الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

3132 12
الدرس السادس

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نستأنف في هذه الحلقة -بإذن الله- ما انتهينا عنده في الحلقة الماضية}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ أيها الإخوة الكرام هذا الكتاب الذي نقرأ أبوابه وما فيه؛ هو كتاب "فضل الإسلام" للإمام الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأجزل الله له المغفرة والثواب، هذا الكتاب كثير الفوائد، مشتملٌ على مسائل يحتاجها المسلم، ووصلنا في القراءة إلى هذا الباب "باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام".
وأُذكر إخواني الكرام بأن المراد بـ "دعوى الإسلام" أي: اسم الإسلام ووصف الإسلام، وذكر الشيخ في هذا الباب آيةً وعدَّة أحاديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والآية هي ما جاء في سورة الحج في قول الله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78].
والشاهد هو قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَ﴾، فالله -عزَّ وجلَّ- هو الذي سمَّى من اتبع النبي -عليه الصلاة والسلام- بالمسلمين، فالحمد لله على هذه النعمة، والحمد لله على هذا الوصف، فإذا سئلت أنت فتقول: أنا مسلم، فهذا وصفٌ عظيمٌ تكتفي به وتفرح به، ولا تخرج عنه، فلا تقول: أنا لا أحتاج هذا الوصف، أو أنا لا أرى قيمةً لهذا الوصف، أو تخرج عن هذا الوصف إلى أوصاف أخرى، فهذا هو معنى دعوى الإسلام، يعني: اسم الإسلام ووصف الإسلام، فتفرح به وترضى، ولا تحدث أسماء خارجة مبتدعة عن الشريعة.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعدَ ذكر الآية: (عن الْحَارِثَ الأشْعَرِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال: «آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلا أَنْ يُراجِع وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ». رواه أحمد والترمذي، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وفي الصحيح: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»)
}.
حديث الْحَارِثُ الأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيه أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يأمر المسلمين بخمسٍ اللهُ أمره بهنَّ:
الأول: السَّمع، والمراد بالسَّمع: الاستجابة لأوامر الله.
الثاني: الطاعة: الانقياد التام، فعلا للمأمور، وتركًا للمحظور.
ولهذا دائمًا يُذكر السمع والطاعة معًا؛ لأنهما يتضمنان الاستجابة بالقلب والاستجابة بالجوارح، فإذا سمع بأذنيه واستجاب بقلبه ثم استجاب بجوارحه فقد فعلَ ما أمره الله -عَزَّ وَجَلَّ- به.
الثالث: الجهاد، والمراد به الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام كما قال -عليه الصلاة والسلام.
والجهاد شريعة من شرائع الإسلام، أمرنا الله -عزَّ وَجلَّ- بها، وأمر بها رسوله، ولكن هذه الشريعة لها ضوابط، مثل الحج ومثل الصلاة، ومثل الصيام، ومثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه لها ضوابط شرعيَّة، دلَّت عليها نصوص القرآن، ونصوص السنَّة، وما عمل به الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومَن جاء بعدهم من أهل الإسلام، فالجهاد لابدَّ أن يكونَ مع ولي أمر المسلمين، وله ضوابطه سواءٌ في صفة المقاتل -الجندي- وكذلك فيمَن يُقاتَل، وفي طريقة القتال، وفي آداب القتال، وفي أحكام الغنائم، وفي أحكام السَّلَب، وفي أحكام أخرى تتعلق بالجهاد؛ كلها مُنضبطة، ويجب علينا أن نلتزم بالشريعة التَّامَّة، ولا نخرج عنها قيد أنملة، ولَمَّا غلا بعض الناس -أو جفا- منهم مَن أنكر الجهاد كالمنحلين والضَّالِّينَ عن سواء السبيل، والذين يُجاملون أعداء الدين على حساب الشريعة، ومنهم مَن غلا في الجهاد فصارَ يُقاتل مع الفئات الضَّالَّة، والتَّنظيمات المنحرفة، وكل هذا خروجٌ عن الصراط المستقيم.
الرابع: الهجرة، أي: الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكانت المدينة هي محل الهجرة ودار الهجرة، وكان الصحابة يهاجرون من مكَّة إلى المدينة، ثمَّ لَمَّا فتح الله مكَّة على يد نبيه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُو»[21]، يعني: إذا دعاكم ولي الأمر إلى النفير فاخرجوا.
فالهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة، ولكن هذا على المستطيع وعلى مَن لم يقدر على إظهار دينه، أما إذا استطاع أن يُظهر دينه فإنه لا بأس أن يُقيم بينَ ظهراني الكفار، ولكنه يكون على خطر، فيجب على المسلم أن يُهاجر؛ لأن هذا مما أُمرَ به المسلمون، فإذا لم يتمكَّن فعليه أن يبقى مع إخوانه المسلمين في البلد الذي هو فيه من البلدان غير الإسلاميَّة، فيبقى معهم يشهد الجُمَع والجماعات، ويعاونهم على القرآن وعلى التَّفقُّه في الدين، وعلى تعليم اللغة العربية، حتى يثبتوا على الإسلام، ولا ينقطع عن المسلمين، فإنه سوف يذوب ثم يذوب وينحرف، وأهله وأولاده يشتد انحرافهم، وهذا من الأخطار التي تواجه من خرج عن بلاد الإسلام.
فعلى كل إخواننا المسلمين في الخارج أن يُجاهدوا أنفسهم على الثبات على الدين، والمحافظة على الإسلام وتشجيع إخوانهم المسلمين، وأن يتفوا مع بعضهم، ويشهدوا الجُمَع والجماعات، ويحفظوا القرآن ويدسرونه قدر المستطاع.
الخامس: الجماعة، أي لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.
والجماعة تُطلق في الشريعة على معنيين:
المعنى الأول: الجماعة العلمية، وهي لزوم ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة، مَن كان على مثل ما عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأصحابه، فيلزم السنَّة ويلزم العقيدة الصحيح، عقيدة السلف الصالح، وطريقة أهل السنة والجماعة، وهي جماعة الدين، وهي أن تلزم الحق.
المعنى الثاني: الجماعة العملية، وهي أن يسمع ويُطيع لولاة الأمور في غير معصية الله، فإذا كان في بلد مسلم فإنه يسمع ويُطيع لولي الأمر في غير مَعصية الله -عزَّ وَجلَّ- فهذا من لزوم الجماعة، وتسمى جماعة السلطان، أو جماعة الأبدان، فلا تخرج ولا تسفك الدماء، ولا تخرج على جماعة المسلمين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلا أَنْ يُراجِع».
إذا خرجَ عن جماعة المسلمين وشذَّ عنهم بأن يرفع السيف على أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويستحل دماءهم ويستحل قتلهم؛ فهذا خرج عن الجماعة، وهذا إن خرج عن الجماعة قيد شبر -يعني: شيء بسيط- فقد خلع ربقة الإسلام، فكأن الإسلام لباس عليك، فإذا خرجتَ عن جماعة المسلمين وتمرَّدتَّ عن السمع والطَّاعة وشققتَ العصا فكأنَّك انخلعت من ربقة الإسلام، وظاهر هذا يدل على أنه كافر، ولكن العلماء قالوا: إن هذا من باب الوعيد الشَّديد، وقد يؤول به هذا الأمر إلى الكفر.
ونرى كثيرًا ممَّن يسمون بالمعارضين يعارض بلد الإسلام لمصالح فائته أو لدنيا يطلبها، أو لمناصب، أو لأهواء، أو لظلمٍ وجده؛ فيذهب إلى بلد الكفار، ويبدأ يشحن النفوس ويشحن الناس ضدَّ البلد وضد الحكَّام ويُريد الفتن، ويريد المظاهرات والثَّورات، فهذا مُتوعَّدٌ بهذا الوعيد الشديد.
وبعض هؤلاء الذين خرجوا بهذه الطريقة ارتدُّوا عن الإسلام، وصاروا يمدحون دين الكفار، ويذمُّونَ دين الإسلام، ويذمُّونَ السُّنَّة الصَّريحة، ولهذا فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُحذِّر؛ لأنَّ هذه بوَّابة للخروج من الإسلام.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلا أَنْ يُراجِع»، فإذا تابَ تاب الله عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم»، يعني أنه سوف يجثو في جهنم.
قال: (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟)، يعني يقول: أنا أُصلي وأصوم فكيف أصير في جهنَّم؟
فهذا السؤال وُجِّهَ إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ».
إذن؛ هذا فيه التَّحذير من إنشاء الأحزاب لتحزيب المسلمين وتفريقهم، الحزب الفلاني والحزب الفلاني، أنت مع هذا الحزب أو مع هذا الحزب؟ ويتعادون ويتقاتلون!
نحن أمَّة واحدة مسلمون، على طريقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وطريقة الصحابة، لا نُنشئ أحزابًا ولا نفرق كلمة المسلمين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ»، الدعوى: هي الاسم والصفة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ»، يعني: اكتفوا بهذا، وهذه الأوصاف الثلاثة هي تسمية الله لكم "المسلمين، المؤمنين، عباد الله"؛ لأن الله يقول: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾ [النساء: 59] ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الحج: 78]، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنً﴾ [الفرقان: 63] فهذه أسماء سمَّانا الله -عزَّ وَجلَّ- بها.
قال: (وفي الصحيح: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»)، أيضًا فارق جماعة المسلمين وشقَّ العصا عليهم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حذَّر من هذا.
ولو كان الأمير ظالِمًا، كأن يأخذ المال بغير حقٍّ؛ فهذا ندعوا الله -عزَّ وَجلَّ- أن يفرج عنا، وندعو الله -عزَّ وَجلَّ- أن يخلصنا من ظلمه، لكن لا نشق العصا، ولا نثير الفتن، فهذا أمر موضَّح في السنة، وفي صحيح البخاري في كتاب الفتن من حديث ابن عباس يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن رَأَى مِن أمِيرِهِ شيئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عليه فإنَّه مَن فارَقَ الجَماعَةَ شِبْرًا فَماتَ، إلَّا ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً»[22]، وفي الصحيح أيضًا: «مَن كَرِهَ مِن أمِيرِهِ شيئًا فَلْيَصْبِرْ، فإنَّه مَن خَرَجَ مِنَ السُّلْطانِ شِبْرًا ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً»[23]، فصرَّح بلفظ "السلطان" ولفظ "الجماعة"، فهذا هو كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فيجب علينا الانقياد والاستسلام لِما قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ونجعله على العين والرأس، ولا نعرض عنه، ولا نلوي أعناقنا، ولا نكره كلام الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهو الناصح الأمين لأمَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولا نفارق الجماعة ولا نفارق السلطان، ونصبر حتى لو رأينا ما نكره، فهذه هي توجيهات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
واربط هذا مع كلام ابن مسعود الذي سبق معنا قبل عدة حلقات، قال: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم".
إذن؛ عليك بإصلاح نفسك، وعليك بالدعوة إلى الله وبيان الحق، ونشر العلم وبثِّه، وأبشر بالخير واصبر، والجأ إلى الله، وأكثر من الدعاء والعبادة، فهذا هو المخرج، وليس المخرج سلُّ السيوف وشق العصا؛ فهذا خطيرٌ جدًّا.
قال: (وفيه)، أي: في الصحيح. «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، اللهم صلِّ وسلم عليه.
هذا الحديث سببه أن مهاجريًّا كسعَ أنصاريًّا -يعني: ضربه على دبره- فرجع هذا الأنصاري على المهاجري فضربه، وهما من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وهذا يحدث بينهم، فهم بشر، ثم نشبَ بينهما شجارٌ، فقال المهاجري: ياللمهاجرين -يعني: تعالوا معي- وقال الأنصاري: يا للأنصار -يعني: تعالوا معي- وهذا يدل على أنهم ليسوا معصومين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- والواحد منهم قد يُخطئ، ولكنهم يتوبون، ولهم حسنات عظيمة، فكادت تحدث بينهم مضاربة كبيرة، مع إنَّ اسم "المهاجرين" مشروع وممدوح في القرآن والسنة، واسم "الأنصار" مشروع وممدوح في القرآن والسنة، والله سمَّاهم بهذا؛ ولَمَّا جلا هذا الاسم عوضًا عن اسم "الإسلام" وسببًا للفتنة؛ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، فإذا كان هذا في الاسم الشرعي "المهاجري والأنصاري" وهو اسم لا محظور فيه بل هو ممدوح، ولكن إذا استُخدم في فتنةٍ أو في شرٍّ نُهيَ عنه، وسُمِّيَ: "دعوى الجاهليَّة"، فما بالك بالأسماء التي ليست بشرعية في الأصل! فمن باب أولى أن يُنهى عنها وأنها من دعوى الجاهليَّة.
ثم ختم الشيخ هذا الباب بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (قال أبو العباس: "كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار ! قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، وغضب لذلك غضباً شديداً". انتهى كلامه، رحمه الله).
هذا يُبيِّن لك أخي المسلم أنَّ أسباب التفريق بين المسلمين كثيرة، والشيطان حريصٌ عليها، وأنَّ أنواع الجاهلية كثيرة، وأنَّ هذه النَّزغات تُثير الفتنة والقتال بين المسلمين، فيجب النَّهي عنها، حتى لو كان المؤمن من أهل الإيمان الصادق، فإذا قُدِّر أن حصل بين طلبة علمٍ اختلاف في مسألة علميَّة، وكلٌّ له حجته، ثم تعصَّبَ هؤلاء لشيخهم وهؤلاء لشيخهم؛ فيأتي الشيطان يُحرش بينهم، فيجب أن يُنهى عن هذا، ويجب أن يُقال لهم: أبدعوى الجاهليَّة وأنتم من أهل العلم وطلبته!
فأحيانًا التفريق قد يكون بسبب النسب والقبائل، فهؤلاء من قبيلة وهؤلاء من قبيلة أخرى؛ بل أحيانًا يكون بين القبيلة الواحدة، فخذ وفخذ آخر، وأحيانًا بين قريةٍ وقريةٍ أخرى، أو بلد وبلد آخر، وتجد بعض الناس يُطلق السَّب، فيقول مثلًا: القبيلة الفلانية معروفون بكذا وكذا وما فيهم خير! والثاني يقول: نحن فينا خير وفينا كذا وكذا..، نفس القبيلة هذه تجد فيها أفخاذ -عدَّة عوائل وأُسر- وتجد هذا الفخذ يقول: ذاك الفخذ لا تخطبون منهم، ولا فيهم خير، ويأخذ يطعن فيهم، وأما نحن فمعروفين بكذا وكذا...، ويستمر هذا التَّشقيق وهذا التَّعنصر والتَّحزُّب وهذه الفتنة حتى يصل إلى فخذه هو، ثم يُفرِّق بين الأُسَر التي في فخذه.
ومن الطرائف: أن اثنين اجتمعوا وقاموا يتكلمون في البلدان وفي الناس، فقال أحدهم: كل هذه البلدان فيهم كذا وكذا، وما ترك بلدًا إلا بلده، فلما فرغ أخذ يطعن في بلده ويقول: المنطقة الفلانية فيها كذا وكذا...، وأخذ يذمهم حتى بقي هو وصاحبه سليمان ما فيهما عيب!
وهذا من نقص العيب ومن السفاهة، فلا يجوز لك أن تنتقص عباد الله، فالفتنة قد يُحدثها الشيطان بسبب هذه الجهالات، وربنا يقول: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، فالشاهد قوله ﴿لِتَعَارَفُو﴾ ولم يقل "ليتفاخروا".
حتى المذاهب الفقهية الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي؛ يتعصب هذا لرأيه وهذا لرأيه وهذا لشيخه، ويأتي الشيطان بينهم حتى قيل إن بعضهم يقول: لا يجوز للشافعي أن يتزوَّج حنفيَّة أو مالكيَّة، والعكس!
وبعضهم يسب المذهب الثاني، ويسب إمام المذهب حتى روى بعضهم حديثًا مكذوبًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في التنفير عن مذهب شخص معيَّن، فقال: "سيكون في أمتي رجل أشد عليهم من إبليس يُقال له محمد بن إدريس"، يقصد الإمام الشافعي -رحمة الله عليه.
فهذا الخبيث كذب على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ونحن نقول له ولمن كذب على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هذا الحديث: «من كذب علىَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار»، نسأل الله العافية والسلامة.
هل معنى هذا أن نسقط الأسماء ونلغيها؟
لا، الله تعالى يقول: ﴿لِتَعَارَفُو﴾، فأسماء القبائل باقية، وأسماء البلدان باقية، فمَن سكنَ مكَّة يُقال له: "مكِّي"، ومَن سكنَ مصرًا يقال له: "مصري"، ومَن سكنَ الشام يُقال له: "شامي"، ومَن سكن اليمن يُقال له: "يمني"، وهكذا، وهذا لا يعيب الإنسان ولا يُنقص مقداره؛ بالعكس، فهذا انتسابٌ جائز، وقيل عن صهيب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "الرُّومي"، وبلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "الحبشي"، فهذا للتعريف، وحتى القبائل، يُقال: "قحطاني، عنزي،..."، وحتى البلدان، يُقال: "كويتي، سعودي، جزائري،..."؛ فهذا للتعريف وليس للتفاخر، ولا يجوز لأحدٍ من هؤلاء أن يقول: أنا أفضل منكم، فهذا غلط، فالتفاخر بهذه الأشياء والتَّعالي على الناس من أمور الجاهلية، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟».
ما حكم الانتساب إلى الجماعات؟ فمثلًا يسمون جماعة التبليغ والدعوة، يسمون "الأحباب"، أو جماعة "الإخوان المسلمين"، أو جماعة "حزب التحرير"، أو غيرها من الجماعات؟
نقول: لا يجـوز الانتساب لهذه الجماعات؛ لأنَّها جماعات بدعيَّة، ولأنها تشتمل على البدع؛ ولأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- كفانا باسم الإسلام، وهذه تعتبر من أمور الجاهليَّة، فجماعة التبليغ عندهم أخطاء وأغلاط، سواء في الدعوة إلى الله، أو في الولاء لبعض المبتدعة ونحو ذلك، فيجب ترك هذه الأشياء، ونكتفي بما منَّ الله -عزَّ وَجلَّ- علينا به من اسم "الإسلام" واسم "السنة".
هل يجوز الانتساب إلى جماعة سلفيَّة؟
نقول: إذا كنتَ تعني أنّك من السَّلف وتتبع السلف الصَّالح فهذه نعمة من الله، وأنَّ الله يوفقك لاتباع الصحابة، ولكن ليست جماعة لها رئيس ولها نظام، إذا أطعتهم رضوا عنك، وإذا لم تطعهم غضبوا عليك!
من هؤلاء! فالذي يُطاع ويُسمَع له في غير معصية هو ولي الأمر الحاكم، ولكن تأتي مجموعة حتى لو قالوا على أنفسهم إنهم على منهج السلف الصالح؛ فلا يجوز أن يُتَّخذوا حزبًا، فيُقال: الشيخ الفلاني يجب أن نطيعه ونسمع له، وإذا أنت ما أطعته فأنت عاصٍ! لا، هذا لا يكون إلَّا لولي الأمر في غير معصية الله.
فلا يجوز لنا أن نُحدِث هذه الجماعات، فمذهب السلف الصالح هو الحق؛ لأن الله -عزَّ وَجلَّ- أثنى عليه، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، فهذا هو المقصود بالسلف الصالح.
فاتَّبع هذا المنهج في العقيدة، وفي العبادة، وفي الأخلاق، وفي كل أمور الدين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾، فهذا هو الذي ندعو إليه، وهو ما دعا إليه القرآن، وهذا هو منهج السلف الصالح، وهذا هو منهج علماء السلف الصالح، يدعون إلى هذا الطريق وإلى هذا المنهج.
أمَّا الجماعات الأخرى فهي جماعات مُنحرفة، كجماعة الإخوان وجماعة التبليغ، فقد بلغ بهم الأمر إلى أنهم سلُّوا السيف على الأمَّة، وأثاروا الناس، وروَّجوا للخروج والثوارت، وأحدثوا الفساد في كثيرٍ من بلدان المسلمين كما هو مشاهد اليوم، فهذا المنهج منهج باطل.
ولهذا ففي المملكة العربية السعودية صُنِّفَت جماعة الإخوان المسلمين أنها جماعة إرهابيَّة؛ لأنَّهم اشتغلوا بالإرهاب الذي هو سفك الدماء في بلدان المسلمين، فمن وقع منه في هذا فعليه أن يتوب إلى الله، وأن يرجع عن هذا الطريق، ويترك هذا المسلك الوخيم، ومَن تاب تابَ الله عليه، ومَن رجعَ إلى رشده وإلى طريقة السلف الصالح فإنه على خيرٍ عظيم، أمَّا مَن أصرَّ فيجب التحذير منه والحذر منه، وحماية المسلمين من هذه الأفكار، وليس هذا خاصًّا بهؤلاء؛ بل حتَّى بعض مَن ينتسبون إلى المذاهب الأخرى، مثل: الحوثيين، ومثل مَن يسمُّون أنفسهم: "حزب الله" وهم حزب للشيطان، وغيرهم من الأحزاب الضَّالَّة؛ فهذه كلها من دعوى الجاهليَّة.
هل يجوز للإنسان أن يعمل في جمعية رعاية الأيتام أو جمعية حفظ القرآن الكريم، جمعية البر للفقراء، جمعية العناية بالمعاقين؟
هذه الجمعيَّات لا بأس بها، ولكن لابدَّ أن تُنظَّم، فلا يعمل الإنسان بالفوضى، وهذا العمل صحيح في أصله لأنه من الإحسان ومن أعمال الخير، لكن إذا صرتُ أنا أدرِّس في جمعية القرآن وأنت في جمعية الأيتام فلا أتفاخر عليك وأقول أنا من جمعية كذا...، فهذه الجمعيات لا نعتبرها عقيدة، وليس في هذه الجمعية معتقدات خاصَّة بنا، إنما هو توزيع للأعمال الخيرية، هؤلاء يقومون بالإحسان غلى اليتامى، وهؤلاء يقومون بتدريس القرآن، وهؤلاء يقومون بتحفيظ السُّنَّة، فهذا لا بأس به، وهذا ليس من دعوى الجاهليَّة، بل هو للتَّعريف أنِّي أعمل في هذا المكان، أنا أعمل في جامعة الإمام، وأنت تعمل في جامعة الملك سعود، وأنت تعمل في جامعة كذا أو كذا...، أنا درست المذهب الحنبلي، أنت درست المذهب المالكي، وهذا درس المذهب الشافعي؛ فلا حـرج في ذلك، لأنه للتعريف، ولهذا يُقال في أوصاف العلماء: فلان بن فلان الحنبلي، أو الشافعي؛ يعني درسَ هذا المذهب.
والانتساب الذي ينفع الإنسان هو الانتساب إلى الإسلام، والانتساب إلى السلف الصالح، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان -كما تقدَّم- فهذا خيرُ أمرٍ تنتسب إليه، ولكن لا يكون انتسابك فارغًا، فبعض الناس يقول: أنا أتَّبع السلف الصالح، وهو يُعاديهم، مثل بعض الجماعات المنحرفة الذين سلكوا مسلك الغلو راحوا يسمُّونَ أنفسهم "الجماعة السلفية للقتال والدعوة"، وتجد أفكارهم وعقائدهم وأقوالهم هي أقوال تنظيم القاعدة والدَّواعش، فهم سمُّوا أنفسهم بهذا الاسم ليخدعوا بعض الناس، وهم أبعد ما يكونون عن منهج السلف الصالح؛ لأنَّ هؤلاء سلُّوا السيف على الأمَّة وخرجوا عنهم.
ثم الذي يقول: أنا أتبع السلف الصالح لا يُزكِّي نفسه، فإذا قيل له: هل أنت سلفي؟
فإذا نظرتَ إلى أصل وجوب الانتساب لطريقة الصحابة تقول: نعم، يجب أن أكون على هذا الطريق، ويجب على الجميع أن ينتسب إلى السلف الصالح الذين هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ وهم مَن أمرَ الله باتِّباعهم، الخلفاء الراشدون والصحابة، فهذا هو الواجب علينا.
ولكن إذا قيل لك: هل أنت سلفي؟ بمعنى أنَّك قمتَ بالكمال وحقَّقته وأنت من هؤلاء الكُمَّل؟
فتقول: أنا أعترف بالتَّقصير.
فهذا الأمر ليس من باب التَّفاخر، ولكن من باب التنبيه والاتباع لمنهج السلف الصالح، ففرق بين الاتباع للمناهج الباطلة التي لها شيخ ولها رئيس ولها قواعد.
والإمام أحمد والشافعي وغيرهما يعلموننا أننا لا نقلدهم؛ بل نأخذ من حيث أخذوا، وهذا يُسمَّى اتِّباع ولا يسمَّي تقليدًا أو تعصُّبًا، فعندما نقول: اتَّبع السلف الصالح، يعني لا نتعصَّب لشخص واحد منهم.
وتجد بعض العلماء يرد على بعض ويُخطئ بعضهم بعضًا، ويجتهد هذا فيُخالف هذا؛ فلا تثريب عليهم إذا تحروا الحق والصواب.
كذلك يحرم التنابز بالألقاب، مما يدخل في الخروج عن دعوى الإسلام، والله -عزَّ وَجلَّ- يقول: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 11]، فالتنابز بالألقاب محرم، يعني بعض الناس يراك مصليًا متبعًا للسنَّة في صلاتك وفي أمورك، محافظًا على فرائض الله وتاركًا للمحرمات؛ فيأتي يقول عنك: أنت كذا وكذا...، يعني: ينبزك بلقبٍ ليس فيك ولم تفكِّر فيه، مثل بعض إخواننا الذي عافاهم الله -عزَّ وَجلَّ- من الوثنيَّات والشركيات التي عند بعض المتصوفة والرافضة وغيرهم، فيأتي بعض الناس يقول له: أنت وهَّابي! مع أنه لم يتعصَّب لمحمد بن عبد الوهاب ولم يفكر في هذا، ولكنه متبع لكلام الله ولكلام رسوله، متبرئ من الشرك، فيأتي هذا ينبزه بهذا اللقب!
ونقول لهؤلاء: لا تلتفتوا غلى هذا الشيء، وسيروا على الكتاب والسُّنَّة، وما عليه سلف هذه الأمَّة، ولا تبالوا بما يقوله الأعداء.
وكان أوَّل مَن شنَّع بهذه الألقاب على الصحابة هم المعتزلة، فكان عمرو بن عبيد الله يسمي عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- صاحب الخِرقة، يعني: أنه يُفتي في الخرق، والخرق هي الأقمشة التي تستعملها النساء في الحيض، فكان كثير من النساء يسألن عن أمور دينها وطهارتها، وهذا شيء سُئل عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأجاب وعلَّم؛ فيصير بعض المبتدعة ينبذ أهل السُّنَّة بأنَّهم علماء حيضٍ ونفاس، وهذا من الضلال العظيم الذي وقع فيه أهل البدع قديمًا، وأوَّل من فعله هذا الرجل المعتزلي باتِّهامه لابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بهذا.
والإمام أحمد نبَّه على هذا في كتابه المشهور "الرد على الجهمية والزنادقة" فقال: "لا نترك الحق لشناعة من يشنعونها، فهم يقولون عن أهل السنَّة: إنهم مجسِّمة"، يعني: أنَّهم يُجسِّمونَ الله، ولا أحد يقول هذا من علماء السنَّة، ولا نرضى بهذا، فكلمة "جسم" لا نقبلها لا في النفي ولا في الإثبات، لأنها كلمة موهمة لمعاني فاسدة، فكثير من الناس يسلك هذا الملك، ويُشنِّع بمثل هذه الشناعات!
فاصبر أيها السُّني، أيُّها المؤمن، أيُّها المسلم، أيُّها الموحِّد؛ اصبر على السُّنَّة، وعامل الناس بالإحسان، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، وغضب لذلك غضباً شديداً"، هذا هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم".
وسبق أن نقل الشيخ كلامًا لابن تيمية من كتاب "اقتضاء الصراط" في موضع آخر، وهذا الكتاب من الكتب المفيدة والتي ينبغي قراءتها وتدريسها في هذه الأزمنة التي يُشيع فيها أعداء الإسلام وأعداء الحق وأعداء السنَّة أنَّ الإنسان يكون متميِّعًا مع أخلاق الكفار، وقابلًا لعادات الكفرة، وهذا الكتاب يُبيِّن فيه الشيخ أنَّك إذا لزمتَ الصراط المستقيم اقتضى منكَ أن تُخالف أصحاب الجحيم، قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ، 6]، فإذا لزمتَ صرا الذين أنعم الله عليهم سلمتَ من الذينَ غضب الله عليه وضلوا سواء السبيل.
وسبب تأليف ابن تيمية لهذا الكتاب: أن بعض المتفقهة في زمن ابن تيمية ممن غلطَ وضلَّ أفتى بجواز حضور أعياد اليهود والنصارى والمشاركة في أعيادهم؛ وهذا كلام باطل، فلا يجوز حضور أعياد اليهود والنصارى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً﴾ [الفرقان: 72]، فألَّف ابن تيمية هذا الكتاب المشهور "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، وذكر جملة كبيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن السلف، وختم هذا الكتاب بقواعد عظيمة تتعلق بأحكام الأعياد المكانية والأعياد الزَّمانيَّة.
وأنصح إخواني بالرجوع إلى هذا الكتاب وقراءته وتلخيصه لأنه كبير الحجم ويحتاج إلى تلخيص حتى تقرب فوائده من طالب العلم ومن عموم المسلمين.
فهذا ما يتعلق بباب " ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام"، وخلاصة ما جاء فيه: أن المسلم يرضى باسم "الإسلام" ويفرح بهذا، ويعز بأنه مسلم، ويكتفي بهذا، ولا يذهب إلى الأسماء والألقاب التي يضعها الناس، وهذا من الله العظيم.
وسبق ذكر أمثلة، ولكن الآن خطر في ذهني مثال عن الخروج عن دعوى الإسلام: أذكرُ أحد الكتَّاب كتب مقالة وختمها بقوله عن نفسه "فلان بن فلان ليبرالي مسلم"! وهذا من الخروج عن دعوى الإسلام، وهذا مهن الجمع بين الضدين، فهو إمَّا أنَّه لم يفهم معنى الليبراليَّة، وهي التَّحرُّر من جميع القيود حتى من قيود الإسلام، فيريدون للمرأة أن تتحرر من كل قيدٍ ولا تلتزم بحجاب الشرع الذي أمر الله -عزَّ وَجلَّ- به، ولا تلتزم بأوامر الشرع فيما يتعلق بالاختلاط مع الأجانب والجلوس مع الأجنبي والخلوة معه، لا يريدون للرجل أن يلتزم بأحكام الشريعة، فهذه هي الليبراليَّة، وهذا الكاتب إمَّا أنه لم يفهم الليبراليَّة أو أنَّه فهمها وأراد أن يصف نفسه بأنه مسلم، كما نقل عن بعض الملاحدة -وهم كُثُر- وهم يُعلنون كفرهم بالله وإنكارهم للآخرة وإنكارهم للدين الإسلام وتقديم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فلما سُئل: أنت مسلم؟
قال: أنا مسلم، وأبي وجدي مسلمين.
نقول: هذا إسلام المنافقين؛ بل إنَّ هذا أشد من المنافق، فهو معلنٌ للإلحاد والكفر، فهو خرج عن دعوى الإسلام لهذه المذاهب الإلحاديَّة. نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين.
بهذا نختم هذا المجلس، نسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا على الإسلام، وأن يجعلنا ممَّن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- نبيًّا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------
[21] صحيح البخاري (2825)، صحيح مسلم (1864).
[22] صحيح البخاري (7054).
[23] صحيح البخاري (7053).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك