
والمسعري والفقيه أن يتقوا الله، وأن يتركوا هذا الطريق الوخيم، وأن يعودوا إلى
رشدهم".
ومع ذلك يأتي بعضهم إلى الجهال من الناس ويقولون: الشيخ ابن باز يُثني على فلان، أو
مدح فلانًا؛ وهم يفعلون هذا الشيء وهم كاذبون لأجل أن يروجوا باطلهم بهذه الطريقة.
والشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مع مجموعة علماء هذه البلاد أصدروا
بيانًا مشهورًا في أصحاب التَّفجير الذي وقع في شارع العليا 1416هـ، فأصدر الشيخ
ابن باز بيانًا باسمه غير البيان الذي كان مع بقيَّة العلماء، وخطب الشيخ محمد بن
عثيمين خطبةً بهذا الخصوص مُؤكِّدًا صحَّةَ ما رأته الدولة من منهج شرعي في مُعاقبة
هؤلاء، حتى أذكر من عبارات الشيخ ابن باز -وهي موجودة ومحفوظة لمن أراد أن يطلع
عليها- قال: "هؤلاء الذين فجَّروا أولى بالتَّقطيع والصَّلب الذي جاء في آية قطاع
الطرق" وهو قوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
[المائدة: 33]، فهؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل أولى بالعقوبة الشديدة وأحق بها.
ثم يأتي بعض الناس يقول: إنَّ ابن عثيمين يمدح فلانًا حتَّى يروِّج هذه الضلالات،
وهذا الباب يسوق لهذا المعنى، فإنَّ بعض الناس حتى يروِّج أي بدعة يقول: الإمام
أحمد، أو فلان، أو فلان؛ أثنى على ذلك، وهذا غير صحيح، فنحذر من هذا المسلك الوخيم،
ولو ثبت عندنا أو قُدِّر أن بعض كبار الصالحين حصل منهم هذا الشي فلا نقتدي بهم؛
لأن العبرة بالحق والدليل، وليست العبرة بالعالم الفلاني أو العالم الفلاني، مع أن
-والحمد لله- علماءنا على السَّداد في هذه الأمور وعلى النُّصح، وقد استفدنا هذا
منهم واستفاد المسلمون منهم، واستفاد ولاة الأمر هذا منهم، ولكن هذا الباب مسوق في
هذا المعنى، وهو أن بعض الناس يروِّج باطله بالانتساب إلى عالم كبير له قبول حتى
يروِّج البدعة عن طريق هذا الكذب أو هذا الإفك، وهذا ما تفعله كثير من التنظيمات
والجماعات المنحرفة.
ثم قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيه أيضاً عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا
فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج
النساء، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: «لكني أُقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ
وَآكُلُ اللًّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»).
هؤلاء النفر من الصحابة الذين جاؤوا إلى بيوت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- وسألوا عن عبادته فكأنهم تقالوها، عندهم نشاط وإقدام، وكانوا شبابًا
وأجسادهم قويَّة وكانوا مقبلين على العبادة ومحبين للدين ومحبين للرسول -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولا نشك في هذا، فقالوا: إن ما يفعله النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الصلاة والصيام -في ظنهم- قليل، فإن النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أمَّا نحن فلا!
وهذا يُبيِّن لك نزعة النفس البشريَّة، فإن هذه النزعات تأتي وتتجدَّد، فإذا وُجدت
في مثل ذلك الزمن الفاضل وهو زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وزمن
الصحابة؛ فلا غرابة أن توجد في الأزمان المتأخرة وتكثُر، فيعظم حذرنا من هذه
الأشياء، وأنَّنا لا نغتر بهم لأنهم من مريدي الخير.
فقال الصحابي: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يصوم ويفطر، أما أنا فسأصوم
ولا أفطر. وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أرقد. وقال الثالث: لا أتزوج النساء. وفي
رواية قال فيها رابع: لا آكل اللحم!
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم يقل لهم أنتم فيكم خير، ولم يدعهم
يفعلون ذلك لأنهم يريدون العبادة؛ ولكنه أنكرَ أشد الإنكار.
وهذا فيه تنبيه لولاة الأمور وتنبيه للمسؤولين عن الدعوة والإرشاد، وتنبيه للقائمين
على التربية وعلى دور التعليم والجامعات، وهو أنه في مثل هذه الحالات ينبغي أن نسلك
مسلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في إصلاح هذا الخلل الذي قد يوجد في
النفوس البشرية، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعدما خطب الناس: "ما
بال أقوام يقولون كذا وكذا..."؛ ما تركهم وشأنهم؛ بل أنكر عليهم وأعلن النكير
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حفاظًا على صفاء هذا الدين من هذه الزيادات
والبدع والضلالات.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ
مِنِّي». انظر! واحد يقوم الليل كله ولا ينام يتبرَّأ منه الرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ! واحد يصوم الأيام كلها ولا يفطر يتبرأ منه الرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويسميه "رغوبًا عن السنة"، ودين الإسلام هو دين سماحة ويسر، ما
فيه آصار ولا أغلال، وما تشديد والحمد لله رب العالمين.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- دخل المسجد مرَّةً فرأى حبلًا ممدودًا في
المسجد على سارية، فقال: ما هذا؟ فقالو: هذا الحبل لفلانة تصلي في الليل فإذا فترت
تعلقت به حتى لا تنام. فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقال:
«علَيْكُم مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ، فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى
تَمَلُّو»[33].
فأنكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- التَّنطُّع والتشديد على النفس
والتكليف عليها بهذه الأمور، فواجب على جميع المسلمين أن يسلكون مسلك النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في الإنكار على مثل هذه الحالات التي قد تبدو.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تعليقًا، وكما ذكرنا فيما سبق أنَّ الشيخ
قد يعلق أحيانًا بكلمات معدودة للتنبيه، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فتأمل! إذا
كان بعض الصحابة أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ)، فهذا الصحابي
أراد التبتل للعبادة، هو ما أراد أن يزني أو يسرق أو يقتل أو يشرب الخمر، بل أراد
العبادة والزيادة فيها. قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قيل فيه هذا الكلام الغليظ
وسمي فعله رغوبًا عن السُنة فما ظنك بغير هذا من البدع؟ وما ظنك بغير الصحابة؟).
الجواب: أنه إذا كان غير هذا من البدع يكون الأمر أشد وأنكى، وإذا كان من غير
الصحابة يكون الأمر أكثر وأعظم وأخطر، فلو جاء واحد وقال: هذا الضريح نتقرب إليه
ونبني عليه مسجدًا؛ فإن هذا يدخل في عموم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- ما كان يبني المساجد على القبور.
إذا وجدنا شخصًا يذهب إلى المقبرة ليصلي عند القبر أو عند المشد ويقول: هذه عبادة
وأنا أتقرب إلى الله بهذا وأتبتَّل، فنقول له: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي»، أنت تبرَّأ منك الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بهذا
الفعل، إضافة إلى أنه من أسباب الشرك بالله -عز وجل.
ومن هذا الباب أيضًا دعوة الناس إلى تعظيم القبور، أو دعوة الناس إلى التوسُّلات
البدعيَّة في الأدعية، أو دعوة الناس إلى أوراد، ورد الشيخ الفلاني...، ورد الطريقة
الفلانية...، ورد الطريقة التيجانيَّة...، نقول لهم قول النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وفي بعض هذه الأمور التي ضربنا بها الأمثال يكون الأمر أشد، مثل اتِّخاذ القبور
مساجد، فهؤلاء تبرأ منهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأيضًا قال فيهم:
«لَعْنَةُ اللَّهِ علَى اليَهُودِ، والنَّصارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ
مَساجِدَ»[34]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مِن شِرارِ النَّاسِ مَن
تَدَارَكُهم السَّاعةُ وهم أحياءٌ ومَن يتَّخِذُ القبورَ مساجِدَ»[35]، ولعن
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: زوَّارت القبور، والمتخذين عليها المساجد
والسُّرج.
إذن؛ هذه البدع التي أحدثها الناس أشد من الصيام المتواصل والقيام المتواصل، وترك
الزواج، وترك أكل اللحم.
وبالمناسبة؛ ترك الزواج وترك أكل اللحم صار قديمًا وإلى الآن من شعارات
الصُّوفيَّة، وبعضهم يقول: لو أكلتُ ذرة لحم قسى قلبي عشرين سنة!
نقول: قلبك هذا لا خيرَ فيه؛ لأنَّ من هو خير منك وخير منَّا جميعًا -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- أكل اللحم، وأكل الصحابة اللحم ولم يضر قلوبهم، فلا خير في قلبك
أنت، فالذي يجعل ترك اللحم تعبُّدًا وتبتُّلًا فهذا من التَّنطُّع في الدين، فكُلْ
باعتدالٍ، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُو﴾ [الأعراف: 31].
والبدع تنشأ من هذه الانفعالات النفسيَّة الصغيرة، ثم يبنون بعدها أشياء، يقول:
الشيخ فلان قال كذا وكذا...، فبعضهم يقول: إنَّ إبراهيم الحربي قال "قبر معروف
الكرخي الترياق المجرب"!
حتى لو قال إبراهيم الحربي هذا الكلام فهو قد غلط -عفا الله عنه-
ومعنى قوله: "الترياق المجرب" أي: العلاج النافع.
هل إبراهيم الحربي يعتقد أن اللجوء إلى القبور هو الشفاء؟
هذا شرك وضلال لا يقوله مسلم، لكن غلط في قوله أو لم يصح عنه هذا القول ولم يثبت
عنه، وإبراهيم الحربي من القرن الثالث الهجري، وبعض الناس يعتقد أنَّ معروف الكرخي
من الصالحين، وكان معروفًا بالصلاح والعبادة، ولكن الإتيان لقبره لا أثر له، ولكن
قد يقع أن بعض الناس يُصادف أن يدعو عند القبر فيُستجاب له، وهذا لا يعني أنه
استُجيب له لأجل القبر، وإنما يكون فتنة لبعض الناس، مثل فتنة الدجال تكون لبعض
الناس، وهذا لا يعني أنَّ الدجال على حق لما يقول للسماء أمطري فتمطر.
وقد تُجاب الدعوة للخبيث، فإذا كان مضطرًّا فإنه يدخل في عموم قوله تعالى: ﴿أم من
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62]، فليس معناه إذا أُجيب في
دعائه أن كل منهجه حق، فبعض الناس يتعلق بهذا الكلام ويجعل الإتيان للقبور ترياق،
فكلام إبراهيم الحربي ليس كتابًا منزَّلًا ولا سنة محفوظة، أليس يقول النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»؟!
فليتَّقِ الله مَن يُروِّج لهذه الأمور حتى يخدع المسلمين ويروِّج الشركيَّات
والخرافيَّات بينهم.
والعابد عندنا أو العالم قد يُخطئ، وهو ليس بمعصوم، وإتيان القبور لطلب البركة شرك
أكبر، قال تعالى عن كفار قريش وغيرهم: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19، 20]، فـ "اللات" قبر لرجل كان يلت
السَّويق للحجاج، فصاروا يعتكفون عند قبره ويطلبون منه البركة، أفنعيد أمور
الجاهليَّة لأجل غلط من واحدٍ من الناس؟! وقد لا يصح عنه هذا الكلام أصلًا.
فزيارة القبور تكون بالزيارة الشَّرعيَّة لغرضين مشهورين ذكرهما النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
الأول: الدعاء للأموات، وليس طلب الدعاء منهم، فنقول: «السَّلامُ عليْكم أَهلَ
الدِّيارِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ، وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكم لاحقونَ، نسألُ
اللَّهَ لنا ولَكمُ العافيةَ»[36]، ونقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، اللهم
نوِّر عليهم قبورهم.
الثاني: الاتِّعاظ والعبرة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كُنْتُ
نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلا فَزُورُوهَا، فَإِنَّهُ يَرِقُّ
الْقَلْبَ، وَتَدْمَعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وَلا تَقُولُوا
هَجْرً»[37]، يعني النياحة وغيرها.
ولهذا حُرِّمت الزيارة للنساء -على الصحيح- لأنهن لا يصبرن، ولَعَنَ رسولُ اللهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- زائراتِ القُبورِ، والْمُتخذينَ عليها المساجدَ
والسُّرُجَ[38]. فهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية.
أمَّا الزيارة البدعية فهي أن تُزار القبور لأجل أن يُعتقد أن الدعاء يُجاب عندها،
أو أن الصلاة أفضل عندها، أو أن الصدقة أفضل عندها، ولهذا ننهى إخواننا المسلمين عن
تحري الصدقة عند القبور، وبعض الناس الآن نراهم في بعض المقابر إذا جاء وقت الدفن
جاؤوا بالمياه يوزعونها على المشيعين للجنازة! وهذا ليس من سنة النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولم يكن من فعل الصحابة، أمَّا مَن قال إنهم يوزِّعون المياه
للحر، فالأولى أن يصبر هذا الوقت، أمَّا المضطر الذي يهلك من العطش فيذهب ويشرب في
سيارته، أمَّا أن نوزِّع الصدقات ونقول: صدقة، صدقة، سبيل، سبيل؛ فهذه بدعة ولا شك،
فنحذر إخواننا المسلمين من هذه البدعة، وقد صدرت فتوى للجنة الدائمة عام 1417هـ
برئاسة الشيخ ابن باز أنَّ هذا من البدعة، ولكن بعض الناس قد يتساهل ويقول هذا
تشدد، والناس يعطشون! فنقول: لو كانوا في رمضان هل سيفطرون؟! فهذه حجَّة باطلة، فلا
تتحرَّى الصدقات ولا تتحرى أي شيء إلا بدليل، معك دليل حيَّاكَ الله وعلى العين
والرأس، أمَّا لو لم يكن معك دليل فلا تقع في شيءٍ من هذه الأمور.
أمَّا النوع الثالث من أنواع زيارات القبور فهو: الزيارة الشِّركيَّة، وهي أخطرها،
وهي زيارة القبور لأجل الطلب من الأموات والاستغاثة بهم، أو الذبح لهم، أو الطواف
بأضرحتهم؛ فكل هذا باطل وليس من شريعة الإسلام في شيء، ويجب الحذر منه.
ومن هذا المنطلق يجب على جميع المسلمين أن لا يغلوا في القبور، ولا تجوز الإهانة،
فإنَّ الشريعة الإسلاميَّ جاءت بتحريم الأمرين، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- في حديث أبي مرثد الغنوي: «لَا تُصَلُّوا إلى القُبُورِ، وَلَا
تَجْلِسُوا عَلَيْهَ»[39]، فقوله «وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَ»، فيه نهي عن
إهانتها، وقوله «لَا تُصَلُّوا إلى القُبُورِ» فيه النهي عن أن تُجل القبور قبلة
للصلاة، لأن هذا سبب ووسيلة للشرك، فقد يقتدي بك بعض الجهَّال ويُشركون؛ فهكذا جاءت
الشريعة الإسلاميَّة وسط واعتدال.
وعلى كل حالٍ؛ فهذا الباب انتهى، والمقصود منه: أنَّ بعض الناس يُروِّج الباطل
إمَّا بالكذب على إمام فينسب إليه قولًا، أو يقول: نحن أتباع لهذا الإمام وينسب
إليه هذا الباطل، فيروج الباطل بهذا، وأهل السنة والجماعة وأهل القرآن عندهم نظرٌ
واحدٌ صحيحٌ، وهو اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهو القدوة، قال
تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:
21]، ولا يُمكن أن يكون غيره هو القدوة الكاملة، فنحن نقتدي بالصحابة والتابعين وهو
أئمتنا، ولكن الواحد منهم ليس بمعصوم وإن كانوا قدورة في الجملة، فلو قُدِّر أن
نُقلَ عن واحدٍ منهم خطأ أو شيء مخالف لآية أو حديث فلا تُرك الآية والحديث لأجل
قول إمام أو عالم أو عابد.
وبهذا نكون قد ختمنا هذا المجلس، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[32] أخرجه أحمد (15404)، والدارمي (2688)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9829)
باختلاف يسير، صححه الألباني.
[33] أخرجه البخاري (5861)، ومسلم (782).
[34] أخرجه البخاري (1390) واللفظ له، ومسلم (529).
[35] صحيح ابن حبان (6847)، صححه الألباني في "تحذير الساجد (26).
[36] أخرجه مسلم (975)، والنسائي (2040)، وابن ماجه (1547) واللفظ له، وأحمد
(22985).
[37] رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (1/ 711) برقم
1433، وأصله في صحيح مسلم.
[38] مسند أحمد (5/47)، وحسنه أحمد شاكر، سنن الترمذي (320).
[39] صحيح مسلم (972).
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16751 9
-
34828 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12