الدرس الثاني

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

3132 12
الدرس الثاني

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نستأنف ما توقفنا عنده في الحلقة الماضية.
تفضلوا فضيلة الشيخ في استكمال بقيَّة الأحاديث}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد؛ فلازلنا نقرأ في هذا الكتاب المفيد، كتاب "فضل الإسلام" للشيخ المجدِّد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وقرأنا الباب الأول والآيات الكريمة، ثم وصلنا إلى حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- حيث يقول الشيخ: (عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صلة الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلاً وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شيئا قَالُوا: لا، قَالَ: ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»).
فهذا الحديث العظيم ذكره العلماء في تفسير سورة الحديد في الآية التي سبق قراءتها في الدس الماضي، وهي قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28]، وهذا الفضل العظيم لمن آمن بالرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ودخل في دين الإسلام. فذكر العلماء هذا الحديث في شرح وتفسير هذه الآية الكريمة.
وضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في هذا الحديث مثلًا عظيمًا لنعرف ونفهم ونقيس وننتبه ونعتبر، قال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، وأمثلة القرآن وأمثلة السنَّة النبوية الصحيحة كلها حق، وكل جزء من هذه الأمثلة يُستفاد منه الفوائد والعبر والأحكام الشَّرعيَّة، يقول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].
بخلاف الأمثلة التي يضربها بعض الناس من بعض الوعَّاظ أو بعض الجُهَّال، يقيس الأمور ويضرب أمثلة من عند نفسه، فالقاصُّ والواعظ والمفكِّر والأديب والرِّوائي وما أشبه ذلك؛ إذا ضربوا أمثلة قد يُخطئون وقد يصيبون، ولا يلزم أن يكون كل ما في أمثلتهم صواب ويُستفاد منه، وإنَّما هذا خاصٌّ بأمثلةِ القرآن والسنَّة الصحيحة، وبالتَّالي فنحنُ نتأمَّل في هذا المثال ونستفيد من كل جزءٍ وردَ فيه فوائد شرعيَّة.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ»، يعني: اليهود والنصارى.
فالله -عزَّ وجلَّ- أرسل موسى -عليه الصلاة والسلام- إلى اليهود، وأرسل عيسى -عليه الصلاة والسلام- إلى النصارى؛ فآمن بموسى من اليهود من آمنَ، ثم دخل في دينهم التحريف والتبديل، ثم زاد ووقع فيهم الكفر والانحراف على الدين، ثم بدلوا الدين الذي أنزل عليهم، وصاروا على حالٍ لا يقبلها الله -عزَّ وجلَّ-، وهكذا النصارى، فكان أول الأمر أن الذين آمنوا بعيسى -عليه الصلاة والسلام- على التوحيد وعلى الاستقامة على ما أنزل على نبيهم، ثم حدث فيهم مثل ما حدث في اليهود، ولهذا جاء في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «وإِنَّ اللهَ نظر إلى أهْلِ الْأَرْضِ، فمقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وعَجَمَهُمْ، إِلَّا بقَايَا من أهْلِ الْكِتَابِ»[3]، يعني أبغضهم إلَّا أفرادًا عديدين هم الذين استقاموا على ما أنزل عليهم.
وبعث الله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعد فترةٍ من الرسل، وهذه الفترة حدث فيها من التحريف والتبديل ما حدث.
ونستفيد من هذا المثال بما ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقال: «كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ».
الأجير: هو العامل بالأجرة، وهو موضَّح في الحديث.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صلة الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ»، يعني معاشر المسلمين.
قال: «فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلاً وَأَقَلَّ عَطَاءً؟»، وهذا من الاعتراض غير المحمود، وهذا من الحسد المذموم.
فجاء الجواب مسكتًا لهم وداحضًا لِمَا قالوه من حجَّةٍ غير مستقيمة في قوله: «قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شيئا؟ قَالُوا: لا»، يعني: هذا الأجير قيل له اعمل على قيراط، المدة نفس المدَّة.
قوله: «قَالَ: ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»، نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يؤتينا وإياكم وجميع المسلمين من فضله العظيم.
وهذا يدل على فضل الإسلام، وفضل أهل الإسلام عند الله -عزَّ وجلَّ-؛ أنهم أقل عملًا وأكثر ثوابًا.
ولهذا فنحن نقول لكل يهودي ولكل نصراني الآن: إذا أسلمتَ واتَّبعتَ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- آتاكَ الله أجركَ مرتين، وأعطاك الله هذه الفضائل كلها، فلك أجر الإيمان بالرسول السابق -إن كان إيمانك صحيحًا- ولك أجر الإيمان بخاتَم الأنبياء والمرسلين -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وهذه دعوةٌ لكلِّ أهل الأرض، قال تعالى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، فمن دخل في دين الإسلام أعطاه الله أجورًا مضاعفَة، ومن بقيَ منهم على اليهوديَّة أو النَّصرانيَّة الآن فهو كافرٌ بالله وليس له أجرٌ وليس له ثوابٌ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]. فهذا الحديث العظيم فيه فضل أهل الإسلام.
ومن فضل الله على أهل الإسلام: أن الله -عزَّ وجلَّ- أكرمهم فخفَّفَ عنهم ويسَّر لهم الدين، فالصلوات الخمس أجرها خمسون، وليلة القدر خير من ألف شهر، يعني: ثلاثة وثمانين سنة، وهكذا في بقيَّة الأعمال والأذكار والعبادات؛ يسَّرها الله -عزَّ وجلَّ- وضاعفَ لهم الأجر والثواب، فالحمد لله على هذه النِّعمَة.
فهذا الحديث واضح جدًّا في بيان فضل الإسلام.
ننتقل للحديث الذي بعده، وهو حديث أبي هريرة، قال المؤلف: (وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَة-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، ولِلنَّصَارَى يَوْمُ الأحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»).
هذا أيضًا يُبيِّن فضل الإسلام، وفضل أهل الإسلام، وفضل أمَّة النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فيُبيِّن -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في هذا الحديث ما أكرمَ الله به أهل الإسلام من الهداية إلى يوم الجمعة، والله -عزَّ وجلَّ- خصَّهم بتعظيم هذا اليوم، وهو يوم عبادة للمسلمين، وهو يوم عيد أسبوعي للمسلمين، وهذا اليوم معظَّمٌ عند الله -عزَّ وجلَّ- وقد ضلَّ عنه اليهود والنصارى، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَ»، يعني أن الجمعة هي التي فيها الفضل، حتى في الزمن السابق، لكن الله -عزَّ وجلَّ- جعل هذا خاصًّا بهذه الأمَّة منَّةً منه وكرمًا وفضلًا.
واليهود صارَ لهم يوم السبت، فهم يُعظِّمونَ يوم السبت، فالعيد الأسبوعي عند اليهود يوم السبت، فيخصُّونه بالعبادة ويعظِّمونَه، ويُعطِّلونَ فيه الأعمال، وكذلك صارَ للنصارى يوم الأحد، فصاروا بعدنا، فسبق أهل الإسلام بيوم الجمعة، فسبقوا في الزَّمن؛ لأن يوم الجمعة قبل يوم السبت وقبل يوم الأحد، مع أنَّ أمَّة اليهود وأمَّة النصارى قبلنا في وجودهم، ولكن الله -عزَّ وجلَّ- أضلَّ عنهم هذا اليوم العظيم، وهو يوم الجمعة، وهذا من تكريم الله -عزَّ وجلَّ- لهذه الأمَّة ولأهل الإسلام، فأهل الإسلام هم الآخرون من جهة الزَّمن، فإذا نظرت إلى آدم -عليه الصلاة والسلام- أبو البشر ومَن جاء بعده من الأمم والخلائق؛ فآخر أمَّة وآخر ملَّة هي ملَّة النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وملَّة الإسلام، ومع ذلك فهم يوم القيامة هم أسبق الناس إلى الجنَّة، فالحمد لله على هذه النعمة، نسأل الله أن يثبتنا على الإسلام والسنة.
وهذا يؤكِّد لنا الاهتمام والثَّبات على هذا الدين، والحرص على دعوة الناس إليه، وهدايتهم لهذا الفضل العظيم.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيه تعليقًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ)، يعني: تعليقًا في صحيح البخاري.
قال: (أنه قال: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»)، يعني: أنَّ البخاري رواه معلَّقًا واختصره، والمُعلَّق من أنواع الحديث الشريف، وطالب العلم يدرس علم الحديث ويدرس مصطلح الحديث، ومن ضمن مصطلح الحديث أنواع الحديث، فهناك حديث مرسل، وهناك حديث منقطع، وهناك حديث معلق، وهناك حديث مقطوع، ولكلٍّ من هذه الأنواع تعريف عند أهل الاختصاص من علماء الحديث، وهذا الحديث من أنواع الحديث المعلَّق، وهو أنَّ المصنِّف الذي يروي بسنده يختصر، فلا يذكر اسم الشيخ الذي حدَّثه، ولا يذكر اسم شيخ الشيخ؛ فيُسقط شيخه أو مَن فوقه إلى الصحابي، وقد يُسقط الصحابي أيضًا فيذكر الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مباشرة بدون سند، وما دام أنَّه بدون سندٍ وبهذا الشَّكل فلا يعتبر صحيحًا، ولكن العلماء تتبَّعوا المعلقات في صحيح البخاري واحدًا واحدًا؛ فوجودها ثابتة في الجملة، إلَّا ما ساقه البخاري على صيغة التمريض، يعني: إذا قال: "ورُوِيَ" أو "ويُذكَرُ عن النبي"؛ فإنَّ هذا الذي ساقه في صيغة التَّمريض وبدراستهم لأسانيده في الكتب الأخرى وجدوا أن في بعض أسانيده بعضَ المقال وبعض الضعف.
وليس معنى الحديث المعلَّق أنه ليس له سند؛ بل هو له إسناد، ولكن المؤلف -كالبخاري- اختصره لحكمةٍ أو لغايةٍ، أو لأن بعض الرواة في هذا السند ليسوا على شرطه، أو لأنَّه لم يثبت عنده، والبخاري من أدق علماء الحديث وأشدهم صيانةً وحفظًا وضبطًا، ولهذا يعتبر صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وهذا الصحيح لقيَ عناية -بفضل الله عز وجل- والأحاديث المعلقة في صحيح قليلة جدًّا وليست كثيرة، وغالبها صحيحٌ وثابتٌ، ولكن قد يوجد فيه الضعيف، وهو الذي ساقه بصيغة التمريض، وهذا نبَّه عليه أهل العلم، ومنهم ابن حجر العسقلاني في فتح الباري وغيره.
وهذا الحديث صحيح وهو قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، فأهل الإسلام يجب أن يكونوا حنفاء، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]، وكان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يعلم أمته أن يقولوا في الصباح والمساء: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ»[4].
والحنف: هو الذي ترك الشرك وأقبل على الإسلام.
وذكر هذا المعنى لأن فيه نفيٌ وإثباتٌ، فالحنف فيه نفي وإثبات، فالحنيف هو الذي أعرض عن الشرك وتبرأ منه، وأقبل على التوحيد والإسلام وتمسَّكَ به، ولهذا قيل في تعريفه: هو المقبل على الله المعرض عمَّا سواه.
والسَّمحة: من السَّماحة، وهي السهولة واليسر، فليس في الدين الإسلامي آصار، وليس فيه أغلال، ولا يرضى بالتشديد والتكلُّف والتَّنطُّع؛ بل حرَّمه واخبرَ أنَّ أهله هالكون، وحرَّم الغلو في الدين، فهذا الدين دينٌ سمحٌ، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»[5]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران: 97]، فالذي لا يستطيع لا يجب عليه الحج، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال في العاجز: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، فالحمد لله، ديننا دين سماحةٍ ويسرٍ، وهذا من فضل الله -عزَّ وجلَّ.
إذن؛ هذه صفات هذا الذين، والذي يشدد في الدين ويخرج عن الشريعة فقد خرج عن الإسلام، والذي يُكلِّف نفسَه ما لا تُطيق لم يرضَه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- رأى حبلًا ممدودًا في المسجد فقال: «مَنْ هَذِهِ؟». فقيل: لفلانة تصلي في الليل، فإذا فترت تعلقت به حتى لا تنام. فقال: «عَلَيْكُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّو»[6].
وقوله هنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» فيه تشجيع للمؤمن أن يلزم هذا الطريق، فإذا أردتَّ أن تتديَّن وتتعبَّد وتتقرَّب؛ فلا تتديَّن ولا تتعبَّد ولا تتقرَّب إلَّا بما جاء في هذا الدين من السماحة والسهولة، مع البراءة من الشرك والثبات على التَّوحيد.
فهذا هو التعليق على أثر «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
قال المؤلف: (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ عَزَّ وَجَلَّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَمَسَّهُ النَّارُ، وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ مَخَافَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَبِسَ وَرَقُهَا فَبَيْنَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ أَصَابَتْهَا الرِّيحُ فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا إِلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا، وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ").
هذا الأثر العظيم لأبي بن كعب يحتاج إلى وقفات، وينبغي أن يكونَ نبراسًا لكلِّ مسلمٍ، فإنَّ كلمات الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وتوجيهاتهم مختصرة جدًّا، ولكنها مليئة بالعلم، ومليئة بما يتعلق بالعمل والعبادة، وتوجيهاتهم فيها الخير والبركة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم- فحري بكل مُسلمٍ ومُسلمةٍ أن يقتدي بهم، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، فطريقتهم متَّبعَةٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
قوله: "عليكم بالسبيل والسُنة". السبيل هو: الطريق الذي كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ورُوي عن عبد الله بن مسعود أنَّه قال: "خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَسَارِهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»[7]، وَقَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾.
إذن؛ هذا السبيل الذي عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في الأخلاق، والعبادات، والعقيدة، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي جميع أمور الدين نلزم هذا السبيل ولا نخرج عنه.
فعليكم بالسبيل، فهو طريق الإسلام، شريعة الإسلام، منهاج الإسلام، يدخل فيه الأركان الخمسة، ويدخل فيه واجبات الدين وأركان الإيمان الستَّة، ويدخل فيها كل ما أوجبه الله -عزَّ وجلَّ- وأوجبه رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فنفعله، وترك ما حرَّمَه الله وحرَّمه رسوله.
قال: "عليكم بالسبيل والسُنة"، يعني في تعبُّدكم وتقرُّبكم إلى الله الزموا سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، يعني: وافقوا ما فعله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في جميع عباداته، وفي جميع الدين.
ولو قال: "عليكم بالسبيل" لكفى هذا لأنه يدخل فيه السنَّة، لكنَّه أكَّدَ فقال: "والسنة"، وإلا فإنَّ اتباع السنة من السبيل، وهذا من ذكر الخاص بعد ذكر العام، وهذا سائغ، ويُذكر الخاص بعد العام لأهميَّته، ولتنبيه العقول السليمة عليه، فإنَّك إذا قلت: أنا أسلمت واتَّبعت الرسول، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله؛ فهذا هو السبيل. فإذا جاء من يقول لك: عليك بالسُّنَّة؛ فتنتبه وتقول: إذن ما هي السنَّة في الصلاة حتى أطبقها؟ وما هي السنن في جميع العبادات وجميع أمور الدين حتَّى أتعلمها وأطبقها؟
فها مما يحتاجه المسلم؛ لأنه في خضم الحياة سيرى توجُّهات كثيرة، وسيرى مذاهب متشتتة، وسيرى فِرَقًا لا حصرَ لها، ويرى بدعًا وجماعات وأحزان؛ فماذا يفعل أمام هذه البحار المتلاطمة من الأهواء والسُّبلُ
القرآن واضح، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، حظَرَ السُّبل كلها، فعليكَ بسيبل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقط، اسأل عنه وابحث عنه، ابحث واقرأ وتعلم، جاهد نفسك حتى تكون على هذا السبيل.
فهذه الآية أنزلت على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 153]، اتبعه في كل كل ولا تستثني شيئًا.
قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، السُّبل هنا: الشبهات والأهواء.
هل الشهوات تدخل في السُّبل؟
بعض العلماء يذكر هذا، ولكن المشهور عند المفسرين أنها الشبهات؛ لأن من فعل الشهوة المحرمة وهو يدرك أنها محرَّمة فهذا يعد عاصيا، بخلاف من اتَّبعَ الشبهة فهذا يعد مبتدعًا، والمبتدع أخطر من العاصي؛ لأن العاصي مآله أن يتوب، وهو يفعل معصيته يشعر أنه مذنب، أما المبتدع الذي اتبع سبل الباطل والشبهات فإنه يرى أنها حق، ويستمر عليها -نسأل الله العافية والسلامة.
ولهذا ترى الآن أصحاب التَّوجُّهات الفكريَّة الضَّالَّة والحركات المنحرفة والأحزاب والجماعات البدعيَّة والفِرَق الضَّالة؛ تراهم متشبثين ببدعهم، ومتشبثين بضلالاتهم، ومتعصبين لها بشكل كبير جدًّا، فإذا فتح الله على أحدٍ منهم، وعرف السنَّة؛ فهذا نجاة له من تلك الضلالات ومن تلك البدع.
وفي مقابل الفِرَق التي تتديَّن للبدعيَّة؛ هناك فِرَق تنحو منحا ضلال آخر وهو ضلال الانحلال من الدين كالعلمانية والليبراليَّة والحداثة، ولا يقبلون من النصوص إلا ما وافق عقولهم ويردون السُّنَّة؛ فهذه كلها من سبل الشيطان.
فأبي بن كعب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ينصح المسلمين فيقول: "عليكم بالسبيل والسنَّة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسُنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار".
هنا خبر أنَّ الذي على السبيل والسنَّة فدمعت عينه من خشية الله لا يُمكن أن تمسَّه النار، والسبب في ذلك أن دمعَ العين الذي نشأ عن خشية الله يدل على إيمان في القلب أثَّر في الجوارح، فظهرَ الإيمان في الجوارح، وهذا دليلٌ على أنه مؤمن، فالمؤمن يدخل الجنة ولا يدخل النار. وهذا من أسباب تكفير الذنوب ورفعة الدرجات.
{هل هذا الأثر فيه رد على المرجئة؟}.
نعم، لابدَّ من العمل، ولا يمكن أن يكون على السبيل والسنة بقلبه فقط ويترك العمل، فالسنة والسبيل أعمال وأقوال واعتقادات، ليست فقط عقيدة في القلب دون عمل، وهذا الأثر الذي خرج في عينيه فدمعت عيناه من خشية الله ناشئ عن عمل قلبي أيضًا، وهو خشية الرب سبحانه وتعظيمه في القلب، فأعمال القلوب وأعمال الجوارح من الإيمان، وهي سبب دخول الجنة والنجاة من النار، قال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، فلا يكفي مجرد الاعتقاد أو القول فقط.
قال: "وليس من عبد على سبيل وسُنة ذكر الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله"، هنا حال آخر.
الحال الأول: دمع العين.
الحال الثاني: قشعريرة الجلد.
قال: "فاقشعر جلده من خشية الله"، يعني: أقل من دمع العين، فأصابته قشعريرة من خشية الله.
هنا السبب الذي أثَّرَ في جلده فاقشعرَّ هو خشية الله.
قال: "إلا كان مثله كمثل شجرة يبس ورقها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريح فتحات عنها ورقها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحات عن هذه الشجرة ورقها".
هذا الكلام من أبي يوافق الأحاديث الأخرى التي ثبتت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه من أسباب مغفرة الذنوب تحقيق التوحيد لله ربِّ العالمين، والسلامة من الشرك، والسلامة من البدع، فإن الله -عزَّ وجلَّ- قال: «لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً»[8]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[9]، فكل هذه النصوص وغيرها تدل على معنى ما ذكره أبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: "وإنَّ اقتصاداً في سبيلٍ وسُنةٍ خيرٌ من اجتهاد في خلاف سبيلٍ وسُنة".
هذه الجملة عظيمة جدًّا، ويجب أن نقف عندها، وقد وردت عن أبي كما ترون هنا، ووردت عن عبد الله بن مسعود، ووردت عن غيرهما من الصحابة "اقتصادٌ في سنَّةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعةٍ"، وهنا قال: "وإنَّ اقتصاداً في سبيلٍ وسُنةٍ خيرٌ من اجتهاد في خلاف سبيلٍ وسُنة"، والمعنى واحد.
ما معنى الاقتصاد في السنة؟ وما معنى الاجتهاد في البدعة؟
أنَّه لو ابتدع الإنسان بدعةً وصار يعبد الله -عزَّ وجلَّ- بهذه البدعة، ويتعبَّد لله -عزَّ وجلَّ- بها، مثل أن يظن أن الصلاة عند الضريح أو عند قبر الولي الفلاني لها أجر، ويظن أن هذا يقربه إلى الله، فصار يتعمَّد ويتقصَّد أن يأتي عند أصحاب القبور فيصلي لله عندهم؛ فهذا مبتدع في الدين، فإذا دعاهم من دون الله أشرك، فلو جلس هذا يصلي اللي كله؛ فهذه بدعة، وهو ضال لا يقبل الله -عزَّ وجلَّ- منه هذا العمل، حتى لو بكى من خشية الله، ولو فعل ما فعل؛ لأنه داخل في عموم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، يعني: مردود عليه، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأُمورِ، فإنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعةٌ، وإنَّ كلَّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ»[10].
ولو قام واحد ليلة السابع والعشرين من رجب وقال: هذه ليلة الإسراء والمعراج أقوم الليل فيها.
نقول: ليس لك أجر، وعملك حابط؛ لأن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
إذن؛ عليك بالسبيل والسنة، فلم يرد في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن تخصص هذه الليلة بالقيام أو بأي عمل من العبادات، إذا جاء دليل صحيح ثابت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فعلى العين والرأس، وجميع المسلمين يسابقون إليه، أما أن يخترع الناس هذا الشيء فتتابعهم؛ فهذا ليس على سبيلٍ ولا سنَّةٍ.
ولو قلنا مثلًا: شخص صلَّى العشاء ثم رقدَ ونام حتى جاء وقت صلاة الفجر؛ فهذا اقتصدَ في السنَّة، وآخر صلَّى العشاء ثم يقوم ليلة خاصَّة ظنَّ أن فيها فضلًا، أقول ليلة من رجب، أو ليلة السابع والعشرين من رجب، أو ليلة الرغائب، أو ليلة الجمعة الأولى في رجب، واختراعاتهم هذه التي لا تحصى؛ ثم قام يصلي من بعد العشاء إلى أن طلع الفجر، فهذا يُصلِّي وهذا راقد؛ وهذا معنى كلام أُبي -رضي الله عنه- "وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهادٍ في خلاف سبيل وسنَّة".
فهذا الذي قام في ليلة يبتدع فيها بدعةً ما أنزل بها من سلطان أكثر عمل وجهد، وربما حصل عنده بكاء ودعوات؛ ولكن كله عمل مردود عليه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، لأنَّه خصَّ هذا الضَّريح أو خصَّ هذه الليلة من غير دليلٍ؛ أمَّا الأول فهو عمله قليل، ولا مقارنة بين هذا العمل وبين ذلك!
وهذا يدل على فضل الإسلام -اللهم لك الحمد- فالاقتصاد والتيسير أفضل من الاجتهاد في البدع، كذلك المبتدعة في الأمم السابقة الذين ابتدعوا في دين اليهود والذين ابتدعوا في دين النصارى، وكذلك الذين ابتدعوا في سائر الأمم الضَّالَّة؛ كم فعلوا من تلك الأعمال التي خالفوا بها منهاج رسلهم فلم يقبلها الله -عزَّ وجلَّ!
وأنت أيها المسلم يقبل الله منك هذا العمل اليسير -ولله الحمد- إذا وافق سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فأيُّ فضلٍ أعظم من هذا الفضل! وأيُّ نعمةٍ أعظم من هذه النِّعمة!
فاعرف هذه النعمة، واشكر الله عليها، وتمسَّك بها.
وفي هذا الأثر ذكرَ حالين من أحوال أهل الإيمان، وقد ذكر الله -عزَّ وجلَّ- الأحوال التي تعرض للمؤمنين، وهي أحوالٌ محمودة، فلا نتجاوزها، لأنَّ بعض الصوفيَّة وبعض المبتدعة يتجاوزون هذه الأحوال إلى أحوالٍ باطلة، فما معنى الأحوال؟
الحال هو: شيء يعرض للإنسان في وقتٍ من الأوقات بسبب استماعه للموعظة أو للقرآن، أو لكلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فيتأثَّر، فهذا يُسمَّى حال.
الأحوال التي ذكرت في الحديث:
الأولى: دمعُ العين.
الثانية: قشعريرة الجلد.
وبقي حال ثالثة ذكرت في القرآن وهي: وجلُ القلب.
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّ﴾ [الأنفال2 - 4]، هنا ذكرَ وجل القلب.
وحال قشعريرة الجلد ذكر في سورة الزمر، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، اللهم اهدنا يا رب.
وهذا الحال يعرض للمؤمن عند سماع القرآن، أو سماع الموعظة، أو كثرة ذكر الله -عزَّ وجلَّ- والإقبال على الله وتذكُّر الآخرة.
وأما حال إفاضة العيون من الدمع فهو مذكور في مواضع من القرآن، منها قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 83]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92].
هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال الممدوحة والمحمودة، وهي الأحوال التي لا يجوز لنا أن نتجاوزها كما فعل بعض الصوفية، فأضافوا أحوالًا أخرى ليست من الدين في شيء، كما يقولون: إن فلانًا رجل صالح إذا سمع القرآن صعقَ أو أغمي عليه. وبعضهم يقول: يسقط مغشيًّا عليه. وآخر يقول: إذا سمع القرآن أو الموعظة يصرخ صراخًا!
هذه الأحوال ليست محمودة، وليست من فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولا من فعل الصحابة أو خيار التابعين.
أمَّا لو وقعت حقًّا وغُلِبَ على الإنسان فيها، فإنه لا يؤاخذ، ولكنه ليس بمحمود، وإن صحَّ هذا عن بعض التابعين، ولهذا فإن خيار التابعين لم يذكر عنهم مثل هذا، وكذلك الصحابة لم يُذكر عنهم مثل هذا، ولكن ذُكر عن بعض التابعين وبعض تابعي التابعين أنه كان إذا قُرئَ عليه القرآن سقطَ مغشيًّا عليه، وبعضهم يُغمَى عليه.
فنقول: إن كان هذا قد غلب عليه دون اختياره فلا يؤاخذ عند الله؛ لأنه لم يتعمَّد هذا الشيء، ولكن هذا الحال حالٌ ناقص وليس حال محمود، وهذا هو الذي ينبغي لأهل الإيمان أن يعرفوه جيدًا، حتى لو كان الرجل الذي حصل له هذا من أفاضل المؤمنين ومن أفاضل المتقدمين، فإننا نحبه ولا نذمُّه، فإذا كان قد غُلب عليه ولم يسيطر على مشاعره لكننا لا نقتدي به، فلا نقتدي إلا بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لأنهم خير منه بلا شك، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[11]، وهم قد سمعوا القرآن وسمعوا المواعظ من أعظم مَن قرأ القرآن ومن أعظم مَن وعظَ وهو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولم يحصل لهم هذا، وذلك لقوة قلوبهم وقوة ثباتهم ورباطة جأشهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وقد يحصل لبعض تابعي التابعين أو غيرهم، وقد ذكر أهل العلم أن هذا بسبب ضعف في القلب، وفي زمننا هذا من باب أولى، فإن الضعف عظُم، فالمهم أنَّنا لا نمدح شيئًا ليس بممدوحٍ ولا نثني عليه، ونقول: هذا قد غُلِبَ عليه، ولكن لا نجعله قدوة، فإذا كان مغلوبًا على أمره فهذا نقص حقيقةً لا يُمدح صاحبه ولا يُذم لأنه بغير اختياره، فنرجو أن يعفو الله -عزَّ وجلَّ- عنه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ولكن إذا كان باختياره، وهو الذي يستدعي أن يُغشَى عليه، أو يستدعي الميلان أو السقوط، أو يستجلبه؛ فإن هذا مخالف للقرآن، ومخالف للسنَّة، ومخالف لطريقة الصحابة.
فلو قرأتَ هذا في بعض كلام المتقدِّمين فلا يهولنَّكَ؛ لأنَّكَ عليكَ دائمًا أن تنظر ما هو سبيل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
وبعض السلف -رَحِمَة اللهُ عليهم- نبَّهوا على بعض هذه الأغلاط، فقالوا في بعض الذين يهتزُّون ثم يتساقطون: لو وُضع فقو الجدار؛ فانظر هل يهتز ويسقط أو لا، فإن أتاه هذا الوارد فأسقطَه فهو مغلوبٌ عليه.
وهم يريدون بهذا التنبيه على أن الإنسان لا يستدعي مثل هذه الأمور.
الأثر الأخير، قال المؤلف: (وعن أبي الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين").
هذا يوافق الأثر السابق تمامًا.
وأبو الدرداء: هو عامر بن عويمر، من خيار الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكان يُقرئ القرآن ويُدرِّسه، حتى أنه كان يُدرِّس في الجامع في دمشق فقال لبعض مَن حلوه: احصوا العدد -أي عدد الذين في المسجد- قال: فعددناهم مائة مائة، حتى بلغوا ألفًا وستمائه، كانوا يقرؤون على أبي الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويحفظون القرآن، فكان يجلس بعد الفجر ليدرس المسلمين.
فكان هؤلاء الصحابة مع تدريسهم للقرآن يُعلمون الناس السُّنَّة، وهذا الذي ينبغي لكل مَن انبرى لتعليم المسلمين القرآن والسُّنَّة والسيرة والفقه أن يعلمهم الاتباع وترك الابتداع.
هنا يقول: "يا حبذا"، وهي كلمة إعجاب وثناء.
قال: "نوم الأكياس وفطرهم".
الأكياس: جمعُ كيِّسٍ، والكيِّس هو العاقل الفطِن، يعني الذين انتبهوا وعرفوا الطريق الصحيح فلزموه، بخلاف المغفل الأحمق الذي يمشي من هنا ومن هنا ويتخبَّط في الدين، ويتخبَّط في أموره وحياته، أمَّا الكيس فهو عاقل، فإذا قيل له: هذا الذي يُحبه الله، وهذا هو الذي فعله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-؛ مشى عليه. فهذا هو الذي يكون محلَّ إعجابٍ وثناءٍ.
قال: "يا حبذا نوم..."، أبو الدرداء يمدح النوم!
نعم؛ لأنَّ نوم هؤلاء خير من صيام أولئك الحمقى وقيامهم، ويقصد بـ "الحمقى" المبتدعة، فصيامهم مبتدَع، وقيامهم مبتدَع، وكذلك يدخل فيهم الخوارج، فهم يصومون ويقومون، ولكنهم حمقى حقيقة لأنهم ما انتفعوا بصومٍ، ولا انتفعوا بصلاة بسبب بدعة الخروج، وهكذا سائر المبتدعة.
قال: "يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم"، كأن تصبح في يوم ليس من رمضان فتفطر، وآخر يصوم صيام بدعة، أو يصوم وهو مع الخوارج أو الروافض أو أهل البدع والأهواء، ويتقرب إلى الله بتلك البدع؛ فأيهما أفضل؟
صاحب السنة الذي نام الليل وحافظ على الفرائض وصاحب السنة الذي أفطر في النهار؛ فهذا أحب إلى الله، وهذا هو محل الإعجاب، بخلاف الأحمق الذي خالف السنَّة وابتدع في الدين، فحتى لو سهر بالقيام وصام بكثرة الصيام فإنه لا ينتفع بهذا مهما فعل، لأنه على حماقة، وهي مخالفة السنة النبوية، فيا بئس هذا الحال!
ثم قال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين".
فالشيء اليسير من الصدقة مع اليقين والسنة والاتباع أفضل من عبادة المغترين، كأن ينفق واحدٌ الملايين في بدعة المولد وهذا يُنفق شيء يسير تمرة أو نصف تمرة في إطعام مسكين متَّبع لسنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وهذه المعاني كلها تدل على وجوب التَّمسُّك بالسُّنَّة، وأنَّ هذا الدين دين يسر، وأنَّ البدع ليست من اليسر، وهذا من فضل الإسلام ولله الحمد، فإذا وفَّقكَ الله للعبادة المشروعة على السنَّة النبوية وتزودتَّ منها فالحمد لله، وأهم شيء في هذا الدين أن تسلم من البدع، وأن تترك البدع وتبتعد عنها.
نسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا وإياكم على الإسلام وعلى السنة، وأن يعيذنا من البدعة، وأن يجعلنا ممن سار على السبيل والسنة، إنه -سبحانه وتعالى- سميع مجيب الدعاء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[3] صحيح مسلم (2865).
[4] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (10175)، وأحمد (15363) واللفظ له.
[5] صحيح البخاري (1117).
[6] روى البخاري (43) ومسلم (785).
[7] أخرجه أحمد (4142)، والنسائي في السنن الكبرى (11174)، والبزار (1865) واللفظ له.
[8] أخرجه الترمذي (3540) واللفظ له، وأحمد (13493).
[9] خرجه البخاري (2697) ومسلم (1718).
[10] سنن أبي داود (4067)، سنن الترمذي (2676) واللفظ له، وابن ماجه (42)، وأحمد (17144).
[11] البخاري (2652) ، ومسلم (2533).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك