الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2056 12
الدرس الثالث

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب وجوب الدخول في الإسلام
وقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام﴾ [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].
قال مجاهد: " السبل: البدع والشبهات ".
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجاه، وفي لفظ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وللبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلامِ سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ». رواه البخاري.
قال ابن تيمية-رحمه الله: قوله "سُنة الجاهلية": يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية، أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.
وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإن استقمتم فَقَدْ سَبقتم سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضلالا بَعِيدًا".
وعن محمد بن وضاح: أنه كان يدخل المسجد فيقف على الحِلَق فيقول: فذكَرهُ، وقال: أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم")
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومضن اهتدى بهداه.
أما بعدُ؛ فهذا هو الباب الثاني في كتاب "فضل الإسلام"، وهو بعنوان: باب وجوب الإسلام.
ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الباب بعدَ باب فضل الإسلام؛ ليُبيِّن الأحاديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والآثار، وقبل ذلك الآيات الدَّالَّة على وجوب التَّمسُّك بالإسلام، والالتزام بهذا الدين كما أُنزِل، وأنَّ هذا الدين هو النَّجاة، وهو يسيرٌ سهلٌ، فمن تمسَّكَ به فقد نجا وسعد وأفلح في الدنيا والآخرة.
ويُبيِّن فيه بمفهوم المنطوق ومفهوم المخالفة تحريم البدع، وتحريم الإحداث في الدين.
وقوله: (باب وجوب الدخول في الإسلام)، يعني: الدخول في هذا الدين والتَّمسُّك به.
قوله: (قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85]).
مَن دانَ بغير دين الإسلام فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- لا يقبل منه، وهو من الكافرين والخاسرين؛ فهذا حكم مَن دانَ بغير دين الإسلام، فالدين عند الله هو الإسلام، وإذا ابتغى دينًا غير دين الإسلام فصار يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا أو وثنيًّا أو مُلحدًا؛ فإنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- حكم عليه بأنه لن يُقبَل منه أي عملٍ ولا طاعةٍ ولا قُربَة.
وقوله: ﴿وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، أي: من الخالدين في نار جهنَّم، خسر الدنيا وخسر الآخرة، فهذا حكم جميع الأديان سوى دين الإسلام.
ويُستفاد من هذه الآية:
- أنَّ مَن ابتغى التَّقرُّب إلى الله وهو مسلم، ولكنه ابتدع في إسلامه؛ فلن يُقبَل منه ما ابتدع فيه؛ لأن هذه البدعة ليست من الإسلام، فمَن دانَ بإسلامٍ مبتدَع ومَن تديَّنَ وتقرَّبَ وتعبَّدَ بأمرٍ مبتدعٍ في الدين؛ فهذا الأمر الذي ابتدع فيه لن يُقبَل منه؛ بـل يأثم.
فقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينً﴾، تقدَّم معنى أصل الدين، والمعنى التفصيلي: حتى مَن أراد أن يتقرب إلى الله ويتديَّن ويتعبَّد بشيءٍ لم يشرعه الله -بل هو من البدع- فلن يُقبل منه، وهذا مثل قوله «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام﴾ [آل عمران: 19]، أي: إنَّ الذي يُحبه الله -عَزَّ وَجلَّ- ويرضاه ويقبله هو الإسلام فقط، ولا دينَ عند الله إلا الإسلام، فعلى كل الأرض -جنِّهم وإنسهم، عربهم وعجمهم- أن يدينوا بهذا الدين، وهو دين الإسلام الذي بُعث به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويسألوا حتى يسلكوا شريعته، ويدخل في دين محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن لم يفعلوا هذا وماتوا على أديانهم الباطلة؛ فإنهم في نار جهنم خالدين مخلدين فيها -نسأل الله العافية والسلامة.
فالدخول في دين الإسلام ليس أمرًا اختياريًّا؛ بل هو واجبٌ على كل الخلق -الجن والإنس، العرب والعجم، الذكور والإناث.
وأما قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، فهذا ليس معناه التخيير، وإنما معناه التَّهديد، والمعنى: أنَّه سيرى عُقوبة كفره، وسيرى مآله ومصيره إذا كفر.
والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- دعا إلى الإسلام، فهناك مَن استجابَ وهناك مَن أبى، فتعامل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مع الذين أبوا بتعاملات مختلفة:
- تعامل يتعلق بالمعاهدينَ.
- بتعامل يتعلق بأهل الذِّمَّة.
- تعامل يتعلق بالمستأمنين -أهل الأمان.
- تعامل يتعلق بالمحاربين.
فتعامل -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- معهم في حال ضعف المسلمين، وفي حال قوَّة المسلمين؛ فلنا به الأسوة الحسنة -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهو الذي قال: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فمَن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فقَدْ عَصَمَ مِنِّي مالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحِسابُهُ علَى اللَّهِ»[12].
ولم يُكرِه نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- اليهود والنصارى على الدخول في الإسلام، وأنزل الله -عَزَّ وَجلَّ- قوله: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، ولهذا فلو أسلم الرجل بالإكراه والقوة؛ فإنَّ إسلامه لا ينعقد، فلابدَّ أن يدخل في دين الإسلام باختياره حتى يثبت له الإسلام، ويثبت له الأجر عند الله -عَزَّ وَجلَّ-، أمَّا إذا قيل له: أسلم وإلا قتلتك؛ فهذا إسلامٌ بالإكراه.
فما الجمع بين قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ» والآية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾؟
الجواب: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم يقل: "أمرت أن أقتل الناس"، فالقتال هو الجهاد في سبيل الله، وهذا في حال قوَّة المسلمين، فيؤمر بالدعوة إلى الإسلام، ويُؤمَر قادة المسلمين بنشر هذا الدين، فمن وقفَ أمام الدعوة وأمام نشر الإسلام يُقاتَل، ثم يُعرَض هذا الدين على الناس، فمن أسلمَ فله الأجر في الدنيا والآخرة، ومن أبى فهو من الكفار، فإن كان من اليهود والنَّصارى فلهم أحكام ذمَّة، أو أحكام العهد، أو أحكام الأمان؛ فلا يُكره على الإسلام بالقوَّة والتهديد. فهذا من الأمور المعلومة عند أهل الفقه والعلم.
ونقول له: يجب عليك الدخول في الإسلام، فإن لم تُسلم فأنتَ كافر وأنت على خطرٍ، وأنت من الخاسرين الهالكين.
وتكون له معاملة بحسب مقتضى الشرع، فالمعاهد والمستأمَن وأهل الذمَّة لا بأسَ بالإحسان إليهم والبيع والشراء والاستئجار، فكل هذا وارد في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، كالهديَّة والإهداء، وعيادة المريض، خصوصًا إذا كان هذا فيه تأليف لقلبه على الإسلام، وتشجيعه على الدخول في هذا الدين، وترغيبه وتحبيبه في بيان محاسن الإسلام وفضائله؛ فهذا وارد في الشرع المطهَّر.
ولسنا الآن بصدد ذكر تفاصيل هذه المسائل، ولكن القاعدة الكبيرة: يجب على كل أهل الأرض أن يدخلوا في هذا الدين ويتَّبعوا الرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فمن دخل في هذا الدين أسلم، ومَن أبى فهو من الكافرين.
ودلَّ على هذا المعنى قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].
ويدل على هذا المعنى كذلك قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: 17]، أي: ومن يكفر بالرسول أو بالقرآن فالنار موعده.
وكذلك قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب 64 - 67]، الرسول هنا: هو محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة 1-7]
الرسول هنا: محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والصُّحف: هو القرآن.
الشاهد: هو وجوب الدخول في الإسلام على جميع أهل الأرض.
والشيخُ ضمَّنَ هذا المعنى: التَّمسُّك بالإسلام الذي هو ثابتٌ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن هناك أناسًا نسبوا أعمالًا ليست من الإسلام إلى الإسلام، فظنَّ مَن لا يدري وظنَّ الجاهل وظنَّ الذي لم يتعلَّم أنَّ هذا من الإسلام، فصاروا يقتدونَ بهم، فاحتاجَ المسلم إلى أن ينتبه إلى ما هو الإسلام الذي جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
والآية التي بعدها تدل على نفس المعنى، وهي قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]، فلا شيءَ أصرح من هذه الآية في وجوب اتباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والتحذير من سبل الضلالة وطرق الغواية.
وفي هذا بيان أنه لا يوجد تعدُّديَّة ومذهبيَّة فكريَّة في دين الإسلام، فلا يجوز أن يُسمَح أن يتعدَّد الباطل ويُقر أهل الباطل، بل يجب أن يُدعى الناس إلى سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهذا واجب على جميع ولاة أمور المسلمين، نسأل الله لهم الإعانة والسداد، وأن يدلهم على الخير، وأن يرزقهم البطانة الصالحة؛ حتى يقودوا الناس إلى ما كان عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وخلفاؤه الراشدون، فمن يدعو الآن إلى التَّعدُّديَّة الحزبيَّة فيسمح بجميع الأحزاب الضَّالَّة والفِرَق الهالكة وطُرق الغواية ويأذن لهم، ويسمح لهم بالدعوة إلى باطلهم؛ فهذا قد خالف طريقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأخطأ وضيَّع نفسه ومَن معه، والواجب الالتزام بهذا المنهج، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾.
قال الشيخ: (قال مجاهد: "السبل: البدع والشبهات")، هنا لم يذكر "الشهوات" وهذا هو الأرجح والأوضح في هذه الآية، ودلت عليها الأحاديث -كما تقدَّم.
كما أنَّ هذه الآية في بيان التَّمسُّك بالإسلام والدخول في هذا الدين؛ فهي كذلك في بيان وجوب اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في تفاصيل الدين وشرائع الدين وأعمال الدين، ولا نتَّبع سبيل المبتدعين، بعض الناس يقول: أنا أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ ولكن على الطريقة النقشبنديَّة الصوفية، أو الطريقة القادريَّة، أو الطريقة التِّيجانيَّة!
لماذا تختار هذه الطُّرق وتترك طريقة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وطريقة الصحابة؟.
فإذا قال: القادري والنقشبندي اتبعوا الرسول؛ فنقول: هؤلاء وقع عندهم ما وقع، فهم في الأزمنة المتأخرة وعندهم أخطاء، وهذه الطُّرق الموجودة الآن مليئة بالبدع والضَّلالات والعقائد الفاسدة، وقد أنكر عليهم العلماء هذا؛ فارتفع بعقلك وبدينك إلى طريقة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- واترك هذه السُّبل والطُّرق. وهكذا في كل مذهبٍ نِحلَةٍ وفِرقَةٍ من هذه الفِرَق الضَّالَّة.
ثم أورد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أم المؤمنين، قال: (وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجاه، وفي لفظ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»).
هذا الحديث في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، والرواية هذه «مَنْ عَمِلَ عَمَلً»، في صحيح مسلم وهي ثابتة، وينقلها العلماء ويتواردون على نقلها لغرضٍ عظيمٍ وتنبيهٍ مهمِّمٍ لا ينبغي للمؤمن أن يفوت عليه هذا الغرض.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، حتى إن العلماء الذين ألفوا في أصول الدين قالوا: إن أصول الدين ترجع إلى أربعة أحاديث، ذكروا منها حديث «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيّاتِ»[13]، وهذا الحديث «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وحديث النعمان بن بشير «الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ»[14].
وعلى كل حال؛ فهذا الحديث هو أصل كبير يجب على المؤمن أن يجعله نُصبَ عينيه إذا جاء يذكر الله، ويجعله نُصبَ عينيه إذا جاء يصلِّي أو يتعبَّد بأي عبادة، وإذا جاء يتقرَّب إلى الله بأي قُربَة؛ فيتذكر قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، فهو مردودٌ عليك.
وأذكرُ على سبيل المثال: أحد الناس كان إذا أذَّن المؤذِّن وقال: "حي على الصلاة" فيقول الرجل: ألف من "لا حول ولا قوة إلا بالله". وإذا قال المؤذن: "حي على الفلاح" قال هذا المسكين: ألف من "لا حول ولا قوة إلا بالله"!
سبحان الله! النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ثبت عنه الحديث الصحيح أنه يعلم أمَّته أنه إذا قال المؤلف: "حي على الصلاة" أن يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فقط، ولا يزيد "العلي العظيم"؛ فقُلْ: كما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول، وامشِ على شرعه، والْتزم بألفاظه. ولَمَّا أحد الصحابة لم يلتزم بلفظٍ واحدٍ نبَّهه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فالغالط من المسلمين، أو من نسي بعض الذكر أو فاته أو غلط في حفظه فهذا لا يُؤاخَذ، ولكن الذي حفظ ثم أخذ يزيد ويبتدع؛ فلا. ونقول: هذا غلط، وقلْ مثلما كان يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وحديث البراء بن عازب مشهور، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إذَا أوَيْتَ إلَى فِراشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، ووَجَّهْتُ وجْهِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ ولا مَنْجا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، آمَنْتُ بكِتابِكَ الذي أنْزَلْتَ، وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ»[15]. فقال الصحابي: "وبِرَسولِكَ الذي أرْسَلْتَ". فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَا، وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ»[16]، فردَّها عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعلَّمه.
وهذا يُبيِّن لنا أن نلتزم بالألفاظ التي وردت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
كذلك في التَّحيات، يقول ابن مسعود: "كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يعلمنا التشهد كما كان يعلمنا السورة من القرآن"، فالسورة من القرآن لا تزيد فيها حرفًا؛ فهكذا في العبادات عمومًا.
ونقول للمبتدع: لا تُكلِّف نفسك، ارجع إلى السُّنَّة فإنها تكفي، أما ما خرج عن السنَّة فإن الله لا يقبله منك.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَ»، إشارة إلى الدين -يعني: في الإسلام.
أمَّا الإحداث في أمور الدنيا، مثل السيارات والطائرات والكهرباء والمصابيح والمراكب الجديدة والهواتف، والاتصالات، وبناء المستشفيات والمدارس؛ فهذه لا تتعلق بالدين، فهي أمور الدنيا لم يحرمها الشرع، وليس الكلام فيها، لكن الذي يُريد أن يتديَّن ويتقرَّب ويتعبَّد ويُرضي الله عنه في عبادةٍ؛ فهذا هو أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في أمرو الدين.
الفائدة من قوله في الرواية الثانية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»:
قد يقول قائل: أنا لم أُحدِث هذه البدعة، ولستُ أنا الذي أحدثتها، إنما علماء فضلاء، ومشايخ أجلَّاء، أو أن مشايخ البلد على هذا من أربعمائة سنة؛ فأنا أعمل مثلما يعمل المسلمون في بلدي!
فهذه الرواية تردُّ على هذا القول؛ لأنَّه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلً» حتَّى ولو لم تحدثه أنت، فمشايخ البلد، أو الناس منذ مائة سنة أو خمسمائة سنة لا يلزم أن تكون جميع أفعالهم على السنَّة، فقد يوجد منهم السنة، وقد يُوجد منهم الغلط؛ فأنت اعمل بالسنَّة والتزم بها.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وقوله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»؛ بعض الناس يُحدث ضلالة عظيمة في أصل العقيدة، مثل: أن يتبع المذهب الباطني، كالدروز والنُّصيْريَّة؛ فهي مذاهب خارج الإسلام وليست منه في شيء، ثم تجد بعضهم يسأل عن صوم الخميس، أو يسأل عن أحكام الإحداد للمرأة وهم على دين الباطنية وليسوا على دين الإسلام؛ فكل أعماله ليست بمقبولة؛ لأنه ليس على صراط النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ونقول لمعاشر هذه الطَّوائف: عليكم بالانتقال إلى سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وإلى طريق الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ومن يتَّبعون الآن الاثنا عشريَّة ويتَّبعون طريقة الحوثيَّة؛ فهذه الطُّرق مليئة بالشرك والخرافات، ولا يتبعون سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ثم يقولون نحن أنصار الله وننصر دين الله!!
أين عقولكم؟! ألا تقرؤون القرآن؟!
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31]، فاتَّبع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والتزم بسنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- واترك هذه الضلالات واترك هذه العقائد الفاسدة، واعبد الله وحده، لا تعبد الأولياء، ولا تُقدِّس هؤلاء المخلوقين فتتبرك بهم وتعتقد فيهم أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يُدخلونك الجنة! ما هذه الخرافات؟!
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، فعليك أن ننتقل من هذا المذهب الخبيث إلى مذهب أهل السُّنة والجماعة، إلى مذهب الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والصحابة والتابعين، وتسير على هذا المنهج، أما إنك تعبد الأئمة وتستغيث بهم وتسجد لهم وتذبح لهم وتطلب منهم المدد؛ ثم تسأل عن أحكام الإحداد أو تقول: أنا حلفت يمين، تسأل عن أشياء وأنت أفسدتَّ الأصل؛ فعملك كله مردود، وهذا ليس من عندي ولا من عند العلماء؛ ولكن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». فحذارِ حذارِ من هذه الضلالات! اُدخل في الإسلام الذي جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وللبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله قال: قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»).
وهذا يُبين وجوب الدخول في الإسلام، وهو طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والتزام شرعه، فعلًا لِمَا أمرَ وتركًا لِمَا نهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وهذا يُبيِّن فائدة لطيفة جدًّا، وهي أن الذي حُرِمَ من الجنة ومُنِعَ منها هو الذي جنى على نفسه وهو الذي أبى، وهذا يُبيِّن لنا رحمة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بأمَّته، يقول: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
بعض الناس يقول: نحن أطعنا الرسول -وهم على البدعة والضلالات.
يا أخي؛ اتَّقِ الله في نفسك، اسأل عن سنَّة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الثابتة الصحيحة، انتقل إليها واترك هذه الضلالات.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلامِ سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ». رواه البخاري).
هؤلاء أبغض الناس إلى الله، يعني: أنَّ الله يبغضهم بغضًا شديدًا، وهذا فيه إثبات صفة البغض لربِّنا -سبحانه وتعالى- والله -عَزَّ وَجلَّ- أخبر في القرآن أنه يُحب المؤمنين ويُحب المتقين ويُحب المحسنين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يرضى عن الكافرين، ولا يُحب الفاسقين، وأخبرَ أنَّه يمقت -والمقت أشد من البغض- كما في قوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3].
فأبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة:
الأول: الملحد في الحرم.
الملحد: هو الذي ارتكبَ إلحادًا، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25].
قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ﴾، يعني: المسجد الحرام، والمراد الحرم كله، فإذا قلنا: "الحرم" يعني حدود الحرم، فلو دخلت حدود الحرم فحذارِ حذارِ أن تكون في قلبك إرادةٌ للمعصية، حتى لو لم تفعلها؛ لأن الله -عَزَّ وَجلَّ- توعَّد أن يُذيق العذاب الأليم مَن أراد حتى ولو لم يفعل، فقال: ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ ولم يقل: "من يُلحد أو من يظلم".
قوله: ﴿بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، والظلم أنواع، أشدها الشرك بالله، فالذي ينشر الشرك بالله -عَزَّ وَجلَّ- كما يُريده أعداء الله من غلاة الرافضة والصوفيَّة الذين يُريدونَ نشر الشرك ونشر الوثنيَّة، ونشر التعلق بالأولياء والأموات، ويطمعون إلى تعظيم المقبورين من دون الله ويسعون في هذا، وقد وفق الله هذه البلاد -بلاد المملكة العربية السعودية بقيادة قادتها حفظهم الله- إلى صيانة الحرمين وصيانة هذه البلاد من كل الشِّركيَّات، ولله الحمد والمنَّة، ونسأل الله أن يُتم هذه النِّعمة ويزيدها هدى وتوفيقًا، ولكن هناك مَن لا يروق له هذا، فيريد نشر الظلم -الذي هو الشرك بالله عز وجل- قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
فإذا جمعت بين قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وبين حديث «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ»، ومن الإلحاد في الحرم: أن يعمد إلى قتل الناس، أو سرقة أموالهم، أو فعل الفواحش ونشرها، ويعمد إلى نشر الأفكار الضَّالَّة والبدع؛ كل هذا من الظُّلم العظيم، وهو من الميل عن دين الله؛ لأن الإلحاد هو الميل عن الدين.
والإلحاد الصريح الذي هو الكفر الأكبر بإنكار الخالق وإنكار الإسلام أعظم وأعظم؛ فهذا أبغض الناس إلى الله.
الثاني: «وَمُبْتَغٍ فِي الإسْلامِ سُنَّةَ جَاهِلِيَّةِ»، أي: ينشر بين الناس سنَّة الجاهليَّة ويُغير الدين، ويُفسد على الناس دينهم الإسلام، فهذا جريمته جريمةٌ شنيعة.
وكان قبل مبعث الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الناس في مكة على دين إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- على التوحيد، فجاء عمرو بن لحي الخُزاعي فغيَّرَ الدين. ماذا فعل هذا الخبيث؟
هذا الخبيث الذي رآه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في نار جهنم يجرُّ أمعاءه، وكان أول مَن دعا إلى عبادة الأصنام، وأوَّلَ من سيَّبَ السَّوائب، وهذا الخبيث نشر الشرك بالتَّدرُّج، فلما ذهب إلى عمان والأردن أتى بأصنام وقال: إنه وجدها مدفونة في جدة، وأن بعض الشياطين أخبرته، فجاء بهذه الأصنام وعظَّمتها العرب، ثم عبدتها من دون الله.
وهذا يدل على أن الشرك يحدث بالتَّدريج، فالذي يأتي بالسنن الجاهليَّة هذا أبغض الناس إلى الله، ولهذا يجب على أهل الإسلام الحذر من أسباب الشرك ومن هؤلاء الذين ينشرون الأصنام باسم التماثيل، أو باسم النَّحت، أو باسم الرَّسم، أو باسم الفنون، أو باسم المشاركة في منظَّمات عالميَّة، فهذه المنظَّمات لا تريد خيرًا بالمسلمين، فالمسلم أغناه الله -عَزَّ وَجلَّ- بما جاء في هذه الشريعة، فلا يبتغي في الإسلام سنَّة الجاهليَّة، فإذا كان الناس على الدين الحق -وهو الإسلام- وعلى الصَّفاء؛ فيأتي فيُغيِّر الدين، ويُحدث في دين الله -عَزَّ وَجلَّ- ما ليس منه ويقول: إن هذا من الدين؛ فهذا أبغض الناس إلى الله.
وهذا هو الشاهد من الحديث، وهو أنه يجب على المسلم أن يثبت على الدين ولا يُغيِّر هذا الدين لأجل هذه الأهواء، أو لإحداث من أحدثَ، فمن ابتغى في الإسلام سنة الجاهليَّة فهو أبغض الناس إلى الله -عَزَّ وَجلَّ- لأنه كما أنه فسد دينه هو إلَّا أنه أفسدَ دينَ كثير ممَّن اغترَّ به واتَّبعه.
الثالث: «وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مسلم بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»، يعني: يطلب ويسعى ويركض، ويذهب يمنةً ويسرى يُكلِّم ويشتغل؛ فكل هذا السعي والحرص على قتل أخيه المسلم بغير حق، يترصَّد لأخيه ويُراقبه حتى يقتله -نسأل الله العافية والسلامة- فهذا أبغض الناس إلى الله، فيا ويل من فعل هذا بأحدٍ من المسلمين.
إذن؛ هذه الثلاثة أبغض الناس إلى الله:
- ملحد في الحرم.
- ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهليَّة.
ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرح هذه الجملة بنقلٍ عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا النَّص موجود في كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية أنصح إخواني طلبة العلم بقراءة هذا الكتاب، عنوانه "اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم"، وفيه بيان وجوب مخالفة أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمشركين، والثبات على الإسلام والمحافظة على الهويَّة الإسلامية بالتَّمسُّك بالكتاب والسنة، والحذر من مشابهة أهل الضلال.
هذه الجملة من كلام ابن تيمية في هذا الكتاب، قال: (قال ابن تيمية-رحمه الله- قوله "سُنة الجاهلية": يندرج فيها كل جاهليةٍ مطلقةٍ أو مقيدةٍ، أي: في شخص دون شخص، كتابيَّة أو وثنيَّة، أو غيرهما من كلِّ مخالفةٍ لما جاء به المرسلون).
ذُكِرَت الجاهليَّة في القرآن في عدَّة مواضع، منها:
- قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، الجاهلية الأولى هي التي أطبقت على الأرض، فكل أهل الأرض في ضلالٍ حتى بعث الله رسوله محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
- ومنها قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]، فالجاهلية المطلقة هي التي كانت قبل مبعث الرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فكل ما كان في الجاهلية فهو ظلمات وكفر، ونسبتها للجهلِ؛ لأنَّهم لا يرونَ الحق ولا يسمعون به، والعقول البشريَّة مع شياطين الإنس وشياطين الإنس تضل عن سواء السبيل؛ فعمَّ الجهل أهل الأرض كلهم.
وبعد مبعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ليست هناك جاهليَّة مطلقة؛ بل تكون في أرضٍ دون أرضٍ، وفي بلدٍ دونَ بلدٍ، وفي شخصٍ دونَ شخصٍ، ولكن لابدَّ أن يبقى الحق، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»[17]، فالدين الإسلامي محفوظٌ بحفظ الله، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وأهل الإسلام لابدَّ أن يبقى فيهم هذه الطائفة.
إذن؛ بقيَّة الناس غير هذه الطَّائفة من أهل الإسلام قد يوجد فيهم جاهليَّة تسمى "الجاهليَّة المقيَّدة" وليست جاهلية مطلقة.
والعلماء من أهل السنَّة نبَّهوا على غلطٍ في مثل هذا الإطلاق، كقول: "جاهليَّة القرن العشرين"، فهذا غلطٌ؛ لأنه وصف القرن كله بالجاهليَّة، فلا يجوز تعميم وصف الجاهليَّة على أهل الأرض، ولكن نقول: "جاهلية مقيَّدة"، فاليهود في جاهليَّة، والنصارى في جاهليَّة، والذين يشركون بالله ويعبدون الأولياء هم في جاهليَّة، والذين يتركون أحكام الشريعة ولا يتحاكمون إلى شرع الله هم في جاهليَّة، ولكن الجاهلية بالنسبة لمن ادَّعى الإسلام أو كان مسلمًا تسمى: "جاهلية مُقيدة"، أمَّا إذا كان كافرًا فتسمى في حقه: "جاهلية كاملة" ولكنها ليست مُطلقةٌ في أهل الأرض.
ومن صور الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت؛ وتكون في شخصٍ دون شخصٍ.
يقول: (كتابيَّة أو وثنيَّة)، يعني قد ترد على بعض المسلمين جاهليَّة من أهل الكتاب -اليهود والنصارى- أو ترد عليهم جاهلية من قبل الوثنية، مثلما يلبسون أسورة في هذا الوقت ويقولون إنها تعطي الطاقة! جاؤوا بها من الوثنيين، من كفرة اليابان أو ما ماثلهم من أهل الأوثان، يقولن عل الطاقة، وأن الأحجار تؤثِّر؛ فهذه جاهليَّة وثنية، يُوجد بعضها -مع الأسف- بين المسلمين ويتفاخرون بهذا.
كذلك الاعتقاد في الأبراج والتَّنجيم، فهذه جاهليَّة حرَّمتها الشريعة، ولكنها ليست عامَّة على أهل الأرض، فالمسلمون -ولله الحمد- الموحدون يبطلونها، ويعتقدون أنها ضلال، ويتبرؤون منها ومن أصحابها، ولكن يوجد من بعض السفهاء من يعتقد في الأبراج؛ فهؤلاء جاءتهم جاهليَّة إما من أهل الكتاب، أو من أهل الأوثان، أو من المجوس، أو من الصَّابئة؛ فجاءتهم هذه الجاهليَّات في طرقٍ منمَّقةٍ وأشكال مزخرفة فاغتروا بها. فهذا هو معنى قوله: (جاهليَّة كتابيَّة أو وثنيَّة).
قوله: (أو غيرهم)، فهناك أنواع كثيرة من أنواع الجاهليات لا حصر، فإن أهل الأرض في أودية الباطل إلا أهل الإسلام فهم على الحق، فيأتي من هنا جاهليَّة أو من هنا، أو من هذا أو من ذاك؛ فيتلقَّفها بعض سفهاء الناس من المسلمين، وتنتشر في بعض الشباب أو بعض الجهات؛ فهذه كله يعتبر من الجاهلية.
لعلنا نقتصر على هذا في هذا الدرس؛ لأنه بقي معنا أثرين: أثر حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكلام عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نجعله في الدرس القادم.
المقصود: أنَّ هذا الباب يُبيِّن فيه المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وجوب الدخول في الإسلام، ووجوب التَّمسُّك بالإسلام الذي جاء به الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام.
والأثران اللذان سنتكلم عنهما في الدرس القادم يُبيِّنان أنَّ هذا هو منهج الصحابة، فحذيفة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة من خيار من يُعلم الناس بعدَ وفاة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فكانوا يُعلمون الطلاب هذا؛ فهذه رسالة لجميع المعلمين ولجميع المعلمات، ولجميع الخطباء والوجهاء الذين يُوجِّهون الناس من موجِّهين والمشرفين؛ أن ينتبهوا لهذه المعاني التي ذكرها الله -عَزَّ وَجلَّ- وذكرها رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن الوعي الصحيح إذا انتشر في المجتمع، وانتشرت معرفة أحكام الشريعة؛ نجا المجتمع من هذه الجاهليَّات ومن هذه الضَّلالات ومن هذه الخرافات.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[12] أخرجه البخاري (6924)، ومسلم (20).
[13] صحيح البخاري (1)
[14] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)
[15] أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).
[16]
[17] صحيح مسلم (1037).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك