الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2056 12
الدرس الرابع

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نستأنف ما توقفنا عنده في الحلقة الماضية من "باب وجوب الدخول في الإسلام".
توقفتم فضيلة الشيخ عند قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإن استقمتم فَقَدْ سَبقتم سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضلالا بَعِيدًا")}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعل هذا المجلس مجلسَ خيرٍ وبركةٍ وفائدة لجميع إخواننا المسلمين.
أيُّها الإخوة في الله؛ كنَّا قد قرأنا مقدَّمة هذا الباب في كتاب "فضل الإسلام، للشيخ الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وقد جعل عنوان هذا الباب: "باب وجوب الدخول في الإسلام"، وأورد فيه بعض الآيات والأحاديث عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ووصلنا إلى حديث ابن عباس: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلامِ سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ».
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن هذا الحديث رواه البخاري، وذكرَ أيضًا تفسيرًا لقوله «سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ» وهو قول ابن تيمية في كتابه المشهور "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، قال: "يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة -أي في شخص دون شخص- كتابية أو وثنية، أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون".
وهذه الجملة سبق التعليق عليها، إلا أنه لا بأس بإعادة الكلام في بعض تفاصيلها التي لم نذكرها من قبل.
فسبق أن ذُكر أنَّ الجاهليَّة المطلقة كانت قبل مبعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ثم بعدَ بعثته صارت الجاهليَّة مُقيَّدة؛ لأنه لا تزال طائفة من أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على حق إلى قيام الساعة، فإذا وُجدت جاهليَّة سواء في الاعتقاد أو في الأخلاق أو في الأعمال؛ فإنها تكون في أرض دون أرضٍ، وفي قومٍ دون قومٍ، أو في شخصٍ دون شخصٍ، ونحو ذلك.
وهذه الجاهليات التي تنتشر في الأرض لا يعني أنها طبَّقت الأرض، فالإسلام سيبقى -ولله الحمد- ودين الله -جَلَّ وَعَلَا- محفوظ منصور، وكذلك المؤمنون منصورون، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، فلا يزال في الأرض مَن يقوم بهذا الدين وينصره ويدعو إليه.
ولهذا فلا يجوز لنا أن تطلق أن الجاهلية قد أطبقت الأرض اليوم، ولكن يوجد جاهليَّة في بعض المناطق، مثل التبرج والسفور، قال تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، ومثل الاعتقاد السيء بالله، قال تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]، ومثل الحكم بين الناس والفصل في النزاعات بأحكام مخالفة لشريعة الإسلام، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، فهذا موجود.
قول ابن تيمية: "كتابية أو وثنية"، يعني: مصدر هذه الجاهلية إمَّا من كفرة أهل الكتاب، أو من كفرة أهل الأوثان -كما تقدَّم الإشارة إلى هذا- ولو أردنا أن نعدد أنواع وأمثلة على هذا لرأيتَ العجب العجاب الذي لا ينقضي، ولا يُمكن أن يُحصَر ولا يُمكن أن يُضبَط، ولا يُمكن أن يكون له كتاب جامع؛ وذلك من كثرة الأهواء وكثرة الجهل، وكثرة الضلالات التي عند الكفار، لكن المستنكَر والمستغرَب أنَّ مَن منَّ الله عليهم بالإسلام والتوحيد ومعرفة سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يرجعون إلى هذه الأمور السافلة والناقصة والجاهليَّة.
ومن الأمثلة: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر الطَّعن في الأنساب، وذكر الفخر بالأحساب، وذكر النياحة على الميت، وذكر الاستسقاء بالنجوم، وذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من سنن الجاهلية وأمورها ما يجب على المسلم أن يحذر منه.
ومن حُسن تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه ألَّف كتابًا بعنوان: "مسائل الجاهليَّة" أوردَ فيه جميع ما جاءت به النصوص الشرعية من القرآن والسنة على إضافة هذا الأمر إلى أمور الجاهليَّة، فأوردَ أشياءً كثيرة جدًّا في الاعتقاد وفي الأعمال وفي الأخلاق، وفي غير ذلك من أمور الجاهليَّة التي يجب الحذر منها.
ومن الاعتقادات الفاسدة الآن: الاعتقاد في النجوم، والاعتقاد في الأبراج، واعرف حظَّك، واعرف برجك! فهذا من الأمور الجاهلية التي يُروَّج لها، في زمن الآن يُقال فيه دراسات وفيه جامعات والناس صار عندهم وعي! أي وعيٍ هذا وشبابهم ونساؤهم ارتكسوا إلى هذا الجهل العظيم!
فالذي يُحيي في الناس سنَّة الجاهلية هذا أبغض الناس عند الله، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: أبغض الناس عند الله ثلاثة»، وذكر منهم «وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلامِ سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ»، فعلى المسلم أن يحذر.
الوشم الذي يضعونه في اليد أو في الكتف؛ فهذا لم نكن نعرفه خصوصًا بعدَ وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وكان معروفًا في القديم أنه من كبائر الذنوب، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لعن الواشمة والمستوشمة، ولكن الآن يفعله بعض الكفار ويسمونه: "التاتو"، ثم الآن نساء وشباب يضعونه ويتفاخرون به وكأنهم صنعوا شيئًا! فيا ويلَ من روَّجَ هذا بين المسلمين!
وكذلك مَن يُعلِّق على يده أشياء أو على عنقه السلاسل والقلادات ويعتقد فيها؛ فهذا لم يُعرَف إلَّا في الخرافيين فقط! فصار بعض هؤلاء السفهاء ممَّن يقلدوا كفرة الشرق أو الغرب، كما قال ابن تيمية "كتابية أو وثنية أو غيرهما".
وحتى المظاهرات هذه والصياح ورفع اللافتات والصراخ في الأسواق انتصارًا لفلان على فلان؛ فهذا من أمور الجاهلية، وليست من أمور الإسلام.
كذلك تخصيص بعض الأيام بخصائص، فهذه من أمور الجاهليَّة، فليس في الشرع إلا عيدي الفطر والأضحى، فلا يجوز أن نبتدع عيدًا ثالثًا غير هذين العيدين، إلى آخر أمور الجاهلية وهي لا تُحصَى، فيجب على المسلمين المحافظة على ما في كتاب ربهم، وسنة نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقد رفع الله الجهل بهذا العلم وهذا النور، قال تعالى: ﴿نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: 28]، فالله -جَلَّ وَعَلَا- أكرمنا بهذا الإسلام، فلا يليق بمسلم أن يقع في أمور الجاهلية أو يبحث عنها، أو يشتريها بماله؛ فهذا من أعظم السفه -نسأل الله العافية والسلامة.
بعد ذكر هذه النصوص الشرعية انتقل الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى ذكر الآثار، فذكر أثرًا عن حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأثرًا آخر عن عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يأتمنه على السر والأشياء الخطيرة، وكان صحابيًّا وأبوه كان صحابيًّا وهو اليمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وله منزلة كبيرة في الإسلام، يقول الشيخ: (وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا").
في النسخة التي عندي فقط "سبقتُمْ"، وفي رواية "فإن استقمتم فَقَدْ سَبقتم سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضلالا بَعِيدًا".
قال الشيخ تكميلًا لهذه الرواية: (وعن محمد بن وضاح: "أنه كان يدخل المسجد")، الضمير في "أنه" يعود على حذيفة.
ومحمد بن وضاح عالم في القرن الثالث الهجري، وهو من علماء المالكيَّة، وله كتاب مشهور اسمه "البدع والنهي عنها"، وهذا الكتاب موجود ومطبوع ومحقق ومخدوم.
وقد أخرج هذا الأثر في كتابه، والشيخ ذكره هنا، قال: "إنه كان يدخل المسجد فيقف على الحِلَق فيقول: فذكَرهُ" أي: يقول: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإن استقمتم فَقَدْ سَبقتم سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضلالا بَعِيدًا".
وهذا فيه فائدة وهي: أن طلبة العلم والدارسين سواء في حلقات المساجد أو في المدارس الثانوية والمتوسطة، أو في الجامعات، وكل مَن يدرس العلم هو أحوج ما يكون إلى النصيحة، وهو أحوج ما يكون إلى لزوم المنهج؛ لأنَّ الخطر على هذا الشخص الذي يدرس أكثر؛ لأن الشيطان قد يغويه، وكم رأينا من أناس -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين ويهدي ضالي المسلمين- درسوا علم الشريعة والعقيدة والسنَّة، ثم رأوا في أنفسهم ما رأوا، ثم انحرفوا ولم يستقيموا، وأخذوا يقولون بالمقالات التي الشاذَّة، وأخذوا يبحثون عن الشُّهرة، ويُخالفون صريح السنَّة وصريح الدين، فهذا هو الذي خاف منه حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا"، يعني: استقيموا على هذا الدين، واستقيموا على ما علمكم الله -جَلَّ وَعَلَا- من الكتاب والسنَّة، لا تستحسنوا أشياء فتخرجوا عن الشريعة، وتخرجوا عن السنَّة المحمدية.
بعضهم يقول: أنا ما يأتي الناس إلي إذا قلت كذا، وما يكثر الجمهور وما يكثر المتابعون!
الشهرة مرضٌ فتَّاك، إذا دخل في القلب أفسده، فالذي يبحث عن الشهرة حقيقة لا يُبالي بقواعد الشريعة وأصولها وأدلتها، فهو يبحث عن كثرة المتابعين على حساب الدين، فهذا ترك الاستقامة وترك الدين، وهذا معنى قوله "فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضلالا بَعِيدًا".
فيجب أن نعرف وصايا الصحابة، فإذا دخلتَ الإسلام وثبتَّ عليه وتعلَّمتَ العلم الشرعي استقم عليه، لا تقول: آتي بشيء جديد، أو بقول غريب؛ لا، استقم وفي الاستقامة خير عظيم لك حتى لو لم يتابعك أحد، حتى لو لم تشتهر فانت على خير عظيم. فهذه وصية نافعة جدًّا.
قوله: "فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضلالا بَعِيدًا"، فيه إشارة إلى تنوُّع أسباب الانحراف، فأحيانًا يمينًا وأحيانًا شمالًا، وتحت هذه الجملة أنواع من الانحراف، إفراط أو تفريط، غلو أو جفاء، وهذا يأتي إلى الإنسان دائمًا، فعلى الإنسان دائمًا أن يراقب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويجعل نصب عينيه أنه سوف يلقى الله، وسوف يحاسَب على كل كلامه، وكثرة الناس قد تكون أخطر عليه وأشدُّ فتكًا به، لأنَّ ذنوبه تكثر إذا ضلَّ أو غلط أو اغترَّ بنفسه، فإذا كثرَ متابعوه كثُرَ وزره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالله يعافينا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين، ويمنَّ علينا وعليهم بالتوبة والاستقامة.
إذن؛ إذا منَّ الله عليك بالعلم وأنت من أهل الإسلام استقمْ ولا تأخذ يمينًا ولا شمالًا.
وهذا الأثر كان حذيفة يخص به مَن يدرسون القرآن في حِلَق المسجد، فطلبة العلم أحوج الناس إلى هذه النصيحة الغالية النفيسة.
والقراء في زمن الصحابة والتابعين هم أهل العلم، فسُمُّوا بالقراء لكثرة قراءتهم للقرآن، وكان الذي يقرأ القرآن في ذلك الزَّمَن قد أخذ نصيبًا من القرآن ومن السُّنَّة ومن العلم الشرعي.
قال الشيخ: (وقال)، أي: محمد بن وضَّاح.
قال: (أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم").
هذا الأثر أخرجه ابن وضاح عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وجزءٌ من هذا الأثر جاء في حديث عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو حديث أنس بن مالك المشهور: أن أناسًا جاؤوا عند أنس يشتكون من ظلم الحجاج بن يوسف في العراق، وكان أميرًا على العراق، وكان ظالمًا، فجاؤوا عند أنس صاحب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فانظر أخي الكريم! في زمنٍ ليس بعيدًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- جاء أميرٌ ظالم يظلم الناس وهو الحجاج، حتى إن الصالحين يذهبون إلى مَن بقي من الصحابة يشتكون لهم ويبثون همومهم عنده، فماذا قال لهم أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟
قال: «اصبروا فإنه لا يأتي عام إلا وما بعده شر منه»، سمعته من نبيكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولم يأمرهم بالخروج، ولم يأمرهم بالقتال وخلع البيعة، ولم يأمرهم بإثارة الفتن؛ بل أمرهم بالصبر، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
وهنا يقول ابن مسعود: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم".
إذن؛ هناك أمور هي مقياس عند الناس، ابن مسعود من السابقين الأولين من المهاجرين، صاحب السواك والوسادة والنعلين، مرافقٌ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الذي قال فيه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرؤه على قراءة ابن أم عبد»، يعني: ابن مسعود. وهذا الصحابي الجليل له كلمات وتوجيهات ونصائح محفوظة، منها هذه النضيحة.
وبالمناسبة؛ توجد محاضرة للشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- عن ابن مسعود وكلماته وتوجيهاته، وأنا سمعتها قديمًا وهي محفوظة، ومن المفيد لطالب العلم أن يقف على كلمات ابن مسعود ويفهم معانيها؛ لأنَّ هؤلاء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- هم أطباء القلوب، وهم فقهاء في الشريعة وفي السنة والدين، عارفون بأحوال الأمم والتغيرات، وعارفون بأشياء كثيرة، فنصائحهم لها قيمتها العظيمة.
هنا ابن مسعود يغير مفهوم قد درج وانتشر عند الناس، وهو أن المقياس عندهم:
أولًا: أمطار والزروع والخصب.
ثانيًا: أميرٌ أطيب من أمير وخيرٌ من أمير، يذهب أمير سيء ويأتي أمير رحيم رفيق.
قال: "لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير"؛ فليس هذا هو المقياس عند ابن مسعود؛ لأن هذه الأمور تعتبر من البلايا، إذا نقص المطر فهذا بلاء، إذا لم تخصب الأرض فهذا بلاء، إذا جاء أمير ظالم فهذا بلاء؛ هذه الأمور ليست هي المقياس، لكن الخطير عند ابن مسعود وعند هؤلاء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- هو: "لكن ذهاب علمائكم وخياركم" الله أكبر! فهم نجوم الأرض، يعلمون الناس الدين، يعلمون الناس الإسلام الحق الصحيح، يعلمون الناس سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كيف يصلي، كيف يصوم، كيف يحج كيف يزكي؛ هؤلاء العلماء يفتون الناس في الحلال والحرام، يدلُّونَ الناس على الصراط المستقيم، فإذا ذهبوا أو قلُّوا حدث الشر في الأرض، ويستعين الناس بعلماء الضلالة وعلماء البدعة، وعلماء الشرك والخرافة، وعلماء لا يبالون بحرمات الله؛ فهذا هو الأمر الخطير.
قال: "ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم"، يقول: أرى كذا وكذا! أمَّا النُّصوص فلا يُبالي بها؛ فهذا هو الأمر الخطير.
ولهذا يعتبر ترك العلماء الراسخين في العلم جُرمًا عظيمًا يُحاسب عليه من فعله، والواجب على المسلم إذا احتاج إلى فتوى أو إلى أمرٍ من أمور دينه أن يرجع إلى الراسخين في العلم، ولا يرجع إلى المنحرفين من المنتسبين للعلم ممَّن يعمل بالقياس والأمور العقلية ويترك قول الله وقول ر سوله، ولا يُبالي بالشريعة.
فهذا الانحراف عرفه ابن مسعود، وابن مسعود توفي سنة 38 هـ في زمن عثمان قبل حدوث الفتن، وقبل استشهاد عثمان بأربع سنوات، فهؤلاء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- علموا من خلال النصوص الشرعية وبما علمهم الله أنه سيأتي أقوام يبتدعون في الدين، وأقوامٌ يقدِّمون العقل والقياس على الشرع والنَّص؛ فحذَّرَ منهم بقوله "ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويثلم".
وأنت إذا جئت تدخل في الإسلام فتدخل في الإسلام الذي جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وليس الذي جاء به هؤلاء الذين يقيسون الأمور بآرائهم، أو يفتون بعقولهم وبمقتضى استحساناتهم، يقول: أرى...، وأرى...، وفي ظنِّي...! أما قول الله ورسوله لا يُبالي به!
فهذا لا تأتي إليه ولا تلتف إليه، خُذْ الإسلام الصَّافي الذي جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
إذن قوله: "فيهدم الإسلام ويثلم" عبارة مهمَّة جدًّا، والثَّلم في الإناء هو الكسر مكان الشُّرب، فإذا انكسر الإناء من مكان الشُّرب يُقال: هذا الإناء قد ثُلِمَ.
فالإسلام كامل، فيأتي عالم ضلالة أو عابدٌ مفتون فيهدم في الإسلام شيئًا ويُغير شيئًا ويبتدع شيئًا؛ فيتابعه خلائق، فاحذر من هذا، واترك هذه البدعة وهذه الضلالة التي عليها ذلك العالم المفتون أو العابد المفتون، وعليك بالإسلام الذي جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فهذا هو التعليق على هذا الأثر، وكما ترى أخي الكريم أن حذيفة وابن مسعود ينصحونك، وينصحون المسلمين نصيحة غالية جدًّا؛ فاعمل بها تنجو في حياتك وتنجو في دينك وآخرتك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب تفسير الإسلام
وقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20]، وفي الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلً».
وفيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعًا: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
وعن بَهزِ بن حَكيم عن أبيه عن جده أنه سأل رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن الإسلامِ فقال: «أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة» رواه أحمد.
وعن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما الإسلام؟ قال: «أن تسلم قلبك لله، ويَسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان». قال وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت»)
}.
في هذا الباب بيان مختصر من الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من خلال الآيات والأحاديث؛ بيَّنَ بيانًا مختصرًا لمعنى الإسلام.
قول الله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20]، هذه الآية فيها صفة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وصفة أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وهذه الآية ضمن السياق في الكلام والمحاجة للنصارى؛ لأن سورة آل عمران نزلت في وفد نصارى نجران، فمن ضمن ما حكى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنهم قد يُحاجُّون ويُجادلون بالباطل.
قوله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، هذا من أسلوب الجدال المشروع، وهذه الطريقة ينبغي أن يتفطَّن لها مَن يتعرَّض لجدال المعاندين، وهو أن يبين لهم حاله، وهذا البيان للحال فيه فضحٌ أمام الناس للمقابل من المعاندين، فيقول لهم: أنتم وشأنكم، ولكن أنا ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، وهذا خطاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فكل أتباعي أسلموا وجوههم لله، أما أنتم فالناظر يعرف حالكم، وأنتم تعرفون حالكم، وحال أهل الكتاب في ذلك الوقت أنهم عبدوا المسيح وقالوا هو ابن الله، وقالوا هو ثالث ثلاثة، فلم يسلموا وجوههم لله، وإنما وقعوا في الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وخالفوا شرع الله، وخالفوا أمر رسله -عليهم الصلاة والسلام.
فهذا فيه تفسير لطريقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في بيان لمعنى الإسلام، وهو أن تقول: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾، لماذا عُبِّر بالوجه ولم يعبر بالأعضاء؟
لأنَّ الأعضاء تبع، وأشرف ما في الإنسان وجهه، فليست اليد ولا الرِّجل ولا ركبته ولا ظهره ولا بطنه أشرف ما فيه؛ وإنما أشرف ما فيه هو وجهه، وهو الذي يُقابل به، وهذا الوجه انقادَ -أي أسلم- لله -عَزَّ وَجَلَّ- فإذا انقادَ الوجه انقاضت بقيَّة الأعضاء، وبقيَّة أجزاء الجسم.
ما معنى كلمة "انقادَ"؟
الانقياد ضده الممانعة والمعاسرة، الإيباء.
يُقال: هذا بعيرٌ منقادٌ وهذا بعيرٌ عسرٌ لم يُروَّض، فالبعير المنقاد تضع الحبل عليه ويجره الطفل الصغير فيمشي وراءه، فهذا معنى كلمة "انقياد".
أما أنا وكل مسلم أسلمنا -أي: انقدنا- لربنا، وكيف يكون الانقياد لله؟
إذا أمرنا قلنا: سمعنا وأطعنا، أمرنا أن نصوم فصمنا، إذا طلع الفجر أمسكنا، إذا غابت الشمس أفطرنا، إذا جاء عيد الفطر حرُمَ علينا الصوم ووجب علينا الفطر، فنحن منقادون لشرعه فيما أحل وفيما حرم، وفيما أوجب، وفيما أحي واستحب، وفيما كره وفي حرَّم، وفيما أباح؛ فنحن منقادون له -سبحانه وتعالى.
قوله ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾، يعني: انقدتُّ لشرعه.
قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، يعني: ومَن اتبعني من جميع المسلمين من أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وجميع الصحابة، وجميع أتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلى قيام الساعة هكذا طريقتهم، وإذا واحد منهم لم يسلم وجهه لله فليس من أتباعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فهذا فيه وجوب أن نلزم هذا المنهج الذي كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهذا يتضمَّن التَّصديق للأخبار، والاستجابة للأوامر والنَّواهي، فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور، وهذا هو معنى الإسلام، وهو أن تسلم وجهك لله -عَزَّ وَجَلَّ- وأن تبرأ من الشرك وأهله.
قال: (وفي الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلً»).
وهذا الحديث حديث مشهور معروف، وفيه أركان الإسلام الخمسة.
فهذا هو تفسير الإسلام، وهذه هي أركان الإسلام الخمسة، فهل هناك واجبات أخرى غيرها؟
نقول: نعم، لكن هذه الخمسة هي أركانه الكبار، وفي هذا بيانٌ أن هذا الدين الإسلامي ليس فيه تعقيد، وليس فيه تكليف لما لا يُطاق، ليس فيه أمور باطنيَّة، وليس عندنا شيء باطن وشيء ظاهر، أو شيء للعامة وشيء للخاصة؛ لا، كل الناس سواء في هذا، ليس عندنا أسرار في الدين نخفيها إلا عن خاصَّة الخاصَّة كما يزعم بعض الباطنيَّة والزَّنادقة! فالحمد لله، دين الإسلام دينٌ سهلٌ وميسَّر ومفسَّر في الكتاب والسنَّة.
بعض الناس يقول: بعض المشايخ يخفون بعض المسائل، أو يكتمون بعض المسائل!
نقول: هذا كذب، وهذا لا يوجد إلا عند الباطنيَّة، أما أهل الإسلام فلا يوجد عندهم شيءٌ يُكتَم، ولا عندهم شيءٌ يُخفَى، أما التدريس فله آدابه وله طريقته، فإذا جاء إنسان يدرس أي شيء؛ فلا يُمكن أن تعطيه كل العلم جملة واحدة، ولكن تعطيه بالتَّدرُّج، لكن العلم موجود وليس مخفي، لو أراده هو أو غيره لوجده، ولا يُمكن أن تستحي منه، فليس عندنا شيء في الإسلام نخفيه عن الناس، فهذا كلام باطل، ومَن ادَّعى هذا فقد كذب.
ومن سهولة الإسلام أنَّ الكافر يدخل فيه بسهولة لو شاء وفتح الله على قلبه، ما يحتاج إلى آصار وأغلال وأشياء، يفهم الإسلام ويقتنع ويدخل بطوعه واختياره، ويشهد الشهادتين، ويلتزم بأحكام الإسلام، يعرف حقوقه وواجباته فيلتزم بها، ولا يحتاج إلى أن يأخذ طقوس معينة أو تراتيب، أما ما يقع في بعض المساجد من إشهار إسلام بعض الناس فهذا ليُعلن إسلامه، ليعرف الجميع أنه قد دخل في الإسلام، وهذا ليس بواجب، ولكنه شيء طيب أن يُشهر إسلامه، ولكن هذا الترتيب في المسجد ليس بفرض عليه، لو أسلم وعلم به مَن حلوه فلا نقول له يجب عليك أن تذهب للمكان الفلاني وتشهر إسلامك أمام الملأ، ويجب عليه أن يتبرأ من الكفر وأهله، فالمقصود أن الإسلام يدخل فيه أي أحد بسهولة.
وكذلك العكس -نسأل الله العافية والسلامة- قد يخرج منه بسهولة أيضًا، بوقوعه في الردة، فإذا ارتكب نواقض الإسلام ارتدَّ عن الإسلام، كمن يسب الله ورسوله، أو يستهزئ بالدين، أو يُهين المصحف، أو يسجد لغير الله، أو يقع في الشرك الأكبر، أو غير ذلك، نسأل الله العافية والسلامة، فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإسلام.
ثم قال: (وفيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعًا: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»).
قوله: (فيه)، يعني في الصحيح.
قوله: (عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعً)، يعني عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، هذا تفسير للإسلام أيضًا، وبيان أحد واجبات الإسلام، وهو كف الأذى، أن يسلم المسلمون من لسانك ويسلمون من يدك.
أمثلة على أن يسلم المسلمون من لسان الإنسان: الغيبة، النميمة، اللعن، السب، الشتم، القذف، التكفير بغير حق، التبديع، التفسيق بغير حق؛ كل هذه الأشياء يجب أن يسلم منها المسلمون.
أمثلة على أن يسلم المسلمون من يد الإنسان: الضرب، الجرح، السرقة، القتل، ونحو ذلك.
فإذا سلم المسلمون من لسانك ويدك فأنت مسلم حقًّا، وهذا واجب من واجبات الإسلام، وفي هذا إشارة إلى أن الإسلام يتضمَّن أعمالًا وعقائدًا وأقوالًا، ويتضمَّن فعلًا ويتضمَّن تركًا؛ فالمسلم الحق مَن سلم المسلمون من لسانه ويده.
قال: (وعن بَهزِ بن حَكيم عن أبيه عن جده أنه سأل رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن الإسلامِ فقال: «أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة» رواه أحمد.
وعن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما الإسلام؟ قال: «أن تسلم قلبك لله، ويَسلم المسلمون من لسانك و يدك» قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان». قال وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت»)
.
هذه الأحاديث بعضها لا يلم من مقال؛ لأن هذا الرجل من أهل الشام لم يُسمَّ، فيُقال عنه إنه مجهولٌ، فإذا وُجد في السند رجل مجهول صار الحديث ضعيفًا.
لماذا أورده الشيخ هنا؟
أورده استئناسًا ليعتضد به؛ لأن الأحاديث الأخرى تدل عليه؛ ولأن في الصحيح ما يدل عليه، لكنه أراده لأنه وُجد فيه لفظ "الإسلام" وشرح الإسلام، والأحاديث الأخرى تدل على هذا المعنى، فليس فيه ما يستنكر.
قوله: «أن تسلم قلبك لله، ويَسلم المسلمون من لسانك ويدك»، سبق معنا إسلام الوجه، وهنا قال «أن تسلم قلبك لله»، والحقيقة أن بينهما تقربًا، وتقدَّم أن الوجه أشرف الأعضاء، والقلب هو ملك الأعضاء، فإن الأمر والنهي والإرادة والعزم على الأشياء تصدر من القلب، فإذا صار القلب متعلقًا بالله منقادًا له؛ انقادَ البدن والجسم كله بعقيدته وبأخلاقه وبأقواله، فهذا هو الإسلام.
وذكر أمرين في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عند جده معاوية، قال: «أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله»، فذكر ما يتعلق بالوجه وذكر ما يتعلق بالقلب في حديث واحد، ولهذا أتى المصنف بهذا الحديث للدلالة على هذا الأمر.
قال: «وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة»، فيه إشارة إلى أن أعمال القلوب لا تكفي عن أعمال الجوارح، فلابدَّ من أعمال الجوارح، وهذا فيه الرد على المرجئة الذين يقولون ينفع الإيمان وينتفع به صاحبه ولو لم يعمل شيئًا! لا، هذا ليس بإسلامٍ، وهذا ليس بإيمانٍ؛ هذا كذب، إذا وُجد في القلب النية الصادقة والصدق مع الله وولَّى وجهه لله تبعته الجوارح، أما أن نقول لا يعمل شيئًا عامدًا عالمًا من غير عذر وينتفع بهذا؛ فهذا معناه أنه لم يكن في قلبه شيء من هذا الإسلام.
ثم ذكر الجملة الأخيرة: (قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان»).
وهذا فيه شاهد لِمَا ذكره العلماء في حديث جبريل المشهور لما سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، ففسر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الإسلام بأركانه الخمس وهي الشعائر الظاهرة، وفسر الإيمان بالأمور الباطنة، وفسر الإحسان بقوله: «أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
هنا في هذا الحديث قال: (قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان»). قال العلماء: إن دائرة الإسلام أوسع الدوائر، فكل مَن أظهر الشعائر يعتبر مسلمًا، فمن شهد الشهادتين وصلى وزكَّى وصام وحج؛ فهذا مسلم، ولكن إذا أتى بهذه الشعائر مع إيمان في قلبه فهذا هو المؤمن، ولهذا قال هنا في الحديث: (قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان»)، ثم ذكر أركان الإيمان الستَّة.
ففي هذا الباب فسَّر فيه المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الإسلام كما ترى بهذا الوضوح وهذه السهولة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب قول الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
وعن أَبُي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «تَجِيءُ الأعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلاةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا الصَّلاة، فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا الصَّدَقَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا الصِّيَامُ، فَيَقُولُ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ تَجِيءُ الأعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الإسْلامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلامُ، وَأَنَا الإِسْلامُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾». رواه أحمد.
وفي الصحيح عَن عَائِشَةُ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه أحمد)
}.
هذا الباب يُبيِّن فيه المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما تقدَّم، فهو نفس ما تقدَّم ولكن خصَّصَ هذا الموضوع لمسيس الحاجة إليه.
هذا الموضوع باختصار هو: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يقبل غير دين الإسلام، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان موافقًا للإسلام، فالأعمال التي يتقرب بها غير المسلم غير مقبولة عند الله، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً﴾ [الفرقان: 23]، وإذا ابتدع المسلم أعمالًا فإنها مردودةٌ عليه -كما تقدَّم- فالذي يدين يغر دين الإسلام فهو من الكفار، ولا يقبل الله -عَزَّ وَجَلَّ- منهم هذا الكفر.
وهذه المسألة مهمٌّ بيانها، ويجب على أهل الإسلام أن يُبيِّنوا لليهود وللنصارى ولسائر الملل أنهم على كفرٍ وضلالٍ لتركهم اتباع محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يقبل منهم ما هم عليه إذا بقوا على هذه الأديان، فيجب أن يُبيَّن هذا ويُوضَّح، ويُبيَّن لهم محاسن الإسلام وفضائله، ويُرغَّبون في الدخول إلى الإسلام.
أما دين العلمانية فهو دين باطل، فهو عقيدة يعتقد أصحابها أن كلًّا على هواه، وكلٌّ يعبد الله بما شاء، ولا يُلزَم أحد بشيء، ولا يُدعى أحد إلى شيء، ولا يُؤمَر أحد بشيء، ولهذا فهم يتغيَّظون من مسألة الدعوة إلى الإسلام والدعوة إلى الله أشدَّ الغيظ، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
وبعض الناس يُزيِّن المقالات الكفريَّة والإلحاديَّة والعلمانيَّة والشُّيوعية، فهذا صادٌّ عن سبيل الله، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، لا هو ولا مَن يُروِّج له، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
بعض الناس يقول: ما ندري ماذا في العلمانية، يمكن فيها كذا أو كذا!
نقول: أنت لا تدري، ولكن غيرك يدري، العلمانية مُضادة للشريعة الإسلامية التي جاء بها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهكذا الشيوعيَّة مضادة لشريعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولهذا فإن الشيوعيون العلمانيون يتغيَّظون من أوامر الله وأوامر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فلا نبالي بهم، ولا علينا منهم.
ونقول لكل مَن أعرض عن الإسلام: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) [سورة الكافرون]، فنحن لنا دين الإسلام ولا نبالي، ولكن نسأل الله لكم الهداية، ونرجوا من الله أن يفتح على قلوبكم، اتكوا هذه الطرق الغاوية الضالَّة.
ونقول لهم هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، ونصرِّح بهذا، والعلماء يصرحون بهذا، والمدرسون يصرحون بهذا، ولاة الأمر يصرحون بهذا، لا يخفى على الناس أمر دينهم، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- أمر أفضل الخلق محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بقوله: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، ونحن نتأسَّى به -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثم ذكر الشيخ حديث أبي هريرة، وهذا الحديث يُبيِّن فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الصلاة، فيقول: «تَجِيءُ الأعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلاةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا الصَّلاة، فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا الصَّدَقَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا الصِّيَامُ، فَيَقُولُ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ تَجِيءُ الأعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الإسْلامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلامُ، وَأَنَا الإِسْلامُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي»، يعني المعوَّل عليه هو الإسلام، إذا جاء نفعت الأعمال، أما إذا لم يجئْ الإسلام فلا ينفع الإنسان أيَّ شيءٍ، فالعبرة بمَن دانَ بهذا الدين ومات على الإسلام، فإنه به يؤخَذ، وبه يُعطَى، ومَن فقدَ الإسلام فقد فقدَ كل خيرٍ.
وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في الحديث الأخير: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وهو موافق للآية التي شرحناها: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾.
فهذا تفسير لهذا الباب، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياكم الثبات على الإسلام، وأن يحفظنا وجميع إخواننا المسلمين من كل كفر وضلال وبدعة، إنه سميع مجيب الدعاء.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك